|
الفيزياء بين الفكر والرياضيات
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 8228 - 2025 / 1 / 20 - 16:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تتميز النظرية العلمية في الفيزياء بمحورين مهمين، هما المحتوى الفكري والعلاقات الرياضية. ويمثل الأول أساس النظرية باعتباره يعبر عن منظومة الأفكار الخاصة بتفسير الظواهر الكونية، ومن دونه لا يبقى لها شيء، وليس هو الحال مع المحور الثاني، فمن دونه لا تغيب النظرية لكنها تصاب بالنقص والقصور. وعليه اذا كان المحتوى الفكري ضعيفاً فسوف لا تشفع له الصياغة الرياضية القائمة عليه. ويتخذ كل من المحورين أشكالاً مختلفة. فلو بدأنا بالمحور الأخير لوجدنا ان للرياضيات الفيزيائية وظائف واستخدامات متعددة يمكن اجمالها كالتالي: 1ـ التسجيل الدقيق للظواهر الفيزيائية كما تصورها النظرية. وأبرز مثال على ذلك قانون التناسب العام للجاذبية النيوتنية. فقد قدّم نيوتن قانوناً رياضياً دقيقاً يعبّر عن نظرة شمولية لتفسير العلاقات المادية وفقاً لكتلها، فجميع المواد والكتل بما فيها الكواكب، والأشياء التي على أرضنا وحالات السقوط التي نشهدها وعلاقة القمر بالمد والجزر، والعلاقات الأخرى المتعلقة بالنجوم، وكل ما هو موجود في الكون من اجسام مادية، محكومة جميعاً بنفس القانون الرياضي الدقيق للجاذبية. 2ـ التعبير عن المحتوى التأويلي والخيالي للنظرية، مثلما حصل مع النسبية العامة التي بدأت بخواطر خيالية مفادها: لو ان شخصاً سقط سقوطاً حراً فانه سوف لن يشعر بوزنه. فهذه الفكرة الخيالية التي ظهرت (عام 1907) هي ما دفعت اينشتاين إلى تأسيس نظريته في الجاذبية (عام 1915). فكما قال انه خلال سنة 1907 ‹‹كنت اجلس على كرسي في مكتب براءات الاختراع ببرن عندما طرأت لي فكرة: لو ان شخصاً سقط سقوطاً حراً فلن يشعر بوزنه››. وهي ما دفعته كما يقول نحو نظريته في الجاذبية، ومن ثم عبّر عن ذلك فيما بعد بأنها كانت اسعد الأفكار حظاً في حياته. فهنا يلاحظ ان أينشتاين بسط فكرته حول النسبية العامة وفقاً للخيال ومن ثم صاغ ذلك بحسب الأبعاد الرياضية. 3ـ قد تشكل الرياضيات أساساً للمضمون الفكري للنظرية، سواء كانت العلاقة بين المحورين متطابقة أو مشوشة، كالذي جرى مع الكوانتم، فالأساس الذي قامت عليه هذه النظرية هو الجانب الرياضي الصوري، ومن ثم بُني عليه المعنى الفكري بتأويلاته المختلفة. فقد قيل ان أول تحول للفيزياء إلى محض الصورة الرياضية كانت مع جيمس كليرك ماكسويل خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فالمجال الكهرومغناطيسي الذي يتحدث عنه ماكسويل مصاغ بطريقة رياضية وهو غير قابل للتصور والخيال. ثم ظهرت بعد ذلك العلاقة الرياضية الهامة التي طرحها ماكس بلانك (عام 1900) نتيجة عدد من التجارب والتي مثلت بداية نشأة نظرية الكوانتم، وهي ما اصبغ عليها أينشتاين المعنى الفيزيائي، حتى توج الحال بميكانيكا الكوانتم خلال العشرينات من القرن المنصرم والتي صيغت مبادؤها بأقصى حالات التجريد الرياضي، مما جعل الكثير