|
البنية المكانية في رواية -من أجل ذلك- لِ: خالد الجمال..
السيد إبراهيم أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 8231 - 2025 / 1 / 23 - 09:37
المحور:
الادب والفن
صار المكان من العناصر الفعالة في تشكيل الرواية، وله أهميته في بنائها، وإن كان لا يشبه المكان الواقعي تمامًا؛ إذ أن المكان الواقعي يمثل حيزًا حقيقيًا تراه العين، بينما يتميز المكان الروائي بكونه إطارًا خياليا يصنعه وصف الكاتب، وهذا ما يأتي تفسيرًا لمقولة "ميشال بوتور": (إن قراءة الرواية رحلة في عالم مختلف عن العالم الذي يعيش فيه القارئ، فمن اللحظة الأولى التي يفتح فيها القارئ الكتاب ينتقل إلى عالم خيالي من صنع كلمات الروائي الذي يتواجد فيه القارئ).
احتل المكان أغلب مساحة إهداء الرواية، حيث بدأه الكاتب من العالم ثم إلى الوطن الذي ينتمي إليه بعربيته، وصولا إلى وطنه الأم "مصر" الذي يذكر منه "السويس" محل الميلاد، و"شبلنجة" محل مرباه صبيًا وفتيًا أثناء التهجير والنزوح بعد نكسة يونية 1967م، وأخيرًا إلى "الشارع" بعموميته وخصوصيته: (إلى العالم الذي يحتوينا.. إلى وطني حياتي وغايتي .. إلى مصر الغالية والسويس الباسلة.. إلى شبلنجة سحر الطفولة وربيع الحياة وبداية العمر .. إلى الشارع الذي احتوانا لحظة اللهو .. إلى كل نقطة دم طاهرة ضَحَّت من أجل حياة نعيشها الآن بأمن وأمان.. إلى الحب الذي يسري في القلوب وينبض في العقول لكم مني بعض دمي)..
لقد صنع الكاتب خالد الجمال عالمًا متخيلا لأحداث روايته "من أجل ذلك" بينما تعامل مع المكان بواقعية أشبه ما تكون بالتوثيق الجغرافي، حتى صار محسوسًا لمن يعيش فيه، ولمن لا يعرفه، وهو قد فعل هذا عن عمد؛ فقد عاش سنوات عديدة في "شبلنجة" وهى أكبر قرية بمركز "بنها"، بل تعد من أكبر قرى محافظة القليوبية كذلك، وجاء في معجم ياقوت بأنها كانت تسمى "شبرا النجة" وكانت تابعة لمركز منيا القمح بالشرقية، ثم حُرِفتْ لـ "شبلنجة" لخفتها في النطق، وحينما أنشئ مركز بنها عام 1913م تم إلحاقها به لقربها منه.
ويُحمد للجمال هذا الوفاء لهذه القرية، كما يدل على مدى مَكرِه عندما يهتم بذكر تفاصيل الشوارع والأماكن اقتداءً بعميد الرواية العربية نجيب محفوظ عندما كان يذكر في ثلاثية "القاهرة"، تفاصيل الأماكن عن عمد، فيقول نجيب محفوظ مبررًا دافعه إلى ذلك المسلك: (وأكثر التفاصيل في القصص صناعة ومكر لإيهام القارىء بأن ما يقرأه حقيقة لا خيال إذ أنه يثبت الموقف أو الشخص كحقيقة مثل التفاصيل المتصلة به، وكلما دقت كان القارئ أسرع إلى تصديقها). انظر مجلة الآداب، بيروت، ع يونيو 1960، ص20.
لا يمثل الوفاء وحده غاية من غايات الكاتب، ذلك أن البنية المكانية لهذه القرية هي التي أغرته لكي يبني فيه عالمه الروائي المتخيل من خلال استخدامه العديد من الأماكن المتنوعة في روايته بما يتناسب والموقف الحاصل بقصد أو بغير قصد، يضاف إلى ما تقدم أن الكاتب أو السارد عاش زمنا في هذه القرية.
