|
شقشقة عراقية 3
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8225 - 2025 / 1 / 17 - 12:43
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
والعراقيون شغوفون بحب الشخصيات، ففي السابق كان العراقي يعجب بشخص الحاكم بمجرد كونه على سدة الحكم، وصار بعض الحكام، وفق رؤيا العراقيين، آلهة. واستساغ الحاكم هذه الفكرة، وكهنة المعبد أيضًا، فتم ترسيخها ، وبناءً على ذلك، اخترعت أسطورة الأنوناكي، ومن الغريب أن البعض حاليًا يصدق أن الأنوناكي أتوا من الفضاء. ومن المؤكد أن من صدّق هذا الكلام متأثر بما كتبه زكريا سيتشين، ونظرية هذا الأخير من السخافة بحيث لا يمكن مناقشتها. وتذكر قائمة الملوك السومريين أن الملكية نزلت من السماء لأول مرة قبل الطوفان على مدينة أريدو، ثم رفعت إلى السماء، ثم نزلت من السماء مرة ثانية على مدينة كيش بعد الطوفان. وبناءً على هذا، سيطرت سلسلة من الحكام على مصائر الناس في بلاد سومر نيابة عن الآلهة. وبذلك كان الملوك السومريون يتمتعون بهالة القدسية منذ أقدم العصور، وكانوا يتلون بآلهة في المرتبة، وهم ظل الآلهة على الأرض ، وهذه الفكرة بقيت مسيطرة على الأذهان لقرون عديدة، وانتقلت إلى مجتمعات أخرى كمصر وفارس، بل وحتى اليونان، ومنها انتقلت إلى الفكر المسيحي فيما بعد.
والعراقي بطبيعته يعشق الحاكم القوي، ويتندر ويسخر من الحاكم الضعيف ، بل إن في الدين الشعبي العراقي أن السيد الذي لا يشرب يسمى أبا الخرگ ، وكلمة (يشور) جاءت من الشخص الذي تُقبل مشورته، وليس من الإشارة، ولو أن المتعارف عليه في التراث الديني أن حاكمًا عثمانيًا ورد عنه مقولة (الحر تكفيه الإشارة)، وهي عن مقام الحر الرياحي في قصة معروفة لها دلالاتها الواضحة. ويبدو أن ضعف الشخصية العراقية هو الذي يسمح للآخرين بالتحكم والسيطرة ، ضعف الشخصية نتيجة لأن الفرد العراقي لا يملك وسائل إنتاجه ، فهو أي عراقي يعمل فلاحًا عند الإقطاعي، وهو يجلس في مضيف شيخ العشيرة يستمع إلى أوامر الشيخ، ومهما بلغت الدرجة العلمية والاجتماعية لهذا الفرد، فإنه يكون مطيعًا لشيخ العشيرة وإلا طُرد منها، وهنا سيكون مُتاحًا للاعتداء من الآخرين. لذا فإن شيخ العشيرة مقدسٌ مثلما صاحب الأرض الإقطاعي مقدسٌ لأنه يملك، والفلاح لا يملك ، وحتى بعد ظهور النفط، فإن التقديس تحول ليس إلى الدولة بل إلى الحاكم الذي يعطي ويمنح المكرمات ، لذلك، فإن العراقي لا يُحبذ العمل الخاص، بل يفضل أن يعمل موظفًا في الحكومة ويقبض راتبه، حتى لو كان العمل الحر يدر مالًا أكثر من الوظيفة الحكومية. وظيفة ( الگلیط ) تمثل حالةً لا شعوريةً في البحث عن شخصٍ يحمي ويُغطي ويُدافع ، ولأن العراقي لا يحترم الحكومة ولا يؤمن بمبدأ فرض القانون، فإنه يبحث عن فرض إرادته عن طريق شيخ العشيرة والگلیط ورجل الدين مقابل... ، عدم احترام الحكومة لا يعني أنه لا يخافها، بل على العكس. لكن في فترات ضعف الحكومات، يلعب العراقي لعبته الخاصة، حاله حال أي إنسان على وجه الأرض. وعلاقة العراقي بالحاكم علاقة جدلية، فهو يحسده ويبغضه في داخله لكنه يهتف له بالعلن، سواء كان هذا الهتاف ناتجًا عن خوف أو تملق، ويظهر انتقام العراقي من الحاكم بتدمير الممتلكات العامة وتخريبها، فهو يعتقد بأن كل هذه الممتلكات ملك للحاكم وليست ملكًا له ، والعراقي يعتقد أن علاقته بشيخ عشيرته أو الإقطاعي أو رجل الدين أقرب أو أهم من علاقته بالحاكم، حتى لو كان في سرّه يرى أن منصب هذا الحاكم جاء بترتيب إلهي وليس بشري ، لأنه يوجد اعتقاد خفي بأن أي حاكم لا يكون حاكماً إلا إذا كان اسمه مكتوباً في قائمة الحكام في العلم الإلهي ، ومن الخطأ أن يظن البعض أن هذه الفكرة أتت من الاتجاه الجبري في الفلسفة الإسلامية أو بتلقين من رجال الدين، بل هو اعتقاد راسخ منذ قائمة الملوك السومريين التي نزلت من السماء.
