أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - شريف حتاتة - العولمة و- النخب - الفكرية فى بلادنا















المزيد.....


العولمة و- النخب - الفكرية فى بلادنا


شريف حتاتة

الحوار المتمدن-العدد: 8227 - 2025 / 1 / 19 - 20:11
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


============
العولمة و تبعية " النخب " الفكرية فى بلادنا
=============================

وفقا لمجلة فوربز الأمريكية كان عدد الميارديرات سنة ١٩٩٥ ثلثمائة وثمانية وثلاثين ، زاد عددهم إلى ٤٤٧ مليارديرا سنة ١٩٩٦ ، ويقدر مجموع الثروات التي يملكونها بما يقرب من ٤٥٠ مليارا من الدولارات ، أى أكثر من الدخل الإجمالي لنصف سكان العالم.
ونتيجة هذا التركيز ، والتمركز الشديدين للقوى الاقتصادية والتكنولوجية بين أيدى هذه القلة القليلة للغاية تستخدم الثورة الحادثة في وسائل الاتصال ، والنقل ، والمعلومات فى نهب أغلبية سكان الكرة الأرضية ، وعلى الأخص الذين يعيشون في بلاد بالجنوب.
ولكن لفظ النهب لم يعد هو الوصف الشائع فى عصرنا هذا. حلت محله كلمات واصطلاحات أخرى أكثر جاذبية مثل المعونة، أو التجارة الحرة ، أو الاستثمار ، أو التنمية المتواصلة ، أو التكييف الهيكلي.
وهذا التطور ، والشراء فى الألفاظ هو جزء من اللعبة الثقافية التي يمارسها فكر "ما بعد الحداثة". ويصف المفكر والناقد الأمريكي "فريدريك جاميسون" فكر ما بعد الحداثة " بأنه منطق الرأسمالية في عصرها الأخير"، ولهذا المنطق أوجه متعددة ولكنى فى هذا المجال أريد أن أركز على مظاهر ثلاث مرتبطة بثقافة " ما بعد الحداثة هى الكوكبة ، أو العولمة ، والتفتيت ، والاستسلام أو العجز.
تلجأ الشركات المتعددة الجنسية إلى وسائل اقتصادية وسياسية ، وعسكرية مختلفة تهدف إلى تدعيم وتوسيع السوق العالمي ، حتى تغطى الكوكب كله . ولكن يمكن أن تصبح هذه العملية المعقدة أكثر سهولة إذا ما أمكن التأثير على عقلية الناس ، ووجدانهم، وتصرفاتهم بحيث تتمشى مع هذا الاتجاه ، وتشجعه ، هكذا تستطيع الثقافة أن تمهد الطريق أمام التوسع في السوق العالمي ، ووصوله إلى كل أركان الكرة الأرضية.
في غيبة الرؤى الواضحة لأفاق المستقبل ، ولما يمكن أن يحدث من تطورات كثيرا ما يجنح الناس إلى الاحتماء في الأشياء التي يعرفونها جيدا إلى كل ما هو مألوف، ومطمئن إزاء مخاطر الحياة ، والمجهول ، إلى الماضى، والتراث الذي جاءوا منه ، والذي صنع منهم ما يتميزون به عن الآخرين ، عن الأعداء الذين يتربصون بالأشياء التي يعتزون بها في حياتهم .
ولذلك بدلا من أن يستجيبوا للمخاطر التي تهددهم بالتغير والتقدم نحو الأمام ، والتخلص من كل ما يمكن أن يثقل خطواتهم في المجتمع والحياة يتراجعون إلى الخلف، ويتشبثون بالماضى، بالسلفية والأسلاف ، بالأسرة المغلقة على نفسها والقيم التى تؤكد هذا الانغلاق ، بالجماعة الإثنية ، أو العرقية ، أو الطائفية أو القومية المحدودة، إلى كل ماهو تقليدي ، مرتبط بالهوية التي تميزهم عن الآخرين، عن العدو الذي يغزوهم ، ويهددهم بأوخم العواقب.