انصب تأثير الكاتب في اهتمامه بالمكان في علاقته الدلالية بالشخصيات في الرواية، ذلك أن المكان هو الوعاء الذي يحتوي الحدث والشخصيات التي تتآلف مع بقية العناصر؛ فالمكان هو الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، ولذا فشأنه شأن أي نتاج اجتماعي آخر يحمل جزءًا من أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه، بحسب ما يرى ياسين النصر في كتابه: "الرواية والمكان".
ولهذا لجأ "الجمَّال" إلى استخدام الأماكن الواقعية ليجعل القارئ مشاركًا بخياله المرائي الحية للأماكن المغلقة والمفتوحة، حيث يحد المكـــان المغــلــق أطرًا أو حدودًا تجعله بمعزل عن محيطه الخارجي، بينما يمثل المكان المفتوح الاتساع اللا محدود حيث لا تحده الحدود أو الحواجز فيشغل مكانًا خارجيًا في الغالب.
ركز الكاتب على نوعين مهمين من الأماكن، هما: الأماكن المغلقة والأماكن المفتوحة:
الأماكن المغلقة في هذه الرواية:
المسجد:
عانق المسجد بروحانياته، وخشوع النفس وانفتاحها في البوح لله بالرجوات، والتمنيات، والدعوات، والشكوى له تعالى، الزمان الذي جاء في أقصى صفاء النفس عند صلاة الفجر، وهو ما استثمره الكاتب في حوارٍ دار بين إمام المسجد والمؤذن، تحت عنوان الفصل الأول "الندم" وهو يمثل عتبة نصية مناسبة للحالة الكلية داخل حيز المسجد الذي تم ذكره في الرواية مرة واحدة فقط.
يقول الراوي: "رغم أن الصلاة تريح القلب وتزيل الهم، إلا أن الشيخ أمين علي الطوبجي مؤذن مسجد القاضي بقرية شبلنجة، مركز بنها بمحافظة القليوبية، جلس بعد صلاة الفجر في المسجد وحده مهموما حزينا غارقًا في بحار الأسى مستسلمًا". "انفرجت أساريره قليلا عندما دخل عليه الشيخ عبد الجليل وصليا معًا قبل الشروق، ليدرك الإمام الصلاة جماعة مع الشيخ الطوبجي، وبعد أن فرغا من الصلاة والتسبيح والدعاء جلسا أمام المسجد بالخارج وتجاذبا أطراف الحديث".
المقهي:
على الرغم من أن المقهى كمكان يتأرجح بين من يعتبره "مكانًا" مغلقًا، ومن يراه مكانًا مفتوحًا، إلا أنني انحاز لكونه مغلقا، ومنفصلا عن الفضاء الخارجي، بل تكتسب المقهى مكانتها ليس من مكانها ولكن لكونها تشكل الرمز والبنية الثقافية والاجتماعية والمؤسسة الفاعلة في المجتمع وفي الرواية، وقد أحسن خالد الجمال استثمار المقهى كمكان يمثل الرأي العام للقرية، ووجهات نظر أكثر من فئة في أكثر من موضع في الرواية، باعتبار المقهى خير مكان للتشاور والتباحث وتبادل الآراء والنقاش حول الأمور الفردية أو الجماعية لاتخاذ قرار واحد يتمسك به الجميع. كما جعلها المظهر العام للقرية في خوفها وأمنها؛ ففي حال الأمن يرتادها الناس بكثرة، وفي حال الخوف، يقول الراوي: "تعلو أصوات مشاجرة بين سامي الطوبجي وأحد رواد المقهى، كان على آثارها تحطيم المقهى وكسر ذراع الرجل، وفراغ المقهى من رواده، مع حسرة صاحب المقهى وصراخ الرجل".
هذا ما كان في مقهى القاضي، أما مقهى "كوكب الشرق" فلم تكن أحسن حالا حيث قام بعض أفراد عصابة سامي الطوبجي بكسر نوافذها وتحطيم أبوابها وكراسيها والشّيَش ومعظم محتوياتها. ولكن في مقهى صغير آخر ضم ثلاثة رجال من أهل القرية وقد احتل الحزن إيماءات وجوههم مما لاقوه من رجال تلك العصابة، وهو ما يدلل على غياب أماكن تجمع رجال شبلنجة سوى المقاهي، التي كلما تحطمت واحدة غادروها لأخرى.
البيت:
كان من الطبيعي أن يكون من ضمن أماكن الرواية المغلقة "البيت" باعتباره البيئة الحاضنة للإنسان ومنها ينطلق، وهو الحاوي لأسراره، وفيها عالمه الخاص الذي تقوم فيه العلاقات بين نفسه، وبينه وبين أفراد أسرته..
جعل الكاتب خالد الجمال البيت نقطة البدء في روايته كما جعله المختتم في دورة شملت شبلنجة وإيطاليا والقاهرة والعودة؛ فقد شهدت جدران البيت اعتداء سامي الطوبجي على شقيقتيه بالضرب: يقول الراوي: "في ظل عجز الأم فاطمة القاضي لمنع ما تراه والدفاع عن بنتيها.. لكن الأب قادرٌ على ذلك، فإذا به ينهال بعصاه على سامي ضربًا في كل مكان على جسده، وسامي دفع أباه دفعةً أسقطته أرضًا بعيدًا عنه، وانهارت الأم وفقدت الوعي وسقطت على الأرض، واتجهوا جميعًا نحوها مهرولين.. وانزوى سامي في ركن من أركان الحجرة صامتًا مترقبًا ساكن الحركة" أصبح التعداد السكاني الذي يشغل مساحة "البيت" شروق ودنيا شقيقتا سامي، بعد هروبه، ومغادرة والديه آخر محطات الحياة "البيت"..
لا يغفل الكاتب أن الزمان يعانق المكان من خلال حركة الشخصيات، ذلك أن أساس الرواية هو الحكاية، والحكاية عبارة عن قص أحداث مرتبة في تتابع زمني كما يقول "إم. فورستر" في كتابه "أوجه الرواية".. كما أن الرواية فعل زمكاني يمثله بطلها وهو في روايتنا هذه هو "سامي الطوبجي" الذي تتحرك معه الأحداث أو هو الذي يحرك الأحداث، ويقول الراوي: "بعد مرور سبع سنوات من اختفاء سامي، في صباح هذا اليوم تجلس المهندسة شروق الطوبجي في منزل العائلة أمام المرآة تصفف شعرها الأسود الطويل... بعد كل هذا الزمن بعد سبع سنوات، يعود سامي وتعود حياتنا القديمة... دخل سامي على شقيقتيه في داره القديم يتأملهما وكأنه يراهما لأول مرة، والخوف والرعب يحتل إيماءاتهما، ودنيا منزوية، يرتجف جسدها، وشروق صامتة، يعد أن فتحت له الباب، تنظر إليه ولسان حالها ينتظر صوته، حروفه"..
المَضْيَفَةُ:
والمضيفة في لغتنا العربية اسم مكان من ضافَ، وهي مكان استقبال الضيوف، أي موضع الضِّيافةِ، وهي من الأماكن التي عرفتها القرية المصرية كما عرفها العرب، يقول الراوي: "فتح سامي مضيفته لأهالي شبلنجة، وأقام فيها موائد الطعام في رمضان وغير رمضان، وكان يجلس معهم ويأكل معهم كأي فرد منهم، وتقدم الطعام شقيقتاه شروق ودنيا".
مكان اجتماع المجرمين:
يقول الراوي: "اجتمع أفراد عصابة الطوبجي في الخُص ... وقد شيده الطوبجي بأخشاب النخل والأشجار والخوص والبوص، وجعل بداخله أخشاب الأشجار على هيئة كنب، وفي كل ركن وضع فيه جمجمة على حامل خشبي، بجوارها هياكل عظمية لبشر، وكأنه معمل لدراسة طلاب كلية الطب، وأطلق عليه الخُص العجيب".
السفارة ـ مسكن السفير:
توصف السفارة بأنها مقر البعثة الدبلوماسية الدائمة، والمسؤولة بشكل رسمي عن تمثيل الدولة الي أرسلتها، والسفير هو المسؤول الأعلى فيها؛ فهو الرئيس الدبلوماسي والمتحدث باسم حكومة دولته. يقول الراوي: "وفي الفيلا صالة استقبال كبيرة، ورجل في نهاية الصالة جالس ولا يظهر منه غير ظهره. وسامي يتأمل في صمت محتويات الفيلا، حيث بها آثار فرعونية وقبطية وإسلامية، وكأنه في متحف مصري، ويلتفت الرجل الجالس لسامي، عرفه سامي، إنه عز الدين إسماعيل، سفير مصر في إيطاليا".
