أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صميم حسب الله - السرد الخشن في (الجدار) الناعم















المزيد.....



السرد الخشن في (الجدار) الناعم


صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)


الحوار المتمدن-العدد: 8230 - 2025 / 1 / 22 - 18:17
المحور: الادب والفن
    


مدخل:
لم تكن فكرة الخلاص من الضحايا ابنة اللحظة الراهنة، وإن كانت حاضرة اليوم بمسميات عدة، ليس آخرها تلك الإبادات الجماعية التي تعود أسبابها إلى فرض السيطرة على الآخر المختلف في الجنس أو اللون أو الدين أو الطائفة أو العِرق أو القومية، فضلاً عن صناعة الوباء (الكوفيد19) ومتحوراته التي لم تزل تفتك بالضحايا، والهدف هو إقصاء الآخر من مجتمع هذا الكوكب، وصولا وعلى نحو عكسي إلى (سفينة الحمقى) التي أشار إليها (ميشيل فوكو) في مدونته الفلسفية (تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، والتي كانت تبحر إلى المجهول للخلاص من الضحايا الذين رفضهم المجتمع في العصور القديمة بوصفهم (مجرمين أو مجانين أو معتلين أو خطائين)، فإختارت السلطة إطلاقهم في سفينة لا ربان فيها، ولا هدف ترحل إليه سوى تحقيق غاية السلطة في التخلص وجودهم في الجسد الاجتماعي.
ولم ينتهي الرفض الاجتماعي للضحايا بتهجيرهم في سفن لا ميناء ترسوا إليه، بل عملت السلطة على تأسيس أمكنة مزدوجة الشكل والمعنى لتحقيق فكرة الإقصاء الاجتماعي من دون أن تثير تساؤل المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، تمثلت مواطن التهجير تلك بمستشفيات تأسست على شكل معتقلات وسجون قاسية، لا يتم فيها التفريق بين مجرم يستحق (العقاب) ومريض يحتاج إلى (المراقبة)، فالضحية كائن معتل الجسد والنفس، لا يمتلك قدرة السيطرة على أفعاله أو سلوكه في المجتمع، لذلك وجب الحفاظ عليه في مؤسسات تعنى بالمراقبة حفاظاً عليه من إيذاء نفسه أو إيذاء الآخرين.
وقد إختار فريق مسرحية (الجدار) الإبحار في سفينة الضحايا، ليكون (حيدر جمعة) كاتباً و (سنان العزاوي) مخرجاً، و(علي محمود السوداني) سينوغرافياً، وفي التمثيل (يحيى إبراهيم، الاء نجم، لبوة عرب، رضاب احمد، ريهام البياتي، اسراء العاني، زمن الربيعي، نعمت عبد الحسين، رنا لفتة، دريد عبد الوهاب، فيروز طلال، أيمن الشاهين، اماني حافظ، عراق أمين، عبير الخفاجي، شيرين علي نعيم، اسيل أحمد، ونخبة من طلبة معهد الفنون الجميلة) وفي التأليف الموسيقي (رياض كاظم) وفي تصميم الأزياء (زياد العذاري)، ومن إنتاج دائرة السينما والمسرح الفرقة الوطنية للتمثيل للموسم 2024، و قدمت هذه المسرحية على قاعة مسرح الرشيد في بغداد مؤخراً.

