أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالإلاه خالي - فناء العالم















المزيد.....


فناء العالم


عبدالإلاه خالي
(Abdelilah Khali)


الحوار المتمدن-العدد: 8226 - 2025 / 1 / 18 - 04:51
المحور: الادب والفن
    


مات أبي فلزمَتْ أمي البيت ولم تطأ قدماها عتبة الباب: الفسحة بعد رحيل رفيق العمر حرام.. تألّمَتْ لموته وحزنت حزنا لا مزيد عليه. لَمْ تَبْكِ بدموع نراها ولكن بكتْ في داخلها حاجبةً في صمت أوجاعها. كنتُ أفاجئها وهي تتلمس صورته أو تنظر في حنين إلى جلبابه المعلق في مدخل المنزل: وحده أبي كان يملأ البيت ويعمره لها بهجة، فعندما كان الرعد يزمجر في شتاءات البرد الممطرة كانت تحتمي بصوته، وعندما كان المطر يملأ نافذة السقف الزجاجية كانت تتوسد عينيه.
ذات صباح استيقظتُ مبكرا بفعل أرق لعين. صعدتُ للسطح طمعا في نسيم منعش فوجدتُها منحنية تسقي حِبَاقَها(1). سألتها عن صحتها فتلمَّست ساقيها وقالت:
- ‹‹ ألَمُ المفاصل يتعبني. آه من هذا الروماتيزم اللعين .. ›› ثم وهي تستقيم متأوهة وبصوت أقرب إلى الهمس: ‹‹ هل ستعود إلى مصر لإكمال الدراسة؟ ››
رددتُ بحزم ويقين:
˗ ‹‹لا، سوف أكمل دراستي العليا في المغرب.. ››
انفرجَت أساريرها وهتفت:
˗ « الله يوفقك أوليدي! »
ثم وهي ترسل تنهيدة حزينة:
- ‹‹ هيا يا حبيبي، آن الأوان لأن تذهب، أكيد أن الصندوق قد بث في الموضوع. اضبط أعصابك وتكلم معهم بأدب! ››
دعوتُ لها بالشفاء وخرجتُ صوب إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بعد أن ارتديتُ أجمل ما عندي من ثياب. كنت مقتنعا أنني سأعود للبيت حاملا قرار الصندوق بتمكين الوالدة من حقها في راتب الوالد التقاعدي، إذ يقضي القانون بحق أرملة المتوفى في الحصول على معاش زوجها ما دامت على قيد الحياة. استقبلتني السكرتيرة ببرودة واضحة واستأذنتني في دقيقة. دَخَلَتْ مكتب المدير وخَرَجَتْ لتطلب مني التفضل عند سيادته. وجدْتُه منشغلا بمكالمة هاتفية ومع ذلك أشار إليَّ طالبا الجلوس. أنهى المكالمة. ضغط على الزر فدخَلَتْ السكرتيرة. ابتسمَتْ في لباقة وتأنثٍ بالغَين. عبس وجهه فجمعتْ ابتسامتها وَوَقَفَتْ في تأدب وانضباط تامَّين منتظرة إصدار أمر ما:
- ‹‹ هذه المذكرة ترقن حالا وتوزع على جميع الموظفين والمستخدمين. حدّدي الموضوع وحجم الصور! ››.
ثم وهو ينظر إليَّ:
ـ ‹‹ لا تَنْسَيْ إحضار الملفات التي بعثها المركز هذا الأسبوع! ››
غابت السكرتيرة فدفن رأسه في إضبارة يراجع أوراقها. كان تصنّعه ظاهرا.. خمَّنْت: إنه يضمر لي شيئا..
بعد برهة دخلَتْ الموظفة وناوَلَتْهُ المطلوب. فتح ملفا. تفَحَّصَه بنظرة سريعة وقال في نبرة حاسمة:
- ‹‹ لقد تأخرتم كثيرا في تقديم الطلب.. يؤسفني أن أخبرك أن المركز شطب اسم والدتك من لائحة المستفيدين ››
سقط علي الخبر صاعقة.. لم أصدق ما سمعته، إنها مجزرة في واضحة النهار.. انتابتني رغبة في البصق عليه. تمالكتُ نفسي وتوجهت صوب الباب. سمعت صوت كلب ينبح ورائي:
- ‹‹ في طريقك مُرّ على السكرتيرة لِتُسلمك الوثائق والمرفقات التي قدمتموها ضمن الملف! ››
كانت تقلم أظافرها حين مررتُ بها. لَمْ تُعِرْني اهتماما وأنا أيضا لم أطلب منها شيئا. نزلتُ السّلّم مستعيدا كلام المدير. ضحكتُ، وكان الضحك هذه المرة مثل ذلك الشيء الذي يسمّونه البكاء.
بمجرد دخولي البيت أخبرتُ والدتي أن المسؤولين بالضمان الاجتماعي رفضوا الطلب وجَرّدُونا من مستحقات التقاعد..
اعتلَتْ وَجْهَها سمةُ ارتياح سرعان ما اكتشفتُ أنها لم تكن سوى ردّ فعلٍ أمومي تحاول من خلاله طمأنتي، وإلا فإن الأمر خطير والقضية فادحة، فبدون معاش يكون مصدر رزقنا الوحيد قد انقطع.
لم تَطُل مُداراتُها للرعب الذي استولى عليها، فما هي إلا هنيهة حتى دخلَتْ في نوبة غريبة: اصفرّ وجهها وبدأ جسدها يرتعش، ثم راحت تضغط أسنانها وكأنها تصارع وحشا بداخلها.
لن أنسى ذلك اليوم أبدا، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لألغيتُ تلك الزيارة لصندوق النهب الاجتماعي.
- ‹‹ أمي، هل أنتِ بخير؟ ›› هتفْتُ في ارتياع.
لم تَرُدّ بشيء وإنما سقطت على الأرض صريعة منتفضة وكأن زلزالا أصاب جسدها..
ناديتُ وفاء وحملناها إلى الفراش فاقدة الوعي. بعد ساعة استفاقت. رسمَتْ على وجهها ابتسامتها الجميلة وقالت في إعياء:
- ‹‹ اذهب عند جارنا الحاج عبد الرحمان واطرح عليه الأمر، قد يكون على معرفة بأحدٍ يتوسط لنا عند الضمان الاجتماعي!.. ››
وعَدتُها أن أفعل ولم أفعل، فجواب الكلب كان قاطعا لا تنفع معه واسطة.. مرّت ثلاثة أيام وتيقَّنَتْ أن لا أمل هناك.. طلبَتْ مني صباحا ألا أغادر البيت وأن أبقى إلى جانبها. تأملتُها وهي ممددة فوق السرير. كانت أشعة الشمس تتسلل بهدوء من أركان البيت. بَدَتْ لي جميلة أكثر من أي وقت مضى. ابتسمَتْ لي فزادتها الابتسامة الغامضة سحرا.. فجأة هَمَسَتْ بصوت غريب لاهث:
ـ ‹‹ أخوك أحمد مريض وليس له إلا أنت، إياك أن تتركه! تَذَكَّرْ كلامي هذا عزيزي! ››
قالت ذلك وضغطَتْ على أسنانها مصارِعَةً الألم. مَسَكَتْ بيدي وراحت تردد وصيتها بصوت أنيني حتى سَكَنَتْ.. سَكَنَتْ تماما. قالت لي جارتنا ‹‹السعدية›› وقد جاءت لتساعدني في الاعتناء بها:
ـ ‹‹ البركة ف راسك خويا ادْريس! ››
هذه العبارة أرعبتني وأشعرتني أن الكون كله قد توقف عن حركته فمات.. انتابتني رغبة عجيبة في تشريح جثتها. لا أدري ما إذا كانت دماؤها قد توقفت فعلا عن الجريان! لا.. لا يمكن أن تموت أمي! إن العيش بدونها عبث ومضيعة للزمان. وعيتُ على صوت طبيب التشريح قائلا: ‹‹ لله الدوام، المرجو التوقيع أسفله ››
آه ثم آه، العالم دون أمي فناء.. المسؤولون بمكتب الضمان الاجتماعي ظلمة، يستحقون النحر كذبيحة. تمنيتُ لو أجدهم أمامي لأبصق في وجه كل واحد منهم عسى أن يشفي ذلك غليلي ما دُمْتُ لا أستطيع تقديمهم للمحاكمة..
أماه إن كان جسدك قد فارقني فأنفاس كلماتك تتردد دوما في ذاكرتي وتقبع على الدوام في قلبي. كنتِ عظيمة لا يَعْدلُك شيء في الوجود. دموعي كانت تجف على خدَّيَّ حين تحط عليهما قبلاتك وَرَوْعِي كان يهدأ حين يغمره دفء حضنك: مَرَّةً رفعتُ في وجهكِ يدي وَهربتُ من البيت، بتُّ في الشارع أياما وكنت أتسلل إلى البيت عبر السطوح كلما أحسستُ بالجوع، فيما بعد علمتُ لدهشتي أنكِ كنت تدركين ما أفعل فتتركين الطعام هنا وهناك لأسرقه بسهولة. كان لديكِ الكثير من المشاعر التي لم تفصحي عنها. كنتِ تخفين ألمك عنّا وترسمين على شفتيك ابتسامتك الحلوة التي بقيت تلازم وجهك الوسيم خلال تلك الرحلة الطويلة مع الأحزان..
بعد يومين أخَذتُ صورتها وصورة والدي وصورتي الشخصية وطلبتُ من الفوتوغرافي أن يجمع الصور الثلاث في واحدة. استلمتُ الصورة الثلاثية فقالت لي وفاء حين رأتها معلقة في غرفتي:
- ‹‹ أخي الحبيب، لا يليق وضع صور الأحياء بجانب صور الأموات! ››


