أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (1)















المزيد.....



الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (1)


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8225 - 2025 / 1 / 17 - 18:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


سوف نتناول في هذه الحلقات مختصر وزبدة ما جاء في كتاب الفلسفة أنواعها ومشكلاتها لهنترميد.

تعريف الفلسفة
الفلسفة هي النشاط الذي يسعى فيه الناس إلى فهم طبيعة الكون، وطبيعة أنفسهم، والعلاقات بين هذين العنصرين الأساسيين في تجربتنا. وهكذا تكون الفلسفة بحثًا منظمًا عن المعرفة، نقوم به عن طريق التفكير المنظم في كشوف العالم، ونتائج المؤرخ، ورؤيا الفنان والشاعر والمتصوف، مع الجمع بين هذه كلها وبين تجربتنا اليومية الشخصية.

مشكلات الفلسفة
لمشكلة الأساسية: كانت المشكلة الأساسية في الفلسفة التقليدية أو الكلاسيكية هي دائمًا: بماذا تتعلق التجربة البشرية بأسرها؟ هذا السؤال، إذا ما فهمت دلالته الكاملة، لاتضح أنه يلخص (أو يتضمن على الأقل) معظم المشكلات والمسائل الأخرى التي تعالجها الفلسفة. فالفيلسوف المحترف يسأل هذا السؤال دائمًا في صورة مجردة ما، مثل: ما طبيعة الحقيقة النهائية؟ أما غير المتخصصين فهم أقرب إلى أن يصوغوا هذا السؤال بطريقة مثل: ما معنى الحياة والكون؟ وبينما هذا السؤال الأخير يقتضي إجابة مختلفة إلى حد ما، فإنه بدوره يشير إلى نفس المشكلة الرئيسية. وأيًّا كانت طريقة صياغته، فإنه هو السؤال الأساسي الذي يبني حوله أي مذهب في الفلسفة. ويمكن القول إن كل شخص قد تساءل هذا السؤال، بصورة ما، في وقت معين من حياته، بغضِّ النظر عن ذكائه، أو مدى ثقافته، أو عدم اكتراثه الظاهري بالتأمل الميتافيزيقي.
مشكلة علاقة الإنسان بالكون: وهناك مشكلة أخرى يتعين على الفلسفة مواجهتها، وهي متولدة عن تلك التي عرضناها منذ قليل. هذه المشكلة خاصة بالعلاقة بين الإنسان وبقية الكون. وهناك من المفكرين من يعتقدون أن هذا أهم سؤال نستطيع أن نتساءله؛ إذ إنه رغم أنه قد يكون أضيق نطاقًا من البحث الأول الشامل في طبيعة الواقع، فإنه أوثق اتصالًا بتجربتنا اليومية؛ ذلك لأن هذا التساؤل الخاص بالعلاقة بيننا وبين بيئتنا قد يكون أهم بالنسبة إلى سعادتنا ورفاهنا من أي سؤال غيره.
ولقد كان الناس في العصور الوسطى يعتقدون أن الكون (بقدر ما كان معروفًا في ذلك الحين) لم يُخلق إلا ليكون تابعًا لكوكبنا، الذي هو بدوره موجود بوصفه مسرحًا تُمثَّل عليه دراما الخلاص الكبرى. وبطبيعة الحال كان لهذه النظرية الكونية المتمركزة حول الأرض، تأثير مباشر في تلك النظرة إلى الأشياء، المتمركزة حول الإنسان، وقد اتضح ذلك عندما تقدم كوبرنيق لأول مرة بنظامه الفلكي معارضًا به هذه النظرة القديمة. فقد كان الحجة الأخلاقية الكبرى ضد النظرة الجديدة «المهرطقة» هو أنها حطت من قدر الإنسان لأنها أزاحته من مكانته المركزية في الكون، بحيث لم يعد يبدو هو الشخصية الرئيسية في المسرحية الكونية الكبرى. وبينما أيُّ رأيٍ كهذا في علاقة الإنسان بالكون يبدو في نظر العلم الحديث ممتنعًا وذاتيًّا مفرطًا، فما زالت هناك من الاختلافات في الرأي حول التحديد الدقيق لطبيعة هذه العلاقة ما يكفي لشغل أوقات الفلاسفة في عمل لا يتوقف.

مشكلات الدين
الخلود: كل هذا يؤدي إلى مشكلات أخرى قد تكون أشد إلحاحًا، وهي مشكلات لا بد أن تعترف الفلسفة بأنها تنتمي إلى مجالها الخاص. فالبحث في طبيعة الكون وعلاقته بالإنسان يؤدي بنا إلى سؤال يراه الكثيرون أشد الأسئلة التي يتعين على الفلسفة أو الدين أن يواجهها إلحاحًا، وأعني به: إلى أين نذهب؟ والواقع أن معظم الأذهان ترى أن لغز المصدر الذي أتينا منه أقل أهمية بكثير من السؤال عن سبب مجيئنا هنا، وعن الوجهة التي سنقصدها فيما بعد. فهم على استعداد لاستبعاد مشكلة أصل الإنسان بوصفها سرًّا لا أمل فيه، أو على الأقل شيئًا ليست له إلا أهمية أكاديمية في المحل الأول. أما مشكلة هدف الحياة والمصير النهائي، فهي مشكلة لا يستطيع إنسان أن يتجنبها. فلا بد أن يكون لكل فرد رأيٌ ما في موضوع الخلود، وهنا أيضًا نجد الفيلسوف لا يختلف عن معظم الناس إلا في أن آراءه في الموضوع قد اكتسبت بعد تفكير أعمق، وربما كانت أكثر اتساقًا مع الصورة العامة التي يكونها عن الواقع.

الخلود بوصفه مشكلة فلسفية: يرتبط البحث الجاد في الخلود الإنساني عادةً بالدين واللاهوت، ونتيجة لذلك فإن الطلاب كثيرًا ما يدهشون إذ يعلمون أن الفلسفة تبدي اهتمامًا جديًّا بهذا الموضوع. ومع ذلك فإننا إذا ذكرنا أنه لا يوجد في التجربة البشرية شيء يخرج عن مجال الفلسفة — لا سيما إذا كان متعلقًا بالمعاني والقيم النهائية — فلن يدهشنا أن تقع مسألة لها كل هذه الأهمية بالنسبة إلى الدين والأخلاق، تحت أعين الفيلسوف الفاحصة.
ونستطيع أن نتوقع أن تكون طريقة معالجة الفلسفة لهذه المشكلة مختلفة اختلافًا كبيرًا عن طريقة معالجة الدين لها؛ ذلك لأن الميتافيزيقي، على الأقل لن ينظر على الأرجح إلى الخلود على أنه «مصادرة ضرورية» للحياة الأخلاقية، بل إنه سيسترشد على الأرجح بالأدلة العلمية في بحثه عن جواب لهذا السؤال الهائل. وهو يلح عادةً على استطلاع الإمكانيات الفعلية لبقاء الشخص بعد الموت استطلاعًا كاملًا، ويطالب بمناقشة المسألة بأسرها دون مسلَّمات قبْلية حول «ضرورة» الخلود أو علاقته المفترضة بالأخلاق. وحتى لو كان الفيلسوف يعتقد أن من الممكن إثبات البقاء بعد الموت على أسس عقلية، أو أن نظرته إلى العالم تجعل منه على الأقل إمكانًا مثيرًا، فيكاد يكون من المؤكد أنه سيفسر أي وجود كهذا على أسس تختلف عن الأسس التقليدية في التفكير الديني؛ ذلك لأن العلاقة بين الحياة الأرضية وبين البقاء بعد الموت تتمركز عادةً، بالنسبة إلى رجل اللاهوت، حول نقاط معينة كالأخلاق، والعدالة الإلهية، والقصاص وما إلى ذلك. ففي جميع الأديان تقريبًا، يرتكز الخلود على الافتراض القائل إنه حالة ينبغي «اكتسابها»، وهذا يؤدي إلى الربط بينه وبين بقية تجربتنا على أسس أخلاقية في المحل الأول. أما الفيلسوف فيهتم، على الأرجح، بالعلاقات بين هذا البقاء وبين تجربتنا الكاملة — وضمنها قراراتنا ومعاييرنا الأخلاقية بالطبع — ولكن ضمنها أيضًا عناصر كثيرة غير هذه. فالفلسفة إذ تنظر إلى الكون نظرة شاملة لكل شيء، لا تقتصر على النظر إلى الحياة من زاوية «الخير» و«الشر» و«الخطيئة» و«الخلاص»، ومن ثم فهي تنظر إلى مسألة الخلود بدورها من زاوية واسعة، فتحاول الربط بينها وبين طابع الكون في مجموعه، بدلًا من طابع الإنسان أو الخلاص الإنساني.