الملفوظ النصي الخشن:
بدا واضحاً أن الملفوظ النصي الذي تأسس على مدونة الكاتب (حيدر جمعة) قد إنشطر في بداية العرض إلى قسمين مختلفين في التعبير والتوصيف، فقد إختار كل من المخرج والكاتب أن يكونا جزءاً من العرض بوصفهما فاعلان يقدمان الحالة والأسباب التي تحولت فيها هذه المجموعة البشرية إلى ضحايا؛ فإختار كل منهما إسلوباً مغايراً في التعبير، فالمخرج (سنان العزاوي)، إختار التعبير عن حجم (المؤامرة) التي دفعت بالضحايا إلى مكان العرض المنفى (السجن/ المشفى) ودفع بالفرضية إلى مؤامرة عالمية يقودها فرسان العالم الأول للإطاحة بضحايا العالم الثالث في تصور لإختزال هذا العالم في النماذج التي إختارها المؤلف فحسب، أو كأنه صراع بين (الهُّم/ النَحن) في لغة هي الأقرب إلى لغة البحوث أو التقارير المدونة في المؤسسات الاعلامية، مستفيداً من قاموس لغوي واسع بالمصطلحات والتعبيرات والتوصيفات التي تغزو المدونات الفكرية والفلسفية بطروحاتها الما بعدية والكولونيالية وغيرها، مبتعداً عن لغة الدراما التي تختلف عن غيرها من مفردات التواصل مع الآخر/المتلقي، فيما جاء الملفوظ النصي للكاتب (حيدر جمعة) على نحو مغاير تماماً، وكأنه نطق بلسان الضحايا أو على نحو أكثر دقة، كأنه أراد التعبير عن كل ما سيجري على خشبة المسرح، وذلك بتوظيفه لمختلف الملفوظات التي إتسمت بالخشونة، من اجل إمتصاص وقع الصدمة التي قد تصيب المتلقي، والتي تكشفت فيما بعد على لسان الشخصيات، من جهة أخرى فإن البنية النصية التي تشكل عليها نص المؤلف تعود إلى المزاوجة بين البناء الأفقي المونودرامي الأحادي، الذي تتمكن فيه كل شخصية من سرد حكايتها وأسباب تحولها إلى ضحية، والبناء المتشظي الذي يحيل إلى بنية نصوص مسرح ما بعد الدراما من جهة اخرى، إلا أن النص وقع في تكوين شخصيات متشابهة على مستوى النتيجة وإن بدت مختلفة على مستوى (الحكاية)، والهدف هو تحول الشخصيات إلى ضحايا فقط من دون أن يمتلكن فعل المقاومة، فكل الحالات التي تعرضت لها النساء هي حالات خالية من فعل الرفض، وكأن المرأة لا تمتلك القدرة على التعبير عن السخط أو الرفض، وكل ما تشكل على المستوى الأدائي جاء للتعبير عن الإنكسار والبوح بالفضيحة، سيما وأن النص لا يتحدد بزمن ماض أو إحالة الى المستقبل، بل هو معني بالمرأة الآن وهنا، فثمة حالات رفض ومقاومة تصدت لها المرأة في ظل العديد من المتغيرات والتحولات التي عصفت بالبنية الاجتماعية، كشفت عن قدرة المرأة في الوقوف بوجه الأزمة ومواجهتها بقوة، حتى وإن تحولت إلى ضحية في حالات مختلفة إلا أنها كشفت عن سلوك يعبر عن رفضها لفكرة الاستسلام والتحول إلى ضحية مستلبة الإرادة، فلم يؤشر النص في شخصياته إلى ذلك الإنموذج من الضحايا، اللاتي تعرضن للعنف والقهر والاغتصاب وتشويه السمعة، بل نجد أن النص اتكأ على شخصيات استسلمن لحالات القهر والعنف الاجتماعي والاسري، في تكرار لعديد الحالات التي لم يكن ثمة حاجة لتكرارها على المستوى النصي، بل كان من الضروري البحث عن نماذج أخرى من الضحايا، بدلاً عن تكرار حالة (زنا المحارم) وإن جاءت بتوصيف مختلف إلا انها عبرت عن حالة محددة وشاذة في المجتمع، فهل تختلف فكرة (زنا المحارم) إن كانت بين (الأخ والاخت، أو بين الأب والأبنة) ؟.
لتتحول مآسيهن إلى سرديات (نستولوجية خشنة) لا تثير عاطفة الضحايا اللاتي يتشاركن المكان نفسه، بل ظلت الشخصيات في عوالمها الخاصة وكأن إعادة الحكاية هو إشتراط وفرض وضعه القائمين على المكان/المنفى في لعبة أدوار دائرية لا نهاية لها، هو أشبه بحالات التطهير المزمنة لشخصيات بدت وكأنها في جلسات علاج نفسي يراد به الخلاص من أسباب تحولها إلى ضحية، فالتكرار اللفظي الخشن ظل مرافقاً للشخصيات، حتى تحولت الخشونة في اللفظ إلى سلوك تتبناه الشخصيات، وصارت خشونة اللفظ جزءاً من بنيتها التي عبر المؤلف عنها في مفتتح نصه الخشن، وكأن الحكايات المسكوت عنها لا يمكن أن تسرد إلا بتحويل الشخصيات إلى مسوخ لفظية لا يراد للمجتمع/المتلقي التعاطف معها، وإلا كيف يتم التعاطف مع الحالة وما آلت إليه الشخصية، ففكرة الضحية بدت حاضرة وواضحة، إلا أن خشونة التعبير اللفظي وعلى نحو متكرر أفقد المتلقي أحساس التعاطف مع هذه الشخصيات، بل أن فكرة العزل عن المجتمع ضمن فرضية مكانية بدت ضرورة، من اجل أن لا يتأثر المجتمع بذلك الملفوظ، حتى وإن جاء على لسان الضحية، الامر الذي أسهم في خلق حالة من التناقض بين ما ذهب إليه المخرج في منطوقه اللفظي الأول، وبين ما صار عليه حال الشخصيات، فبدلا من ان تكون الفكرة هي مواجهة المجتمع بسلوكياته المتطرفة عنفاً وجنساً محرماً، صارت فكرة الحفاظ على ما تبقى من البنية الاجتماعية أكثر أهمية من حال الضحايا الذين صار لزاماً على المجتمع عزلهن لكي لا يتأثر المجتمع كله، من منطلق مفاده (لا تربط الجرباء قرب صحيحة خوفاً على الصحيحة أن تجرب)، فالتطرف في الملفوظ الخشن أسهم على نحو واضح في خلق شخصيات تنسجم مع المكان الذي تم احتجازهن فيه.
من جهة أخرى فقد استطاع المؤلف خلق تنويعات نصية أسهمت في التأكيد على قدرته في خلق بنية نصية تمتلك القدرة على التحول وصناعة الدهشة؛ وعلى نحو مغاير عن التشكلات المونودرامية التي إعتمدها في بنية الشخصيات، وقد تمثل ذلك في مواضع عدة منها، حالة التحول في شخصية (المرأة المتدينة) في واحد من أجمل التحولات النصية، فالضحية هنا أرادت الاستثمار في المكان والتخفي داخل (الشكل الديني)، الأمر الذي أفرز حالة من الصراع الدرامي الذي دفع بالمتلقي إلى التواصل مع تحول الشخصية/الضحية، وكما في حالة (الرجل/المغتَصب) الذي أحدث تحولاً في حالة رفضه إجتماعياً أو قبوله كضحية سببها المجتمع نفسه، ذلك أن فكرة التحول في بنية الشخصية وملفوظها على نحو أساس بوصفه الأداة التعبيرية المرافقة للسلوك الجسدي، قد اسهما معاً في خلق تنويعات على الشخصيات من دون الدخول في نمط الاداء المونودرامي الذي يزول تأثيره بعد نهاية السرد الخشن، ويعود ذلك كله إلى أن المؤلف لم يسعى إلى خلق صراع بين الشخصيات في داخل المكان، إلا في حالات قليلة، وإكتفى بأن تكون الشخصيات في حالة أزمة مع الحدث الماضي الذي كان السبب في تحويلهن إلى ضحايا، ولم يتبدى لنا حضور الطرف الآخر للصراع سواء على مستوى النص أو في الاشتغال الإخراجي، بل إقتصر الأمر إلى حضور شخصية (المهرج/الجوكر) التي إرتبطت بالمكان، وهي شخصية إختار المؤلف أن يصفها لفظياً بالمهرج بينما ظهرت على مستوى الشكل أقرب إلى الجوكر، وهي شخصية ملتبسة على نحو كبير، فما تمثله هذه الشخصية من إحالات وتحولات مختلفة ظل غامضاً ابتداءً من غياب الملفوظ النصي عنها، إلا فيما قيل في وصفها (مهرجو السلطة) على لسان أحدى الضحايا وهي إحالة أسهمت في زيادة الالتباس، فإذا كان (المهرج/ الجوكر) قد إمتلك ذلك التوصيف، فإين هي السلطة الفعلية إذن؟، وكيف بدا حضورها في المتن النصي، وهي مخفية غامضة، سيما وأن المهرج قد ظهر في بعض المشاهد خارج المكان (السجن/ المشفى) في لحظة إستعادية يراد بها تصويره كإنموذج لصورة ذلك (الأب/المغتصِب) في واحدة من لقطات (الداتاشو) المثيرة، وبما عليه من علامات دالة أفرزها الزيّ(الدشداشة البيضاء وغطاء الرأس) الذي احالنا إلى أحد أشكال رجال الدين في مشهد (اغتصاب الاب لإبنته) فإذا كان الأب هو السلطة فإن النص كان بحاجة إلى إظهاره مع باقي الشخصيات كل بحسب طبيعة علاقته بالشخصية/الضحية أو بتصوير نماذج حاضرة للسلطة خارج ادواتها المتمثلة بـ(المهرج، مطربة الأوبرا، الرجل/المغتصَب).
فضلا عن ذلك فإن الشخصية التي ظهر عليها (الجوكر/ المهرج) تمتلك مرجعيات عدة في الثقافة الغربية، وقد أسس المخرج على حضوره في خطابه الافتتاحي محاولاً التأكيد على تصديره بوصفه مهيمناً على العالم الثالث، أو رمزاً من رموز الهيمنة العالمية، وهو أي الجوكر ، (ونؤكد هنا على مسمى الجوكر) ونتخلى عن المهرج لأن ثمة إختلافات في التعبير والتوصيف لهذه الشخصية التي قد تتشابه في ملامح الشكل إلا أنها مختلفة في السلوك والمعنى، كما أن (المهرج) يتسم بطابعه الكوميدي ويتزين بأنف مستعار أحمر اللون، وشعر مستعار ذو الوان زاهية، تنحصر وظيفته في إثارة الضحك، وبعكسه فإن الجوكر الذي ظهر في عديد النماذج لأفلام (باتمان) بدا مغايراً متسماً بقدرته على صناعة الشر والتحريض عليه، وقد ظهر مؤخراً بوصفه إنموذجاً للشخصية المقهورة التي تثور على واقع الحياة المزرية بما فيها من قهر وإستبداد يمثله النظام الغربي، وهي الحالة التي ظهر عليها الجوكر مع الممثل (خواكين فينيكس) الذي جسد الشخصية في فلم حمل الاسم نفسه، وهو بجزئيين، إلا أن (الجوكر) في العرض المسرحي، حمل الشكل النقيض، فهو من ناحية الشكل والهيأة شبيه بشخصية (الجوكر /خواكين) إلا أنه من ناحية السلوك فهو الشرير المستبد الذي تتخفى السلطة خلفه.
وثمة إشارة لا بد منها تتعلق بحضور شخصية القرين مع الضحية (لبوة عرب) الأمر الذي أحدث فجوة في طبيعة علاقة باقي الشخصيات وشكل الصراع، فثمة شخصيات ظل فيها الصراع مرتبطاً بالأحداث الماضية التي تستعيدها من دون وجود لطرف الصراع الآخر الذي أثار غيابه تساؤلات عدة من بينها، لماذا إختار المؤلف تغييب الجلاد والتركيز على حضور الضحية، إذا إعتبرنا أن مغتصبي تلك الشخصيات لم يكونوا مجهولي الهوية كما هو الحال مع مرتكبي الجرائم من الملثمين الذين يمارسون أقسى الأفعال الإجرامية من دون أن يتعرف عليهم أحد، إلا ان شخصيات التي يشار إليها في ذاكرة العرض هم (أب، وأخ، وزوج)؟ هل ثمة إحالة أراد المؤلف الإشارة إليها للتأكيد على أن السلطة هي التي تحمي المغتصبين؟ هل تدعم السلطة (المخفية) برمزيتها المتمثلة بالجوكر (زواج المحارم) وغيرها من الأفعال التي يرفضها المجتمع؟ وإلا ماذا يعني أن يتم نفي الضحايا لإرتكابهن أفعالاً شاذة من دون أن يكون للجناة حضور شاخص في المتن النصي أو العرض على حد سواء، وكأن ما حصل هو سلوك إختياري لم يتم إجبارهن على فعله، أين الفاعل الذي إرتكب تلك الجرائم؟ وإذا لم يكن ثمة تواطؤ بين السلطة ومرتكبي أفعال الإغتصاب وغيرها من أفعال قاسية، فإن النص قد وقع في إشكالية تم التأكيد عليها في المعالجة الاخراجية وبخاصة في مشاهد (ثورة الضحايا)، وقسوة السلطة عليهن، لتنتهي فرضية النص بإصابة الضحايا الذين قاموا بالثورة على المكان/المنفى بالعمى وخضوعهن لسلطة الجوكر، من دون أن يكون ثمة إشارة للفاعل الحقيقي الذي دنّس أجساد الضحايا، لماذا أخفت السلطة مرتكبي السلوكيات المنحرفة في هيمنة ذكورية صريحة، وتبنت سرديات الضحايا في خطابهن الخشن؟
وبالعودة إلى مرجعيات مسمى العنوان (الجدار) الذي إرتبط بالعديد من الأدبيات، إلا أننا نجده أكثر تقارباً مع فلم (الجدارThe Wall/) للمخرج الإنكليزي (آلن باركر)، سيما ما يتعلق بحضور الأفكار تدين المجتمع ، من جهة، فضلا عن المتن الموسيقي المتمثل بأغاني فرقة ((Pink Floyd، وبما يقابلها في العرض على مستوى الغناء الاوبرالي في نص المؤلف متمثلاً بشخصية (المرأة القرد) بقناعها المشوه، إلا أن ذلك كله لا يدع مجالاً لخلق حالة التشابه التي قد تفهم بأن النص مقتبس أو معد، بل هي أفكار ومضامين مختلفة التقت بعضها وتنافر بعضها الآخر، أما بالنسبة للنص المسرحي (الجدار) فنجد أن العرض قد ذهب بالعنوان إلى مسمى تعددي آخر فرض على المؤلف تعديل عنوانه إلى (الجدران) لما توافر فيها من تعددية في الشكل والاشتغال داخل فضاء العرض، ففكرة الجدار لا تحيل إلى التعدد، بل تذهب بإتجاه الكشف عن جدار فيه الكثير من الإزاحة لمعانٍ مختلفة، كان المؤلف قد أسس لها في المتن النصي، منها ما إرتبط بما يقع خلف الجدار، أو ما يتشكل عليه الجدار من مفهوم صلب يتأسس عليه فرض العزلة، وغيرها من العلامات الدالة التي أجترح النص عديداً منها كما هو مبين في نص العرض متمثلاً في صورة (السكرين) الأولى في مفتتح العرض، في تقرير حاول المؤلف فيه توصيف المكان باللامكان، بينما إختار المخرج رسم علامات دالة على مكان أو أمكنة عدة مستفيداً من تعدد الجدران.