بدلا من الانفتاح على الحياة من إيصال الماضى بالحاضر ، والمستقبل ، بدلا من الهوية ، والوطنية التى تطور نفسها لترتبط بالإنسانية جمعاء رغم تميزها الخاص ، يتغلق الناس على أنفسهم مثل المحارة الصلبة فيؤكدون ما يميزهم إلى حد التعصب والتطرف، والجهالة ، وتدب بينهم وبين غيرهم المعارك الضارية والانقسامات بدلا من أن يتحدوا في مواجهة المخاطر المشتركة، والهجوم العالمى لرأس المال. يقيم الناس فيما بينهم حواجز ومتاريس مدمرة . يتمسكون بالمواقف، ووجهات النظر التي تؤدى إلى تقسيم صفوفهم . ينخرطون في الحركات السياسية، والثقافية والاجتماعية التي تفصلهم عن الآخرين بجمودها ، وتعصبها، واتجاهاتها الرجعية . يبعثون إلى الحياة طرقا في التفكير ، ومقاييس ووجهات نظر تتسم بالتفرقة ، وعدم التسامح باسم الدين ، أو التقاليد ، أو الثقافة، أو العرق أو الهوية. يقاومون الآخر الغازى باحثين عن أمل في تكرار التاريخ ، أو في الخرافة والأوهام الميتافيزيقية. يفكرون بأسلوب يلغى الترابط بين الظواهر والأشياء. يفتتون الواقع إلى أجزاء ، وجزيئات مفصولة عن بعضها ، ويبحثون عن حقائق مطلقة، أزلية كأنها مفاتيح سحرية يمكن أن تصلح لكل زمان ومكان ليواجهوا بها عدم اليقين، والسيولة التى هى من صفات التطور في الحياة.
هذه هي العوامل المعقدة التى تكمن وراء انبعاث الحركات العرقية ، والدينية السياسية ، وهي تشكل جوهر الفكر الذي يسود في هذه الحركات ، وجوهر الدور أو الوظيفة التي تقوم بها إزاء المنضمين إليها . جوهر الرسالة التي تحملها إلى الناس في ظل الأوضاع التي يعانون منها ، لكن خلف هذه الظواهر تختفى القوى الاقتصادية التى تريد أن تستغل الانقاسمات ، والمنازعات حتى تحمى مصالحها، وتدعم هيمنتها على العالم ، وعلى مصائر الناس.
فكل نظام اقتصادى، كل قوى اقتصادية في المجتمع لابد أن تكون لها أيديولوجيتها حتى إن كانت هى نفسها تعلن صباح مساء أن الأيديولوجية انتهت ، أن يكون لها طريقها للوصول إلى عقول البشر. ولابد أن تجعل منهم جيشا أيديولوجيا يذود عن مصالحها في صراع الأفكار ، والمفكرون في جيش الرأسمالية العالمية المسيطرون في وقتنا الحالي يصفون فكرهم بأنه فكر "ما بعد الحداثة " مشيرين بذلك إلى قناعتهم بأن عهد الحداثة الذي ارتبط بمرحلة التصنيع الرأسمالي انتهى.
من بين هؤلاء المفكرين المرتبطين بعهد "ما بعد الحداثة" رجل اسمه "صامويل هانتجتون" ذاع صيته فى هذه الأوساط رغم فجاجة النظريات التي طلع علينا بها. إنه يدعى أن المصالح الاقتصادية ، أو الأيديولوجية لم تعودا تلعبان دور القوى المحركة للأحداث، والتاريخ، أنه في يومنا هذا أصبحت القوى المحركة شيئا آخر يسميه صراع الحضارات ، إن العالم ينقسم إلى ثماني حضارات في مقدمتها الحضارة المسيحية أو الغربية التي يجب حمايتها من زحف الجحافل البربرية المتمثلة فى حضارة الإسلام أو في الحضارة الكونفوشية (أي الصين) أو الحضارة الهندوكية (أى الهند) وعلى أساس هذا التحليل ، واحتمال قيام صراع بين هذه الحضارات (أى بين حضارات الشرق ، والحضارة الغربية) يشير إلى ضرورة قيام الغرب بتحقيق بعث جديد في نظامه السياسي والعسكري، وإلى أهمية تدعيم حلف الناتو العسكري تحسبا للهجوم الإسلامي أو الكونفوشي المرتقب. إن هذه الدعوة إلى حرب صليبية جديدة تتفق تماما مع مصالح وأهداف الشركات المتعددة الجنسية فهى تسمح بالتستر على ما يحدث بالفعل في عالمنا المعاصر، وبتوجيه الصراع الذى تخوضه الشعوب ضد خمسمائة من الشركات المتعددة الجنسية تهيمن على مصائرها إلى مواجهة بين الحضارات ، وبذلك ينحرف هذا الصراع عن الخصم الحقيقى لأنه يمكن هذه القوى الرأسمالية المتعددة الجنسيات من تعبئة الشعوب لتنفيذ سياساتها الاستعمارية الجديدة ويوجد لها عدوا جديدا يحل محل العدو الشيوعى القديم، وحجة تحتاج إليه المضاعفة انتاج السلاح. وقد قام مفكرون آخرون ينتمون إلى تيار " ما بعد الحداثة " بصياغة أفكار ونظريات مرتبطة بهذا الاتجاه أو مشابهة له ، ومن بينهم "برنارد لويس" ، و " فرنسيس فوكوياما " ، وإن كان بعضهم ومنهم "فرانسيس فوكوياما" قد أظهروا قدرا أكبر من المرونة ، و"الصنعة" فيما كتبوه . كما أنهم تعرضوا لقضايا خارج النطاق الضيق الذي انحصر فيه "صامويل هانتجتون".