مشكلة الله: لا يشعر المبتدئ في الفلسفة عادةً بدهشة كبيرة عندما يعلم أن مشكلة «الله» تمثل إحدى المشكلات في ميدان الفلسفة. إذ إن موضوع الألوهية عادةً يتمثل لنا موضوعًا لا يقتصر معالجته على الدين وحده، على خلاف الحال في موضوع الخلود. ومع ذلك فمن الشائع أن يشعر هؤلاء المبتدئون بالدهشة للموقف الذي يتخذه معظم المفكرين من هذه المسألة. فحتى بعد أن يعلم الطالب أننا نستخدم في ميدان الفلسفة نفس منهج التحليل العقلي لكل المشكلات، ونعالجها بموضوعية ونزاهة، فإنه يشعر بعدم الارتياح حين يدرك أن «الله» هو بالنسبة إلى الفلسفة مشكلة عقلية أخرى فحسب. وأحيانًا يكون من الصعب إقناع المبتدئ بأن من الممكن (أو حتى من حسن الذوق) أن نتحدث في هذا الموضوع بغير أعين غاضَّة «منخفضة» وعقل خاشع. والواقع أننا حينما ننبه الطالب في هذا المجال إلى أن الفلسفة لا تعرف جوانب في التجربة البشرية تكون «مقدسة»، بمعنى أنها تظل بمنأى عن التحليل العقلي، فإن هذا التنبيه كثيرًا ما يبدو له موقفًا غير لائق؛ ذلك لأن البحث في مشكلة الله دون إبداء خشوع أو انفعال يزيد على ما نبديه عند تحليل مفهوم «العِلِّية» (مثلًا) يبدو أمرًا غير جدير بهذا الموضوع على الإطلاق.

مشكلة حرية الإنسان
بينما الناس قد تعلَّموا منذ عهد بعيد أن أجسامهم تخضع لقوانين آلية كثيرة تؤثر في الأشياء غير الحية (كالجاذبية مثلًا) فإنهم كانوا يتأثرون دائمًا بذلك الشعور الذي لا يمكن إنكاره، وأعني به الشعور بأننا أحرار في مجال الاختيار والإرادة. هذا الشعور بالحرية يبلغ من الأهمية في التجربة البشرية حدًّا يجعل معظم الناس يسلمون دون جدال بأنه إذا كانت أفعالهم خاضعة للعوامل الفيزيائية، فإن إرادتهم تستطيع الاختيار على نحو يستقل عن أية سوابق. والواقع أن هذا الشعور يبلغ من القوة، ويكاد يبلغ من الشمول، حدًّا يجعل من العسير على أي شخص ليس لديه تكوين علمي أو فلسفي متعمق، أن يعترف باحتمال أن يكون فعله واختياره معًا متحددَين تمامًا بحوادث سابقة (هي في العادة فعل واختيار سابقان)، شأنها في ذلك شأن أي حادث آخر في الطبيعة.

الميدان الأخلاقي ومشكلاته
الواقع أن مشكلة الخير الأقصى أو النهائي، وطبيعته وعلاقته بكل القيم، هي من أهم الموضوعات التي يبحث فيها ذلك الفرع من الفلسفة المسمى «بالأخلاق». وهناك احتمال في أن الفصول القادمة التي تعالج المشكلات الأخلاقية ستكون هي أطرف المشكلات في نظر أغلبية من القراء. فمثلًا: هل «السعادة» أهم شيء في الحياة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما علاقة السعادة «باللذة»، التي كان السعي إليها يعد، تقليديًّا، من البواعث الرئيسية للسلوك البشري؟ وهل يمكن أن يكون تحقيق نوع من «الكمال» أهم حتى من بلوغ السعادة، أم أن «خدمة الآخرين» قد تكون هي أقصى خير في الحياة؟ وما موقع «الواجب» و«الالتزام»؟ وما العلاقة بين كلٍّ من هذه المعاني النهائية المحتملة في الأخلاق، وبين حياتنا ككل، وما تأثير كل منها في حياتنا اليومية لو اخترناه بوصفه الخير الأسمى Summum Bonum؟
من الواضح أن الأخلاق هي أقل فروع الفلسفة تعرضًا للاتهام بالبعد عن الميدان العملي. ذلك لأنه أيًّا ما كان رأينا في أهمية الأسئلة من أمثال «من أين نأتي؟» أو «إلى أين نذهب؟» فإن السؤال عما ينبغي أن نفعله خلال حياتنا هو سؤال عملي تمامًا. فمسألة ما يتعين علينا أن نفعله بأيامنا وما ينبغي أن نحاول صنعه بحياتنا، هي في نظر الناس جميعًا أشمل الموضوعات العملية وأعظمها أهمية. قد يكون المثقفون وحدهم هم الذين يرون جدوى في البحث النظري حول طبيعة الحقيقة النهائية، ولكن الناس جميعًا، حتى أقلهم حظًّا من الثقافة، يجدون أنفسهم أحيانًا منغمسين في مجادلات عنيفة حول طبيعة الحياة الخيرة، وما إذا كان من واجبهم أن يفعلوا هذا أو ذاك. وإذا كنا موقنين بأن التفلسف أمر لا مفر منه، فإن الأمر الأكثر من ذلك يقينًا هو أنه ليس ثمة مهرب من ضرورة اتخاذ قرارات أخلاقية على الدوام. وفي هذا المجال يكون الدور الأكبر للفيلسوف هو أن يجعل هذه القرارات عاقلة ومنطقية ومرضية بقدر الإمكان. وتشكل محاولة جعل هذه القرارات على هذا النحو موضوع «علم الأخلاق».

لا بد أن يكون قد اتضح لنا الآن أن المهمة التي يأخذها الفيلسوف على عاتقه ليست مهمة هينة أو هدفًا متواضعًا. فالفيلسوف — كما أحسن أفلاطون التعبير عن مهمته — هو من يشاهد كل زمان وكل وجود. وهو إذ يتخذ من المعرفة كلها ميدانًا له، ومن التجربة بأسرها مادة خامًا لبحثه، يهدف إلى وضع مركب لا يخرج عنه أي وجه للوجود، أو أي جزء من الفكر، أو أية ذرة من الواقع. وعلى ذلك فكل شيء في الكون داخل في نطاق التجربة البشرية، يدخل أيضًا في نطاق الفلسفة. وكل ما يمر بنا، أو يؤثر فينا أو يترك أي أثر في وعينا، يهم الفيلسوف. وهو لا يستطيع أن يقبل أي مثلٍ أعلى أقل من تكوين صورة شاملة تامة التوحد للواقع، وهو يقصد بالواقع عادةً مجموع التجربة كلها — من ماضية وحاضرة ومستقبلة، وفعلية وممكنة. فكل شيء، في كل مكان، وحيثما حدث، هو وقود لآلة الفيلسوف الذهنية.