فضاء الجدار الناعم
في البدء علينا أن نعود بالزمن إلى لحظة تحول المنظر المسرحي من شكله المرسوم إلى شكل مجسم ذو أبعاد ثلاث تأسست على وفقه فكرة حضور الجدران التي إكتسبت خشبة المسرح بسببها عديد المقترحات والرؤى الإخراجية المتنوعة، لا يستطيع المشتغلين في المسرح القديم أو المعاصر التأكيد على أن فكرة الجدار هي من بنات أفكارهم، بل إختلف كل منهم في طريقة توظيفه لتلك الجدران ابتداءً من شكلها في المسرح الطبيعي مع المخرج (اندريه أنطوان) الذي خلق جدارا رابعاً وهمياً من اجل عزل الممثلين عن صالة الجمهور، في واحدة من متبنيات المسرح الإيهامي، وصولا إلى المخرج (برتولد بريخت) الذي عمل على كسر الجدار الرابع (الإيهامي) من أجل تحقيق غايات عدة من بينها التأكيد على التفاعل بين ما يجري على خشبة المسرح والجمهور من أجل إثارة الجدل وتفاعل العقل، فالتجديد بتوظيف (الجدار) يعود إلى حساسية الرؤية الاخراجية التي تبناها المخرج (سنان العزاوي) في إستعادة تقنيات بريخت التي قد تبدو قديمة بالمقارنة مع طروحات المسرح المعاصر وهيمنة الما بعديات في الاشتغال الإخراجي، إلا ان المقترح الاخراجي في العرض تأسس ابتداءً على فكرة كسر الجدار الرابع وإشراك الجمهور مع الشكل الذي بدا مبهراً في لحظة التلقي الأولى وظل كذلك في رحلة التلقي بزمنها الممتد إلى (150 دقيقة) يحسب للمخرج فيها قدرته على ضبط الإيقاع على نحو جمالي، وإن كان الشكل بتوصيفاته الجمالية يحيل إلى عديد العروض التي تضج بها وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما ما تعلق منها بتلك العروض المسرحية التي أفاد مخرجوها من توظيف الجدران أو في أشكال بعض الشخصيات التي بدت واضحة في هذا العرض الذي شكلت عديد الصور مقاربات بصرية مع تجارب مسرحية أفاد مخرجوها من حضور الجدار، ولا يتبقى سوى التوظيف الإخراجي لكل عرض مسرحي يمتلك خصوصية المغايرة عن غيره من التجارب الإخراجية المعاصرة، سيما وأننا نعيش في فضاء عولمي لم تعد فيه حقيقة الأصل حاضرة، بل هي نسخ لأصول غائبة.
لم يغادر المخرج فرضية الاشتغال (البريختي) مع بداية لحظات العرض الأولى، بل على العكس بدء بالتأكيد على أنها ليست فكرة عابرة يراد بها سرقة بعض اللحظات من المتلقي، إلا انها ليست من متبنيات المخرج الأصيلة فقد إستهلكاها عديد المخرجين في بادرة تحقيق المفاجأة للمتلقي أو محاولة ضبط إيقاع التلقي ودخوله في أجواء العرض، وقد إستشعر المخرج ذلك الزمن الممتد، كاشفاً عن حضور (الراوي) بنوعين مختلفين، جاء الأول متمثلا بسرد ملامح (المكان /المنفى) مثبتاً على لوحة (السكرين) وإنقسم الثاني إلى نصين مختلفين في المضمون متطابقين في الشكل، تمثلا بشخصيات(الراوي/المخرج) و(الراوي/الكاتب)، وكأنهما يجسدان شخصية يراد لها أن تكون غريبة عن العرض، إلا أنها شخصيات حملت عديد الدلالات والمعاني سيتكشف لنا فيما بعد أسباب توصيفها الافتتاحي في الجدار.
إعتمد المخرج في تأسيس الفضاء البصري للعرض على خلق معادل لوني للمكان المفترض الذي تشكل على وفق منطوق (فوكو) الفلسفي والمتمثل بخلق أمكنة مزدوجة الشكل ومختلفة المعنى والغاية، فالشكل الذي ذهب إليه المخرج في العرض يحيل إلى مكان محكم العزل، هو أقرب إلى المصحة النفسية بوصفها شكلاً ناعماً بالمقارنة مع ما تحيل إليه الصلابة التي يتمثل فيها مسمى الجدار، سيما ما يتعلق منها بتأسيس الجدران العالية، وإختيار اللون الأبيض ومشتقاته لشكل الجدران والأرضية من أجل فرض الإحساس الناعم على نزلاء (المنفى/المصح)، ولا يعد ذلك تصوراً متخيلاً للمكان/ المصح، بل إن المخرج عمل على تأكيد فرضية ذلك المكان/ المصح، عن طريق الفتحات التي بدت للوهلة الأولى موزعة على الجدار على نحو عشوائي إرتبطت وظيفتها الأساس بالسلوك الأدائي للممثلة (اسراء رفعت) أو أنها تسهم في كسر الشكل الجامد للجدار أو قد تكون منفذاً تقنياً يتخذه السينوغراف ليتسلل منه الضوء إلى المكان المنعزل، إلا أن التفكر في كل تلك الإفتراضات دفع بإتجاه وظيفة أخرى لتلك الفتحات، تمثل في كونها فتحات للمراقبة توضع على أبواب المؤسسات الرقابية سواء كانت مصحات أو سجون يراد بها مراقبة السجين/المريض، لذلك تحولت تلك الفتحات إلى علامات دالة على أن الأبواب هي ليست للخروج خارج فضاء العرض، بل هي للدخول إلى غرفة السجن/المصح من اجل أن تعود الشخصية إلى عالمها المنعزل عن الشخصيات الأخرى التي إمتلكت كل منها منفاها المنعزل والخاص بها، بعد إنتهاء فعل الشخصية في فضاء العرض المتمثل بفضاء الباحة الخاصة بالمصح/السجن.
وبالعودة إلى التقنيات (البرختية) التي عمل المخرج على توظيفها على مستوى فضاء العرض أو المفردات التي تبنتها الشخصيات نجد أن توظيف (المايك الصوتي) لإصدار أصوات بدت مغايرة عن الأداء الصوتي للممثلين، فضلا عن إعتماد المخرج على تغريب الشخصيات عن طريق الأقنعة التي أضافت إلى الشخصيات دلالات متنوعة سواء مع (مطربة الأوبرا)، بقناع القرد الدال على السلوك المراوغ، والازياء الجلدية التي تحيل إلى شخصيات (أفلام البورنو الغربية) ذات السلوك (السادي)، وبالعلاقة المتلازمة مع (المايك الصوتي) الذي تشير علامته الدالة إلى القدرة على فرض الهيمنة الصوتية على أفراد المكان/ المنفى (المصح/السجن)، فضلا عن توظيف المخرج لعديد المفردات التي اكتسبت طابعاً تغريبياً عن فضاء العرض نذكر منها (قدر الطعام) الذي لا يلائم الشكل البصري الذي تأسس عليه فضاء العرض، حتى وإن كانت وظيفته ضرورة تعبر عن حاجة الشخصيات إلى الأكل في المكان المعزول، إلا أن المخرج لجأ إلى ذلك النوع من (قدور الطعام) التي تنتمي إلى البيئة المحلية إنما هي إحالة سعى من خلالها إلى إعادة تفكير الجمهور إلى أن اشكال الشخصيات المختلفة إنما هي من مخرجات البيئة المحلية، وما تبدو عليه من تغييرات في الزي والسلوك يعود إلى هيمنة (العالم الأول) الذي تبناه المخرج في خطابه الافتتاحي، فضلا عن توظيفه لعديد الأقنعة الدالة على طبيعة الشخصيات سواء كانت من الضحايا أو السلطة وخفاياها كما هو الحال في قناع الفيل، أو قناع الفأر وغيرها.

