أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - بهجت العبيدي البيبة - الحضارة الغربية بين القيم والانتقادات: رؤية متوازنة















المزيد.....


الحضارة الغربية بين القيم والانتقادات: رؤية متوازنة


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8228 - 2025 / 1 / 20 - 16:48
المحور: قضايا ثقافية
    


لا يمكن للحضارات أن تبقى وتستمر دون أسسٍ أخلاقية وقيمٍ إنسانية تُهيّئها للتطور والانتشار. والتاريخ يزخر بأمثلة على حضارات عظيمة بلغت أوج قوتها العسكرية والاقتصادية، لكنها انهارت حين تفككت منظومتها الأخلاقية. فالإمبراطورية الرومانية، التي امتدت عبر ثلاث قارات وكانت رمزًا للقوة والتنظيم، سرعان ما بدأت بالانهيار عندما تفشى الفساد داخل طبقتها الحاكمة، وازداد انغماس المجتمع في حياة الترف والانحلال، مما أدى إلى اضطراب النظام السياسي وتراجع الولاء للقيم الجماعية. وبالمثل، فإن الدولة العباسية التي كانت في عصرها الذهبي منارة للعلم والثقافة، عانت من النزاعات السياسية والتنافس على السلطة، وانغمست في مظاهر الثراء والترف، ما جعلها ضعيفة أمام الغزو المغولي.

تلك الأمثلة تؤكد أن سقوط الحضارات غالبًا ما يبدأ من الداخل، حين تتهاوى القيم الأخلاقية التي تشكل العمود الفقري لأي مجتمع قوي ومستقر. لذلك، من اللافت للنظر أن الحضارة الغربية، التي كثيراً ما تُتهم بالانهيار الأخلاقي، ما زالت تحتفظ بموقعها المهيمن على العالم منذ أربعة قرون، بل ويرشحها كثير من المراقبين للاستمرار في تفوقها لقرون أخرى قادمة. هذه الحقيقة تدفعنا إلى تأمل هذه الحضارة بعين الإنصاف، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والرؤى المنقوصة.

ومن المهم هنا أن نتوقف عند فكرة شائعة مفادها أن الحضارة الغربية ليست سوى حضارة مادية بحتة. صحيح أن الغرب قد اشتهر بتركيزه على القيم الاقتصادية والعسكرية، لكن هذا لا يعني أنها تفتقر إلى البُعد الثقافي والفني الذي يعد جزءًا أساسيًا من هويتها. في الواقع، النهضة الأوروبية التي تعتبر بداية انطلاق الحضارة الغربية الحديثة لم تكن مجرد قفزة مادية، بل كانت بالأساس حركة فنية وثقافية غيرت مجرى التاريخ. ففي عصر النهضة، برزت الأسماء العظيمة مثل ليوناردو دا فينشي، ومايكل أنجلو، ورفائيل، الذين ساهموا في تطوير الفنون البصرية وعلم الفلك والفلسفة، مما جعل أوروبا مركزًا للابتكار والإبداع.

إن هذا الاهتمام بالفنون والآداب لم يتوقف عند عصر النهضة، بل أصبح ركيزة أساسية في تطور الغرب الحديث. فالاهتمام بالأدب، على سبيل المثال، بلغ ذروته من خلال حصول العديد من المبدعين الغربيين على جوائز عالمية، أبرزها جائزة نوبل في الأدب، التي ذهبت إلى أسماء مثل توماس مان، ويليام فوكنر، إرنست همنغواي، ألبير كامو، ودوريس ليسينغ. هذه الأسماء وغيرها تُظهر مدى التقدير الذي تحظى به الفنون والآداب في الغرب

ولا يقتصر الإبداع الغربي على الأدب فحسب، بل يمتد إلى جميع أشكال الفنون. السينما، على سبيل المثال، أصبحت واحدة من أهم أدوات التعبير الفني في الغرب، حيث أبدعت هوليوود أعمالًا خالدة أثرت في البشرية جمعاء، وجعلت من السينما الغربية لغة عالمية للثقافة والفن. حتى الفنون التشكيلية والموسيقى الكلاسيكية، التي لا تزال مدارسها في أوروبا ملهمة للفنانين حول العالم، تعد خير دليل على عمق الإبداع الفني في الحضارة الغربية.

إن هذا التركيز على الفنون والآداب والإبداع الثقافي هو خير دليل على أن الحضارة الغربية ليست مادية بحتة كما يُقال أحيانًا. الحضارة التي تنتج هذا الكم الهائل من الإبداع الفني والأدبي والثقافي لا يمكن أن تكون مجرد حضارة تسعى وراء الثروة أو القوة المادية فقط، بل هي حضارة تعتز بالروح الإنسانية وتقدّر ما ينتجه العقل والقلب من جمال وإبداع.