أما مسألة تحديد المدى الذي يستطيع الذهن البشري أن يذهب إليه من أجل بلوغ مثل هذا المثل الأعلى الهائل، فلا بد لبحثنا من الانتظار حتى نعالجها في الفصول القادمة. أما الآن فحسبنا أن نذكر أن لدى الفيلسوف شعورًا واضحًا كل الوضوح بأن مثل هذا المثل الأعلى لم يتحقق حتى الآن. وفضلًا عن ذلك، فقد يكون من الأفضل الاعتراف صراحة بأن هناك مفكرين محدثين كثيرين يؤمنون باستحالة بلوغ هذا الهدف. فهناك جزء كبير من النشاط الفلسفي المعاصر يتركز حول السؤال: ما هي قدرات الذهن، وما هي بالضبط حدود المعرفة البشرية؟ ولكن على الرغم من هذه الشكوك الحديثة في قدرة الذهن البشري على بلوغ ذلك الهدف الذي كان الفيلسوف يضعه نصب عينيه في العصور السالفة، فإن هذا الهدف ما زال مثلًا أعلى. ومن المؤكد أن الرغبة في معرفة أشمل وفهم أوسع، هي بالفعل الدافع الأساسي لوجود كل فيلسوف أصيل.

الفلسفة وجيرانها

الفلسفة والدين
من أخطر العقبات التي اعترضت عمل المفكر الفلسفي خلال قرون طويلة، الفكرة القائلة إن الفلسفة والدين، نظرًا إلى ما في موضوعهما من تداخل جزئي هما توأمان عقليان متلاصقان، لا يستطيع أحدهما أن يذهب إلى أي مكان دون الآخر. ولقد كان هذا الربط مصدر متاعب للتوأم الفلسفي بوجه خاص؛ إذ إن الدين كان عادةً يحتل مركز السلطة السائدة؛ وبالتالي كان قادرًا على تحديد سرعة أي تقدم واتجاهه. ففي الجزء الأكبر من القرون الوسطى، مثلًا، كانت العلاقة الرسمية بين الفلسفة والدين تتلخص في أن للفيلسوف الحرية في الوصول إلى أية نتائج قد يوحي بها تفكيره — شريطة ألا تكون هذه النتائج متعارضة مع نتائج الوحي واللاهوت المقدس. ومن الجائز أن عددًا قليلًا من مفكري العصور الوسطى هو الذي وجد في هذا القيد من المضايقة ما قد يجده فيه معظم فلاسفة اليوم، ولكن من الواضح أن ذلك القيد لم يكن متمشيًا مع الحرية العقلية كما نفهمها في وقتنا الحالي. وعلى حين أن سيطرة الدين على الفلسفة لم تكن دائمًا كاملة بالقدر الذي كانت عليه في العصور الوسطى، فإن الكنيسة (في فرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي معًا) لم تكن على استعداد، خلال الجزء الأكبر من تاريخها الطويل، للسماح للفكر النظري بالتنقل بحرية في جميع أرجاء عالم الفكر. ذلك لأن الكنيسة كانت عادةً تبدي رغبتها في أن تقوم هي، على الأقل، بإصدار جوازات السفر التي تبيح القيام بأمثال هذه الرحلات، وبذلك تحتفظ لنفسها بسلطة البت فيمن يسمح له بالسفر الفلسفي. والواقع أن الفلسفة لم تتمكن من التحرر من هذه القيود إلا منذ أقل من قرنين من الزمان، حتى في البلاد الديمقراطية الليبرالية ذاتها، بل إن هذه الحرية قد اكتسبت، في مجالات معينة، منذ وقت يذكره أناس ما زالوا أحياء. ولما كان هذا الاستقلال قد اكتُسب بعد كفاح مرير، فمن المنطقي أن تنظر إليه جماعة المشتغلين بالفلسفة على أنه أهم الحريات المدنية، وأن تعده جديرًا بأن يُحفظ بأي ثمن.
صعوبة المحافظة على الاستقلال: على الرغم من أن الفلسفة قد وصلت آخر الأمر إلى موقف تستطيع أن ترفض فيه الاعتراف بأي واجب نحو العقيدة، أو قبول أي مركز خاضع لها، فقد أتت أوقات كان الفيلسوف يبدو فيها كما لو كان قد قفز من المقلاة إلى النار. ففي صراعه للتحرر من سيطرة الدين، كان طبيعيًّا أن يتحالف مع العالم، الذي مر بتجربة مشابهة لتجربة الفيلسوف إلى حدٍّ بعيد قبل حصوله على استقلاله. وفضلًا عن ذلك فإن النمو الرائع للعلم خلال الفترة التي كانت الفلسفة فيها تكافح في سبيل استقلالها، كان أحيانًا يشعر الفيلسوف بخشوع مفرط، بحيث اتجه في أحيان معينة إلى ربط تفكيره بذيل «طيارة» العالم ربطًا أوثق مما ينبغي. وسوف يتضمن الفصل التالي مزيدًا من المعلومات عن هذا الخضوع الممكن من الفلسفة للعلم. ولكن مهما تكن حقيقة هذا الخطر، فإن المشكلة الرئيسية، من الوجهة التاريخية، كانت المحافظة على التأمل الفلسفي متخلَّصًا من القيود اللاهوتية؛ لذلك سنبدأ تحليلنا للارتباطات بين الفلسفة وجيرانها ببحث علاقاتها بالدين.

الفرق بين الفلسفة والدين
الفارق الأول: الموضوع
تختص الفلسفة، شأنها شأن الدين، بوضع إجابات على أسئلة نهائية معينة. والأسئلة التي يشترك فيها الميدانان بوضوح هي أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه، وطبيعة الله، وعلاقة الإنسان بالله، وخلود النفس، وحرية الإرادة، وعلاقة السلوك الإنساني بالسعادة الإنسانية. ولا شك أن اشتراك الميدانين، من حيث الموضوع، في مثل هذه المشكلات الكبرى، يكفي في ذاته لكي يجعل الميدانين يتداخلان تداخلًا جزئيًّا. ومع ذلك، فهناك على الأقل أربعة أمور تفصل بين الميدانين فصلًا أوضح بكثير. فمن الملاحظ أولًا أنه، بينما نجد أن جزءًا كبيرًا من الموضوعات التي يبحثانها مشترك بينهما، فإن جزءًا كبيرًا منها مختلف أيضًا. فالفلسفة مثلًا تتعمق في مشكلة قدرة الذهن على معالجة تجربته معالجة كافية. أما الدين فيحل هذه المشكلة عادةً بافتراض مصدرين للمعركة، هما العقل والإيمان، ولا يحلل قدرات أي منهما على أي نحو من الدقة التي تحللها بها الفلسفة. كذلك فإن الفلسفة أكثر اهتمامًا بالمشكلات العلمية وشبه العلمية، كأصل الكون المادي وتاريخه وقوانينه وتركيبه العام، وأصل الحياة وتطورها، وطبيعة العِلِّية، وما إلى ذلك. ويمكن القول بوجه عام إن مجال نشاط الفيلسوف أوسع من مجال نشاط رجل الدين؛ ومن ثَم فإن المشكلات التي يعالجها الفيلسوف تشمل نطاقًا أوسع بكثير. وعلى أية حال، فمن الإنصاف أن نقول إنه بينما الاثنان يبدآن بكثير من المشكلات المتماثلة، فالأرجح أن يظل الفيلسوف، بعد مضي وقت طويل من اهتداء المفكر الديني إلى إجابات مُرضية، يناضل بعنف في سبيل الاهتداء إلى ما يعده «حلولًا أفضل» لنفس المشكلات. والمقصود بهذه الحلول الأفضل، إجابات أدق وأشمل. وبهذا تكون الفلسفة ميالة إلى النظر إلى الأذهان الدينية على أنها معرَّضة لقبول حلول أسهل مما ينبغي. وأخيرًا فأغلب الظن أننا في أية لحظة نرقب فيها الفيلسوف وهو يعمل، سنجده يناضل لحل مشكلات لا تهم اللاهوتي إلا بطريق غير مباشر، إن كانت تهمه على الإطلاق. أي إن الفلسفة، بوجه عام، تتجاوز اللاهوت في نطاقها ومدى تحليلها لأية مشكلة تبحثها.

