|
التعبير عن المقاومة الثقافيّة والبيئيّة في شعر محمد العروسي المطوي زمن الاحتلال ج1
فتحي البوكاري
كاتب
(Boukari Fethi)
الحوار المتمدن-العدد: 8225 - 2025 / 1 / 17 - 12:44
المحور:
الادب والفن
تمهيد: كنت، في السابق ومازلت، من الذين يرفضون توصيف روايات المطوي بالروايات النضاليّة، فهي عندي روايات تسجيليّة، لأنها تدور حول المقاومة وتتحدّث عن الألم الفردي، المؤدّي فهمه إلى فهم ألم المجتمع بأكمله في مرحلة صراعه وتحدّيه لسلطة المستعمر والحكم الأوربي المهيمن، دون أن يكون صاحبها ناشطا حقيقيا يواجه المشاكل ويتحمّل بعض المسؤوليات الثقيلة. فالنص عندما يكتب وينشر في زمن الصراع والتحرّر، كتابيا أو شفويا من فم إلى فم، هو نص نضالي يعكس إرادة الصمود ويبثّ الأمل في النّفوس في أحلك الأوقات، ويحث على التضامن والتكاتف لمواجهة التحديات المشتركة، ويساعد في إحياء الوعي بقضايا الأمة وتحفيز الشعور بالانتماء للوطن، وتجنيد المشاركين في الحركة النضاليّة، ويعمل على تحفيز الروح الوطنيّة وتثقيف الرأي العام والتأثير عليه، ويخلق شعورا مشتركا بالظلم والنضال. وينبض بحرارة الدعوة إلى المقاومة والتحريض عليها، ويبني جسور التضامن وتمتين الرابطة العاطفيّة داخل حركات المقاومة من خلال الإعلان عن انتشار ونمو مشاعر الرفض والمعارضة المناهضة للاستعمار، أمّا إذا تمّ تحنيطه وتخبئته خوفا وحذرا، أو كتب بعد زوال المرحلة الحارقة، فهو نصّ تسجيلي وشهادات عن المقاومة وتثمين نضال الشعب من أجل الاستقلال، يتم استخدامه لمعرفة ما حدث في الماضي، حيث يرتبط الماضي بالمستقبل. القلم المقاوم يجب أن يكون عنيدا لا يرتجف من الرعب. مع وضع هذه النقطة في الاعتبار، وهي نقطة أساسيّة أكّدها المطوي نفسه في المقطع الأخير من قصيدة "الشاعر الطموح" التي وردت في مجموعته الشعريّة "فرحة شعب"، الصادرة سنة 1974، ولكنّ الأبيات، وقد خُطّت عام 1949، توضح وعي المطوي وأفكاره بشأن وظيفة الشاعر المقاوم بالخصوص وتمثّل رؤيته لدور الأديب المقاوم عموما، حيث يقول(1): أين مِنَّا الشاعرُ الصَدَّاحُ بالعهدِ الجديدِ؟! ***** ينفُخُ الآمالَ في "ناي" التسامي والصعودِ وينــادِي مجمَـعَ النُـوَّامِ في وادي الهمودِ ***** ويـؤمُّ النَّـاسَ في المَيـْدَانِ خَفَّـاقَ البنـودِ يرتمي في لُجَّـةِ الأحداثِ كالسّهمِ السَّدِيدِ ***** همُّـه: في قمّـةِ العليـاء، أو قبرِ الشهيـدِ بهذه الطريقة يلعب الأدب المقاوم دوره في صناعة الوعي وإيقاظ الهمّة والمخاطرة بالنفس في سبيل ذلك. أو هذا ما يجب أن تكون عليه وظيفته. ولكن من الواضح للجميع أن الدواوين الشعريّة للمطوي، كما هو الحال بالنسبة إلى رواياته، لم يسبق لها أن نشرت في مرحلة الاحتلال، ولا ندري إن كانت قصائده الثورية قد نشرت متفرّقة في زمن الصراع في محاميل أخرى غير الكتب، أو تناقلتها الأفواه شفويا من فم إلى فم. لا يمكن الجزم بذلك، على الأقل من جانبي. في هذا السياق، كنت أرى أدب المطوي يندرج في صنف الأدب التسجيلي باعتباره نصوصا خاصّة جدّا، لم يسمع بها "مجمعُ النوّام في وادي الهمود"، كان من المفترض أن تقوم بوظيفتها المشار إليها سابقا، ويتفاعل أصحاب الأرض الواقعين تحت نفوذ المستعمر مع تلك المشاعر الوطنيّة، لو لم تكن مختبئة ومحفوطة في كرّاسات قديمة. ومع ذلك فقد كان المطوي ناشطا حقيقيا، كما أخبرنا بذلك إبراهيم بن مراد، مشرف ومحقق أعماله الكاملة، على الأقل بالنسبة إلى المجلدات الثلاثة الأولى من ستّة، أحدهما، المتعلّق بكتاب "السلطنة الحفصية" وقد تمّ تقسيمه إلى جزئين، بسبب حجمه الضخم، ذكر "بن مراد" في المقدّمة التي عِنْوَانُها: "الأديب العالم محمد العروسي المطوي (1920-2005)" أنّ أديبَنا قد تقلّد خططا ديبلوماسية وسياسية وكان ذلك "تتويجا لنشاط سياسي وطني وحزبي مكثّف منذ تخرّجه في جامع الزيتونة"(2). إذا، فالمطوي كان عنصرا فاعلا في مناهضة الاحتلال، وكانت هناك أشكال مختلفة من النضال يمكن من خلالها أن يقاوم المحتلّ: المقاومة بالأدب، والمقاومة في الأدب، والمقاومة الديبلوماسية، والمقاومة المسلّحة، وغيرها. ولسبب ما، آثر المطوي طريقة المقاومة بغير الأدب إلى جانب مقاومته الفعلية صلب حركة التحرّر، وألزم قلمه التوثيق وجعل من نصّه الأدبي نافذة على الآخر في زمن آخر، ومفتاحا لأفكار وعواطف المناضلين وللثقافة الاستعمارية في ذلك الوقت البعيد عنّا اليوم. وفي هذا السياق ستتعامل هذه الورقة مع قصائد المطوي النضالية كقطع أثرية أنشأت زمن الاحتلال، شهادات على المقاومة توثّق المراحل المختلفة للنضال، وتخلِّد أسماء القادة والشهداء والأحداث التاريخية، وتمكّن من الكشف عن شعور العيش في ذلك العصر الاستعماري، واستحضار عاطفة المعاناة الإنسانية التي يسببها المستعمر للسكّان الأصليين. كما أنّها توفّر للدّارس المنفذ الصحيح لمشاعر الشاعر حول الحركة النضاليّة. المقاومة الثقافيّة والبيئيّة: تهدف هذه الدراسة إلى تحديد ووصف نموذجين للمقاومة: الثقافيّة والبيئية، من خلال النظر في قصائد المطوي التي أُنتِجَت ما بين أربعينيات القرن الماضي إلى يوم إعلان الاستقلال الوطني من الاحتلال الفرنسي في 20 مارس 1956، دون المساس بتلك التي كُتبت بعد ذلك. في إطار الإعداد لهذه الدراسة، ومن أجل فهم أفضل لمدى الترابط العميق بين مضمون النصوص والظروف السياسية والثقافية والظواهر الاجتماعية والاقتصادية لتلك الفترة التي كُتِبَت فيها قصائد المطوي، قمت بالبحث في صفحات بعض الصحف الأجنبيّة عن أهم الأحداث التي مرّت بها المملكة التونسيّة، والتي قد تكون أثّرت في ثقافة وتوجّهات أديبنا الشاعر، أو حرّكت مشاعره، ثمّ وسّعت دائرة البحث، تفضّلا، إلى اليوم الأوّل الذي اُعتُبِرت فيه تونس محمية لفرنسا، مالكة الجزائر. يُجمع المؤرّخون أنّ احتلال فرنسا لتونس عام 1881 حدث بسبب عجز المشير محمد الصادق باي عن تسديد ديون البلاد، فاتُّخِذ القرارُ بإعلان الوصاية الفرنسيّة إلى حين خلاص كلّ الديون بطريقة ما. ربّما كان ذلك صحيحا، غير أنّ بعض البنود التي توجد في صلب معاهدة باردو نفسِها تثير الشكّوك حول صحّة تلك الذريعة، بالإضافة إلى أنّ الصحف الغربيّة، وخاصّة الإيطالية منها، الصادرة في ذروة تلك المرحلة تقدّم وجهة نظر مختلفة وتعطي أسبابا أخرى تتعلّق بالتوازنات الدوليّة. ما حدث في تونس كان حصيلة لصراع القوى الصاعدة من أجل وراثة الدولة العثمانيّة، ونيل حصّصها من تركة السلطان العثماني السائرِ نجمه نحو الأفول. رغبة أسياد العالم الجدد في إعادة توزيع النفوذ للتوسّع والسيطرة على مجموعات واسعة من الثقافات التابعة دفعتهم إلى تقاسم ممتلكات الباب العالي بعد أن أَمِنُوا ردّة فعله وعجزه عن الدفاع عن نفسه دون اللجوء إلى توسّل تحالفات مع قيصر الرايخ الألماني(3)، زعيم إحدى الدول الصاعدة التي قضمت من فرنسا اثنين من أفضل مقاطعاتها في الشمال عام 1870. كانت ألمانيا تتوسّع في القارة الأوربيّة، وكانت الامبراطوريّة الروسيّة تتوسّع في اتجاه البحر الأسود وشبه جزيرة البلقان، أمّا الفرنسيين والإنجليز والإيطاليين فقد كانوا يقضمون أجزاءً من إفريقيا. وآلية القضم وتقسيم أراضي الأمبراطوريّة العثمانيّة بسيطة، وهي قاعدة جاري بها العمل إلى حدّ اليوم، أوّلا المطالبة برفع اليد (الاستقلال عن الدولة العظمى الآفلة) ثمّ الاستحواذ (الاحتلال من الدولة العظمى الصاعدة) حتّى لا تحدث المواجهة العسكريّة المباشرة، في المرحلة الأولى حُوّلت تونس إلى دولة مستقلّة عن القسطنطينيّة، ورد في صحيفة (Giornale di Udine) الصادرة بتاريخ 19 جانفي 1877 اقتراح تحويل تونس إلى إمارة مستقلّة، وأنّ تركيا سوف "تقدم تنازلات" بشأن هذه المسألة. وبعد سنة تقريبا، تحدّثت الصحيفة في عددها الصادر بتاريخ 06 فيفري 1878، عن توقعاتها للاستقلال الكامل لمصر وتونس، في إطار صفقة السلام التي سيتم التوصل إليها بين قوات التحالف الأرثوذكسى الشرقى بقيادة الإمبراطورية الروسية وتركيا، والاعتراف كذلك بتحييد مصر بشروط واحتياطات معينة للإدارة المالية. وتشير الصحيفة في عددها الصادر يوم 06 سبتمبر 1878، إلى أنّ إيطاليا ليس لديها خطط بالنسبة لتونس، وأن الشائعات المنتشرة تميل إلى تعكير صفو العلاقات الجيدة بين فرنسا وإيطاليا، وهي ممتازة. ولم تدم تلك العلاقة الممتازة طويلا، فبعد أن كان الحديث يتمحور حول الودّ والرغبة في "أن يمتد النفوذ المسيحي في الشرق، في حالة انتهاء الهيمنة العثمانية"(4) والاحتفاء بإبرام اتفاقيّة مع شركة روباتينو Rubittino المتعلقة بالخدمات البحرية على طول سواحل تونس وطرابلس وخط سكة حديد تونس- حلق الوادي(5)، تحولت العلاقة إلى غضب واستياء إثر تحريض الوزير فيري Ferry على شقّ التراب التونسي إلى النقطة التي يجب الذهاب إليها لضمان مستقبل الجزائر الفرنسية. المبرّر الذي ساقه الفرنسيون وأعلنوه رسميًا للبريطانيين والإيطاليين هو أنهم ذاهبون لحماية سكّة الحديد، وقمع هجمات القبائل العربيّة على طول الحدود التونسية ضد القبائل الجزائرية الأخرى، ووقف إرهابهم الذي لم يقدر الباي على كبح جماحه، واتخاذ الاجراءات اللازمة لمنع تكراره، وأنّ هذا حقّ لفرنسا لا لبس فيه، مصالحها وكرامتها لا تسمحان لها بالتسامح في ذلك، فإذا جرت عمليات عسكرية على الحدود، فسيكون ذلك لغرض وحيد وهو الدفاع عن النفس، وليس على الإيطاليين أن يقلقوا على الحكم الذاتي لتونس من خطر الاحتلال وتهديد استقلالها. وقتها شكّك بعض الملاحظين في غرض تلك الحملة العسكريّة التي دفعتها الحكومة الفرنسيّة من التراب الجزائري في إطار التدابير الاستثنائيّة، مستحضرين في أذهانهم الاتفاقيات المبرمة في مؤتمر برلين عام 1878. قيل