من الفيزيائيين يهاجمون هذه الصورية التي غلفتها. ومن ثم أخذت الرياضيات دوراً هاماً يعتمد عليه في الإكتشاف وبلورة الخيال وتأويل الواقع. فقد حلت صيغة بلانك الرياضية - والتي سميت فيما بعد بثابت بلانك - عوض التجربة المشاهدة، وان كان معنى هذه الصيغة قد خفي حتى على بلانك نفسه، اذ رأى ان هذه الصيغة التي اتى بها لا تتعدى القالب الرياضي دون ان يكون لها معنى فيزيائي، وظن أنها مجرد حيلة رياضية للتوفيق بين الجانبين النظري والتجريبي ككثير من الابحاث، وكذلك كان نظر الفيزيائيين للمسألة. لكن أينشتاين هو أول فيزيائي أخذ يتعامل مع هذه الصيغة بجدية أكثر من ان يوليها تلك الحيلة، ورأى أنها تعبّر عن معنى فيزيائي. فهي في هذه الحالة تعد مصدر إكتشاف وخيال وتأويل. 4ـ قد تشكل الرياضيات مصدراً للالهام والاكتشاف، كالذي أكد عليه ديراك، ومن ذلك زعمه (عام 1928) بأن ‹‹إحساسه العارم بالجمال – الرياضي - هو الذي مكنه من ان يحزر معادلة الإلكترون››. وهي المعادلة التي أفضت إلى التنبؤ بمضاد الإلكترون أو البوزترون، مع أنه ثبت خطأ المبادئ الأساسية البسيطة التي قامت عليها نظرية ديراك في الإلكترون، لكن الرياضيات القائمة عليها ظلت باقية لجماليتها فحسب. ومعلوم انه بنظر العديد من الفيزيائيين والرياضيين تشكل الرياضيات المادة الحقيقية للعالم الفيزيقي، فكما يعتقد الرياضي البريطاني المعروف روجر بنروز بأنه كلما تعمقنا في العالم الفيزيائي بدأ بالتلاشي ولا يبقى إلا التعامل مع الرياضيات. لذلك كان هناك الكثير ممن يعتقد بوجود عالم رياضي خارجي مستقل على الطريقة الافلاطونية لا يقل واقعية عن وجود الكراسي التي نجلس عليها، ومنهم روجر بنروز نفسه بالاضافة إلى الرياضي المعروف جودل. وعليه أخذ الفيزيائيون يفتشون في المجلات الرياضية عن ضالتهم للكشف عن التنبؤات المتعلقة بالتناظرات والأشكال الكونية المناسبة، وفقاً للعلاقة الحميمة المفترضة بين الفيزياء والرياضيات كالذي تسعى إليه نظرية الأوتار الفائقة حتى يومنا هذا. 5ـ قد تشكل الرياضيات نسقاً مصطنعاً دون ان يعزى لها واقع فيزيائي. فمثلاً اعتبر أينشتاين عدداً من المحاولات الرياضية الرامية لدمج وتوحيد الثقالة بالمجال الكهرومغناطيسي مصطنعة دون ان تتفق مع حقيقة الواقع الفعلي. ومن هذه الرياضيات ما يتعلق بالنسقين الخاصين بهرمان فيل وكالوزا. كذلك وفقاً للمعادلات الرياضية أظهر بول ديفيز وجون بارو - خلال ثمانينات القرن الماضي - أن مستقبل الكون يؤول إلى التمدد اللامتناهي، بحيث ان كل شيء يأخذ بالتمدد ومن ثم التمزق والتفجر من المجرات شيئاً فشيئاً حتى يصل الأمر إلى الذرات وما فيها من جسيمات، فينتهي المكان والزمان عند الوصول إلى مرحلة المفردة الزمكانية. مع ذلك فإن هذين الفيزيائيين لم يتخذا السيناريو السابق على محمل الجد كثيراً؛ بإعتباره مبنياً على نموذج رياضي مصطنع. لكن أُعيد طرح هذه الفكرة بشكل جدي (عام 2003) على يد روبرت كالدويل Robert Caldwell بعنوان (التمزق الكبير Big Rip). وعموماً قد تكون الرياضيات وسيلة للعب المشعوذ، فهناك من العلماء من كان يبحث حول الذرات فقط ليستنتج بأنه لم يكن يبحث في الفيزياء، بل كان يشعوذ في الأرقام. 