الفارق الثاني: المناهج
والفارق الثاني بين الميدانين مرتبط بالأول، وهو متعلق بالمناهج التي يستخدمها كل منهما. فالدين، كما رأينا منذ قليل، يقبل قضايا معينة على أنها موضوعات للإيمان — أي يقبلها تصديقًا — على حين أن الفلسفة لا تقبل ذلك. ولعل من المفيد — دون الدخول في استطراد طويل نناقش فيه منطق الإيمان أو سيكولوجيته — أن نشير بإيجاز إلى معنى «الإيمان» ما دام هذا اللفظ يستخدم عادةً في الدوائر الدينية والفلسفية معًا، فاللفظ، في معناه العادي، يدل على قبول رأي أو مذهب على أنه ينطوي على حقيقة لا تستمد من المصادر الحسية أو من العمليات العقلية. ويعد ذلك المذهب عادةً ذا أصل من نوع إلهي أو خارق للطبيعة، فهو نتيجة «للوحي»، الذي يدل بدوره على أية وسيلة يتلقى بها الإنسان مباشرة اتصالًا من العالم الخارق للطبيعة. وقد يكون هذا المصدر كتابًا (كالكتب المقدسة)، أو أحاديث نبوية، أو تجارب صفوية من نوع ما. ومع ذلك فلا بد أن يكون الوسيط المباشر للوحي إنسانًا ما، ولكن قدرته على أن يكون حلقة اتصال بين الله والناس العاديين تؤخذ بدورها على أنها موضوع للإيمان.

ومن الصحيح بالطبع أن المفكر الديني يستخدم المنطق والعقل، ويحرز في ذلك نتائج رائعة، عند شرحه لتفاصيل هيكل التفكير الديني، غير أن المنطق والعقل يستخدمان هنا لإضافة أدلة عقلية إلى ما يقبله هو، مع سائر المؤمنين. على أساس الإيمان. وفي معظم حالات التفكير الديني، نجد أنه إذا ظهر تعارض أو تناقض بين وحي «الإيمان» وثمار «العقل»، فإن الأخيرة تخضع للأولى، وتخلي استنتاجات العقل مكانًا لمشاعر الرضا التي يستطيع الإيمان بعثها فينا. أما في الفلسفة فإن للعقل والمنطق دورًا رئيسيًّا. فالفيلسوف على استعداد تام (بل هو حريص كل الحرص) على صياغة نظرة إلى العالم ترضي مطالب الرأس والقلب معًا، أما إذا لم يكن هناك مفر من التضحية بأحدهما، فهو في الأغلب يضحي بأشواق القلب.
المسلَّمات المبدئية
والعامل التالي الذي يفيد في التفرقة بين هذين الميدانين الكبيرين يتبع العاملَين اللذين أوضحناهما عن كثب. هذا العامل هو درجة التسليم التي يأخذ بها كلٌّ منهما قبل بدء عملياته العقلية. وهذا يشمل المسلَّمات والمصادرات وشتى أنواع الأفكار المفترضة.

ففي الفلسفة مثلًا يبذل جهد كبير لتجنب التسليم مقدمًا بأي شيء ما لم يكن ضروريًّا ضرورة مطلقة، بل إن الفيلسوف يبذل جهدًا أعظم للاحتراس من المسلَّمات الخفية أو اللاواعية. ويشعر الفيلسوف بأن وجود مسلَّمات غير معترف بها هو إحدى العقبات الكبرى في وجه التفكير الواضح؛ ومن ثَم فهو يسعى على الدوام إلى تطهير فكره من أي أثر لها.

مشكلة الله بوصفها مثلًا: فلنضرب لذلك مثلًا من التضاد بين موقفَي كلٍّ من الميدانين من مشكلة الله. فاللاهوتي قد يخصص مجلدات لمناقشة طبيعة الله — وعلاقاته بالكون والنفس البشرية الفردية … إلخ. ولكن مهما طالت مناقشته، ومهما تكن دقة تحليله لفكرة الله، فإن هذا كله يرتكز على أساس افتراض أن الله موجود. وحتى عندما يشتمل التحليل اللاهوتي على ما يسمى بأدلة عقلية على وجود الله، فإننا نجد دائمًا اقتناعًا انفعاليًّا بهذا الوجود،

موقف التجرد في الفلسفة: يتميز موقف الفيلسوف، على خلاف موقف التفكير الديني بمستوييه السالفَي الذكر، بأنه موقف تجرُّد ونظرٍ خالص. فهو يرى أن مسألة الله بأسرها، من حيث وجوده، ومن حيث طبيعته معًا، هي مسألة مفتوحة تمامًا. فالفلسفة لا تعرف «أمورًا مقدسة» لا يمكن الاقتراب منها. والمفكر الميتافيزيقي لا يشعر عند معالجته لمفهوم الكائن الأسمى بخشوع يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى من تلك المسائل القصوى التي يحار لها ذهن الإنسان. وإن من أول ما يتعلَّمه دارس الفلسفة، أن نفس وجود ميدان الفلسفة هذا — بوصفه نشاطًا عقليًّا له دلالته — يتوقف على حقنا في مناقشة أية فكرة، أو أي تصور، أو قيمة، أو قانون، أو نشاط، أو نظام داخل في نطاق التجربة البشرية. وكما يقال أحيانًا على سبيل المزاح، فحتى الله نفسه ينبغي «أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة.»

الفلسفة وحقائق الدين «الواضحة بذاتها»: ينطبق ما قلناه عن فكرة الله على جميع المصادرات الأخرى التي يبنى عليها أي مذهب في الفكر الديني. فكثير من الأديان، مثلًا، تبدأ بناءها اللاهوتي بمجموعة معينة من «الحقائق الواضحة بذاتها». هذه الحقائق لا تتعلق عادةً بوجود الله وحده، وإنما تتعلق أيضًا بقدرته الشاملة، وعلمه المحيط، وحضوره في كل شيء، وخيره المطلق، ودوره بوصفه خالق الكون … إلخ. وقد تبدو القضايا الإيجابية المتعلقة بهذه المسلَّمات كلها، في نظر المؤمن، أوضح في حقيقتها من أن تحتاج إلى برهان، فهي تبدو «واضحة بذاتها». ولكنها لا تبدو كذلك في نظر الفيلسوف. فكلمة «واضح بذاته» تمثل تحديًا له. وبمجرد أن يرى هذا اللفظ أو يسمعه، نراه ميالًا إلى أن يقول: «قف عندك! إن «الواضح بذاته» ليس بالصفة التي يمكن إطلاقها بمثل هذه السهولة. فما الذي تعنيه بها حقيقةً وفي نظر مَن تكون قضيتك واضحة الصحة إلى حد لا تحتاج معه إلى دليل؟» ويلي ذلك عادةً مقارنة بين القضية موضوع البحث وبين بعض الأمثلة الكلاسيكية للوضوح الذاتي، كتلك التي تتمثل في البديهيات الكامنة من وراء هندسة إقليدس.

موضوعات الكتب
مجموعات هنداوي
السلاسل والأعمال الكاملة
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
ePub Logo
PDF Logo
Kindle Logo
الفصل الثاني
الفلسفة وجيرانها
لا بد أن يكون القارئ قد شعر، عند هذه النقطة من دراستنا، بشيء من الحيرة حول العلاقات بين الفلسفة وبعض الميادين الفكرية الأخرى. فمن الجائز أن كثيرًا من التعريفات التي قدمناها توحي بأن الفلسفة تتداخل مع اثنين على الأقل من جيرانها، هما: العلم والدين، وربما تكرر عملهما بلا داع. أليس معنيًّا، في المحل الأول، بطبيعة العالم الفيزيائي وتركيب الكون؟ أليست هذه المسائل بعينها هي موضوع اهتمام الفيزياء والكيمياء والفلك والجيولوجيا؟ أوَلم تقدم هذه العلوم إجابات كاملة ومحددة إلى حد معقول؟ وما الذي يستطيع الفيلسوف أن يفعله أكثر من ذلك — بل ما الذي يستطيع أن يريده أكثر من ذلك؟ أما فيما يتعلق بالأسئلة العظيمة الأهمية، المتعلقة بدور الإنسان في الكون ومعنى تجربتنا، فأي هدف يمكن أن يكون للدين سوى تقديم إجابات عن هذه الأسئلة؟ وهنا أيضًا نتساءل: أي دفاع نستطيع أن ندافع به عن الفيلسوف وعمله؟

في اعتقادنا أن أفضل وسيلة لاكتساب مزيد من الفهم لميدان الفلسفة، بعد التعريف المبدئي لميدانها، الذي عرضناه منذ قليل، هي أن نعالج الموضوع بطريقة سلبية ونوضح ما لا تكونه الفلسفة. فمع اعترافنا بأن ميدان الفلسفة له صلات هامة جدًّا بالعلم والدين معًا، وبأنه يسعى إلى الإتيان بإجابات أساسية من نفس النوع الذي يسعيان إلى الإتيان به، فإن الفوارق بين الميادين الثلاثة من ذلك أهم مما بينها من أوجه الشبه. فإذا استطعنا أن ننفذ إلى أعماق هذه الفوارق في الغاية والمنهج معًا، لقطعنا بذلك شوطًا لا بأس به في سبيل فهم روح الفلسفة ومضمونها.

إن للفلسفة، شأنها شأن كل ميادين النشاط البشري، صلات وثيقة بالبعض من جيرانها، وصلات سطحية فقط بجيران آخرين. وأقرب صلاتها هي تلك التي تجمعها بالعلم من جهة وبالدين من جهة أخرى. وهناك ارتباطات أقل وثوقًا، بين الفلسفة وبين الفن والأدب، على الرغم من أنه لا يوجد، كما رأينا من قبل؛ أي ميدان للنشاط وأي ميدان للفكر يعد خارجًا تمامًا عن مطلق البحث الفلسفي. فكل شيء يسهم في هذا البحث، وما كان اختيارنا للعلم والدين على التخصيص لإجراء هذه المناقشة الخاصة المتعلقة بالفلسفة إلا أن أهميتها بالنسبة للبحث الفلسفي أعظم. كذلك فإن الخلط بين مجال الفيلسوف وبين هذين الميدانين المجاورين له، هو أكثر وقوعًا من الخلط بينه وبين أي ميدان آخر. وهذا الخلط أمر طبيعي، وما دمنا في الفلسفة نعالج موضوعًا قريبًا كل القرب من الموضوعات التي يعالجانها. وبالإضافة إلى ذلك فإن المشكلات الخاصة بهذه الميادين الثلاثة تتداخل إلى حدٍّ بعيد. وهناك قدر كبير من التشابه في اللغة المستخدمة فيها. ولكن، مهما كان هذا الخلط أمرًا طبيعيًّا، فإن تخليص تفكيرنا منه أمر لا بد منه لأي فهم للفلسفة. ولقد كانت نتائج هذا الخلط خطيرة بوجه خاص في العلاقات بين الفلسفة والدين، وهي العلاقات التي سوف نستهل بها مناقشتنا …

(١) الفلسفة والدين
من أخطر العقبات التي اعترضت عمل المفكر الفلسفي خلال قرون طويلة، الفكرة القائلة إن الفلسفة والدين، نظرًا إلى ما في موضوعهما من تداخل جزئي هما توأمان عقليان متلاصقان، لا يستطيع أحدهما أن يذهب إلى أي مكان دون الآخر. ولقد كان هذا الربط مصدر متاعب للتوأم الفلسفي بوجه خاص؛ إذ إن الدين كان عادةً يحتل مركز السلطة السائدة؛ وبالتالي كان قادرًا على تحديد سرعة أي تقدم واتجاهه. ففي الجزء الأكبر من القرون الوسطى، مثلًا، كانت العلاقة الرسمية بين الفلسفة والدين تتلخص في أن للفيلسوف الحرية في الوصول إلى أية نتائج قد يوحي بها تفكيره — شريطة ألا تكون هذه النتائج متعارضة مع نتائج الوحي واللاهوت المقدس. ومن الجائز أن عددًا قليلًا من مفكري العصور الوسطى هو الذي وجد في هذا القيد من المضايقة ما قد يجده فيه معظم فلاسفة اليوم، ولكن من الواضح أن ذلك القيد لم يكن متمشيًا مع الحرية العقلية كما نفهمها في وقتنا الحالي. وعلى حين أن سيطرة الدين على الفلسفة لم تكن دائمًا كاملة بالقدر الذي كانت عليه في العصور الوسطى، فإن الكنيسة (في فرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي معًا) لم تكن على استعداد، خلال الجزء الأكبر من تاريخها الطويل، للسماح للفكر النظري بالتنقل بحرية في جميع أرجاء عالم الفكر. ذلك لأن الكنيسة كانت عادةً تبدي رغبتها في أن تقوم هي، على الأقل، بإصدار جوازات السفر التي تبيح القيام بأمثال هذه الرحلات، وبذلك تحتفظ لنفسها بسلطة البت فيمن يسمح له بالسفر الفلسفي. والواقع أن الفلسفة لم تتمكن من التحرر من هذه القيود إلا منذ أقل من قرنين من الزمان، حتى في البلاد الديمقراطية الليبرالية ذاتها، بل إن هذه الحرية قد اكتسبت، في مجالات معينة، منذ وقت يذكره أناس ما زالوا أحياء. ولما كان هذا الاستقلال قد اكتُسب بعد كفاح مرير، فمن المنطقي أن تنظر إليه جماعة المشتغلين بالفلسفة على أنه أهم الحريات المدنية، وأن تعده جديرًا بأن يُحفظ بأي ثمن.

صعوبة المحافظة على الاستقلال: على الرغم من أن الفلسفة قد وصلت آخر الأمر إلى موقف تستطيع أن ترفض فيه الاعتراف بأي واجب نحو العقيدة، أو قبول أي مركز خاضع لها، فقد أتت أوقات كان الفيلسوف يبدو فيها كما لو كان قد قفز من المقلاة إلى النار. ففي صراعه للتحرر من سيطرة الدين، كان طبيعيًّا أن يتحالف مع العالم، الذي مر بتجربة مشابهة لتجربة الفيلسوف إلى حدٍّ بعيد قبل حصوله على استقلاله. وفضلًا عن ذلك فإن النمو الرائع للعلم خلال الفترة التي كانت الفلسفة فيها تكافح في سبيل استقلالها، كان أحيانًا يشعر الفيلسوف بخشوع مفرط، بحيث اتجه في أحيان معينة إلى ربط تفكيره بذيل «طيارة» العالم ربطًا أوثق مما ينبغي. وسوف يتضمن الفصل التالي مزيدًا من المعلومات عن هذا الخضوع الممكن من الفلسفة للعلم. ولكن مهما تكن حقيقة هذا الخطر، فإن المشكلة الرئيسية، من الوجهة التاريخية، كانت المحافظة على التأمل الفلسفي متخلَّصًا من القيود اللاهوتية؛ لذلك سنبدأ تحليلنا للارتباطات بين الفلسفة وجيرانها ببحث علاقاتها بالدين.
(٢) الفرق بين الفلسفة والدين
الفارق الأول: الموضوع
تختص الفلسفة، شأنها شأن الدين، بوضع إجابات على أسئلة نهائية معينة. والأسئلة التي يشترك فيها الميدانان بوضوح هي أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه، وطبيعة الله، وعلاقة الإنسان بالله، وخلود النفس، وحرية الإرادة، وعلاقة السلوك الإنساني بالسعادة الإنسانية. ولا شك أن اشتراك الميدانين، من حيث الموضوع، في مثل هذه المشكلات الكبرى، يكفي في ذاته لكي يجعل الميدانين يتداخلان تداخلًا جزئيًّا. ومع ذلك، فهناك على الأقل أربعة أمور تفصل بين الميدانين فصلًا أوضح بكثير. فمن الملاحظ أولًا أنه، بينما نجد أن جزءًا كبيرًا من الموضوعات التي يبحثانها مشترك بينهما، فإن جزءًا كبيرًا منها مختلف أيضًا. فالفلسفة مثلًا تتعمق في مشكلة قدرة الذهن على معالجة تجربته معالجة كافية. أما الدين فيحل هذه المشكلة عادةً بافتراض مصدرين للمعركة، هما العقل والإيمان، ولا يحلل قدرات أي منهما على أي نحو من الدقة التي تحللها بها الفلسفة. كذلك فإن الفلسفة أكثر اهتمامًا بالمشكلات العلمية وشبه العلمية، كأصل الكون المادي وتاريخه وقوانينه وتركيبه العام، وأصل الحياة وتطورها، وطبيعة العِلِّية، وما إلى ذلك. ويمكن القول بوجه عام إن مجال نشاط الفيلسوف أوسع من مجال نشاط رجل الدين؛ ومن ثَم فإن المشكلات التي يعالجها الفيلسوف تشمل نطاقًا أوسع بكثير. وعلى أية حال، فمن الإنصاف أن نقول إنه بينما الاثنان يبدآن بكثير من المشكلات المتماثلة، فالأرجح أن يظل الفيلسوف، بعد مضي وقت طويل من اهتداء المفكر الديني إلى إجابات مُرضية، يناضل بعنف في سبيل الاهتداء إلى ما يعده «حلولًا أفضل» لنفس المشكلات. والمقصود بهذه الحلول الأفضل، إجابات أدق وأشمل. وبهذا تكون الفلسفة ميالة إلى النظر إلى الأذهان الدينية على أنها معرَّضة لقبول حلول أسهل مما ينبغي. وأخيرًا فأغلب الظن أننا في أية لحظة نرقب فيها الفيلسوف وهو يعمل، سنجده يناضل لحل مشكلات لا تهم اللاهوتي إلا بطريق غير مباشر، إن كانت تهمه على الإطلاق. أي إن الفلسفة، بوجه عام، تتجاوز اللاهوت في نطاقها ومدى تحليلها لأية مشكلة تبحثها.

الفارق الثاني: المناهج
والفارق الثاني بين الميدانين مرتبط بالأول، وهو متعلق بالمناهج التي يستخدمها كل منهما. فالدين، كما رأينا منذ قليل، يقبل قضايا معينة على أنها موضوعات للإيمان — أي يقبلها تصديقًا — على حين أن الفلسفة لا تقبل ذلك. ولعل من المفيد — دون الدخول في استطراد طويل نناقش فيه منطق الإيمان أو سيكولوجيته — أن نشير بإيجاز إلى معنى «الإيمان» ما دام هذا اللفظ يستخدم عادةً في الدوائر الدينية والفلسفية معًا، فاللفظ، في معناه العادي، يدل على قبول رأي أو مذهب على أنه ينطوي على حقيقة لا تستمد من المصادر الحسية أو من العمليات العقلية. ويعد ذلك المذهب عادةً ذا أصل من نوع إلهي أو خارق للطبيعة، فهو نتيجة «للوحي»، الذي يدل بدوره على أية وسيلة يتلقى بها الإنسان مباشرة اتصالًا من العالم الخارق للطبيعة. وقد يكون هذا المصدر كتابًا (كالكتب المقدسة)، أو أحاديث نبوية، أو تجارب صفوية من نوع ما. ومع ذلك فلا بد أن يكون الوسيط المباشر للوحي إنسانًا ما، ولكن قدرته على أن يكون حلقة اتصال بين الله والناس العاديين تؤخذ بدورها على أنها موضوع للإيمان.

ومن الصحيح بالطبع أن المفكر الديني يستخدم المنطق والعقل، ويحرز في ذلك نتائج رائعة، عند شرحه لتفاصيل هيكل التفكير الديني، غير أن المنطق والعقل يستخدمان هنا لإضافة أدلة عقلية إلى ما يقبله هو، مع سائر المؤمنين. على أساس الإيمان. وفي معظم حالات التفكير الديني، نجد أنه إذا ظهر تعارض أو تناقض بين وحي «الإيمان» وثمار «العقل»، فإن الأخيرة تخضع للأولى، وتخلي استنتاجات العقل مكانًا لمشاعر الرضا التي يستطيع الإيمان بعثها فينا. أما في الفلسفة فإن للعقل والمنطق دورًا رئيسيًّا. فالفيلسوف على استعداد تام (بل هو حريص كل الحرص) على صياغة نظرة إلى العالم ترضي مطالب الرأس والقلب معًا، أما إذا لم يكن هناك مفر من التضحية بأحدهما، فهو في الأغلب يضحي بأشواق القلب.