يومها رغم التكتّم والانكار، إن المندوبين الفرنسيين والإنجليز اتفقوا على أن تحتل إنجلترا قبرص وتسمح لفرنسا في المقابل باحتلال تونس، وإذا رفعت إيطاليا أية شكوى يُطلب منها الاستيلاء على طرابلس. مشاحنات معتادة بين القبائل العربية في تونس والجزائر. فمنذ قرون، لم يمر عام دون غارات للقبائل التونسية المستقلّة عن مؤسسة السلطة مشابهة للغارة الأخيرة على الأراضي الجزائرية والتي قتل فيها بعضُ الرعايا الفرنسيين، ومقابل كل توغّل لها في الجزائر تقوم القبائل الجزائرية باثنين مثلها في تونس. ويوم أن وقّع الباي مرغما على وثيقة الحماية ورفرف علم فرنسا فوق قصره بباردو، صرخ علي بن خليفة النفاتي، والي الأعراض، في القبائل والعروش المتجمعة حوله بالجنوب: «الآن أصبحت طاعة الباي كفرا»، وأعلن عن بداية المقاومة المسلّحة، أمّا "الباب العالي" الذي لم يتمكن لضعفه من إرسال قوة مسلحة إلى تونس، فقد لجأ إلى وسيلة أخرى، وهي الدعوة إلى التمرّد وإيقاظ الهمم، لا فقط همم التونسيين وأفراد عائلة القصر، بل جميع المسلمين في شمال إفريقيا، والمهاجرين التونسيين، وذلك عبر صحيفة ذات تأثير كبير في جميع البلدان العربية(6)، وهي جريدة الجوائب التي أصدرها أحمد فارس الشدياق، صاحب أوّل رواية عربية على الإطلاق (الساق على الساق في ما هو الفارياق)، ويديرها آنذاك ابنه سليم البالع من العمر 23 عاما، وقد أوجع الفرنسيين بكلماته الحاميّة وأثّرت فيهم مقاومته بالقلم إلى درجة وجهّت حكومتهم مذكرة إلى الباب العالي تطالبه فيها بمنع الجريدة من إثارة عرب الجزائر وتونس ضد قوة صديقة له. لكن المذكرة، تقول الصحيفة(7) Gazzetta Ufficiale del Regno d Italia ، كان لها تأثير على حصول سليم أفندي على وسام عثمانية من قبل السلطان. ولم تعد إيطاليا أخت فرنسا، فقد توتّرت العلاقة بينهما وامتدّت العداوة إلى أمد طويل، بعد أنّ توضّحت الرؤيا، وتكشّفت النوايا، وثبت للإيطاليين ما كانوا منه يتوجّسون. أنجزت فرنسا ما تمّ التحضير له منذ عدّة سنوات(8)، وضمت "مستعمرة تونس" إلى ممتلكاتها الأخرى في وزارة التجارة والمستعمرات، وتقترح على إيطاليا الساخطة عليها إذا كانت ترغب بشدة في اكتساب التفوق على السواحل البربرية، فهناك طرابلس، حيث يمكنها أن تفعل ما هو مستحيل بالنسبة لها. ولكن هذه الفريسة المقتطعة من اللحم الحي للسلطان الضعيف لم تكن عادلة للطرف الإيطالي، فقد كانت القوات الإيطالية، عام 1870، على وشك النزول في تونس، وكان نابليون الثالث، في يوم من الأيام، قد عرض على الإيطاليين حماية تونس بالاشتراك مع فرنسا. وفي الوقت الذي نصح فيه بسمارك فرنسا للاستيلاء على تونس كان قد نصح إيطاليا أيضا. أشياء كثيرة تتحدّث عنها الصحف الإيطاليّة آنذاك، أغلبها يتمحور حول مصالح ونفوذ فرنسا وإيطاليا في تونس، والدعوة إلى معالجة الخلافات بينهما بالحسنى، وفيها توجد بعض الدلالات على المبرر الحقيقي لتدخّل فرنسا في تونس وممارسة الحماية عليها اقتداءً بالقوى الأخرى التي أخذت جميعها شيئًا ما، وتحقيقا لحلم نابليون الثالث عام 1863بمملكة عربية لفرنسا، وما تلك الكلمات التي استخدمت علنا، كقولهم إنّ هدف الحملة العسكرية على تونس ليس عدوانيا وإنّما