السيارة:
مكان يتسم بالوحدة، والخصوصية، والعزلة مهما شغل حيزه فردًا أو أفراد، ولو كان متحركًا إلا أنه لا ينتمي للخارج عنه، ويبدأها الكاتب من إيطاليا، يقول: "لمح في السيارة الفتاة التي شغلت باله طويلا، فمشى معه ـ السائق يمسك بسامي ـ كالحمل الوديع، وصعد إلى السيارة بجوار السائق، وهي بالكرسي الخلفي ـ أي سامية ابنة السفير. انطلقت السيارة، وحوار الصمت أعلن عن نفسه، يراها في المرآة، فلم يجرؤ أن يلتفت خلفه خجلا، وسامية تنظر إليه في المرآة متأملة ملامحه، حتى وصلت السيارة إلى حديقة فيلا"..
ومن شبلنجة إلى القاهرة: "لم يستطع سامي قيادة سيارته بسبب الألم الذي عاوده، فترك هذه المهمة لشروق وهم في طريقهم إلى القاهرة لاستقبال سامية في المطار، جلس في الكرسي الخلفي للسيارة مستندًا على شقيقته دنيا".
كما استخدم الكاتب سيارة الإسعاف ودلالتها في الإسراع بالمريض أو المصاب إلى المشفى للعلاج ثم الشفاء، أو في الخروج بالمريض أو المصاب ميتا ونقله لمقامه الأخير، وهو ما جاء في نهاية الرواية، يقول الرواي: "جثمان سامي في سيارة الإسعاف... التقى الجميع عند مدخل قرية شبلنجة وأنزلوا جثمانه من سيارة الإسعاف للسيارة المكشوفة، وبدأت السيارة تسير ببطء كأنها لا تريد ان تذهب للمقابر".
الجامعة: قد يتصور البعض أن الجامعة مكانًا مفتوحًا، غير أن المسموح لهم بالدخول فقط الأساتذة والطلاب ومن يعملون بها، يقول الراوي: "وبدأت مناقشة الرسالة في ظل إعجاب المشرفين بقدرة سامي على التحليل النفسي والاجتماعي لمرتكب الجريمة، وتحليل لحظة ارتكابها، ولحظة القبض عليه والتحقيق مع، وغيرها من النصوص القانونية المهملة، وبناء القواعد الأساسية لعلم الجريمة، وتقنية بناء الجريمة الكاملة.. وكان التفوق حليفًا له".
المستشفى:
هو المكان الذي يشهد ولادة بعض الناس ويشهد مماتهم، وهو المشفى الذي يقيم فيه المرضى ويسهر على معالجتهم وخدمتهم فيها أطباء وممرضون وممرضات، وقد استخدم الكاتب هذا المكان استخداما طويلا من خلال فصلي: "الأمل والأمانة"، يقول الراوي: "حركة غريبة في المستشفى، شروق ودنيا والسفير عز الدين والكل في حالة ترقب وقلق، في انتظار كلمة من داخل هذه الغرفة لتبعث الاطمئنان والأمل لحالة سامي..
في المستشفى الطبيب: ستُجرى له عملية فورًا، لا تنتظر التأخير، والآن يتم التجهيز لها.
عز الدين :نعم، من فضلك وقع على هذا الإقرار".
بعد أن علمت سامية بخبر العملية حتى سقطت على الأرض ثم أفاقت، وتمت عدة محاولات من الاتصالات بوزير الصحة وغيره من كبار موظفي الوزارة..
يقول الراوي: "خرج الطبيب المعالج من غرفة العمليات، واندفعوا نحوه، ودارت بينهم لغة العيون المحمولة على جناح الصمت. والآذان صاغية لاستقبال كلمة اطمئنان، والطبيب يتهرب من المواجهة.. خرج طبيب آخر من حجرة العمليات، لكن علامات وإيماءات وجهه لا تبشران بالخير، فتمزقت أوصال الأمل في قلوب المتلهفين لكلمة اطمئنان".
الأماكن المفتوحة في رواية "من أجل ذلك":
السوق:
لا تكاد تخلو مدينة أو قرية من سوق يجمع البائع والمشتري، فيما يشكل تفاعلا اقتصاديا حياتيا دائما، وحيويًا في المعاملات التجارية، غير أن الكاتب نجح في استخدام التقاطبات المكانية ليس على سبيل التشكيلات المكانية الضدية فيما بين ثنائية المفتوح والمغلق، والضيق والمتسع، بل استخدم الضدية في "السوق" أي المكان المفتوح/ المفتوح، وإنما جاءت الضدية في "سوق" يغزوه الشر، وسوق يبنيه الخير والفاعل واحد، يقول الراوي: "وحينما تنزل عصابته السوق لجمع الإتاوات لا يجرؤ أحد أن يعارضهم، فيعطونهم ما يطلبونه في صمت، وإلا تُقلَب بضائعه على الأرض، وتؤخذ أمواله عنوة بالغصب، ويفقد المال والبضائع، في غياب أفراد نقطة الشرطة الذين تركوا المشهد لسامي وعصابته منعًا للصدام معهم".
ومن خلال الوجه الآخر يقول الراوي: "بدأت أسواق شبلنجة تنتعش بمنتجات المؤسسة، وأصبح سوقًا مفتوحًا يخدم شبلنجة وكل من حولها، وتحول رجال الطوبجي من رجال ليل وغدر ونهب وسرقة إلى رجال أمن يحرسون مصانع المؤسسة، وينظمون حركة العمال دخولا وخروجا".
البحر:
لا تتطرق الرواية إلى البحر كمصيف، أو منظر طبيعي، أو وصفًا لثورة أمواجه صيفًا أو شتاءً، بل مشهد عاصف يصور مدى قساوة وفظاعة الهجرة غير الشرعية، يقول الراوي: "وبدأ سامي يدور في فلك الذكرى وهو يسبح بين أقرانه في البحر المتوسط، والموت يأخذ واحدًا بعد الآخر، وفي نهاية الرحلة لم يكن إلا سامي الذي تشبث بمركب صغير على حدود شواطئ إيطاليا، وصاحب هذا المركب لم يكن يريد إغاثته، ويضرب يده القابضة على حرف المركب بقدميه يعنف ليسقط في الماء. لكن سامي استطاع الصعود على المركب بعد عناء شديد، والرجل الإيطالي يحاول بالقوة إسقاط سامي في البحر لكن سامي قبض على عنقه بقوة رغم التعب والإعياء".
الحديقة العامة:
لا تشكل الحديقة العامة في الذهن غير الاسترواح والتنزه، والاستمتاع بوقت الفراغ من متاعب الحياة اليومية، غير أن الكاتب يعتبرها استراحة محارب قصيرة تنتهي بعراك واحد ضد ثلاثة، يقول الراوي: "وكان أول لقاء له في إيطاليا في حديقة بالقرب من الشاطئ يتجمع فيها الزوار من جنسيات مختلفة، وبينهم سامي بلحيته الطويلة التي ظهرت لطول السفر، والأطفال يلهون بألعابهم، في الحديقة شباب وفتيات، ورجال ونساء، في حالة من المرح والسرور، زهور، وورود، وحمام سباحة، لعب ولهو في طبيعة جميلة".
الشارع:
يمنح الشارع للروائي الإمكانية الكبرى في التحرر من القيود المكانية التي تفرضها علية الأمكنة المغلقة، كما يمنحه التعبير القوي عن الانفعال والتفاعل معا من خلال العلاقات البشرية لشخوص الرواية، وهو ما أحسن الكاتب استغلاله من بدايات الأحداث، يقول الراوي: "وحينما كان يمشي ـ سامي بطل الرواية ـ في الشارع للوصول لأفراد عصابته ... كان المارة في الشارع يخلون له الطريق خوفًا من الصدام معه"..
كما كان الشارع هو مسرح الانقسامات بين أهالي شبلنجة، والخروج للمظاهرات والمشاغبات، مثلما كان هو شارع اللقاء في إيطاليا، يقول الراوي: "التقت سامية بسامي وهو نائم على رصيف، لحيته طويلة، شعره طويل، يحك في جلده وكأنه مصاب بالجرب، فمرت من أمامه ونظرت إليه، ووضعت أمامه كيسًا شفافًا مملوءًا بالطعام والعصائر والمياه المعدنية، وتركته دون أن تحدثه بكلمة واحدة وانصرفت".
