دراسة نقدية حول نص “حديثٌ بيني وبيني” للشاعرة سكينة الرفوع/ بقلم فراس الوائلي

فراس الوائلي

الحوار المتمدن-العدد: 8230 - 2025 / 1 / 22 - 10:12
المحور: الادب والفن
    

النص:

"حديثٌ بيني وبيني "

" همسٌ سرى بين ثنايا الروح على مسمعٍ من القلب ، تخفق له خلجات الشّوق المُخضّب بالأمل ، لحلمٍ يسير على جنح سحابة يمطر شآبيب السكون في واحة هجير ... تمايل له زهر نيسان وهو يثمل رحيق العشق فترقص له أوراق الشجر سكرى ،
طيف ظله يطوقني بالسعادة وأنا أتنسّم عبق حديثه ، وعطره يسبيني ، في ربيع لا نهاية لألقه ؛ يحضر كأحلام الغيد مع زنابق الفجر يعزف على أنغام سومرية اللحن ، نيروزها يفيض بإيقاع يداعب همسات الحب كلما هبت نسائمه مع كل رشفة شِعْرٍ ، وهمسه يناغي بلابل الشوق ذات لحظة هاربة من الزمن تكاد تطوقه بسنابل سخية بالفرح ، ونايات شدو الظلال تراقص قوافي قصائد الشجن ، كنجمة مضاءة بالوله المُغلّف بحكايات تقصّ رؤياها بلهفةٍ على شهريار فيأخذه الكرى قبل أن تكمل حديثها ،فتتوارى خلسة في أعالي النجوم تروي أشجانها لعزلتها وقد كان في حقيقته
حديثٌ يسري بيني وبيني .

سكينة الرفوع

مدخل: انبثاق الذات في مرآة الحلم

يأخذنا نص “حديثٌ بيني وبيني” إلى فضاء شعري يتماهى فيه الداخل والخارج، حيث تتحد الروح مع عوالمها الموازية، فتُولد الصور نابضةً من أعماق الذات. إنه نص يرتقي فوق حدود اللغة التقليدية، ليُصبح نسيجًا متوهجًا من الأحلام والرؤى، حيث يتناغم السكون مع الحركة، ويُصبح الحوار الداخلي هو البوصلة التي تقودنا في متاهة الوجود.

1. لغة النص: جماليات الانسياب وعبق البوح

اللغة في النص ليست أداة تواصل بقدر ما هي تجربة شعورية تعبر عن انصهار الذات في لحظة تأملية. المفردات تتسم بالنعومة والرهافة، مثل “همسٌ سرى”، “جنح سحابة”، و”عبق حديثه”. هذه التعابير تكشف عن صوت داخلي يفيض بالشوق والصفاء، وتتجاوز الكلمات البسيطة لتُلامس الأفق الشعري حيث ينصهر الصوت مع الصمت.

النص يستخدم تراكيب لغوية تعتمد على الموسيقى الداخلية، حيث الجُمل تموج كأنها أنغام خافتة تحاكي إيقاع الكون. هذه الموسيقى ليست فقط في النغم، بل في التكرار الواعي للصور والدلالات، مما يمنح النص بُعدًا سرديًا يمتزج فيه الشعري بالسردي.

2. الصور الشعرية: رقص الضوء والظل

الصور الشعرية في النص تنتمي إلى عوالم رمزية وسريالية في آنٍ واحد. ترسم سكينة الرفوع، مشاهد مليئة بالحركة والضوء، مثل:
• “جنح سحابة يمطر شآبيب السكون”: صورة تجمع بين المتناقضات، حيث تُصبح السحابة رمزًا للطمأنينة التي تهطل رغم الحَرّ.
• “زهر نيسان يثمل رحيق العشق”: صورة نابضة بالحياة تعكس جماليات التجدد والانبعاث.
• “طيف ظله يطوقني بالسعادة”: استحضار مزدوج للغياب والحضور، حيث يصبح الظل ذاته كيانًا مؤنسًا.

الشاعرة لا يكتفي بالتصوير، بل تجعل كل صورة مشهدًا ديناميكيًا ينبض بالتأمل والدهشة، حيث تتشابك العناصر الطبيعية مع العواطف الإنسانية في وحدة عضوية.

3. الأبعاد الرمزية والتعبيرية: جدلية الذات والكون

النص محمّل برمزية عالية، حيث تصبح العناصر الطبيعية (السحابة، الزهر، البلابل) انعكاسًا لحالات شعورية وجودية. الطبيعة هنا ليست مجرد ديكور، بل كيان حي يتفاعل مع الذات، كما في قولها: “بلابل الشوق تكاد تطوقه بسنابل سخية بالفرح”. هذه الرمزية تجعل النص مفتوحًا على تأويلات متعددة، حيث يمكن قراءته كحوار بين الذات وعمقها الداخلي، أو بين الإنسان والكون ككل.

التعبيرية في النص تتجلى في استخدام اللغة لرسم عوالم غير مرئية، حيث يصبح الحديث الداخلي نافذة تُطل على فضاءات شاسعة من الحلم والخيال.

4. البناء الدائري: عودة إلى البداية

النص يتخذ شكلًا دائريًا يبدأ بـ”همسٌ سرى بين ثنايا الروح” وينتهي بـ”حديثٌ يسري بيني وبيني”. هذا التكرار البنيوي يعكس فكرة الزمن المتكرر واللحظة الأبدية التي تعيشها الشاعرة. البناء الدائري يعزز من وحدة النص، ويخلق حالة من الانسجام بين البداية والنهاية، وكأن القارئ يعود دائمًا إلى نقطة الانطلاق.

5. التأمل والبوح: غنائية الروح

النص يُعتبر لوحة غنائية تتحدث عن لحظة انعتاق للروح، حيث يصبح البوح وسيلة للتطهر من صخب العالم الخارجي. الشاعرة تجعل من الحوار الداخلي مسرحًا للعواطف، حيث الشوق، العشق، والفرح يتداخلون في رقصة أبدية. هذه الغنائية تجعل النص أقرب إلى قصيدة صوفية، حيث لا تبحث سكينة الرفوع، عن الإجابات، بل تعيش دهشة السؤال.

الخاتمة: النص كمرآة للوجود

“حديثٌ بيني وبيني” ليس مجرد نص شعري، بل هو تجربة أدبية فلسفية تعكس رحلة الذات في أعماقها. إنه نص يتحدى الزمن والمكان، ويُحلق بالقارئ في فضاءات من النور والخيال. الشاعرة تُظهر براعة في نسج لغة تتنفس الضوء، وصور تفيض بالحياة، ليُنتج نصًا بديعا في قدرته على التعبير عن المشترك الإنساني.

النص يُعد دعوة للتأمل في جوهر الذات، ولإعادة اكتشاف العلاقة بين الإنسان والكون في ضوء جديد لا ينتمي إلا للشعر.

ديترويت/ ميشيغان
2025/1/22

#فراس_الوائلي (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات