العقل الجمعي: كيف تشكل الجماهير مستقبل الأمم؟

حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8227 - 2025 / 1 / 19 - 08:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

د.حمدي سيد محمد محمود

في عمق التاريخ الإنساني، وعبر مراحل تطوره المختلفة، كانت الجماهير هي المحرك الخفي الذي يوجه مسار الأمم والحضارات. تارةً تكون قوة بنّاءة تصنع الثورات وتُحدث التغيرات الكبرى، وتارةً أخرى تتحول إلى طوفان مدمر يجرف كل ما يعترض طريقه. هذه الظاهرة الإنسانية المعقدة دفعت العديد من المفكرين والباحثين إلى محاولة فك شفرتها وفهم خباياها، وكان من أبرزهم غوستاف لوبون، الذي جاء كتابه "سيكولوجية الجماهير" كمرآة تعكس بوضوح ودقة الحالة النفسية للجماعات البشرية، ليصبح واحدًا من أكثر الأعمال تأثيرًا في مجال علم النفس الاجتماعي.

الجماهير، كما يصفها لوبون، ليست مجرد مجموعات من الأفراد تجتمع حول هدف مشترك أو في ظرف معين، بل هي كيان نفسي جديد يولد بمجرد تجمع الأفراد، حيث تتلاشى الفروق الفردية وتذوب الهويات الشخصية في بوتقة العقل الجمعي. هذا الكيان النفسي يتميز بخصائص فريدة، تجعله قابلًا للتأثر والإيحاء بسهولة، وسريع الاستجابة للعواطف أكثر من العقل. ومن هنا، تبرز القوة الهائلة للجماهير، التي قد تكون بناءً أو هدمًا، إصلاحًا أو فسادًا، وفقًا للطريقة التي يتم بها توجيهها واستثمار طاقاتها.

في هذا الإطار، يطرح لوبون رؤية عميقة ومثيرة للجدل حول طبيعة الجماهير وكيفية تشكلها، مستندًا إلى فهم دقيق للنفسية البشرية وللتاريخ. يرى أن الجماهير، رغم قوتها العظيمة، تميل إلى التصرف بلا عقلانية، حيث تتحكم فيها العاطفة والمعتقدات الراسخة، مما يجعلها قوة مدمرة إذا لم يتم توجيهها بشكل صحيح. هذه الرؤية لا تنبع فقط من تحليلات نظرية، بل تستند إلى أمثلة حية من التاريخ الإنساني، حيث كان للجماهير الدور الحاسم في الثورات السياسية، والحروب الكبرى، والحركات الاجتماعية التي غيّرت وجه العالم.

لكن ما يجعل كتاب "سيكولوجية الجماهير" فريدًا ليس فقط تحليله الدقيق، بل أيضًا توقيته وتأثيره. فقد ظهر الكتاب في أواخر القرن التاسع عشر، في زمن كانت فيه أوروبا تعيش على وقع التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة. ومنذ ذلك الحين، أصبح مرجعًا لفهم الحركات الجماهيرية وتأثيرها على الأنظمة السياسية والثقافية، كما ألهم قادة وزعماء لفهم كيفية توجيه الجماهير والتأثير فيها.

في السياق العربي، يتجلى دور الجماهير بوضوح في الأحداث التي شكّلت المنطقة، بدءًا من الثورات العربية، وصولًا إلى الحركات الجماهيرية المعاصرة التي تسعى للتغيير أو تسير نحو المجهول. من هنا، تبرز أهمية دراسة كتاب لوبون لفهم ديناميكيات الجماهير في الواقع العربي، حيث يمكن استخدام مفاهيمه لفهم كيفية تشكل القوى الجماعية، وكيفية تأثيرها على السياسة والمجتمع.

إذًا، فإن دراسة سيكولوجية الجماهير ليست مجرد محاولة لفهم ظاهرة اجتماعية أو سياسية، بل هي نافذة لفهم أعمق للنفس الإنسانية في حالتها الجماعية. هي محاولة لاستكشاف كيف يتحول الإنسان من فرد واعٍ إلى جزء من كتلة بشرية تتحرك بالعاطفة والإيحاء، وكيف يمكن لهذه الكتلة أن تغير وجه العالم، سواء للأفضل أو للأسوأ. ومن هنا، ينطلق هذا البحث لاستكشاف أفكار لوبون بعمق وتحليلها في ضوء الواقع الإنساني والتاريخي، لرسم صورة شاملة وعميقة لطبيعة الجماهير ودورها في صنع الحضارة، أو ربما في هدمها.

سيكولوجية الجماهير

كتاب "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون (Gustave Le Bon) يعد من أبرز الأعمال الكلاسيكية في مجال علم النفس الاجتماعي، حيث يُعتبر مرجعًا لفهم السلوك الجماعي وتأثير الجماهير على الأفراد والمجتمعات. صدر الكتاب لأول مرة عام 1895، وقد أثار جدلًا واسعًا نظرًا لعمقه في تحليل النفسية الجماعية وتأثيرها على التاريخ والسياسة والثقافة.

الفكرة المركزية للكتاب

يستكشف غوستاف لوبون طبيعة الجماهير من خلال تحليل آليات تفكيرها وسلوكها وتأثيرها على الفرد. ويرى أن الجماهير ليست مجرد مجموعة من الأفراد، بل هي كيان نفسي جديد يولد بمجرد تجمعهم. تصبح الجماهير تحت تأثير العاطفة الجماعية، غير عقلانية وسريعة الانقياد، مما يجعلها قوة هائلة يمكن توجيهها إيجابًا أو سلبًا.

أهم موضوعات الكتاب

1. تعريف الجماهير وأنواعها

يشير لوبون إلى أن الجماهير ليست محصورة في المظاهرات أو الثورات فقط، بل تشمل كل تجمع يؤثر فيه الأفراد على بعضهم البعض نفسيًا وعاطفيًا.
يصنف الجماهير إلى نوعين:
- الجماهير غير المتجانسة: كالجماهير التي تتكون من أفراد من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة.
- الجماهير المتجانسة: مثل الجماعات الدينية أو السياسية أو العرقية.

2. الخصائص النفسية للجماهير

لوبون يركز على السمات المميزة للجماهير، ومنها:

- اللاعقلانية: تتصرف الجماهير بناءً على العاطفة، وليس المنطق.
-الاندماج: يفقد الأفراد هويتهم الفردية ويذوبون في العقل الجماعي.
-العدوى النفسية: تنتقل الأفكار والمشاعر بين الأفراد بسرعة داخل الجماهير.
- الإيحاء: يصبح الأفراد أكثر عرضة للتأثر بالمؤثرين أو القادة.

3. عوامل تشكيل عقلية الجماهير

يحدد لوبون عدة عوامل تؤثر على الجماهير، منها:

-العرق: يؤكد على أن الخصائص النفسية للجماهير تتأثر بالتراث الثقافي والعرقي.
-الأفكار والمعتقدات: يرى أن المعتقدات الراسخة تلعب دورًا في تشكيل سلوك الجماهير.
-الظروف المحيطة: مثل الأزمات الاقتصادية أو السياسية.

4. القادة ودورهم في توجيه الجماهير

القادة لديهم القدرة على توجيه الجماهير باستخدام الشعارات والخطابات التي تخاطب العاطفة.
يعتمد نجاح القائد على قدرته في الإيحاء والسيطرة على مشاعر الجماهير.

5. الآثار الإيجابية والسلبية للجماهير

يمكن أن تؤدي الجماهير إلى تغيرات اجتماعية إيجابية، كالثورات التي تحقق العدالة.
ولكنها قد تؤدي أيضًا إلى نتائج مدمرة، مثل الحروب والإبادات الجماعية.

أفكار جوهرية في الكتاب

سيطرة اللاوعي على الجماهير: الأفراد في الجماهير يتصرفون بناءً على مشاعرهم اللاواعية، مما يجعلهم يتخلون عن التفكير النقدي.
الجماهير قوة اجتماعية هائلة: الجماهير هي القوة التي تُحدث التغيرات الكبرى في التاريخ.
الدعاية وأهميتها: يبرز الكتاب أهمية وسائل الإقناع كالدعاية والتكرار في تشكيل العقل الجمعي.

أثر الكتاب على الفكر الإنساني

أثر الكتاب بشكل كبير على العلوم الاجتماعية، خاصة علم النفس الاجتماعي والسياسي.
تأثر به مفكرون مثل زيغموند فرويد في كتابه "علم نفس الجماهير وتحليل الأنا"، وإدوارد بيرنيز في تطوير مفهوم "العلاقات العامة".
ساهم في فهم الحركات السياسية الكبرى في القرن العشرين، كالفاشية والنازية، حيث استُخدم لفهم كيفية استغلال العاطفة الجماعية.

النقد الموجه للكتاب

رغم شهرة الكتاب، إلا أنه تعرض لانتقادات، منها:

-النظرة السلبية للجماهير: يرى البعض أن لوبون ركز كثيرًا على الجوانب السلبية للجماهير وأهمل إمكاناتها الإيجابية.
-التحيز الثقافي: اعتمد لوبون في تحليلاته على تجاربه الشخصية المرتبطة بأوروبا في القرن التاسع عشر، مما يجعل بعض استنتاجاته غير قابلة للتعميم.
-التركيز على العاطفة: قلل من دور التفكير العقلاني في بعض تحركات الجماهير.

أهمية الكتاب في السياق العربي

يُعد الكتاب مرجعًا لفهم سلوك الجماهير في السياقات السياسية والاجتماعية العربية، خاصة في ظل الثورات والاحتجاجات.
يمكن أن يساعد في دراسة كيف تتشكل الحركات الجماهيرية، وكيف يمكن قيادتها أو توجيهها لتحقيق أهداف إيجابية.

وإجمالاً، فإن كتاب "سيكولوجية الجماهير" لا يزال يحمل أهمية كبيرة لفهم ديناميكيات الجماهير، وهو كتاب أساسي لكل باحث أو مهتم بدراسة التحولات الاجتماعية والسياسية.

في خضم صراع الأفكار والقوى، تبقى الجماهير هي العنصر الأبرز في تشكيل مسار الحضارات وتحديد وجه التاريخ. عبر فصول كتاب "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون، ندرك أن هذا الكائن الجماعي ليس مجرد تجمع بشري عابر، بل هو قوة معقدة تمتزج فيها العاطفة والعقل اللاواعي لتصنع أحداثًا قد تكون مفصلية في مسار الأمم. لا تقتصر أهمية هذا الكتاب على كونه دراسة نفسية عميقة، بل لأنه يكشف عن الكيفية التي يمكن أن تتلاعب بها القوى السياسية والاجتماعية بالجماهير، لتحويلها من قوة هدم إلى أداة بناء أو العكس.

لقد أضاء لوبون جوانب خفية في سلوك الجماهير، وأشار إلى الأبعاد النفسية التي تهيمن على قراراتهم وردود أفعالهم، مما يجعلنا نرى التاريخ ليس فقط في ضوء الأفعال الفردية، بل من خلال تفاعلات كتلة بشرية قد تكون أكثر قوة وتغييرًا من أي فرد. كما سلط الضوء على علاقة القائد بالجماهير، تلك العلاقة التي تتسم بالقدرة على التأثير والإقناع، والتي يمكن أن تؤدي إلى قيادة جماهير نحو مستقبل مشرق أو نحو هاوية من الفوضى.

ومع تطور العالم في عصر العولمة ووسائل الإعلام الحديثة، باتت الجماهير أكثر قدرة على التأثير في الأنظمة السياسية والاقتصادية. لكن في الوقت ذاته، أصبحنا نعيش في واقع يتطلب منا أن نكون واعين لطبيعة هذه الجماهير وأسلوب تفكيرها. فالتأثير الذي تحدثه وسائل الإعلام والدعاية، واستخدام أدوات التواصل الاجتماعي لتشكيل الرأي العام، يظهر بوضوح كيف أن العاطفة الجمعية لا تزال تحتل مركز الصدارة في تشكيل قرارات الأفراد. في هذا السياق، أصبح من الضروري التفكير بعمق في كيفية استثمار هذه القوة العاطفية في سياقات تخدم مصلحة المجتمعات والأفراد، بدلاً من أن تصبح سلاحًا يدمر المعايير الإنسانية أو السياسية.

اليوم، وفي عالمنا العربي الذي يعيش أوقاتًا من التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، تزداد أهمية فهم سيكولوجية الجماهير. كيف يمكن توجيه هذه القوة الجماعية نحو البناء والتقدم؟ وكيف يمكن تفادي المخاطر التي قد ترافق الانقياد الأعمى وراء الحركات الشعبية التي قد تنحرف عن مسارها الصحيح؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب دراسة معمقة لأفكار لوبون، وتطبيقها في الواقع المعاصر الذي تشكل فيه الجماهير في كثير من الأحيان القوة الحاسمة في تغيير أنظمة الحكم، وكذلك في خلق مشاهد جديدة من الحركات الاجتماعية والثقافية.

وفي النهاية، تظل سيكولوجية الجماهير دراسة أساسية لفهم الإنسان في حالته الجماعية، وللتنبؤ بكيفية تأثير هذه الجماهير على الواقع السياسي والاجتماعي. إن لم يكن لدينا الوعي الكامل بهذه القوى، فإن التاريخ سيظل يعيد نفسه، لا في إيقاع مكرر فحسب، بل في أزمة متجددة من الفراغات النفسية التي قد يملؤها القادة بأساليبهم المختلفة. ولهذا، يظل كتاب لوبون، رغم مرور أكثر من قرن على نشره، مرجعًا لا غنى عنه في محاولة فهم ملامح هذا الكائن الغامض: الجماهير.

#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات