|
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية: صعود قوى اليمين المتطرّف والإعداد الحثيث للحرب
جيلاني الهمامي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8225 - 2025 / 1 / 17 - 03:47
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية: صعود قوى اليمين المتطرف والاعداد الحثيث للحرب
يعيش النظام الرأسمالي العالمي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي على وقع سلسلة من الازمات المتعاقبة والمتلاحقة كانت أزمة خريف 2008 واحدة من أخطرها. ورغم كل المساعي والإجراءات التي اتخذتها الحكومات البرجوازية ورغم والأموال الطائلة التي ضخّتها البنوك المركزية فإن ذلك لم يمنع من أن تستمر الازمة وتبلغ في السنوات الأخيرة درجة من التعفن غير مسبوقة في كل المستويات تقريبا، الاقتصادية والمالية والنقدية والسياسية والديبلوماسية والعسكرية والاجتماعية والبيئية الأمر الذي أذكى المجادلات الفكرية والنظرية والسياسية حول ظاهرة الأزمة في المنظومة الرأسمالية العالمي وخصائصها الراهنة والتهديدات التي تنجر عنها على قوى الإنتاج والشعوب وعلى البيئة والطبيعة وحتى وجود الجنس البشري.
هل كان ماركس على حق؟ لقد احتدم الجدل حول تفسير أسباب الازمة ودوافعها من جهة ولكن أيضا حول سبل معالجتها والخروج منها. وفي هذا الصدد ظهرت عشرات إن لم نقل مئات المقاربات يمكن تصنيفها في معسكرين كبيرين يرى الأول أن المضاربات المالية والتي شهدت تطورات مذهلة منذ بداية الألفية الحالية هي المتسببة في الأزمة فيما يرى المعسكر الآخر العكس ويفسر الأزمة تماما كما قال ماركس " تكمن الأصول النهائية لجميع الأزمات في الاقتصاد "الحقيقي" للإنتاج والتبادل". (1)
اللافت للانتباه في هذا الجدل المحتدم الذي أنتج أدبا غزيرا هو عودة كارل ماركس بقوة إلى حلبة الصراع الفكري والنظري، وعودة مقولاته في تفسير أزمة النظام الرأسمالي إلى الرواج إلى درجة أن تبناها الكثير من خصومه مثل أتباع كينز Keynes والكينيسيون الجدد néo keynésiens وما يسمى بـ"الراديكاليون" وحتى طائفة من اقتصاديي ما يسمى بـ"علم الاقتصاد السائد" أي علماء الاقتصاد الليبراليين والليبراليين الجدد.
صحيح أن تحاليل ماركس كانت تتعلق بنمط آخر من الرأسمالية – إذا صح التعبير – أي رأسمالية مازال الإنتاج الزراعي يتمتع فيها بقوة كبيرة ومازالت الصناعة في بداياتها والسوق العالمية الوليدة لم تبلغ ما بلغته اليوم العولمة من اندماج كل بلدان العالم وانصهارها في منظومة موحدة كما يقول الاقتصادي الأمريكي خوسيه تابيا في كتابه "الازمات الست للنظام الرأسمالي"لدينا اليوم اقتصاد عالمي رأسمالي، اقتصاد يشمل الكرة الأرضية برمّتها،[...] يبدأ الأمر في نهاية القرن التاسع العشر، لكنها المرّة الأولى في التاريخ البشري التي يوجد فيها نظام تاريخي واحد فقط على الكوكب في وقت معيّن. وهذا يغيّر أشياء كثيرة" (2).