الفلسفة والعقل: كل هذا يعني أن الميل الطاغي للفيلسوف إنما هو الميل إلى المعرفة، مهما يكن الثمن: فإذا ما أدى بحثه وراء المعرفة والفهم إلى تفسير للتجربة يوازي تفسير معظم الأديان، كان ذلك أفضل. أما إذا أدى استدلاله بمنطق محكم إلى نظرة للعالم لا تكون لحياتنا فيها من غاية أو قيمة إلا ما نستطيع تحقيقه بجهودنا الخاصة في عالم غير شاعر بوجودنا ولا مكترث بسعادتنا، فليكن الأمر كذلك. أي إن الفيلسوف يبذل كل جهد للسير وراء العقل إلى أية نتيجة يؤدي إليها. وهو يسعى، بقدر ما في البشر من طاقة، إلى مجاراة العالم وتجاهل نزوعه الانفعالي خلال بحثه عن الحقيقة. وفي ذلك يقول برتراند راسل: «إن لب النظرة العلمية هو رفض النظر إلى رغباتنا وأذواقنا واهتماماتنا على أنها تمدنًا بمفتاح فهم العالم».١ وبينما الفيلسوف لا يحقق دائمًا هذا المثل الأعلى الصارم بنفس الكمال الذي يتعين على العالم أن يحققه به، فإن تفانيه من أجله، بوصفه مثلًا أعلى، يفيد في التمييز بين نشاطه وبين نشاط المفكر الديني.
ويذكر مؤلف الكتاب أنه سمع ذات مرة سيدة متقدمة في السن طيبة النوايا، تسأل فيلسوفًا صارم الذهن: «ولكن ألا تستطيع أن تقنع نفسك عقليًّا بمثل هذا الإيمان؟» فكان جوابه الفوري: «أليس ما تعنينه هو: ألا أستطيع أن أبرر لنفسي٢ هذا الإيمان؟» وهو يعني بذلك عمل نفس الشيء الذي يحرص العالم والفيلسوف معًا كل الحرص على تجنبه — ألا وهو ترك انفعالاته، ورغبته البشرية الطبيعية في العيش في عالم ملائم لنا ولغاياتنا، تؤثر في النتائج التي يتجه إليها استدلاله. فمهما تكن ضروب الإرضاء الأخرى التي قد تتيحها الحياة للفيلسوف، فلا بد له من أن يكتسب الرضا العقلي قبل كل ما عداه. وبينما بعض الأشخاص يرون أن أي مفكر يضع رضاء العقل في مرتبة أعلى من رضاء القلب، لا يكاد يكون بشرًا، فإن الفيلسوف يرى أن أي موقف مخالف لذلك لا يمكن أن يكون جديرًا بكائن مفكر.
وهناك مشهد معين في إحدى التراجيديات اليونانية القديمة، يمكن أن يبصرنا بطبيعة هذا المسعى الفلسفي. في هذا المشهد يعود أجاكس، وهو أحد أبطال الجيش اليوناني في حربه الطويلة ضد الطرواديين، ولكنه بطل يتسم بشيء من الغباء، يعود إلى داره بعد سقوط طروادة، وهو يتيه فخرًا وخيلاء بفتوحاته في ساحة الوغى. وفي آخر الأمر، تشعر آلهة الأولمب المتسامحة ذاتها بالسأم من غروره، وتدبر له عقابًا مناسبًا؛ ففي ذات يوم تسلبه الآلهة عقله حيث يضطر إلى مهاجمة قطيع من الغنم، وذبح الكثير منها متوهمًا أنه ما زال يقاتل أهل طروادة. وعندما يستعيد رشده، يكون قد أصبح موضع سخرية اليونان بأسرها؛ فها هو ذا أجاكس، المحارب المغوار، يقضي وقته الآن في ذبح الغنم! على أن مثل هذه السخرية أمرٌ لا يُحتمل في نظر شخص لديه دوافع أنانية قوية كهذا البطل السابق؛ لذلك قرر أجاكس، بعد إمعان الفكر في موقفه، أن يعمد إلى الانتحار — وهو الحل التقليدي لمثل هذه المشكلة. فأخذ يشحذ سيفه الذي أصبح الآن مدنسًا، ثم تريث لحظة أخيرة محاولًا أن يفهم ما الذي حدث له بحيث جعل مكانته كبطل تنحطُّ إلى هذا الحد المؤسف. وقبل أن يغمد سلاحه في نفسه يهتف صارخًا للآلهة المنتقمة: «النور! النور! يا ليتني أموت فيه!» في هذه اللحظة الأخيرة من حياة أجاكس، ارتفع إلى المستوى الذي يحاول الفيلسوف أن يعيش فيه في كل الأوقات: فالشوق إلى المعرفة قد سما فوق كل شوق آخر، وهو قد رأى أن الموت يغدو أقل مرارة وإذلالًا لو أمكن أن يقترن بالفهم.

التضاد مع الموقف الديني: ليس في وسع الدين أن يقدم نظيرًا لهذا الموقف الفلسفي. فالهدف الأول لكل عقيدة تقريبًا هو إعطاء أتباعها إحساسًا بالسلام والانسجام. وأفضل وسيلة تحقق بها هذا الهدف هي أن تفترض عالمًا يكون فيه للفرد قيمة وغاية، ويكون فيه لحياته معنى لشيء أو لشخص غيره هو ذاته وغير المقربين إليه. فإذا لم يستطع رجل الدين أن يجد أسبابًا عقلية لهذا الاعتقاد، فإنه يجعل العقل خاضعًا، ويهيب بالإيمان أن يمده بالاقتناع الذي يفتقر إليه. وعلى قدر ما يطلب الفيلسوف رضًا عقليًّا، يطلب الشخص المتدين رضًا انفعاليًّا. وكل نوع من الذهنَين تتملكه الحيرة عادةً حين يجد الآخر قانعًا بهذا المستوى في الرضا، وكل منهما يجد في الطرف الآخر، في أغلب الأحيان، شخصًا ينظر إليه شذرًا.
الاختلاف الثالث: المسلَّمات المبدئية
والعامل التالي الذي يفيد في التفرقة بين هذين الميدانين الكبيرين يتبع العاملَين اللذين أوضحناهما عن كثب. هذا العامل هو درجة التسليم التي يأخذ بها كلٌّ منهما قبل بدء عملياته العقلية. وهذا يشمل المسلَّمات والمصادرات وشتى أنواع الأفكار المفترضة.

ففي الفلسفة مثلًا يبذل جهد كبير لتجنب التسليم مقدمًا بأي شيء ما لم يكن ضروريًّا ضرورة مطلقة، بل إن الفيلسوف يبذل جهدًا أعظم للاحتراس من المسلَّمات الخفية أو اللاواعية. ويشعر الفيلسوف بأن وجود مسلَّمات غير معترف بها هو إحدى العقبات الكبرى في وجه التفكير الواضح؛ ومن ثَم فهو يسعى على الدوام إلى تطهير فكره من أي أثر لها.

مشكلة الله بوصفها مثلًا: فلنضرب لذلك مثلًا من التضاد بين موقفَي كلٍّ من الميدانين من مشكلة الله. فاللاهوتي قد يخصص مجلدات لمناقشة طبيعة الله — وعلاقاته بالكون والنفس البشرية الفردية … إلخ. ولكن مهما طالت مناقشته، ومهما تكن دقة تحليله لفكرة الله، فإن هذا كله يرتكز على أساس افتراض أن الله موجود. وحتى عندما يشتمل التحليل اللاهوتي على ما يسمى بأدلة عقلية على وجود الله، فإننا نجد دائمًا اقتناعًا انفعاليًّا بهذا الوجود، هو أهم بكثير من أي إثبات مبرهن عليه عقليًّا. فهناك شيء واحد مؤكد على الأقل في نظر المفكر الديني، مهما تكن الصفات الإيجابية أو السلبية لله، وسواء أكان مشخصًا أم غير مشخص، وأيًّا ما كان دوره في أمور البشر: هذا الشيء المؤكد هو أن الله موجود. فهو يوجد على نحو ما، وفي مقر ما٣ ومعظم اللاهوتيين يعترفون صراحة بأن الله، هو المسلَّمة الكامنة من وراء كل تفكير لهم. أما المؤمن العادي فقلما يكون شاعرًا بأنه يأخذ وجود الله، دون أن يشعر، قضية مسلَّمًا بها في أي تفكير يقوم به حول هذا الموضوع. وبالاختصار، فبينما اللاهوتي يعترف عادةً بمسلَّمته الأساسية فإن الذهن المتدين الأقل ثقافة نادرًا ما يعترف بذلك.
موقف التجرد في الفلسفة: يتميز موقف الفيلسوف، على خلاف موقف التفكير الديني بمستوييه السالفَي الذكر، بأنه موقف تجرُّد ونظرٍ خالص. فهو يرى أن مسألة الله بأسرها، من حيث وجوده، ومن حيث طبيعته معًا، هي مسألة مفتوحة تمامًا. فالفلسفة لا تعرف «أمورًا مقدسة» لا يمكن الاقتراب منها. والمفكر الميتافيزيقي لا يشعر عند معالجته لمفهوم الكائن الأسمى بخشوع يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى من تلك المسائل القصوى التي يحار لها ذهن الإنسان. وإن من أول ما يتعلَّمه دارس الفلسفة، أن نفس وجود ميدان الفلسفة هذا — بوصفه نشاطًا عقليًّا له دلالته — يتوقف على حقنا في مناقشة أية فكرة، أو أي تصور، أو قيمة، أو قانون، أو نشاط، أو نظام داخل في نطاق التجربة البشرية. وكما يقال أحيانًا على سبيل المزاح، فحتى الله نفسه ينبغي «أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة.»
هذا الموقف النظري المتجرد الذي تقفه الفلسفة، يجعل النتائج التي يصل إليها الفيلسوف أقل تعرضًا للاشتمال على مسلَّمات خفية. فهو يختبر تفكيره ويعيد اختباره مرارًا، لكي يتأكد من عدم تسلل أية مصادر لم يعترف بها، أو أي افتراض سابق، في لحظة لم يأخذ فيها حذره. والحالة المثلى هي تلك التي يبدأ فيها تفكيره دون أية مسلَّمات فيما عدا ما هو ضروري تمامًا لمزاولة هذا النشاط الفكري. وهو يتمنى لو أمكن إنقاص هذه المسلَّمات إلى اثنتين أو ثلاث، كوجوده الخاص مثلًا، ووجود العالم الخارجي ووجود نوع من علاقة المعرفة أو التجربة بينهما. وبينما أنه من المشكوك فيه أن يستطيع كل فيلسوف أن يدعي صادقًا أن عتاده العقلي قد أنقص في الأصل إلى هذه العناصر التي لا تقبل مزيدًا من النقصان، فإنه يدعي عادةً أنه بذل جهدًا واعيًا للكشف عن جميع المسلَّمات — وضمنها تلك المسلَّمات التي لا غناء عنها كهذه التي تحدثنا عنها.