على أثر هذه الكتابات ، تسرب جزء من هذه الأفكار إلى كتابات «النخبة» المصرية ، والعربية، وقاموا بتبنى نظريات مدرسة ما بعد الحداثة أحيانا دون تغيير ، وفى أحيان أخرى بعد إجراء بعض التبديل في طريقة الصياغة ، وفي إضفاء نكهة عربية أو اسلامية عليها . حولوا الصراعات التي تدور في منطقتنا إلى قضايا تتعلق بالحضارة ، والثقافة فأصبحت اختلافاتنا مع إسرائيل مثلا تحديات، أو صراعا حضاريا" . وكانت حرب الخليج معركة حول " قيم الحرية ، والحضارة " وليست معركة حول البترول . ومنذ شهور عقد مؤتمر فى القاهرة ليطرح علينا الخيار بين " صراع الحضارات أو حوار الثقافات " كأن هذا هو جوهر المشكلة التي نواجهها في هذا العصر.
بالطبع يوجد دائما جزء من الحقيقة فى أى تحليل ، أو فكرة يتقدم بها الناس . ولكن اللعبة التي يلعبها أنصار "ما بعد الحداثة" مازالت تعتمد على الفصل بين الحقائق ، والظواهر وإخفاء العلاقات المتداخلة القائمة بينها . اللعبة هي إخفاء العلاقة بين ماهو ثقافى، وماهو اقتصادي ، وبث الفكر العاجز عن النظرة الشاملة التي هي أساس المعرفة والقدرة على مواجهة مشاكلنا . اللعبة هي الفصل بين الحديث عن " تحرير الكويت" والدفاع عن قيم الحضارة فى منطقتنا ، وبين مخزن البترول في بلاد الخليج .
هذه هي إحدى الوسائل الأساسية التي يلجأ إليها" فكر ما بعد الحداثة" ليبعدنا عن قضايانا الحيوية فى هذا العصر. إنها تحول دون أن ندرك ما الذي يحدث بالفعل . تحيطنا بسحب من الدخان ، بخطاب معقد يبدو عميقا للغاية، لكنه يسمح بالتغطية على الحقائق ، وتزييف الوعى.
في عالم اليوم يمكننا أن نلاحظ عمليتين أساسيتين في مجرى التطورات التي تتم على نطاق العالم . العملية الأولى تسير نحو مزيد من التمركز والتركيز لصالح أقلية ثرية تتضاءل باستمرار على حساب الأغلبية الساحقة .
أما العملية الأخرى التي تشمل المستويات الدنيا للمجتمع العالمي اساسا ، وإن كانت تتسرب أحيانا إلى اعلى فهى تسير نحو مزيد من التفتت والانقسام ، وتقترن بتهميش ، وإفقار الشعوب في الجنوب وإلى درجة أقل بكثير في الشمال.
وقد يبدو الاتجاه نحو تكوين ثقافة كوكبية موحدة وكانه يتعارض مع . يجب الاتجاه الآخر نحو حدوث مزيد من التقسيم، والتفتيت ، والتنازع القومي ، والعرقي ، والثقافي الذي نشهده اليوم في أنحاء مختلفة من العالم . وهذا التعارض قائم إلى حد ما ومع ذلك يكملان بعضهما ويخدمان أهدافاً واحدة . إنهما متوافقان متضافران في تحقيقهما لمصالح القلة المحدودة للغابة التي تهيمن على العالم من أعلى . إنهما وجهان لعملة واحدة يساهمان في توحيد القوى الاقتصادية ، والسياسية ، والعسكرية ، والمعلوماتية وتركيزها بين ايدى هذه القلة . فالهيمنة من أعلى تستلزم تفتيت القوى من أدنى. فحتى يضمن الحفاظ على الاقتصاد العالمى بين أيدى الأقلية القليلة دون آلاف الملايين من البشر لابد من أن يكون التوحيد من أعلى وليس من أسفل أن يظل الناس منقسمين على بعضهم ، أن يكونوا شيعا ، وفرقا متنافرة. إن المثل القديم الذى عرف منذ بداية التاريخ يقول " فرق تسد ".
إن الحركة السياسية الإسلامية في منطقتنا قد تبدو وكأنها مشتبكة في صراع مع الكوكبة الغربية المهيمنة على العالم، وهذا الصراع قائم بالفعل من بعض الوجوه ، ولكن يوجد في جميع الأسر صراع رغم تقارب المصالح. فهناك خلافات مثلا بين الولايات المتحدة الأمريكية ، وفرنسا ، وإنجلترا ، واليابان حول مسائل مختلفة . لكن هذه الخلافات لاتمس الجوهر ابدا ، أى ليست حول بقاء نظام الشركات المتعددة الجنسيات المسيطرة على العالم.
