أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بهجت العبيدي البيبة - من هزيمة المغول إلى كسر أوهام الشرق الأوسط الجديد: مصر مقبرة الغزاة وهادمة الطموحات















المزيد.....


من هزيمة المغول إلى كسر أوهام الشرق الأوسط الجديد: مصر مقبرة الغزاة وهادمة الطموحات


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8227 - 2025 / 1 / 19 - 13:12
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


عندما غزت جيوش المغول العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر، كانت تداعيات هذه الحروب عميقة ومرعبة في آن واحد. إن تلك الجيوش التي ارتبطت في الذاكرة بالدمار والتخريب، بدأت رحلتها في سعي غير محدود نحو التوسع والهيمنة. ومع ذلك، كان للمغول حلم طموح، حلم لم يكتمل، وهو الهيمنة على قلب العالم الإسلامي، حيث جوبهوا بعقبة صلبة تمثلت في مصر. لقد كانت مصر، ذلك البلد الذي لم يكن سوى حصن يطل على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، القوة التي وقفت في وجه العاصفة المغولية، والتي منحت العالم الإسلامي فرصة للبقاء، وأعادت صياغة مستقبل المنطقة.

تعود جذور هذا الزحف المغولي إلى سنوات طويلة قبل اجتياح بغداد عام 1258م، حينما شنّ المغول غزواتهم على كافة بقاع الأرض، انطلاقًا من السهوب المنغولية. كان المغول قد عاشوا حياة فوضوية، قبائل متفرقة، حتى ظهر قائدهم العظيم، جنكيز خان، الذي وضع حجر الأساس لإمبراطورية شاسعة، جمع فيها الشعوب تحت راية واحدة، وأعلن عن حلمه في توحيد العالم بالقوة العسكرية. إلا أن زحفهم لم يتوقف عند حدود السهوب، بل امتد غربًا وشرقًا، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مع العالم الإسلامي، ذلك الكيان الحضاري الذي كان يعج بالعلماء والفلاسفة والفقهاء، والذي تعمقت جذوره في التاريخ وفي الفكر الإسلامي.

لكن، وكما هو الحال في جميع الحروب والغزوات الكبرى، كان للمغول مبررهم الأخلاقي. فعلى الرغم من القوة الوحشية التي أظهروها، ورغم التدمير الذي ألحقوه بالأراضي التي اجتاحوها، إلا أنهم سعوا لتقديم غطاء أخلاقي يبرر توسعهم. ففي نظرهم، كانت الفكرة المركزية للغزو تتلخص في نشر “العدالة” و”التحرير” من خلال السيطرة على “الشعوب الضعيفة” وفرض “النظام” على المجتمعات التي كانت، وفقًا لرؤيتهم، مشوشة وغير منضبطة. لقد كان هذا المبرر الأخلاقي يقدم لهم غطاءً مريحًا، يجعلهم يظهرون بمظهر المنقذين بدلاً من الغزاة. في الحقيقة، مثل هذا التبرير كان، ومازال، نموذجًا شائعًا بين القوى التي تسعى للهيمنة، حيث يكون العنف مغطى بمصوغ أخلاقي يدّعي تقديم “الخير” للشعوب المغزوة.

في عام 1258م، بلغ المغول ذروة هجمتهم، حيث سقطت بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، بعد حصار دام شهورًا. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة سقوط أحد أعظم المعاقل الثقافية والفكرية في تاريخ الإنسانية، ولم تكن خسارة بغداد مجرد سقوط سياسي، بل كانت ضربة قاصمة لروح العالم الإسلامي. ولكن رغم الدمار، بقيت روح المقاومة حية في العديد من المناطق الإسلامية، وخاصة في مصر، التي كانت، منذ فترات طويلة، بمثابة درعٍ يحمي قلب العالم الإسلامي.

فعندما بدأ المغول يهددون الشام بعد سقوط بغداد، كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى مصر، حيث كان حكم المماليك قد بدأ في التوطد في تلك الفترة. كانت المماليك قد انتصروا في معركة فارسكور الفاصلة ضد الصليبيين في وقت سابق، وهم اليوم مستعدون لملاقاة المغول. وعلى الرغم من أن المغول كانت جيوشهم تتسم بالتنظيم العسكري الدقيق، وسرعة الهجوم التي لا تقارن، إلا أن المماليك، بقيادة السلطان سيف الدين قطز، استطاعوا أن يرفعوا راية المقاومة. وفي عام 1260م، كانت معركة عين جالوت، تلك المعركة التي لا تزال تدرس في تاريخ الحروب، حيث شهدت النهاية المفاجئة للطموح المغولي في السيطرة على العالم الإسلامي.

لقد كانت معركة عين جالوت بمثابة الاختبار الحقيقي لقوة إرادة الأمة الإسلامية، وأثبتت أن الفكرة المغولية في فرض الهيمنة بالقوة لن تكون قادرة على التغلب على عزيمة الشعوب المسلمة. وكان قطز يعلم تمامًا أن هذه المعركة لن تكون مجرد صراع على أرض، بل ستكون معركة لوقف ما قد يكون نهاية الحضارة الإسلامية. فتحرك قطز، بتكتيك عبقري، في اتجاه عكسي، تاركًا مغولًا يحاصرونهم على الأرض المنبسطة، ثم انقضوا عليهم في اللحظة الحاسمة، ليحققوا النصر الذي سيغير مسار التاريخ.

وبذلك، انتهى حلم المغول في أن يصبحوا القوة المهيمنة على العالم الإسلامي. لقد كانت الهزيمة في عين جالوت بمثابة إعلان انتصار الحضارة على الفوضى، والنظام على العشوائية. ومع ذلك، لم تكن تلك المعركة مجرد انتصار عسكري فحسب، بل كانت بداية لاستعادة العالم الإسلامي جزءًا من روح مقاومته التي كادت أن تُطمس.

لكن المغول، وعلى الرغم من هزيمتهم في معركة عين جالوت، لم يغادروا المنطقة بالكامل. فقد استمروا في التوسع في مناطق أخرى مثل إيران وآسيا الوسطى. وكانت الدولة الإيلخانية التي أسسها المغول في بلاد فارس قد أعلنت الإسلام في وقت لاحق، وبذلك انتقلوا من كائنات غازية تملؤها الحروب إلى فاعلين داخل النسيج الإسلامي. ورغم هذا التحول الديني، فإنهم ظلوا في نظر العديد من الحكام الإسلاميين خصومًا سياسيين، وخاصة بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد.

إن التحول الديني للمغول كان عملية معقدة، فقد بدأوا في تبني الإسلام تدريجيًا، عندما اعتنق غازان خان الإسلام في عام 1295م. ومع اعتناق المغول للإسلام، دخلوا في علاقة جديدة مع المسلمين، ولكنهم ظلوا مختلفين عنهم من حيث نشأتهم العسكرية والثقافية. وبالرغم من ذلك، استمر المغول في لعب دور مهم في دعم العلماء والفلاسفة في العالم الإسلامي، مما أدى إلى بعض الاستقرار في المناطق التي خضعت لحكمهم.

وفي الوقت الذي كانت فيه المغول يزحفون على العالم الإسلامي، كانت الخلافة العباسية قد انتهت فعليًا مع سقوط بغداد. لكن، ورغم دمار الخلافة العباسية، استمرت رمزية الخلافة في مصر تحت حكم المماليك، الذين جعلوا من أنفسهم رعاة للخلافة بعد سقوط بغداد. لقد كان الأمر أشبه بإحياء رمزي لتلك الخلافة التي كانت قد اختفت جغرافيًا ولكن لم تختفِ في النفوس. إن المماليك أعادوا للسلطة السياسية في مصر معناها الديني والمذهبي، فحافظوا على وجود الخلافة العباسية في صورة شكلية، لكنهم كانوا هم القوة الحاكمة التي وقفت في وجه المغول، وأوقفت حلمهم في غزو العالم الإسلامي.

وفي النهاية، يمكن القول إن مصر كانت تمثل حصنًا صلبًا في مواجهة الزحف المغولي الذي كان يهدف إلى فرض السيطرة على العالم الإسلامي. ورغم أن المغول تمكنوا من السيطرة على أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي في فترة معينة، إلا أن حلمهم في الهيمنة على قلب العالم الإسلامي قد انتهى في تلك المعركة التاريخية التي كانت بمثابة البداية لحقبة جديدة، حقبة أصبحت فيها مصر والمماليك القوة التي حافظت على الهوية الإسلامية وحمتها من زحف مغولي كاد أن يغير وجه المنطقة إلى الأبد.

وفي ختام هذا السرد التاريخي، نجد أن ما حدث في الماضي يعيد نفسه، وإن تغيرت الأسماء والوسائل. فاليوم، ومع ما تشهده المنطقة، ومنها سوريا نموذجا، من صراعات دامية، وما يدعو إليه البعض من تهديدات لمصر، نجد أن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يتم تداوله في الكواليس ليس إلا نسخة معاصرة من أحلام الغزاة القدامى، أولئك الذين اعتقدوا أن مصر يمكن أن تكون الجائزة الكبرى التي ستتوج طموحاتهم. لكن مصر، التي كانت دومًا مقبرة للغزاة، لا تزال تقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الاقتراب من حدودها، أو السعي وراء وهم السيطرة عليها.