ولكن استيعاب ماركس للقوانين التي تحرك النظام الرأسمالي خوّل له منذ حوالي مائتي سنة تقريبا إدراك عواقب هذه القوانين حيث قال (بمعية فريديريك انجلز) في البيان الشيوعي "وفي الأزمات يتـفـشّى وباء مجتمعيّ ما كان ليبدو، في كل العصور السالفة، إلاّ مستحيلا، وهو وباء فائض الإنتاج. فإن المجتمع يجد نفسه فجأة وقد رُدَّ إلى وضع من الهمجية المؤقتة، حتى ليُخيَّل أنّ مجاعة وحرب إبادة شاملة قد قطعتاه عن وسائل العيش؛ فتبدو الصناعة والتجارة وكأنهما أثر بعد عين، ولماذا؟ لأن المجتمع يملك المزيد من الحضارة، والمزيد من وسائل لعيش، والمزيد من الصناعة، والمزيد من التجارة. ولم تعد القوى المنتجة، الموجودة تحت تصرّف المجتمع، تدفع ينمو علاقات الملكية البرجوازية قُدُما، بل بخلاف ذلك، أصبحت أقوى جدا من هذه العلاقات التي باتت تعيقها؛ وكلما تغلبت على هذا العائق جرّت المجتمع البرجوازي بأسره إلى الفوضى، وهددت وجود الملكية البرجوازية. فالعلاقات البرجوازية غدت أضيق من أن تستوعب الثروة، التي تُحدثها. فكيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات؟ من جهة بتدمير كتلة من القوى المنتجة بالعنف، ومن جهة أخرى بغزو أسواق جديدة، وباستثمار الأسواق القديمة كليّا. وما هي عاقبة هذا الأمر؟ الإعداد لأزمات أشمل وأشدّ والتقليل من وسائل تدارُكها" (3).
لقد تأكد من خلال الكثير مما صدر من الإنتاج الفكري والنظري في العلوم الاقتصادية أن الرأسمالية في عصرنا الراهن أو ما أسماه البعض بـ"رأسمالية القرن 21" والتي جرى العمل على إبرازها كظاهرة اقتصادية ذات خصوصيات مختلفة عما سبقها قبل التطورات العلمية والتقنية الجديدة، لا تخرج في الحقيقة مهما كانت هذه الخصائص الجديدة عن القوانين الأساسية التي توقّف عندها ماركس بالتحليل منذ كتاباته الأولى "نظريات فائض القيمة" (1860 – 1861) والتي أثراها لاحقا في كتابه رأس المال. وكان على منظرو الاقتصاد السياسي البرجوازي رغم كل المحاولات و"التقليعات" النظرية أن يعترفوا بهذه الحقيقة التي لم يتمكنوا من دحضها. ومن بين من تعمّقوا في تأكيد هذه الحقيقة العلمية الاقتصاديان Guglielmo Carchedi وMichael Roberts صاحبا كتاب "الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين من خلال منظور القيمة" (إلى جانب كتابات أخرى) (4) الذي بينا فيه أن التطورات العلمية والتقنية الجارفة التي يعرفها مجتمع اليوم (الرقميات وعلوم الاتصال والعملة المشفرة الخ...) والاتجاه نحو مزيد الاكتشافات والاختراعات التي من شأنها أن تحدث تغييرات عميقة أخرى في النشاط الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية لا تتطلب بالضرورة من الناحية الاقتصادية (وبالخصوص لتفسير أزمة النظام الرأسمالي) نظرية جديدة. واعتبرا أن نظرية القيمة التي طوّرها كارل ماركس تمثّل "الإطار التحليلي الثاقب" للتعاطي مع عديد القضايا المميزة للاقتصاد الرأسمالي العالمي الرّاهن مثل أشكال تنظيم العمل وتقنيات الإنتاج والذكاء الاصطناعي وتبعاتها على العلاقات الاجتماعية (الطبقية) وقضايا البيئة وبشكل عام التحولات التي تشهدها الرأسمالية في عصر الاحتكارات في صيغها الحالية وغيرها.
إن جوهر نقد ماركس لأزمة الرأسمالية ينبني على نقده للتناقض الدائم بين الطابع الاجتماعي للعمل والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من جهة ومن جهة أخرى على نقده لنمط انتاج فائض القيمة وسيرورة تحقيق الأرباح والتراكم الرأسمالي وميل معدل ربح الشركات إلى الانخفاض. وهو ما باتت تقر به طائفة واسعة من علماء الاقتصاد في الغرب الرأسمالي ويعلنون بصوت عال "لقد كان ماركس على حق".