إن الحركة الإسلامية السياسية في عصرنا هذا بما تستند إليه من بنوك و شركات ، وتجارة فى الأسلحة والمخدرات، والذهب ، والعملات، وأشياء أخرى كثيرة ، وبما ترتبط به من مراكز لرجال الأعمال ، ورجال السياسة في لندن ، وجنيف وفرانكفورت ، ولوكسمبورج ، وجزر البهاما ، ومختلف المدن في أمريكا، إن كل هذه الشبكة الدولية تشكل جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الكوكبي ، ولا تتناقض معه إلا في أمور تتعلق بالمنافسات والمناورات الرأسمالية . إن البلاد الخليجية ، عربية كانت أو غير عربية . تساند هذا النظام بدولاراتها البترولية . فالحركات الإسلامية في هذه الدول أو جزء منها كانت تنشط في أفغانستان وتقوم بتمويل وتسليح الحركات المتطرفة الإسلامية . كما ظلت تقاوم كل حركة ديمقراطية أو وطنية ، ورغم بعض الخلافات مازالت متعاونة ، ومتحالفة مع الغرب الرأسمالي الذي ينظر إليها كبديل محتمل إذا ما قرر الاستغناء عن خدمات الجماعات الحاكمة الحالية .
إن الحركات الإسلامية السياسية ليست سوى ظاهرة أخرى من الظواهر المرتبطة بعصر " ما بعد الحداثة" الذي نحيا في ظله وليس المفكرون ، والمحللون، والمثقفون الإسلاميون في أغلب الأحوال سوى وجه آخر أكثر فجاجة الفكر " ما بعد الحداثة" ، فبالنسبة إليهم تأتى الثقافة قبل الاقتصاد ، وفي انعزال عنه وحتى اذا عارضوا ما يسمونه بالغرب فانهم يتسترون فيما يقولون، أو يكتبون على ما يحدث وراء الكواليس، على حركة المال خلال الشبكة المتداخلة للمصالح الكوكبية التى تحافظ على الشركات المتعددة الجنسيات أو على الأقل لا يتحدثون عنها.
أما الحركة الشعبية الدينية فمصالحها ليست مع هؤلاء ، ليست مع قيادتها بل هى فى الحقيقة مناقضة لها ، إنها حركة معارضة جوهرها الاحتجاج، والتمرد على الأوضاع السائدة في بلادها ، وفي العالم . لكن المشكلة هي إنها بدلا من أن تنظر إلى الأمام، بدلا من التطلع إلى السبل التي تقود إلى التقدم والقضاء على الظلم ، وإلى الاستقلال تحملق بعيونها إلى الخلف ، إلى الماضى . لذلك هي حركة سلفية تستغل لحساب قوى أخرى لا تهمها مصالحها. تستغل لحساب أولئك الذين يتبوءون مراكز القيادة فيها ويسعون إلى المال ، والسلطة . إن مفكرى ما بعد الحداثة من الإسلاميين الذين يدعون الدفاع عن ثقافة الإسلام وحضارته لا يحدثوننا عن هذه الحقائق ، وإنما يخفونها . إنهم بقصد ، وأحياناً بدون قصد جزء لا يتجزأ من لعبة ما بعد الحداثة ولهم دور مهم فيها . إنهم جزء لا يتجزأ من الشبكة الأيديولوجية للرأسمالية العالمية.
هكذا يدعم فكر ما بعد الحداثة هيمنة الرأسمالية المتعددة الجنسيات على كوكب الأرض عن طريق بعث ، وتطوير اتجاهين ثقافيين متعارضين في الظاهر بينما هما ملتقيان فى الجوهر ، مكملان لبعضهما . اتجاه الثقافة الاستهلاكية الكوكبية المنتجة لنمط واحد من الفكر المادى السوقى ، والسطحي بسلوكه ومقاييسه وقيمه ، واتجاه ثقافى آخر يؤكد الهوية ، ويتطرف في الدفاع عنها ويتحدث عن تعدد الثقافات فاصلا بينهما وبين الاقتصاد.
هذان الاتجاهان الثقافيان يهدفان فى الجوهر إلى هدف واحد هو الحفاظ على هيمنة رأس المال الكوكبي ، وتنميته . يساعد على ذلك الفصل بينهما وبين كل ما يتعلق بالاقتصاد ، والسياسة ، أو القوة العسكرة حتى يمكن إخفاء الصراعات الحقيقية الدائرة فى هذا العصر، وإضعاف المقاومة التي مازالت تبديها الشعوب إزاء خطط الرأسمالية والاستعمار الجديد.
إن فكر ما بعد الحداثة كما نشأ وتطور في بلاد الغرب الرأسمالي هو أيديولوجية تؤكد السلبية والاستسلام ، وعهد لهما بنظرياته . إنه ينزع الحيوية عن حركة المقاومة، ويصيبها بالشلل عن طريق القضاء على الارتباط الموجود بين الأشياء ، والتداخل المتشابك القائم بينها ، على النظرة الشاملة لأمور حياتنا. ويتم هذا باسم دفع كل ماهو ثقافى إلى الصدارة ، والتستر خلف ضرورة احترام وتنمية التعدد الثقافي. إنه يفتت ، ويجزئ المعرفة باسم دراسة وتعميق كل ماهو محلى ، أو خاص ، ويحول العالم إلى صندوق سحرى تتعدد فيه الأشكال والألوان ، إلى موزايكو شديد التفتت لكن فيه ثراء. وهذا الاتجاه في الفكر يمكن أن تكون له فوائده وميزاته . فالفوضى جزء من الحياة ، وأحيانا مرحلة من مراحل الفهم والإبداع . كما أن عدم الحسم في الأمور وعدم تأكيد الحدود الفاصلة يفقدنا الجمود الذي نعاني منه أحيانا ويفتح آفاق الاكتشاف والدراسة المتعمقة التفصيلية للأشياء، للمظاهر الجزئية والمحلية المهمشة التي لاتنال الاهتمام الواجب ، ولقطاعات من الناس تعيش على أطراف الحياة ، وتقابل شئونها بلا مبالاة.
لكن في الوقت نفسه فكر ما بعد الحداثة يروج لمفاهيم تجرد الجماهير من قدرتها على التصدى لهجوم الرأسمالية الكوكبية وتنزع عنها . أسلحة التغيير بتخليها عن النظريات العامة التي نحتاج إليها لفهم ما يدور حولنا ولربط المعارك المتفرقة في تيار عالمى واحد له روافده ومكوناته ، وتفرغاته في كل مكان فإذا كنا نعيش نهاية التاريخ كما يدعى «فرانسيس فوكاياما » كيف يمكن أن نفكر في المستقبل، أو نتعلم من الماضى ؟ أليس معنى مثل هذا القول أن العالم الذى تحكمه الشركات المتعددة الجنسية عن طريق تركيز السلطة والمال والمعرفة بين أيديها سيظل كما هو دون أمل في التغيير وإذا كنا نعيش نهاية الأيديولوجية والنظريات وفقا لأفكار ميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهما من مفكرى ما بعد الحداثة كيف يمكن أن تجمع معلوماتنا ، وأفكارنا ونضعها في سياق شامل مفهوم حتى إذا كان هذا السياق الشامل سيستبدل بغيره في المستقبل القريب أو البعيد ؟ . وإذا كنا نشهد مع ميشيل فوكو نهاية التمثيل أى نهاية قيام بعض الناس بتمثيل غيرهم في مختلف الهيئات والمؤسسات التي تسعى إلى نيل حقوق فئات وطبقات الشعب المختلفة كيف يمكن أن ينتظم الناس في جماعات ، أو نقابات أو أحزاب ، أو جمعيات للدفاع عن مصالحهم ، وحقوقهم ، وحرياتهم؟. وإذا كنا نعيش «موت المؤلف» كما يدعى رولان بارت ونعيش «سيادة النص» الا يعني هذا أننا لن نجد أمامنا سوى نصوص ميتة مفصولة عن الجهود البشرية التي ابتدعتها، وأن يتحول كل شئ إلى خطاب.
أن هذه «النهايات» أو «الموتات» جميعا تجرد الناس من قدراتهم على الصراع ، إنما تعنى التنازل عن التاريخ، والنظرية ، والأيديولوجية والتمثيل، وصناع النصوص لصالح رأس المال العالمي ، وممثليه ، أى لصالح الاستعمار الجديد ومعاونيه فى كل مكان لتكون أسلحة لهم وحدهم يدافعون بها عن أنفسهم وأموالهم ويستخدمونها ضدنا دون أن نستطيع شيئا إزاءهم. أنها تمكنهم من نشر أيديولوجيتهم، وتاريخهم ، ونظرياتهم ، وأشكال تمثيلهم، وصناع كتاباتهم كما يشاءون. أن يغرقونا في فيضان من المعلومات والوقائع عن العالم ، بلا علاقة تربط بينها ، ولا رابط ليصبح كل شئ غامضا غير مفهوم وليظلوا هم مسيطرين علي مقاليد السلطة والمعرفة تاركين جماهير الشعوب ضائعة لا تلوى على شئ مثل تجمعات من الأسماك العمياء في محيط متلاطم الأمواج.
======================================
من كتاب : " العولمة والاسلام السياسى " كتاب الأهالى 2009
============================================



#شريف_حتاتة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النهب الرأسمالى فى النظام العالمى الجديد
- استئناس العقول وصنع المشوهين والمجرمين
- عمل النساء فى مصر
- النساء ومشاريع التحرر والتقدم
- المرأة من العبودية الى العولمة
- العولمة والحرب الصليبية الجديدة
- العولمة والفكر فى مصر
- الاعلام وبرمجة الانسان
- اسلام مجاهدى خلق
- شفافية أم تغطية ؟
- عمل المرأة فى العولمة
- حول الاقتصاد العالمى الجديد
- لحظات من الدفء فى بلاد الثلج
- حديث الهجرة
- أحاديث الترحال
- ليس مهما جواز السفر
- فى سوق الخلفاوى
- هل يمكن أن نصنع مواطنا عالميا ؟
- بنات الباليه المائى وبائع الخس
- دفن - ذات - المرأة فى عيدها العالمى


المزيد.....




- خوفا من -انتقام- ترامب.. بايدن يصدر أوامر عفو بحق ميلي وفاوت ...
- شاهد.. المليارديران إيلون ماسك وجيف بيزوس يتبادلان أطراف الح ...
- -بفضل جهوده-.. تيك توك تشيد بترامب بعد عودة المنصة لمستخدميه ...
- أولا بأول.. مراسم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة ...
- المغرب يرفع ميزانية الدفاع إلى 13 مليار يورو بما يعادل 10 با ...
- ما تداعيات موافقة مجلس النواب المصري على مراقبة الاتصالات؟
- ليلة دون قصف ولاخوف.. الفلسطينيون يتنفسون الصعداء مع بدء سير ...
- الرفيق رشيد حموني يطالب بالتحقق من معطيات تتعلق بتدبير شراكة ...
- جنود الحظ العاثر
- ما أهم ما يميز تنصيب دونالد ترامب؟


المزيد.....

- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - شريف حتاتة - العولمة و- النخب - الفكرية فى بلادنا