لقد علّمت مصر عبر تاريخها الطويل، من زمن المغول إلى زمن الصليبيين والعثمانيين، وحتى الأطماع الحديثة، أن من يحاول العبث بأمنها وسلامها لن يجد سوى الهزيمة، وسينكسر حلمه على صخرة صمودها. إن مشروع الشرق الأوسط الجديد، مهما زخرفه أصحابه وقدموا له المبررات، لن يجد مكانًا على أرض مصر، ولن تتحقق أوهامهم في جعلها جزءًا من هذا المخطط. سيكتشف الحالمون قريبًا أن مصر ليست مجرد دولة، بل هي فكرة متجذرة في قلب التاريخ، صلبة لا تهتز، وقوية لا تنكسر.

إن من يقفون خلف هذه المخططات لن ينالوا الجائزة الكبرى التي يتوهمونها، وسيفيقون من أوهامهم على صوت مصر الهادر، ذلك الصوت الذي دوى في عين جالوت، وفي معارك الصليبيين، وفي كل مرة حاول فيها الواهمون العبث بأمن مصر واستقرارها. إن مصر ستظل شامخة، مقبرةً للغزاة، ومحطمةً لطموحات الكارهين، كما كانت على مر العصور، وكما ستظل إلى الأبد.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المستقبل في ظل الاعتماد على الروبوتات: العالم بين الابتكار و ...
- لماذا ينتظر العقل الجمعي العربي والإسلامي انهيار الحضارة الغ ...
- العقل الديني واستغلال الكوارث: بين الادعاء والحقيقة
- مجدي يعقوب: أيقونة الإنسانية والعلم في مسار نحو نوبل وجامعة ...
- الأسرى في ظلال الكهف: رحلة العقل من القيود إلى النور
- العقل المسلم بين تأكيد القناعات الذاتية والوقوع في فخ الأخبا ...
- العقل العربي بين الشماتة والكوارث: قراءة في الانهزام الحضاري
- أصداء الرعب: كيف تتحطم الأمم تحت وطأة الديكتاتورية
- العرب والمسلمون بين أسطورة الماضي وسراب الحاضر
- الإنسان المغترب: قراءة في فكر إريك فروم وأبعاد الاغتراب في ا ...
- انتظار الحلول الغيبية: هروب من الواقع أم أمل زائف؟
- ما الذي يدفع العقول المتعلمة إلى رفض العلم لصالح الوهم؟
- احترام الأديان والتعايش السلمي: رؤية نقدية لسلوكيات تسيء للإ ...
- سوريا على مفترق طرق: تساؤلات حول انهيار الجيش وتحديات المرحل ...
- فرحة بمرض نتنياهو أم هروب من مواجهة الواقع؟
- الثورة الإدراكية: قفزة الإنسان العاقل نحو السيادة على الأرض
- حوار حول مستقبل سوريا: بين التفاؤل والتشاؤم
- محمد صلاح: رمز سلام يتحدى التعصب
- الحروف الفينيقيّة: الثورة الصامتة التي غيّرت مجرى التاريخ
- الرشدية اللاتينية: بذور النهضة الأوروبية وخسارة العالم الإسل ...


المزيد.....




- خوفا من -انتقام- ترامب.. بايدن يصدر أوامر عفو بحق ميلي وفاوت ...
- شاهد.. المليارديران إيلون ماسك وجيف بيزوس يتبادلان أطراف الح ...
- -بفضل جهوده-.. تيك توك تشيد بترامب بعد عودة المنصة لمستخدميه ...
- أولا بأول.. مراسم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة ...
- المغرب يرفع ميزانية الدفاع إلى 13 مليار يورو بما يعادل 10 با ...
- ما تداعيات موافقة مجلس النواب المصري على مراقبة الاتصالات؟
- ليلة دون قصف ولاخوف.. الفلسطينيون يتنفسون الصعداء مع بدء سير ...
- الرفيق رشيد حموني يطالب بالتحقق من معطيات تتعلق بتدبير شراكة ...
- جنود الحظ العاثر
- ما أهم ما يميز تنصيب دونالد ترامب؟


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بهجت العبيدي البيبة - من هزيمة المغول إلى كسر أوهام الشرق الأوسط الجديد: مصر مقبرة الغزاة وهادمة الطموحات