هو شكل من أشكال الشرطة الإقليمية، أو أنّ هذه الحماية هي شرط لا غنى عنه لأمن الجزائر، سوى ادّعاءات جاءت في إطار الخداع لتبرير الاحتلال الكامل لها، أمّا الحقيقة فتظهر في هذا الخبر الذي نشرته إحدى الصحف، والذي يقول على لسان أحد الحكماء الإيطاليين: "دعونا نبرم معها -أي فرنسا- ومع إنجلترا التحالف الذي تم التوصل إليه بالفعل في ساحات القتال. هل ينبغي علينا المخاطرة بحرب أوروبية لصالح المخترعين المشهورين للسكك الحديدية التونسية، التي لا يوجد بها حركة مرور للمسافرين أو البضائع؟" في هذا الشاهد، تبرز النوايا المبطّنة غير المعلنة، والمبرر القويّ لمشروع معاهدة الحماية الفرنسية على تونس الذي تم وضعه في عام 1878، وفقا لرسالة برولي بعد تخليه عن منصب وزير الخارجية(9). لقد كان الاستثمار الأنجع بالنسبة إلى فرنسا هو إقامة أعمال جديدة في المناطق الداخلية من أفريقيا، ومدّ السكك الحديدية إلى مستعمراتها في غرب إفريقيا من أجل تحييد الشحن بالسفن وشراء الأراضي عبر أذرعها الاقتصادية كشركة مرسيليا للقرض التي باع لها الوزير خير الدين باشا عام 1880هنشير النفيضة(10)، ولكن النفوذ الإيطالي في تونس يقوّض دون إنجاز تلك المشاريع على أرض الواقع، بل هي تسبب في خسائر جمّة للمصالح الفرنسية مثل النكسة التي تعرضت لها الشركة الفرنسية لخط بونا قالمة. وتتهم فرنسا القنصل الإيطالي بتحريضه للباي ووزرائه ضد فرنسا، وهي لن تتسامح مع أية قوة تأخذ المركز الأول في تونس البلد القريب من الجزائر، حيث صناعاتهم ومواردهم المالية، ومصالحهم الكبيرة، وستسعى جاهدة للحصول على نفوذ حصري في تونس بشتّى الطرق. إن محاولة فرنسا بسط نفوذها في أفريقيا لا تثبتها فقط مسألة النفيضة وكل ما تفعله في تونس، ولكن أيضًا تخصيص الملايين كل عام لتمديد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ثم خطة مد خط سكة حديد عبر الصحراء إلى السنغال. لذلك، سيكون من دواعي سرور إيطاليا التوصل إلى اتفاق مع فرنسا، بحيث يتم، مع احترام الحكم الذاتي لتونس، اتخاذ الإجراءات الأكثر ملاءمة لتسريع تحسين تلك المنطقة وضمان المنافسة الحرة لكل دولة في المعاملات التجارية مع الدولة الجديدة(11). إنّه التوسع في القوة، والخوف من قيامة قرطاج. يكتب بعض الساسة الإيطاليين «إذا سُمح لفرنسا بالاستيلاء على تونس، فلن تغضب إيطاليا فحسب، بل ستتعرض مصالحها وأمنها للتهديد»، أن يصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية يخيف إيطاليا كثيرا، فمِنْ ذاك الجزء من أفريقيا، تعرضت إيطاليا للغزو مرتين. ولم تكن عبقرية كاتو المحفزة على الإطلاق هي التي جعلت قرطاج لازمتها. وحتى ذاك العام، لا يمكنها أن تتمنى أن تتحول تونس إلى قرطاج فرنسية(12). فالمسافة بين الخليج التونسي وباليرمو لا تزيد إلا قليلا عن 160 ميلا بحريا، وأنه لا يوجد أي جزء من أفريقيا أقرب إلى صقلية من الساحل التونسي. ذاك الصراع الشرس على النفوذ في تونس بين فرنسا وإيطاليا بدأ اقتصاديا بين شركات الخطوط الحديدية وأسلاك التلغراف، رمز التصنيع في ذلك الوقت، شركة روباتينو الإيطالية (Rubatino، الشركة التونسية للملاحة CTN حاليا) ومنافستها الفرنسيّة بون