الهوامش:
(1) جمع حَبَقٌ. والحبق نبات عشبي ذو رائحة طيبة، ويطلق في الدارجة المغربية على كامل الإكليل من نبات وتراب وقدح.



#عبدالإلاه_خالي (هاشتاغ)       Abdelilah_Khali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل الوالد
- زينب
- رُقيَّة
- العرب وذات الفخذين
- ربيعة وحكام العرب
- -تفكرت ولاد الناس- أبناء الأصول من أهل السودان
- -دوماج- قصيدة تختزل معاناة صديقي براء
- نادية في -رهائن العبث- -7-
- نادية في -رهائن العبث- 6
- نادية في -رهائن العبث- -5-
- نادية في -رهائن العبث- -4-
- من -رهائن العبث- 3
- من -رهائن العبث- 2
- من -رهائن العبث-
- وداعا سيد القمني.. يا مُعَلِّم المسلمين..
- -عبدالعلي حامي الدين- وتقديس النص القرآني
- أخطاء القرآن وأثرها في تحريف ترجماته -ترجمة بيرغ نموذجا- الج ...
- أخطاء القرآن وأثرها في تحريف ترجماته -ترجمة بيرغ نموذجا- الج ...
- أخطاء القرآن وأثرها في ترجمته إلى اللغات الأجنبية -ترجمة بير ...
- أخطاء القرآن وأثرها في ترجمته إلى اللغات الأجنبية -ترجمة بير ...


المزيد.....




- الشيخ قاسم:البهلوانيات في ابراز ابعادنا عن المسرح هي فقاعات ...
- الشاعر والكاتب وفائي ليلا ضيف برنامج حكايتي مع السويد
- بعيدا عن الأفلام.. كاميرون دياز تتحدث عن أفضل فترات حياتها
- عاجل..وفاة الفنان فكري صادق وموعد صلاة الجنازة عليه اليوم
- وفاة الفنان المصري الكبير فكري صادق (صورة)
- وفاة عرّاب السينما الأميركيّة ديفيد لينش
- أغنية -Sigma Boy- الروسية تدخل قائمة Billboard الشهيرة
- فنانة رقمية سعودية تتخيل ما سيبدو عليه العيش داخل كهوف العلا ...
- مصر.. الفنانة نيرمين الفقي ترصد مكافأة مالية لـ-قاتل الكلاب- ...
- صدمة في بوليوود.. فنان هندي شهير يتعرض للطعن أثناء ردعه متسل ...


المزيد.....

- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالإلاه خالي - فناء العالم