6ـ استخدام الرياضيات كحيلة لحل بعض المشكلات الفيزيائية فيما يعرف بالحيل الرياضية، دون ان تعبر عن الواقع الفيزيائي الحقيقي. وهي من الرياضيات المصطنعة لكن الفيزيائيين يضطرون اليها للوصول الى حل مناسب. ومن ذلك استخدام ما يسمى باعادة التطبيع (Renormalization) لتلافي ما قد ينجم عن النظرية الفيزيائية من مشكلة اللانهائيات، فيتم معالجتها بتقسيم مثلها عليها ومن ثم الحصول على اجابة معقولة، كالذي يظهر في الداينميكا اللونية الكمومية (QCD) وغيرها. وما أكثر ما يقرّه الفيزيائيون من حيل رياضية أو نماذج لعب مصطنعة. وقد يشك فيما إذا كان للرياضيات معنى فيزيائي أم أنها مجرد معادلات لا علاقة لها بالواقع، أو هي مجرد حيلة لتكوين نظرية عن الواقع الفيزيائي. فمثلاً كان أحد طلاب أينشتاين القدامى يقول بأن الأخير ‹‹كان يرى في كل معادلة مضموناً فيزيائياً، في حين ان هذه المعادلات من وجهة نظرنا لم تزد عن كونها مجرد معادلات››. وقد توصل بلانك إلى مفهوم الكمات التي اعتبرها في الأساس اختراعاً لحيلة رياضية، لكنها دفعت أينشتاين إلى ان يعتقد بأن لها حقيقة فيزيائية. وكثيراً ما تمارس نظرية الأوتار الفائقة الدور المصطنع للحيل الرياضية أو نماذج اللعب في الأشكال الهندسية لفضاء (كالابي–ياو) في رسم الصورة الكلية للكون؛ رغم ان أصحابها يتصورون الأمر بجدية حقيقية. *** أما المحتوى الفكري للنظرية فله أشكاله المختلفة أيضاً، وذلك كالتالي: 1ـ أن يكون المحتوى مستدلاً عليه بالتجربة والاستقراء، وهو ما يسمح ان يتم التعبير عنه بدقة وفق الرياضيات كما في الشكل الأول المشار إليه سلفاً. 2ـ أن يكون للمحتوى الفكري طابع خيالي وتأويلي للواقع الموضوعي قبل صياغته رياضياً، كالذي اتصفت به النسبية العامة لاينشتاين. فملوم انه لم يكن لأينشتاين قوة بارعة غير تلك المتعلقة بسعة خياله وحدسه وبصيرته. فهي العامل الأساس في توجيه نظرياته. وكان يعتبر نفسه رساماً يرسم بحرية حسبما يتراءى لخياله، فالخيال لديه أكثر أهمية من المعرفة، فالمعرفة محدودة، في حين يحيط الخيال بالعالم. فاعظم إكتشافاته جاءت عن هذا الطريق، وليس بطريق رياضي ولا تجريبي، ومن ذلك تأملاته الخيالية المبدعة التي تضمنتها نظريته في النسبية العامة قبل ان يضفي عليها الطابع الرياضي، مثل تلك المتعلقة بغرفة مغلقة (مصعد) تسقط سقوطاً حراً، وكيف ان الفرد فيها لا يتحسس بالثقالة وكأنه يسبح في الفضاء، وكل ما يخرجه من جيبه ويتركه سوف لا يسقط على ارضية الغرفة، أو على عكس ذلك عندما تسحب الغرفة بتسارع متزايد نحو الأعلى، إذ سيشعر بالثقالة التي تجره إلى اسفل. فهذه التأملات الخيالية قد شكلت البداية لتفكيره في بناء نظريته حول النسبية العامة. 