باب المنفى:
أسس المخرج جزءاً رئيسياً من رؤيته الإخراجية بالاعتماد على وجود الأبواب في جدران العرض، بمعنى آخر فإن بوابات المنفى جاءت للتعبير عن حالة النفي داخل المنفى (المكان/المصح/ السجن) فثمة مكان واقع بين الجدران الثلاث، وهو منفى بطبيعة الحال كما تم توصيفه في خطاب المخرج/الراوي في بداية العرض، وثمة منفى يقع خلف الجدران، وهو عالم خفي إعتمد فيه المخرج على إطلاق مخيلة التلقي لما يقع فيه من ممارسات قمعية تجاه الضحايا، وما يقع تحت مؤشر المتخيل قابل للتأويل أو النفي، وقد إختار المخرج الركون إلى تأكيد المتخيل في واحد من المشاهد الدالة على حجم الفاجعة التي تحولت فيها (الضحايا/ المرضى) داخل (المكان/ المشفى)، إلى مجرمين داخل سجن حكم عليهم بالموت بدلالة ازياءهم ذات اللون الأحمر والشكل المعرّف، وهو تحول إخراجي ذو دلالات عميقة، وبخاصة ما تكشف عنه في لحظة (ثورة الضحايا) على السلطة أو من يمثلها في محاولتهم لتحطيم الجدار، ليكشف لنا المخرج تلك الأيادي الخفية التي كانت تمارس القمع خلف أبواب المنفى، والتي صار حضورها داخل الفضاء المتشكل بين الجدران ضرورة للقضاء على مثيري (الشغب) من الضحايا وصولا إلى مشهد القنص الذي منع الضحايا من الحركة وأصابهم بالعمى، وهو أحد المشاهد المثيرة من الناحية الاخراجية والسينوغرافية، إلا أنه حكم على الضحايا بالعمى جراء ما اقترفه الأخرين بحقهم، ولتنتهي لعبة الخفاء والتخفي بين من هم داخل المنفى أو داخل السلطة، لتُفتح البوابات على مصراعيها لتتم إزالة الضحايا المعاقين بالعمى من المكان من اجل وصول ضحايا آخرين من دون التعرف على الجاني المتخفي خلف الجدار الناعم.