الفلسفة وحقائق الدين «الواضحة بذاتها»: ينطبق ما قلناه عن فكرة الله على جميع المصادرات الأخرى التي يبنى عليها أي مذهب في الفكر الديني. فكثير من الأديان، مثلًا، تبدأ بناءها اللاهوتي بمجموعة معينة من «الحقائق الواضحة بذاتها». هذه الحقائق لا تتعلق عادةً بوجود الله وحده، وإنما تتعلق أيضًا بقدرته الشاملة، وعلمه المحيط، وحضوره في كل شيء، وخيره المطلق، ودوره بوصفه خالق الكون … إلخ. وقد تبدو القضايا الإيجابية المتعلقة بهذه المسلَّمات كلها، في نظر المؤمن، أوضح في حقيقتها من أن تحتاج إلى برهان، فهي تبدو «واضحة بذاتها». ولكنها لا تبدو كذلك في نظر الفيلسوف. فكلمة «واضح بذاته» تمثل تحديًا له. وبمجرد أن يرى هذا اللفظ أو يسمعه، نراه ميالًا إلى أن يقول: «قف عندك! إن «الواضح بذاته» ليس بالصفة التي يمكن إطلاقها بمثل هذه السهولة. فما الذي تعنيه بها حقيقةً وفي نظر مَن تكون قضيتك واضحة الصحة إلى حد لا تحتاج معه إلى دليل؟» ويلي ذلك عادةً مقارنة بين القضية موضوع البحث وبين بعض الأمثلة الكلاسيكية للوضوح الذاتي، كتلك التي تتمثل في البديهيات الكامنة من وراء هندسة إقليدس. ومن هذه النقطة تنتقل المناقشة بالطبع إلى بحث كذلك الذي يقوم به الرياضيون المحدثون أحيانًا، حول الوضوح الذاتي لهذه الأمثلة الكلاسيكية ذاتها. وقد يؤدي ذلك منطقيًّا إلى تحليل لمفهوم الوضوح الذاتي بأسره، وأهميته بوصفه مصدرًا للمعرفة، وعلاقته بمشكلة البرهان، وما شابه ذلك. ولكن المفكر الديني يكون خلال هذا الوقت قد انتقل دون شك إلى ما يعتقد أنه بحث فكري أعظم جدوى، مقتنعًا بأن هناك من الأفراد الذين سيقبلون قضاياه «الواضحة بذاتها» على أنها واضحة بذاتها حقًّا، ما يكفي لجعل حديثه إليهم ممكنًا.
الاختلاف الرابع: الأهداف
والفارق الرئيسي الأخير بين الفلسفة والدين يكمن في هدفهما أو غايتهما القصوى. وهذا يؤثر بطبيعة الحال في الموقف العقلي الذي يبدأ به نشاط من يمارسونهما كما يؤثر في المناهج التي يستخدمونها. ولقد ذكرنا من قبل أن أول شوق للفيلسوف هو شوقه إلى المعرفة، دون أن يهتم إلا قليلًا بالثمن الذي يكلفه بلوغ هذه المعرفة، ودون أن يهتم إلا أقل من ذلك بانسجامها أو عدم انسجامها مع آماله وأمانيه البشرية المتأصلة فيه بعمق. ومن جهة أخرى فقد رأينا أن الهدف الأول للدين هو إعطاء إحساس بالأمان والطمأنينة «لا يستطيع العالم أن يعطيه إيانا أو ينتزعه منا». وهكذا يتضح لنا أن للدين هدفًا عمليًّا أكثر من الفلسفة — وذلك على الأقل من وجهة النظر المباشرة. كذلك يتضح أن الدين يكون على الأرجح أهم في حياة عدد من الناس يزيد كثيرًا على أولئك الذين يمكن أن تمسهم الفلسفة ولو من بعيد. وبطبيعة الحال فإن من يكرسون حياتهم للعمل الفلسفي يسارعون دائمًا بتأكيد أن الدافع إلى المعرفة لا يقل تأصلًا في الإنسان عن الرغبة في الأمان والطمأنينة الروحية. ولكن على الرغم من أن الدافعَين قد يكونان سواء في أهميتهما، فإنه لا يترتب على ذلك القولُ بأنهما موجودان بنفس القوة لدى الناس جميعًا. فمعظم الأشخاص يرون أن الوعد الذي يقدمه إليهم الدين أقوى جاذبيةً بكثير. وهم يشعرون بضرورة حصولهم على ضمان بأن الحياة جديرة بأن تعاش، ويؤمنون بأن الدين قادر على أن يعطيهم هذا الضمان على نحو أيسر مما تقدر عليه منافِسة الدين (أي الفلسفة). ذلك لأن الفلسفة لو استطاعت تقديم مثل هذا الضمان، فإن ذلك لا يكون عادةً إلا بعد تفكير طويل مُضنٍ.



#محمد_بركات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الإشارة الأقوى على الإطلاق.. متوفر الآن تردد قناة طيور الجنة ...
- نزل الآن تردد طيور الجنة 2025.. استمتع بأجمل الأناشيد والأغا ...
- محمد حبش: هكذا يمكن بناء الدولة المدنية وفق مرجعية إسلامية و ...
- إسرائيل ستفرج عن مستوطنين يهود محتجزين إدارياً رداً على اتفا ...
- مزاعم جديدة بالاعتداء الجنسي تدفع الكنيسة الفرنسية لفتح تحقي ...
- 60 ألفًا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
- رجل دين إيراني: إسرائيل تريد قتل الإمام -المهدي المنتظر- في ...
- أحلى ضحكة ونغمة لأطفالك على قناة طيور الجنة.. تثبيت التردد
- 60 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
- عايز تشوف طيور الجنة؟ ده التردد الجديد.. تردد قناة طيور الجن ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (1)