هند عباس الحمادي
أستاذة جامعية
(Hind Abbas Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8231 - 2025 / 1 / 23 - 09:36
المحور:
الادب والفن
الحياةُ عنصرٌ دائمُ الحركةِ والدورانِ.. متغيرٌ يثبتُ تقلباتِه في كلِّ حينٍ وزمانٍ.. يثبتُ أنه هو المتحكمُ في زمامِ الأمورِ، ويفرضُ سطوتَه عليك مهما امتلكْتَ من وسائلِ دفاعيةٍ تدافعُ فيها عما حاولتْ أن تنظمَ تراتيبَ مقتضياتِ شأنك، وهنا لا إنكارَ أنها قدرةُ الخالقِ سبحانه وتعالى هو المتحكمُ الوحيدُ بهذا العنصرِ، ما نريدُهُ أن نستعيضَ في كلامِنا هنا ن ما يحدثُ من متغيراتٍ نطلقُ عليها " عنصرَ الحياةِ " فهو دولابٌ يدورُ بِكَ.. يرفعُكَ.. يهبطُكَ.. متى شَاءَ.. تلك مشيئة ٌعلينا أن نؤمنَ فيها دوماً.
واليومَ وبعدَ مرورِ أشهرٍ على (جائحة كورونا) نجدُ أنفسَنا أننا لم نصدقْ تلك الجائحة َأولَ الأمرِ، قلنا ستنتهي بعدَ أن تتركَ أثرَها كعاصفةٍ هوائيةٍ ستمرُ كما مرَتْ سابقاتها.
توالتْ التفسيراتُ والتحليلاتُ والترجيحاتُ والمبرراتُ والمسوغاتُ والتنبؤاتُ والتخيلاتُ، وطالتْ الأيامُ ولم تقصرْ.. فَقْدْنا العادةَ والاعتيادَ في تيسيرِ الكثيرِ مما اعتدنا أن نقومَ به، فـُرِضَ علينا الكثيرُ مما لم نعتدْ عليه.
والناظرُ لما يحدثُ يجدُ أن عنصرَ الحياةِ أدخلَ العالمَ في جائحتِه، وجعلَهُ ضيفاً في كلِّ بيتٍ في الكرةِ الأرضيةِ، ودقَّ ناقوساً وضعَ الجميعَ في دولابِــه.
فكانت اسمُها، وما أطلقَ عليها مدارَ الكثيرِ من التساؤلاتِ، ما الجائحة ُ؟ ما تعني؟ ولِمَ لم تعتدْ الأذنُ على سماعِ هذه المفردةِ.
الجائحةُ في التفسيرِ اللغوي هي لفظة ُجاءَت على صيغةِ اسم الفاعلِ من الفعلِ
(جَاحَ) وبناءً على صيغتِها البنائيةِ فهي تدّل على الحدوثِ والتجددِ، تفيدُ معنى البليةِ، التهلكةِ، الداهيّةِ، وتصريفها: جَاح ، يَجَوح ، مصدر جَوْح ، جَياحَة ، وقد وردَ في الحديثِ الشريفِ لنبينا محمدٍ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ وعلى ألِهِ، خيرُ مَنْ نطقَ بلسانٍ وعَبَرَ ببيان :" أعاذكم اللهُ من جَوحِ الدهر" ، أيّ بلائِه وهلاكِه.
وإذا أردنا أن نخضعَ هذه المفردة َعلى وفقِ عنصرِ الحياةِ، سيقول لنا عالمُ العربية ُ عبدُ القاهرِ الجرجاني (ت471هـ) في كتابِه (دلائلُ الإعجازِ) : " إن الألفاظَ المفردةَ التي هي أوضاعُ اللغةِ لم تُوضعْ لتعرف معانيها في أنفسِها؛ ولكن لأن يضمَّ بعضُها إلى بعضٍ فيُعرف ما فيما بينهما من فوائدٍ"، أيّ أن الألفاظَ المفردةَ تكونُ حياتُها في النسقِ الذي تأتي فيه، ولا يمكنُ أن تُعطي دلالتَها لوحدِها منفردةً، فاللفظة ُتعطي دلالة َمقصدِها حين تندرجُ في سياقٍ يُفهمُ المقصدُ من حِلّه وترحاله.
ولفظة ُ اليومِ "الجائحة" لم نفهمْ معناها إلا حينَ ارتبطتْ بفيروس (كوفيدــ19) المسمى بكورونا، الذي هبط َعلى العالم ِكلّه، وأدخلَه في دوامةٍ ألّا علاجَ فيه إلا بالوقايةِ منه، لذلك أُطلقتْ لفظة ُ الجائحةِ عليه؛ لأنه بلية ُالعصرِ التي اجتاحتْ العالم.
ولكن آن لنا أن ننظرَ للأمرِ بمنظارٍ أخر، نتفقُ جميعاً بعَدَ أن فهمنا أن لفظة َ الجائحةِ تفيدُ البليّةِ والمصيبةِ، وكلّ مصيبةٍ تكون للنسق ِالذي تأتي فيه، فكانت جائحة ُ كورونا بليّة ً طَغتْ على العالم ِكلّه، ولكنّ المفارقة َ المدويةَ َالتي فجرتَها الجائحة ُأن دولاً كانت تعتدُّ بقوةِ نظامِها الصّحي، وتفتخرُ فيه لم تقاومْها، وفارقتْ الكثيرَ من أعزائها ولم تستطعْ أن تقفَ بوجهها، مقارنة ً بدولٍ فقيرةٍ معدومةِ النظامِ الصّحي كلُّ ما كان عليها أن تَحبسَ مواطنيها ، وتقول لهم: استتروا من الجائحة.
وإذا اقتربْنا أكثرَ بمنظارِنا لما يحيط ُ بنا سنجدُ أن عنصرَ الحياةِ والجائحة َاختلفَ بين بني البشرِ، فكلٌّ له جائحته التي رمتْ بثقلِها عليه من دون أن يكون لجائحة ِكورونا الهمُّ الأكبر.
فتوالتْ الصورُ المتباينة ُ التي أظهرت جوائحَ البشرِ ، فهناك من كان بليتُهُ أن يَقْلِبَ نظاماً طالما كثـُـرَ جورُه وظلمُه ، وهناك من كان همُّهَ أن يُكملَ العملَ الذي توقفَ ، وحلمُهُ أن يراه على قيدِ الإنشاء ِ، وهناك من كان همُّه أن رزقَه ورزقَ عيالِه انقطعَ بتوقفِ الحياةِ ، وهناك من كان همُّه أنه اشتاقَ لرؤيةِ احبائِه وأعزائِه ومنادمتِهم ، وهناك من كان همُّه ألا تذهبَ " كورونا" لأنها ستفضحُ المستورِ ، وهكذا لكلّ ٍمنا جائحتُه التي يستطيعُ بما يمتلكُه من قدرةٍ وإرادةٍ أن يتغلبَ عليها ، أو تتغلبَ منه فتكون جائحتُه للأبد.. سيبقى عنصرُ الحياةِ يُدخلْنا كلَّ يومٍ بدولابِه؛ ليرى مَـنْ منا الذي سيصمدُ.
فإن نظرَنا بزاويةٍ أخرى بمنظارِنا واقتربْنا أكثرَ فأكثر، وتخيلْنا أن عنصرَ الحياةِ توقف دولابُهُ، وفقد خواصَه، وأصبح متغيراً ساكناً وجامداً، عندها سيكون الاستفسارُ الأولُ كيف ستكون الحياةُ من دون دولابِ عنصرِها ومتغيراته؟
في البدءِ ستأخذ ُالحياةُ دورَ الجمودِ، وتسْكن في هدوءٍ مقيتٍ، فلا حركة ًولا متغيّراً يحصلُ في الوجودِ، ويقتنعُ كلٌّ منا بما آل إليه شكلُ حياته.
وهنا سيفقدُ العقلُ البشري أهمَ سماتِه، فلا حاجة َلوجودِهِ، فلا متغيراتٍ تريد ُحلولاً، ولا أحداثاً تريدُ تراتيباً لها ، ثم لا تكون للإرادة ِالمعنوية لبني البشرِ مسوغاً لوجودِها ، وتنتهي المقولة ُ: الحاجةَ ُأم ُّالاختراعِ ؛ لأننا أصبحْنا وأمسينا بالوجودِ نفسِه.
فهل نحمد ُعنصرَ الحياةِ ونشكرُهُ على جوائحِهِ التي تحلُّ علينا؟ سنقولُ بالتأكيد نعم ، فلكلِّ جائحةٍ جانبان ، الجانبُ الإيجابيُّ والجانبُ السلبيُّ ، والممتعُ أن نرى الجانبَ الإيجابيَّ مثل َالسلبيِّ لتكون الخطوةُ الأولى لمواجهتِها ، ونضعَ الحلول َالناجعة َ لها، فنقودَ جائحتَـنا بإرادتِـنا إلى مستقرِ أمانٍ لنا. وهنا لا نتكلم ُعن المستحيلات ِوالتخيلاتِ،فطالما غاصَ عالمُنا بشخوصٍ واجهوا جائحتَهم بقوةٍ صُلبةٍ وحديديةٍ ، وبرعايةٍ إلهيةٍ جعلتهم عنواناً ، ومناراَ يشارُ إليهم بالبنانِ ، فكم من قصصٍ واقعيةٍ ناجحةٍ سمعْنا بها في محيطـِنا العادي ، أو في محيطـِنا العالمي كانت مقاومة ُ الجائحةِ هي ديدنُ شخوصِ تلك القصصِ وذلك المحيطِ ، فقادوا أنفسَهم إلى حياةٍ غير الحياةِ التي واجهوا فيها جائحتَهم.
ولن نبالغَ حينما نقول: نحن كلّنا نواجه جوائحَنا ، كلٌّ بطريقتِه ِالخاصةِ بل كلُّ حياتِنا قامَت على أن نواجَه كلَّ يومٍ جائحة ًتختلفُ عن الأخرى في مسمياتِها ومتغيراتِها ، وكنّا ننجحُ في صدِّ هذه الجائحةِ ، والفوزِ على تلك ، أو نقفُ أمامَها فلا قدرة َ لنا إلا بالصمودِ بوجهِها مهما كانت الصعابُ .
الحياةُ تتجدد ُحينما نقفُ أمامَ جوائح ِحياتنا ، وتتجددُ طاقتُنا لأملٍ بحياةٍ جديدة ٍ، ومتغيرٍ نحو الأفضلِ ، فلا خلاصَ من عنصرِ الحياةِ ودولابِهِ إلا بمواجهتِه ِ، تحياتي .
#هند_عباس_الحمادي (هاشتاغ)
Hind_Abbas_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