كما أن من المهم أن نلاحظ أن وليم شكسبير، رغم كونه جزءًا من الأدب الإنجليزي الذي تزامن مع فترة النهضة الأوروبية، يعتبر من أبرز الشخصيات التي أسهمت في تطوير الفنون الأدبية في هذا العصر. ورغم أن حياته تزامنت مع فترة انتقالية بين العصور، إلا أن أعماله كانت تُمثل بشكل عميق القيم الفكرية والثقافية التي شكلت جزءًا من النهضة الأوروبية، من خلال تصويره للتعقيدات الإنسانية والقيم التي كانت في صميم الحضارة الغربية.

تُظهر هذه الإضافات والتطورات أن الحضارة الغربية ليست مجرد حضارة مادية بل هي حضارة متعددة الأبعاد، تجمع بين العقل والروح، بين الاقتصاد والفن، وبين القوة الإنسانية والتكنولوجيا. لذلك، من الخطأ اختصارها في بُعد واحد فقط دون الأخذ بعين الاعتبار كل ما أنتجته من إبداع ثقافي وفني في مختلف المجالات.

إنَّ تمجيد الأسرة، والإخلاص في العمل، والالتزام بالصدق، وقيمة الأمانة هي ركائز أساسية في الحياة الغربية. إن من يعيش في الغرب أو يتفاعل معه يدرك بسهولة أن تلك المجتمعات تقدّر العمل الجاد وتتعامل مع الوقت كأنه رأس مال لا يُهدر. والإخلاص في العمل ليس مجرد شعار، بل ممارسة يومية يتساوى فيها الوزير والعامل البسيط. أما الأمانة، فهي حجر الزاوية في تعاملاتهم، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. قد تدخل متجراً وتجد بضائع معروضة دون حارس، مع صندوق صغير يُطلب منك وضع ثمن ما أخذت. هذا السلوك المتكرر في كثير من المدن الأوروبية يعكس قيمة أخلاقية متأصلة.

وفي المقابل، حين ننظر إلى مجتمعاتنا الشرقية، نجد أن بعضاً من هذه القيم قد تآكل بفعل عوامل شتى. فالرشوة، والتحايل على القوانين، وانعدام الشفافية باتت ممارسات متفشية في العديد من الأوساط، مما يجعلنا نتساءل: هل المشكلة في المنظومة الأخلاقية ذاتها أم في كيفية تطبيقها؟

ولا شك أن الحرية في الغرب تثير الجدل في مجتمعاتنا الشرقية، خصوصاً حين تُذكر الحرية الفردية، بما في ذلك العلاقات الجنسية. لكن عند التأمل بعمق، نجد أن الحرية الغربية لا تعني الفوضى كما يُروج لها أحياناً، بل هي مقننة ومرتبطة بالمسؤولية. فالعلاقة التي تجمع بين رجل وامرأة خارج إطار الزواج الرسمي في الغرب غالباً ما تُعتبر شبيهة إلى حد بعيد بالزواج الإسلامي من حيث العرض والقبول والإشهار. فالجميع يعلم أن هذا الرجل يعيش مع هذه السيدة، ولا تُخفى العلاقة عن المجتمع أو الحكومة التي تتعامل معهما باعتبارهما مرتبطين. إن هذا الشكل من العلاقات، على الرغم من اختلافه عن مفهوم الزواج الشرعي في الإسلام، يحمل التزامًا متبادلاً وشكلاً من أشكال الإشهار الذي يُعد جوهر العلاقة الزوجية في التعاليم الإسلامية.

أما ما يتعلق بالعلاقات المثلية، فهي بلا شك إحدى النقاط المثيرة للجدل. نعم، القوانين الغربية تحميها بشكل كبير، لكنها ليست بالضرورة تعبيراً عن انهيارٍ أخلاقي شامل، كما يُعتقد. إن الغريب أن هذه العلاقات موجودة أيضاً في المجتمعات الشرقية، وإن كانت تُمارس في الخفاء. إن الفرق يكمن في أن الغرب يتعامل معها كواقع اجتماعي، بينما تُقابل في مجتمعاتنا بإنكارٍ علني وإخفاءٍ متعمد.

ومن بين الانتقادات الموجهة للحضارة الغربية تلك المتعلقة بالدين والعلم. يعتقد البعض أن الغرب قد تخلّى عن الدين، ولكن الحقيقة أكثر تعقيداً. ما زال جزء كبير من الغرب يعتنق المسيحية ويؤمن بوجود إله. والإسلام هو ثاني أكبر ديانة في أوروبا، ما يثبت أن الغرب ليس بيئة معادية للدين. أما العلم، فإن نظريات مثل التطور والانفجار الكبير تُعتبر جزءاً من المنظومة العلمية التي تُناقش بشكلٍ عقلاني. إن فكرة أن “الإنسان أصله قرد” ليست سوى تبسيط مُخل لنظرية التطور. فالنظرية في جوهرها تُفسر تنوع الكائنات الحية، ولا تصطدم مع فكرة الإيمان بخالق.