شخصية الإمام عليّ جعلت العراقيين يعجبون به لدرجة أن البعض منهم عدّه إلهاً، ويروى أن الإمام عليّ أحرقهم. وإن كانت هذه الفكرة ما زالت موجودة عند البعض حتى الآن، فهذا تناقض واضح مع الدين المحمدي الأصيل. ولتأكيد بشرية علي بن أبي طالب، فإنه أجاب أحدهم حينما سأله عن أصله فقال: نحن قوم من كوثى.
وتجسّد حب العراقيين للشخصيات البشرية في تقديسهم للسادة من نسل الإمام علي، ونسبوا إليهم بعض الخوارق. ومن يذهب إلى قرى الأرياف الجنوبية يجد عشرات المراقد للسادة، دفنوا في نفس المكان الذي ماتوا فيه مثل سيد دخيل وسيد يوشع والسيد ابو الماش والسادة آل ابو غنيمة والسيد التاج والسيد العكار وابو الرايات والسيد ادريس وغيرها الكثير، وهذه المراقد تمثل راحة نفسية وروحية لزائرها، فالزائر إليها يطلب المراد ويسعى إلى تحقيقه بقدرة الله، وهكذا. ويظهر أن في القرن العشرين كان لعبد الكريم قاسم وصدام حسين النصيب الأكبر في تقديس الشخصيات السياسية ، ومن المؤكد أنهما رسّخا هذه الفكرة لدى العراقيين، ولو مد الله بعمر قاسم لرأيناه يسير بنفس سيرة صدام، لكن شاء الله أن يقتل قاسم على يدِ مَن سامحهم ذات يوم، وعلى سبيل المثال، يذكر الكاتب زيد خلدون جميل في مقالٍ، مستذكرًا حواره مع أستاذ جامعيّ يُروّج لحكاية أسطوريّة عن نجاة الزعيم من محاولة اغتيال عام 1959، مفادها: إن ملاكا حرس الزعيم ذلك اليوم، إذ يقول الراوي : بعد فرار منفذي محاولة الاغتيال، فتح الجمهور باب السيارة وشاهدوا بداخلها رجلاً أبيض اللون والشعر، مرتدياً معطفاً أبيض، وهو يحتضن عبد الكريم قاسم، مغطياً إياه تماماً، وبهذا الشكل حماه من وابل الرصاص الموجه إليه. فقد كان ذلك الرجل ملاكا مرسلا. وبسبب عدم وجود قبر محدد له، يمكننا فهم حكايات عن عدم مقتله، إذ شاعت عدة حكايات عن ظهور الزعيم وهو يقاتل في الأهوار مرة، وفي مناطق أخرى من العراق مرات أخرى، وصولاً إلى الحكاية الأكثر شهرة التي روّجها محبوه، والتي تحكي رؤيتهم صورته منعكسة على القمر ، وهذا القمر أيضًا، ادعى البعض أن وجه صدام ظهر عليه، وهذه الفكرة ظهرت بعد غزو الكويت. ، وصدام أعاد إلى الأذهان الفكرة العراقية القديمة حول تقديس الشخصية، بل وصل إلى مرحلة أن يوعز إلى بعض رجال الدين بكتابة الأسماء التسعة والتسعين لصدام حسين، وأمر بكتابة المصحف الكريم بدمه النجس، فتصور غرابة وقبح شخصيته. وتقديس الشخصيات يجعل أي انتقاد لها يعرض صاحبه للقتل في بعض الأحيان، حيث يصل التقديس إلى درجة أن هذه الشخصية تمثل المخلص أو المنقذ، أو هو الوحيد القادر على تقديم الحلول، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يقرر كيف يكون الماضي والحاضر والمستقبل.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شقشقة عراقية ( 2)
-
شقشقة عراقية
-
ظهيرة سوق البصرة القديم
-
شذرة 15 الدين والتحريم
-
شذرة 14 الدين والأخلاق
-
حسين منه وهو من حسين
-
شذرة 13 الارادة الانسانية
-
شذرة 12 العقيدة والانسان
-
غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
-
ليس شعرا بل واقعة حدثت
-
شذرة 10. الفرق الإسلامية/ التوافق والاختلاف
-
شذرة 11 الدين والحرب
-
شذرة 9 نظرة إلى التراث
-
شذرة 7
-
عبد الإله منشد المحمداوي وملحمة يمحمد
-
شذرة 6 النص والنسخ
-
شذرة 5
-
شذرة 4
-
فيصلية الروح
-
في شارع بشار
المزيد.....
-
حرائق لوس أنجلوس.. دمار كارثي وانهيارات أرضية تهدد السكان
-
-نيويورك تايمز-: ترامب سيتصرف كمُتنمّر على الساحة الدولية
-
روسيا وإيران تعززان التعاون الاستخباراتي والأمني
-
وزير الخارجية القطري ردا على الانتقادات ضد بلاده: كانت هناك
...
-
براد بيت المزيف يحتال على سيدة فرنسية ويسرق منها مليون دولار
...
-
هل سيكون تسليم أحمد المنصوري ثمنا لتطبيع العلاقات بين دمشق و
...
-
العالم التونسي الذي قرب البشرية من الشمس يتحدث لترندينغ
-
روسيا تنقل عتادا عسكريا من سوريا إلى ليبيا بعد سقوط الأسد ..
...
-
فرنسا ولبنان: بين خطاب العواطف والنفوذ الفعلي
-
المشروبات السكرية مسؤولة عن ملايين الإصابات بالسكر وأمراض ال
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|