الأداء المكسور:
إشتغل المخرج على تأسيس منظومة أداء متنوعة عمل فيها على خلق المزاوجة بين الأداء الذي يتشغل بحسب الحالة/الحدث، والتقنيات الادائية التي يغادر الممثل فيها فكرة التجسيد متحولا إلى التقديم وصولاً إلى توظيف تقانات ادائية مختلفة، بمعنى أن الممثلين تمكنوا من المزاوجة بين الحالة النفسية التي تنتمي إلى الأداء النفسي الذي يعود إلى (ستانسلافسكي) وقد تكشف ذلك في حالات المونولوجات المونودرامية من اجل خلق التأثير في المتلقي وسعياً لتأكيد حالة الشخصية/الضحية، من جهة أخرى فإن تبني المخرج لتقنيات (بريخت) لاسيما ما تعلق منها بكسر الجدار الرابع، نجده حاضراً في أداء بعض الشخصيات، فضلا عن تأكيد المخرج على إتساق الفضاء مع الشكل الأدائي المتأثر بمقتربات (مسرح ما بعد الدراما)، بمعنى أن المخرج لم يركن إلى منظومة ادائية محددة، بل إختار التنوع في بناء سلوك ادائي لكل ممثل/ة، بما ينسجم مع الحالة/الحدث الذي تتفاعل معه الضحية، بالرغم من ان جميع الضحايا يتقاسمن فكرة السرد الادائي لوقائع حدثت في زمان ومكان مختلفين، فضلا عن عدم وجود طرف الصراع الآخر إختار المخرج غيابه عن العرض وحضوره في ذاكرة المؤدي، الأمر الذي إحتاج فيه الممثل/ة إلى إمتلاك قدرات ادائية متنوعة تمكنه من وصف الحالة التي صارت الضحية عليها.
لذلك سنعمل على دراسة كل ممثل بحسب الحالة/ الحدث الادائي وتحول الشخصية على نحو فردي، ويعود ذلك إلى أن التأسيس الادائي الذي قدمه المخرج والمؤلف في فرضية العرض للكشف عن الأداء التمثيلي المكسور لحالات التصدع في جسد الضحايا:

ذاكرة الإغتصاب المبكر:
إرتبط التأسيس الأدائي لشخصية (الرجل/المغتَصب) التي جسدها بحرفية عالية الممثل (يحيى إبراهيم) بمرجعيات راسخة في ذاكرة الشخصية، وعلى الرغم من عدم تكشف تلك الذاكرة في سلوك الأداء وهو مقصد أدائي يراد به خلق حالة التحول مع الشخصية (الكراهية/التعاطف) فللوهلة الأولى لم تكن الشخصية تنتمي إلى الضحايا بما لديهن من جراح تسبب بها الآخر، إلا ان تلك الشخصية بدت أقرب إلى تلك الشخصيات التي تستعين السلطات القمعية بها لأغراض يراد بها تهشيم صورة الآخر المختلف عنها، وقد إستعان الممثل (يحيى إبراهيم) بعديد الأدوات التعبيرية التي ينتمي بعضها إلى التغريب نذكر منها، تأسيس علاقة مع المتلقي على نحو مباشر من أجل تكسير الحاجز النفسي لهذا النوع من الشخصيات التي لم تقدم على خشبة المسرح بهذه الصيغة من قبل، ولم يكتف الممثل بتلك المفارقة الادائية، بل إن الشكل الذي بدا عليه الممثل يحيل إلى ذلك النوع من الشخصيات الغروتسكية ذات الملامح الخشنة والسلوك الناعم، فقد ظهر (يحيى إبراهيم) بلحية كثيفة وقوام صلب، يناقض تماماً ما تبناه من سلوك الشخصية التي تعد النعومة من أبرز ملامحها والتي إستطاع أن يجسدها بقدرة الممثل الإحترافي الذي حافظ على منظومة الأداء، إلا أن ما يؤخذ على المخرج في تصور أحد أزياء أو أقنعة هذه الشخصية هو أنه زّي مستنسخ من أزياء شخصية سينمائية جسدتها الممثلة الأميركية (انجلينا جولي)، بالرغم من أن الإحالات التي منحها الزي للممثل كانت فاعلة وأسهمت في الكشف عن الشكل التغريبي الذي تفاعل الممثل معه، إلا أنه يظل في النهاية شكلاً منسوخاً ليس للمخرج أو مصمم الأزياء أي إضافة في إبتكاره.
من جهة أخرى فإن التحول في الشخصية التي تعرضت في الطفولة إلى حالات إغتصاب متكررة، صارت معها مدمنة على الاغتصاب من دون أن تدرك أنها تمتلك بنية جسمانية وقدرة جنسية تنتمي إلى النوع/ الذكر، وهو ما استطاع الممثل التعبير عنه في تحول أدائي أسهم في تحويل التلقي من الكراهية إلى التعاطف، وتحويله من متواطئ مع السلطة إلى أحد المطالبين بالخلاص من المنفى القسري.

ذاكرة الرقص والإنكار:
بدت الشخصية التي جسدتها الممثلة (آلاء نجم) أكثر إنتماءً من غيرها لفضاء المنفى، فمنذ اللحظة الأولى كشفت الممثلة عن قدرة أدائية متفردة سواء على مستوى تجسيد الشخصية أو على مستوى علاقتها بالمكان/ المنفى، فهي أشبه بتلك الشخصيات التي تظهر مسيطرة على (السجون/المصحات) بوصفها نزيل دائم لتلك الأمكنة، مستفيدة من حالة الاسترخاء الأدائي التي منحتها للشخصية التي جسدتها، لاسيما تحول الشخصية من الثبات إلى الحركة الراقصة وعلى نحو مستمر في تفعيل جمالي للإيقاع، بالرغم من أن حركاتها الراقصة لم تكن متسقة مع الموسيقى ذات النزعة الاوبرالية العالمية، بما يقابلها من حركات الرقص الشرقي، وكأن ثمة حضارتين تتصارعان لإثبات أيهما الأصلح للبقاء حضارة الشرق بتقاليدها العتيقة أم حضارة الغرب بتطورها التكنولوجي المهيمن.

المحارم يزنى بها (1):
كشفت الممثلة (ريهام البياتي) عن قدرتها الفائقة في التعبير عن حالة الشخصية التي تعيش حالة مخاض مستمر وحيرة أبدية، مخاض تسبب فيه الأب من زنى المحارم، انتهى بأداء هستيري متكرر عاشته الممثلة للتعبير عن حالة الوجع والفقد المزمن لصورة ذلك الأب الذي كان علامة مضيئة في حياتها بوصفه رمزاً عاشت على رؤياه، وحالة الفقد لأطفال المحارم الذين تتخلص من وجودهم في حياتها، وبالرغم من فعل الأداء الحركي والصوتي المؤلم والمؤثر إلا أنه ظل أداءً خالصاً لضحية تستذكر جلادها/ الاب، شخصية تؤدي الصراع مع نفسها وتلوم على نفسها وتضرب جسدها الخطاء/البريء على حد سواء من دون أن تثور وتغضب من سلطة أبوية شاذة إستباحت عفتها، حتى اللحظة الأخيرة التي مات الأب فيها، وهي تصرخ فرحاً وفجيعة بموته في المرحاض، من دون أن تتمكن من مواجهته، فالنص إختار الحرث في ذاكرة المحارم بدلاً عن مواجهتها.

المحارم يزنى بها (2):
صورة أخرى من صور المحارم التي تم الإطاحة بعفتها وإن جاءت هذه المرة على نحو مختلف فالضحايا هم (أخت وأخ) والمتسبب هو المخدرات التي طيرت عقول جيل من الشباب حتى صار الزنى بالمحارم أشبه بالموضة التي يراد بها تصدر (الترند)، وقد جسدت الممثلة (لبوة عرب) شخصية الأخت المغتصَبة التي طبعت بأدائها عديد الذكريات المؤثرة لشخصيات تشارك معها فضاء الأداء في منظومة تم اختزال الأداء اللفظي فيها على نحو كبير، وحضر الفعل التعبيري بديلاً عنه في إحالات متنوعة من بينها، ذلك الأداء المتقن والدال والعميق في مشهد الرسم على الجدار للتعبير عن رسومات الحلم والأمل في عالم أفضل على جدران المنفى الناعم والتي كان القرين يعمل على محوها، قاصداً ألا تكون ثمة ذاكرة صورية في المكان/المنفى لضحايا السلطة (الخفية)، بل أن يقتصر الأمر على ذاكرة سردية سرعان ما تزول بفعل الزمن وتسارع الأحداث، فضلا عن علاقة ادائية مع (المايك الصوتي) الذي إتخذ شكلاً ووضعية طبيعية مع شخصيات (مطربة الاوبرا) أو (الكاتب، والمخرج) إلا أنه مع الممثلة (لبوة) صار ملتصقاً بالأرض ويشبه طريقتها في التمثيل بجسد منحني وكأنها إشارة إلى أن تلك النماذج/ الضحايا، لا يمكن أن تسمح السلطة لها بأن ترفع صوتها حتى وإن استعملت مكبراً للصوت؛ وحتى ذلك الأداء الذي بدا للوهلة الأولى خارج جسد العرض ومنظومته الادائية، والمتمثل برفع الممثلة (لبوة) عن طريق السلك المعدني في فضاء العرض، إلا أنه شكل لحظة فارقة من لحظات الإطاحة بالجسد/الضحية في إشارة رامزة إلى ما تم إنتاجه في الفوضى التي اختارتها وصنعتها السلطة(الخفية) لتصفية حساباتها مع المختلفين معها.