إن الاستغلال سمة مميزة لمعظم الحضارات القديمة والحديثة. فالحضارة الغربية في عصورها الاستعمارية نهبت موارد الدول التي احتلتها، تماماً كما فعلت الإمبراطورية الرومانية، وكما استغلت الخلافة الإسلامية موارد البلاد المفتوحة. لكن الفارق يكمن في الغاية. فالاستعمار الغربي كان يهدف إلى إشباع مصالح اقتصادية بحتة، بينما كانت الفتوحات الإسلامية تسعى إلى نشر الدين، هذا الذي لم يسلم من وجود تجاوزات بشرية في كثير من الحالات.

إننا نعلن بكل وضوح أن الحضارة الغربية ليست كاملة، فهي مثل أي حضارة أخرى تحمل جانباً مضيئاً وآخر مظلماً. لكن الحكم عليها من خلال رؤية أحادية أو انطباعات مشوهة لا يخدم البحث عن الحقيقة. إن هناك الكثير لنتعلمه من الغرب: احترام القوانين، وقيمة العمل، وأهمية الالتزام الأخلاقي. وبالمثل، يمتلك الشرق الكثير من القيم الإنسانية العظيمة التي يمكن أن تُسهم في إثراء الحضارة البشرية. إن الاعتراف بالاختلاف هو أولى خطوات التفاهم. وبالنظر إلى نقاط القوة والضعف في الحضارات المختلفة، يمكننا بناء مستقبل أفضل يتسع للجميع.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من هزيمة المغول إلى كسر أوهام الشرق الأوسط الجديد: مصر مقبرة ...
- المستقبل في ظل الاعتماد على الروبوتات: العالم بين الابتكار و ...
- لماذا ينتظر العقل الجمعي العربي والإسلامي انهيار الحضارة الغ ...
- العقل الديني واستغلال الكوارث: بين الادعاء والحقيقة
- مجدي يعقوب: أيقونة الإنسانية والعلم في مسار نحو نوبل وجامعة ...
- الأسرى في ظلال الكهف: رحلة العقل من القيود إلى النور
- العقل المسلم بين تأكيد القناعات الذاتية والوقوع في فخ الأخبا ...
- العقل العربي بين الشماتة والكوارث: قراءة في الانهزام الحضاري
- أصداء الرعب: كيف تتحطم الأمم تحت وطأة الديكتاتورية
- العرب والمسلمون بين أسطورة الماضي وسراب الحاضر
- الإنسان المغترب: قراءة في فكر إريك فروم وأبعاد الاغتراب في ا ...
- انتظار الحلول الغيبية: هروب من الواقع أم أمل زائف؟
- ما الذي يدفع العقول المتعلمة إلى رفض العلم لصالح الوهم؟
- احترام الأديان والتعايش السلمي: رؤية نقدية لسلوكيات تسيء للإ ...
- سوريا على مفترق طرق: تساؤلات حول انهيار الجيش وتحديات المرحل ...
- فرحة بمرض نتنياهو أم هروب من مواجهة الواقع؟
- الثورة الإدراكية: قفزة الإنسان العاقل نحو السيادة على الأرض
- حوار حول مستقبل سوريا: بين التفاؤل والتشاؤم
- محمد صلاح: رمز سلام يتحدى التعصب
- الحروف الفينيقيّة: الثورة الصامتة التي غيّرت مجرى التاريخ


المزيد.....




- بعضها مرتبط بقضايا جدلية.. ترامب يستعد لإصدار قرابة 100 أمر ...
- لحظة وصول ترامب وميلانيا إلى كنيسة جون إيبيسكوبال قبل مراسم ...
- نادية الجندي تنشر تفاصيل إطلالتها المثيرة للجدل في -Joy Awar ...
- شاهد.. بايدن وزوجته ينشران -صورة أخيرة- من البيت الأبيض
- بعد اتفاق غزة.. الجيش الإسرائيلي يحذر من -عمليات كبيرة- محتم ...
- حزب الله بشأن وقف النار في غزة: انتصار تاريخي يؤكد أن خيار ا ...
- من هو الفريق الرئاسي لدونالد ترامب؟
- -ثلاثة أمور غير قابلة للتفاوض بالنسبة لإسرائيل في المرحلة ال ...
- زلزال بقوة 5.4 درجة يضرب باتانغاس في الفلبين
- الحوثيون يهددون باستهداف السفن الأمريكية والبريطانية المتجهة ...


المزيد.....

- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - بهجت العبيدي البيبة - الحضارة الغربية بين القيم والانتقادات: رؤية متوازنة