3ـ أن يشكل المحتوى النظري صورة مصطنعة للحيل التي تخدم الاطار النظري المطروح ضمن ما سميناه في (منهج العلم والفهم الديني) بالحيل الخيالية، وقد يُدعم بالصياغة الرياضية، خاصة عند معالجة القضايا الكونية بداية التوسع الكوني أو الانفجار العظيم. وكمثال على ذلك الحيلة الخيالية التي تتضمن تحول المكان إلى زمان أو العكس وفقاً للاتصال الزمكاني، والتي استفادت منها اطروحة (هارتل وهوكنج) للتخلص من المشكلة الميتافيزيقية المتعلقة ببداية الانفجار العظيم. 4ـ أن يكون المحتوى الفكري مجرد افتراضات تخمينية غير قابلة للتجربة والاختبار، مثل النظريات التي تتحدث عما قبل الانفجار العظيم، ومثل النظرية التي تقول ان ما تظهره نتائج القياسات حول الجسيمات لها ما يقابلها في كون آخر. ففي مثال قطة شرودنجر، اذا أظهرت القياسات ان القطة حية؛ فستكون في كون آخر ميتة، والعكس بالعكس. وهناك أفكار مختلفة يدلي بها العلماء هنا وهناك دون ان تتخذ اطاراً نظرياً متماسكاً، مثل الفكرة التي ترى اننا مبرمجون من قبل كائنات سامية الذكاء، أو تلك التي ترى ان كل فكرة تدور في رؤوسنا لها واقعها في كون آخر مختلف. وقد تؤطر هذه الأفكار التخمينية بالصياغات الرياضية أو تكون خالية منها. 5ـ قد تتضمن النظرية نسقاً مفترضاً ومدعوماً بدلالات منطقية وفيزيائية مختلفة، حتى وإن لم تتأطر بالشكليات الرياضية، كما هو حال ما قدمناه حول اطروحة الانكماش الكوني كما في كتابنا (انكماش الكون).
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التداولية الطاهية
-
فلسفة علم الطريقة
-
الاخلاق الطاهية (قراءة في النسق القيمي لمشروع طه عبد الرحمن)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (5)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (4)
-
الدين بعيون كانتية
-
مصطلح الفلسفة والتشبّه في تراثنا القديم؟
-
الصوفية في ثلاثة أصناف
-
فلسفة النظام الاخلاقي (3)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (2)
-
فلسفة النظام الاخلاقي (1)
-
متى يكتمل حضور الجهاز المعرفي لدى الانسان؟
-
جدليات نظرية التطور
-
الانزلاقات في العلم: تشابه جينات البشر والشمبانزي نموذجاً
-
هل للجسم مشاعر؟
-
الايفو ديفو والتطور الدارويني
-
الركود والانقطاع في التطور: التوازن المتقطع
-
صخرة الإيمان: الإله والتصميم
-
نهج المفكر الصدر في اثبات المسألة الإلهية
-
القضية العلمية والتصميم
المزيد.....
-
خوفا من -انتقام- ترامب.. بايدن يصدر أوامر عفو بحق ميلي وفاوت
...
-
شاهد.. المليارديران إيلون ماسك وجيف بيزوس يتبادلان أطراف الح
...
-
-بفضل جهوده-.. تيك توك تشيد بترامب بعد عودة المنصة لمستخدميه
...
-
أولا بأول.. مراسم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة
...
-
المغرب يرفع ميزانية الدفاع إلى 13 مليار يورو بما يعادل 10 با
...
-
ما تداعيات موافقة مجلس النواب المصري على مراقبة الاتصالات؟
-
ليلة دون قصف ولاخوف.. الفلسطينيون يتنفسون الصعداء مع بدء سير
...
-
الرفيق رشيد حموني يطالب بالتحقق من معطيات تتعلق بتدبير شراكة
...
-
جنود الحظ العاثر
-
ما أهم ما يميز تنصيب دونالد ترامب؟
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|