قالمة(13) (Bône-Guelma)، وانتهى دمويا في فترة الفاشيّة، خلال الحرب العالميّة الثانية، في فترة شباب المطوي. ولاشكّ أنّ شاعرنا قد لاحظ كيفيّة تشكّل المجتمع الأبيض في تونس، وسيطرته على مفاصل أجهزة الدولة الاقتصادية والثقافيّة في إطار ما يزعمون أنّه عمليّة غراسة الحضارة المنتجة في التربة التونسية. ويبدو أن هذا التدريب على إكساب التونسيين سمات الحضارة كان مكلفا جدّا، فبعد وقت قصير من الاحتلال، أصبحت تونس مزرعة سمينة وساذجة لرأس المال الفرنسي المضارب والعمل الإنتاجي الإيطالي. أمّا سكّان البر التونسي فهم على الهامش، غرباء في أرضهم. كما يظهر ذلك في القصيدة التي تحمل عنوان "سَلِي" والمخاطَب هنا هي تونس. لقد كانت البلاد التونسيّة في تلك الفترة تعاني من التخلّف الاقتصادي والتقني والوهن السياسي، والتدخلات الأجنبية. تتناحر على أراضيها القبائل العربيّة، ويتملّك الفرنسيون عقارات شاسعة بفضل بيع وشراء الزهور(14) وتنتصب مستعمرات إيطالية ومالطيّة(15) في السيادة التونسية لكسب الثروة، وتقف في موانيها، حلق الوادي وصفاقس، سفن حربيّة إيطالية متأهّبة غير معترفة بالحماية الفرنسية، ومع رفع العلم الفرنسي في الموانئ الرئيسية لتونس، واستسلام الباب العالي للأمر الواقع وامتناعه عن إرسال قوات إلى طرابلس، تُثار أسئلة معقّدة كثيرة وشكوك حول وجود صعوبات حقيقية واجهها المحتل الفرنسي في تونس باستثناء صدمة المواجهة الاولى وممانعة القوى المهيمنة. تلخّص المقالات التي نشرت في أعداد الصحيفة الإيطالية إل بيكولو دي تريستا (Il Piccolo di Trieste) لعام 1938، هيمنةَ الدول الاستعمارية وتأثيرَها السياسي والاقتصادي على المملكة التي كان يحكمها باي تونس. وتظهر بوضوح العلاقة المتوتّرة بين الفرنسيين والإيطاليين وصراعهما حول الأرض التونسيّة في غياب تام لردّة فعل أصحاب الأرض الحقيقيين، سكّانها الأصليين، تشير تصريحات مسؤولي إيطاليا الفاشية، إلى أنّ المعاهدة المفروضة على الباي، والقانون العام الذي سنأتي على ذكر بعض بنوده لاحقا، يستهدفان بسوء نيّة مصالح الإيطاليين في تونس، حيث لديهم أكثر من 14 ألف مواطن، مبدين رفضهم لمعاهدة تسوية القضايا الفرنسية الإيطالية، في تونس باعتبار تاريخهم الطويل هناك وحقوقهم المشروعة في أراضيها، فهم الأسبق في احتلالها سائرين على خطى روما منذ أوائل العصور الوسطى، وهم الذين جلبوا لها الجبن، ونقلوا لها الحضارة من أوربا. ونصّبوا عليها محاكم قنصلية صقلية، ووسعوا نطاق اختصاصها حتى على الأجانب. وفي وقت لاحق، في القرن السادس عشر، شارك سكان بعض المقاطعات في التجارة مع تونس واستقروا على أراضيها كصيادين وتجار. منذ بداية القرن التاسع عشر، زادت تدفقات الهجرة الجماعية من إيطاليا: خاصة من الجزر والمقاطعات الجنوبية. وعلاوة على ذلك، كانوا هم من بدأ في إدخال وسائل الإعلام الحديثة إليها. . لقد عاش السكّان الأصليون حياة عاجزة، ومقاومة ضعيفة، فمنذ فيفري 1882، أي بعد حوالي عشرة أشهر، هدأت الأوضاع في تونس كلّها. وعادت قبيلة الهمامة بأكملها، التي تضم ألف خيمة، إلى أراضيها ودفعت الضرائب. (16) فما هي أسباب ذلك؟ هل اعتادوا على الاستبداد الشرقي كما زعم كاميلو بيليتان حين ناقش في مجلس النواب الفرنسي، الصعوبات التي تواجه تنفيذ معاهدة باردو التي يراها غير قابلة للحل؟(17) ألم تكن للثقافة الاستعمارية دور هام في هذا التدجين والترويض للتونسيين؟ ستكون هذا الأسئلة نقطة إنطلاق جيدة للبدء في البحث بشكل أعمق في هذا الأمر، مستندين إلى ما يلوح لنا من وعي بالمقاومة الثقافية المنبثقة في خلفية المقاومات الأخرى في قصائد محمد العروسي المطوي. ********************** الهوامش: (1) المطوي، محمد العروسي. "فرحة شعب، شعر من لهيب الكفاح"، المجلد الأول من الأعمال الكاملة، منشورات زخارف، 2021، ص12. (2) بن مراد، إبراهيم، مقدمة الأعمال الكاملة لمحمد العروسي المطوي، المرجع السابق، ص10. (3) تقول صحيفة Gazzetta Ufficiale del Regno d Italia del 1881-12-02 n. 281 في عددها 281 الصادر بتاريخ 02 ديسمبر 1881 أنّ برقية من القسطنطينية تقول المندوبين اللذين يحملان الوسام الذي منحه السلطان للإمبراطور فيلهلم، مكلفان بالتفاوض بشأن تحالف حميم بين تركيا وألمانيا. (4) راجع صحيفة La Patria del Friuli العدد الصادر بتاريخ 19 جوان 1880. (5) راجع صحيفة La Patria del Friuli العدد الصادر بتاريخ 16 جويلية 1880. (6) راجع العدد 248 من صحيفة Gazzetta Ufficiale del Regno d Italiaالصادرة بتاريخ 24 أكتوبر 1881. وفي العدد 272 الصادر بتاريخ 22 نوفمبر 1881، تشير الصحيفة إلى تحريض صحيفة الجوائب التي تصدر من الاستانة العليّة على الثورة ضد الفرنسيين. (7) راجع العدد 298 من صحيفة Gazzetta Ufficiale del Regno d Italiaالصادرة بتاريخ 23 ديسمبر 1881. (8) في العدد 291 من صحيفة Gazzetta Ufficiale del Regno d Italia الصادرة بتاريخ 15 ديسمبر 1881، يقول بارتيليمي سان هيلير، في شهادته لصالح روستان، إن أسباب الحملة التونسية سبقت وزارته. تم التوقيع على معاهدة قصرالسعيد في 12 ماي، لكن الفكرة كانت موجودة قبل فترة طويلة من وزارته. (9) أنظر العدد 262 من صحيفة Gazzetta Ufficiale del Regno d Italia الصادرة بتاريخ 10 نوفمبر 1881. (10) يعتبر محمد العفيف الجعيدي، في مقاله "هنشير النفيضة: لأجله كان قانون التسجيل العقاري في تونس وفيه ظهر وهنه"، مصدر متاح على الأنترنيت، أنّ "لهذا العقد أثر كبير على مصير تونس، بحيث شكل استيلاء الشركة الفرنسية على هنشير النفيضة المدخل لإعلان الحماية الفرنسية لتونس. فقد استنجدت المالكة الجديدة بالقوة الفرنسية لكي تتمكن من فرض سلطتها على أرض الواقع، وهي الخطوة التي حسمت صراع القوى الاستعمارية حول تونس وأوجدت المبرر لاستيلاء فرنسا عليها سنة 1881 (بعد سنة واحدة من شراء الأرض) تحت مسمى "الحماية الفرنسية للايالة التونسية". (11) أنظر صحيفة La Patria del Friuli العدد الصادر بتاريخ 10 أوت 1880. (12) أنظر صحيفة Gazzetta di Venezia لشهر مارس 1880. (13) شركة السكك الحديدية وملحقاتها بون قالمة هي شركة فرنسية محدودة أنشئت عام 1875 لبناء وإدارة خطوط السكك الحديدية في الجزائر وتونس. مع بداية القرن العشرين، تطلب تطور إدارة السكك الحديدية من قبل الإدارة الفرنسية في تونس والجزائر تغييرا في سير عمل الشركة. وفي عام 1923، أصبحت الشركة الفلاحية للسكك الحديدية التونسية. وهي الشركة التي أنجزت الخط الذي يربط تونس بالشبكة الجزائرية، تونس-غار الدماء ما بين 1878 و1880، وطوّرت شبكتها في الجزائر بطول 449 وفي تونس بطول 1205 كلم، وتم ربطه ببنزرت في 1894، وأضيف إليه طريق ماطر-باجة في 1912 وفرع ماطر-طبرقة في 1922. وحصلت شركة بون قالمة على الامتياز خط السكة الحديد من تونس إلى سوسة، الوطن القبلي، نابل، القيروان والمكنين، استكمل بالخط من جسر الفحص إلى ريلان عام 1906، الخط من سوسة إلى هنشير السواتر عام 1909. ويرتبط بالشبكة عن طريق خط سوسة-صفاقس. شركة الفسفاط و السكة الحديد بقفصة سنة 1911. (14) راجع صحيفة Il Popolo del Friuli الصادرة بتاريخ 22 فيفري 1938. (15) راجع صحيفة La Patria del Friuli بتاريخ 28 جويلية 1880 حيث نجد فيها أن مهمة السير أ. دينجلي في تونس مماثلة لتلك التي نفذها في قبرص أي التمهيد لهجرة المالطيين إلى تونس. تشكيل مستعمرة مالطية هناك تحسبا لكل طارئ. (16) انظر العدد 028 من صحيفة Gazzetta Ufficiale del Regno d Italia الصادرة بتاريخ 02 فيفري 1882. (17) أنظر العدد 283 من صحيفة Gazzetta Ufficiale del Regno d Italia الصادرة بتاريخ 05 ديسمبر 1881، حيث يضيف "سوف تولد المحمية صعوبات بلا عدد، وستكون هناك حاجة إلى فيلق احتلال دائم، وتساءل: ماذا سيفعل مع هؤلاء السكان الذين اعتادوا على الاستبداد الشرقي؟ فهل ترغب فرنسا في دعم المؤسسات المتهالكة؟"
#فتحي_البوكاري (هاشتاغ)
Boukari_Fethi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشعبويّة في السلطة: تهديد أم تصحيح للديمقراطية؟
-
أدب الأطفال في العصر الرقمي: دراسة السرد التفاعلي في كتب الأ
...
-
مناورة
-
في موقد تحت التحميص
-
الأدب في عصر العلم والتكنولوجيا
-
علاقة المثقّف بالسّلطة السياسية: رواية الكاتب البوهيمي المتع
...
-
غربة
-
تأثير أفكار ابن خلدون في الحضارة العربية والغربية
-
طوفان العصر(*)
-
إنعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون- لسمير ساسي (2)
-
انعكاس الخطاب السياسي في رواية -المغتصبون-(1) لسمير ساسي(2)
-
غزّة، يا كبدي!
-
خبزة البصّيلة
-
علاقة الذات بالمكان في رواية: رقصة أوديسا، مكابدات أيّوب الر
...
-
حوار مع أبي يعرب المرزوقي
-
الممثل
-
يا جابر الحال
-
خنساء لمحمد عز الدّين الجّميل، رواية أوجاع الذاكرة
-
الزحف
-
فصول نحوية
المزيد.....
-
الشاعر والكاتب وفائي ليلا ضيف برنامج حكايتي مع السويد
-
بعيدا عن الأفلام.. كاميرون دياز تتحدث عن أفضل فترات حياتها
-
عاجل..وفاة الفنان فكري صادق وموعد صلاة الجنازة عليه اليوم
-
وفاة الفنان المصري الكبير فكري صادق (صورة)
-
وفاة عرّاب السينما الأميركيّة ديفيد لينش
-
أغنية -Sigma Boy- الروسية تدخل قائمة Billboard الشهيرة
-
فنانة رقمية سعودية تتخيل ما سيبدو عليه العيش داخل كهوف العلا
...
-
مصر.. الفنانة نيرمين الفقي ترصد مكافأة مالية لـ-قاتل الكلاب-
...
-
صدمة في بوليوود.. فنان هندي شهير يتعرض للطعن أثناء ردعه متسل
...
-
الفنان السوري باسم ياخور يتحدث عن موقفه من العودة إلى سوريا
...
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|