ويصلح الشارع أيضا أن يكون مكانًا للفرح، يقول الراوي: "الزينة والأنوار تلون شوارع شبلنجة باللون الوردي، والمزمار البلدي، والفرحة المنيرة على الوجوه انتظارًا لمعشوق الجماهير وعروسه ابنة السفير".
ولا يمانع الشارع في أن يكون مكانًا للأحزان كذلك، يقول الراوي: "خرج أهل البلد لاستقبال جثمان سامي في طريق بنها ومعهم سيارة نصف نقل مكشوفة ليزفوا سامي في كل أرجاء شبلنجة ليودعه الصغير والكبير، الرجال والنساء".
المطار:
تتبلور حركة البشر في صالة المطار بين الوداع واللقاء، بين المغادرة والوصول، بين وحشة الغياب ولهفة الأشواق عند الحضور، يقول الراوي: "اندفع سامي مسرعًا نحو الطائرة حينما سمع وصولها للمطار، لا يبالي بنداءات شروق ودنيا للانتظار، حتى تأتي سامية وتنتهي من الإجراءات، وستكون الإجراءات ميسرة لأنها ستدخل من باب كبار الزوار".
لقد نجح الكاتب في إيجاد علاقة مكانية بكافة المكونات السردية: الشخصيات، الزمان، الوصف، اللغة؛ فقد استدعى المكان الواقعي في شبلنجة والتخييلي في إيطاليا، غير أن القارئ لم يجد بينهما فجوة تنبئ عن إقحام البنية المكانية في بيئتها الريفية الطاردة للشاب سامي نحو إيطاليا، ولم يشغلنا الكاتب بكيفية هذا الانتقال من حيث الترتيبات وإن بدا ذلك واضحا من حيث النهايات، كما أن "إيطاليا" من أكثر البلدان التي يقصدها أبناء الريف المصري للعمل.
الروائي لا يعيش منعزلا عن باقي عناصر السرد، وإنما يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد كالشخصيات والأحداث والرؤى السردية، فلا نجد أي عمل سردي مهما كان نوعه خاليا من مكونات السردية والتي هي الشخصيات والزمان واللغة وغيرها.
لهذا جاء المكان مستوعبًا لأحداث الرواية المتنامية في منطقية البناء السردي المتماسك العلاقات المشدودة بين الشخصيات والأمكنة، كما جاء المكان معانقا الزمان الذي لا يستطيع الانفصال عنه؛ إذ لا مكان بغير زمان ولا إنسان وبتفاعلهم جميعًا تولد الأحداث في حراك وكمون، وثورة وهدوء لا ينفصلان.
استطاع الكاتب أن يكسر حاجز التراتبية المكانية والزمانية، باللعب على الارتدادية أو استرجاع الذكريات بمهارة لم يتوقعها القارئ، كما لم يمهد لها، بل أوجدها في لحظة ذاتية بعيدة عن الحكائية المباشرة الرتيبة والمملة، وقد انعكس هذا في استيلاد أحداث، وأمكنة، وشخصيات، وجغرافية مباينة لجغرافية البطل، في نقلة محسوبة استطرادية انتهت إلى نفس نقطة البداية [شبلنجة ـ إيطاليا ـ شبلنجة]، وفسرت الأحداث التالية بعض الأحداث السابقة وأعادت إليها منطقيتها بعد أن اهتزت قليلا في لقاء سامية بشقيقتي سامي أولا، ثم لقائها به ثانيا.
كما نجح الكاتب في كسر التراتبية السردية في استعمال "المزج" الذي استعاره من فن كتابة السيناريو، والسيناريو هو النص الفيلمي أو المسلسل التلفازي أو النص الروائي المُعد للسينما، والمزج هو الانتقال من مشهد لآخر من خلال ظهور صورة مشهد لفترة وجيزة ليختفي تدريجيا ويظهر مشهد آخر من خلال استخدام تقنية الفلاش باك أو الاسترجاع الزمني، كما استخدمها الكاتب في نهاية عراك سامي مع الإيطاليين الثلاثة، أو يستخدم المزج في تسليط الضوء على حدثين متزامنين متضادين أو متوافقين في مكانين مختلفين، وهو ما استخدمه الكاتب في الانتقال بين المستشفى في القاهرة والفرح في شبلنجة.