ذاكرة الحلم بزورق مثقوب:
إختار المخرج تأسيس فرضية مغايرة للأداء مع الممثلة (اسراء العاني) عن غيرها من شخصيات/المنفى، فالفاجعة التي ألمت بها مركبة لا تتسق مع فكرة الأداء التقليدي، فالتنكيل بها وتحويلها إلى سلعة يتم تبادلها في حفلات الصخب والمجون من دون أن يكون لها قدرة على الرفض، حتى صارت خاضعة محطمة وهي تؤدي سلوكاً تعبيرياً مزدوجاً بين الموت غرقاً والحياة كسلعة يتبادلها حراس السلطة في سهراتهم الليلية، ذلك الأداء الذي جعل من الممثلة (اسراء العاني) تكشف عن قدرة فائقة الجودة على المستوى الحركي، وبخاصة في تبنيها لعلاقة ادائية مع الجدار الذي تحول إلى محاولات متكررة للهروب من القاع الذي سقطت في قعره، لتتحول فكرة البحر في واحد من المشهديات البصرية والادائية المتفردة في التعبير عن مرحلة الهجرة بقوارب الموت بصورة غير مباشرة ظلت فيها (اسراء) المرأة الضحية المتشبثة بجدار الحياة المثقوب، فضلا عن مشهدها الصوتي الذي تصرخ فيه بوجه السلطة الخفي في أداء هستيري منسجم مع حالة الشخصية وذاكرتها/ الحلم.

الحياة /المسخ:
تبنت الممثلة (رضاب أحمد) سلوكاً يعتمد على الأداء الداخلي الذي ينسجم مع طبيعة الشخصية/الضحية، بتوصيفاتها الحركية وصراخها الهستيري المنسجم مع مآلات الشخصيات /الضحايا، اللاتي إعتمدن ذاكرة السرد ومعهن (رضاب) في توصيف المأساة، إلا أنهن لم يتشابهن في التعبير كما هو حال (رضاب) التي تم مسخها من ضحية إختارت الإنتحار في المنفى على البقاء خاضعة بين جدرانه الناعمة، وإختار المخرج إعادة تشكيلها ومسخها إلى الرجل الذي كان يمارس معها أمراضه ونزعاته السادية، وكأن حالة الموت شنقاً لم تخلصها من كوابيس الجلاد الذي ظل غائباً تحت جناح السرد.

ذاكرة التشوه والتنمر الجسدي:
الشكل الهجين الذي تكشف عن صوت أوبرالي لا يشبه فضاء الضحايا، بل هو صوت قامع لهن، توصيف دقيق لشكل السلطة وقسوتها، كل ذلك تمثل في أداء الممثلة (نعمت عبد الحسين)، وقد ساعد اداؤها في التأكيد على بشاعة السلطة وقدرتها على التخفي صوتياً وجسدياً.
ولم تكن فكرة الخروج بالضحية خارج المتن المحرم والتي تجسدت في شخصية الممثلة (رنا لفتة) التي قادها التنمر من شكلها ورغبتها في الأكل إلى أن تتحول إلى ضحية تساق مع الضحايا، وقد تبنت سلوكاً ادائياً بدت فيه تميل إلى الجنون أكثر من حضورها في سرديات الملفوظ الخشنة، مستفيدة من جسدها البدين الذي بدا واضحاً أن المخرج قد إختار الممثلة بناءً على تطابق شكلها مع متبنيات الشخصية الطبيعية.

الجسد الديني وذاكرة الزيف:
ببراعة كبيرة إستطاعت الممثلة (زمن الربيعي) التمسك بسلوك الشخصية التي شكلت ظاهرة أدائية وجمالية، فضلا عن كونها الشخصية اللغز، ذلك أنها تمسكت بأداء حركي تعبيري مستفيدة من بناء منظومة صوتية بمواصفات خاصة في محاولة لتوظيف تقنيات التغريب التي أسهمت الأزياء ذات المرجعيات الشرق أسيوية في تشكلها للوصول إلى شخصية ذات مرجعيات دينية ظلت لغزاً داخل جسد العرض بإستثناء العلامات التي كشفتها (السبحة) المباشرة، إلى أن جاءت لحظة التحول الادائي الفارقة التي كشفت فيها قدرتها على التخفي داخل الجسد الديني من أجل الوصول إلى مآربها التي عبرت عنها بسلوك مغاير تماماً عن ذلك الذي تبنته طوال حضورها الادائي وهو تحول جمالي أكتسبت فيه الممثلة خصوصية بالغة الأهمية.

الجوكر/ ظلال السلطة:
اختار المخرج شخصية أيقونية لتجسيد ظلال السلطة، ذلك أن السلطة لم تكشف عن نفسها وظلت متخفية في أعماق الجدار، وما ظلالها التي تجسدت على نحو فردي عن طريق الممثل (دريد عبد الوهاب)، أو على نحو جماعي في (نخبة من طلبة معهد الفنون الجميلة) إلا توصيفات لحالة القمع التي أطاحت بالضحايا في مواضع مختلفة من العرض.
تمسك الممثل (دريد) بشخصية الجوكر الايقونية التي بدا واضحاً أن إختيار المخرج للممثل يعود إلى تشابه في البنية الجسمانية للممثل والجوكر بصورته السينمائية، حتى أن الممثل تبنى ذات الحركة والسلوك الغامض في التعبير عن مراوغة السلطة ومكرها.

سينوغرافيا الجدار ومرايا الخراب:
بدا واضحاً تنوع الاشتغال السينوغرافي في تشكيل الجانب البصري للعرض المسرحي، مع حضور السينوغراف (علي السوداني) الذي إمتلك خصوصية عالية الجودة تمثلت في توصيفات عديدة يأتي في مقدمتها جماليات الفضاء البصري الذي إعتمد فيه على تفعيل منظومة الإضاءة على نحو دقيق من دون مبالغات بصرية، الأمر الذي أضفى بعداً تأويلياً لمشهديات الصورة التي أسس المخرج لها ضمن مقترحاته الإخراجية.
وقد أسهم توظيف تقنيات (الداتاشو) على نحو لافت للإنتباه والتفكير، وبخاصة ما إرتبط منها في تأسيس فضاء مخاتل للفضاء الأساس الذي تشكل عبر منظومة الضوء، ذلك أن إعادة إنتاج الاشتغال المتمثل بـ(الداتاشو) كشف عن عوالم متنوعة ساعدت الملفوظ السردي في التعبير عن ذاكرة الضحايا وبخاصة في مشهد (غرق الأطفال) الذي تحول فيه الشكل البصري إلى فرضيات جديدة للمعنى خارج حدود الضحية، وصولاً إلى ضحايا السلطة الخفية، فالعوالم التي تم إنتاجها خارج فضاء العرض بدت مؤثرة في مواضع عدة، لاسيما في مشاهد تنكر الجوكر/ الأب في مشهد إغتصاب(الأبنة) الذي جسدته الممثلة (ريهام البياتي)، وكأن السينوغراف أراد المزاوجة بين ذاكرة الماضي على نحو بصري بالتزامن مع الأداء القاسي للشخصية (الأم /الطفلة) وقد أضفى حضور شخصية (الطفلة) في العرض بعداً جمالياً وهي تتخفى خلف أبواب المنفى المستقبلي الذي وقعت فيه بوصفها (الأم /الضحية) في ثلاثية بصرية لها وقعها الدرامي، وهو إشتغال لم يتكرر كثيراً مع باقي الشخصيات، فضلاً تحول (الداتاشو) من العالم المخاتل إلى الحاضر الآن في مشهد (البحر) الذي تفاعلت فيه الممثلة(اسراء العاني) على نحو حركي تفوقت فيه على المنطوق السردي، بإستثناء لحظتها الانفجارية أمام (مايك) السلطة.
ولم تكن صورة (الجوكر) الذي تحول إلى واحد من (القياصرة) في مشهد لتقنية (الداتاشو) مؤثراً بالرغم من قصدية إختيار الزمن التأريخي في أحالة يراد بها تغريب الزمن الذي وقعت في تلك الاحداث أو بوصفه تعبيراً عن شكل السلطة الرمزي الذي لم يضف متغيراً لما كانت عليه في حالة التخفي.
كما ان حضور الزي المسرحي للمصمم (زياد العذاري) في العرض أكسب العرض دلالات جمالية وفكرية عميقة وبخاصة تحويل أزياء الممثلين في المشهد الأخير إلى زيّ الإعدام ذي اللون الأحمر، من جهة أخرى فإن تنوع الزّي المسرحي جاء منسجماً مع كل شخصية للتعبير عن الحالة الأولى التي وصلت فيها إلى المكان/المنفى، فقد أضاف الكثير من العلامات الدالة للشخصيات وإن كن جميعاً من الضحايا، إلا أن التباين الطبقي بدا حاضراً في أزياء كل منهن.
اما الموسيقى التي إشتغل على تأليفها وتوليفها (رياض كاظم) فقد كان لها حضور فاعل وبخاصة في تحولها من الموسيقى المباشرة المتمثل بعازفة البيانو/الضحية التي بدت حكايتها ملتبسة على المستوى النصي، ذلك أن أحساسها العميق بالعزف الحي دفع بالمتلقي إلى التعرف على حكايتها قبل أن تكشف عنها في سرديات تعودنا عليها في سياق العرض، إلا أن المؤلف كشف لنا عن حكاية مغايرة لا تعود إلى شغفها بالموسيقى التي تحولت مقطوعاتها إلى أوجاع أشبه بأوجاع الضحايا، بل إفترض المؤلف حكاية مغايرة لأثرها الموسيقي.
من جهة أخرى فإن المقطوعات الموسيقية التي حمل بعضها مرجعيات عالمية تمت إعادة توليفها بما ينسجم مع مقترح العرض جاءت فاعلة ومؤثرة في مواضع كثيرة من بينها، العلاقة التي تأسست مع الممثلة (الاء نجم) التي كانت الموسيقى ترافقها في تبني السلوك الادائي الخاص بالشخصية/الضحية.



#صميم_حسب_الله (هاشتاغ)       Samem_Hassaballa#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موت الشخصية في (صمت)!!
- الكتابة بسكين مثلوم!! تقانة الميتامسرح في -سيرك- الاسدي
- فرضيات الاشتغال الدراماتورجي في العرض المسرحي (خوف سائل)
- التجريب لم يـــكن اخـــــــتيارا..!
- العرض المسرحي ( GPS) تقانة الإخراج في مسرح الممثل
- مسرحية(خلاف) المهيمن السردي في فرضيات المخرج المؤلف
- -حرب العشر دقائق- التباس المضامين في الازمنة
- فرانكفونية الخطاب في مسرحية (YES GODOT)
- مسرح الكارثة .. أو ما بعدها؟
- مسرحية -حنين حار-: ذاكرة حاضرة ومستقبل ملتبس ؟
- نبوءة الدم.. وخرافة اليقين في مسرحية (مكبث)
- مسرحية (فُلانة): الهيمنة الذكورية في منتدى المسرح
- تقاسيم -جواد الاسدي- في منتدى المسرح ( قراءة من داخل التجربة ...
- ثنائية (الوعي – العزلة) في تجربة المخرج المسرحي فاضل خليل
- الخطاب المعرفي في المسرح إنتاج أم إستهلاك؟
- مسرحية ( رائحة حرب) الهيمنة التقنية وجماليات الإطاحة بالرؤية ...
- -سينما- الفضاء الميت !
- -وقت ضايع- في رحلة البحث عن المدهش البصري!
- حوار مع المخرج المسرحي : د.جواد الأسدي البروفة مع الممثلات ا ...
- -حلم الغفيلة - لم ينضج بعد !


المزيد.....




- بعد نجاح فيلم -الدشاش- جماهيريا.. هل نجح محمد سعد في استعادة ...
- الدين مادة أساسية بمدارس مصر.. ما وجه الاعتراض؟
- بعد ساعتين بالظبط هتشوف العظمة”.. مسلسل عثمان 178 الحلقة الج ...
- المترجم جنغيز عبد الواحد ”فرض رسوم لخدمة الترجمة قد يؤدي إلى ...
- الأدب السوري مترجمًا.. كيف شوّهت -سياسات الهوية- السردية الس ...
- أحزاب تيدو تريد من المولودين في الخارج دفع رسوم الترجمة بأنف ...
- تركي آل الشيخ يعلن عن حدث مهم بتاريخ صناعة السينما في السعود ...
- دار الأنام اللبنانية تصدر كتاباً جديداً للدكتور زهير ياسين ش ...
- مصر.. حارس مصري يرتكب جريمة مروعة في معهد للسينما
- الأنبار.. خطاطون وفنانون يشكون الإهمال وقلة الدعم


المزيد.....

- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صميم حسب الله - السرد الخشن في (الجدار) الناعم