لقد جاء ثراء النص مُغريًا لتعدد الرؤى النقدية المختلفة حوله، مثلما جاء عنوان النص وثراء الطرح وتشعب التخيل، واختيار المكان عناصر تؤكد براعة الكاتب في سرد أحداث الرواية، وسهولة المدخل، وتفرع القضايا عبر العمارة الروائية في البناء وسهولة ويسر تنمية الشخصيات واستنباتها عبر التصاعد الدرامي، ومن خلال الوصف الجسمي والنفسي لكل شخصية، وكذلك وصف الأمكنة المتعددة مما أضفى على البشر والحجر مصداقية شملت الحبكة والنهاية التي ساهم فيها تنوع الأسلوب اللغوي للكاتب بين السلاسة وبين تعقيد الفصحى أو بلاغتها في نهاية المشاهد، واستخدام العامية دون إقحام على النص أعطى للرواية مذاقًا سائغًا عند المتلقي بالقلب والعقل معًا، وكم كنت أتمنى أن تمتد أحداث الرواية في الجانب الإيطالي، وبزوغ تواصل حضاري وثقافي مجتمعي وسردي ومكاني وهو ما نأمله في الطبعة الثانية من الرواية.
#السيد_إبراهيم_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سفراء المعرفة العرب بين المعاصرة والتراث..
-
القفلات المدهشة وجمالياتها في القصة القصيرة جدًا:-بدون إبداء
...
-
طهطاويون منسيون: -أَنْطُون زِكْرِي- أنموذجًا..
-
قراءة في ديوان -فوق ختم العودة- للشاعر عادل نافع..
-
استلهام التاريخ وتوظيفه في مسرحية: -يوم الطين- لخالد الجمال.
...
-
الأب: بين النفي الجندري.. وإشكالية الرجل/الأم..
-
تيار الوعي في رواية -الدخان- ل -أبا ذر آدم الطيب-..
-
الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..
-
-الإسراء والمعراج- في الفكر الاستشراقي ....
-
بعض قصائد السنوسي في ضوء -اللحظة الراهنة الممتدة- ...
-
رتوش -هزاع- على وجه الدين والوطن..
-
-الذات-: بين الاسترداد والحسرة الوجودية: قراءة في ديوان -درو
...
-
انهيار الحركة الإنسانية: بين رؤية -بلوك- وسيولة -باومان-..
-
فلسفة المعاني في قصائد وأغاني جلال مصطفى
-
نصف وجه -سوزان هيل-: بين النص والعرض
-
-ليالي الحلمية-: مسلسل بين الريادة والعمادة..
-
قراءة في التجربة الإبداعية للدكتورة عزيزة الصيفي
-
عندما غنت -الست- في السويس: -توثيق فني وتاريخي-..
-
الغربة والاغتراب في شعر فتحي جبر
-
جدلية الشك واليقين.. قراءة في ديوان: -شيراز-..
المزيد.....
-
المغرب: تنصيب عضوين جديدين في أكاديمية المملكة
-
فيلم -ريبيل ريدج-.. اختبر قدرتك على مواجهة الفساد
-
” لمتابعة البرامج الثقافية طول اليوم ” .. نزل الآن تردد قناة
...
-
فيلم السهرة اليوم.. تردد قناة زي الوان لمشاهدة أقوى المسلسلا
...
-
واسط على موعد مع فعاليات مهرجانها السينمائي الدولي العاشر بم
...
-
بعد نجاح فيلم -الدشاش- جماهيريا.. هل نجح محمد سعد في استعادة
...
-
الدين مادة أساسية بمدارس مصر.. ما وجه الاعتراض؟
-
بعد ساعتين بالظبط هتشوف العظمة”.. مسلسل عثمان 178 الحلقة الج
...
-
المترجم جنغيز عبد الواحد ”فرض رسوم لخدمة الترجمة قد يؤدي إلى
...
-
الأدب السوري مترجمًا.. كيف شوّهت -سياسات الهوية- السردية الس
...
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|