أكثر من ذلك ما عاد الكثير منهم يتحرج من الاعتراف بأن هذه المنظومة قد شاخت ورغم ما يبدو عليها من مظاهر القوة والعظمة، فقد دبت إليها الكثير من علامات الهشاشة تسعى البرجوازية بشكل محموم إلى التغطية عليها عبر طائفة لا محدودة من الدعايات والتنظيرات ولكن أيضا بالتلويح بـ"الحرب" والحرب النووية كآلية لتدمير فوائض الإنتاج وأجزاء كبيرة من القوى المنتجة (الشعوب) في محاولة لختم دورة من دورات التراكم والنمو وانطلاق دورة جديدة على أنقاضها يجري فيها التراكم الرأسمالي متحررا من كل العوائق والاكراهات.
تلك هي واحدة من "الحلول" الاساسية الجاري إعدادها لمعالجة الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي العاملي والتي تتمظهر بشكل بارز في ظاهرتين في أعلى درجات الخطورة وتذكرنا بأكثر الفترات قتامة في تاريخ الحضارة الرأسمالية المعاصرة. ففي العشرينات من القرن الماضي وإلى غاية منتصف القرن عرفت الرأسمالية أزمة حادة (الركود الأعظم سنة 1929) الذي شكل الحاضنة الاقتصادية والاجتماعية لتفريخ الفاشية والنازية والدافع الأساسي لاندلاع الحرب العالمية الثانية. واليوم وفي صورة مشابهة لتلك الفترة يقر الجميع بأن الأزمة الراهنة بصدد إفراز نفس الافرازات وهي صعود اليمين المتطرف واتساع هيمنته على الساحات السياسية في أمريكا وأوروبا وأسيا من ناحية والسعي الحثيث لإعداد حرب كبرى ويتجلى ذلك في تصاعد أعمال التحرش العسكري في أكثر من مكان في العالم والتسابق الجنوني نحو التسلّح وتطوير وسائل تقنيات الفتك.
أزمة الرأسماليّة اليوم وغدا بصرف النّظر عن هذا الجدل حول أسباب أزمة الرأسماليّة فإنّ ما لا يمكن نكرانه أو تجاهله هو أنّ النّظام الرّأسماليّ مرّ في السّنة المنصرمة 2024 – والحقيقة منذ سنوات – بأزمة حادّة وعميقة. ومن المرجّح، بل من الثّابت حسب كلّ تقارير ودراسات كبريات المؤسّسات والهيئات الاقتصاديّة والماليّة العالميّة أن تسير الأمور في نفس الاتّجاه في العام الجديد. وقد أكّد البنك العالمي ذلك في تقريره بالقول ""تباطأ الحدّ من الفقر المدقع في العالم إلى شبه توقّف، حيث من المقرّر أن يكون 2020-2030 عقدا ضائعا" (5). وفي نفس الاتجاه يتوقّع صندوق النّقد الدّولي أنّ الاقتصاد العالميّ سيعرف نسبة نموّ ضعيفة لا تتجاوز 3 % وهي النّسبة الأضعف منذ عقود من الزّمن. وجاء في تقريره "أنه في حين ستستمرّ الولايات المتحدة في قيادة الطريق في النموّ بين الاقتصادات المتقدّمة في عام 2025، فإن ّنموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة سوف يتباطأ إلى 2.2٪ في عام 2025، في حين ستكافح بقية دول مجموعة السّبع للوصول إلى أكثر من 1٪ سنويا. ربما لا يزال الاقتصاد الأمريكي يتوسّع ولكن ليس قطاعه الصناعي، الجزء الإنتاجي. لقد انكمش الإنتاج الصناعي في عام 2024، كما حدث في جميع الاقتصادات الكبرى" (6).
وقد أيّد تقرير صادر عن الأمم المتّحدة تداولته وسائل الإعلام يوم 9 جانفي الجاري هذه التوقعات بل وأكّد "أن يظلّ النموّ الاقتصادي العالمي عند نسبة 2.8 % في عام 2025 دون تغيير مقارنة بالعام الماضي، مما يعكس ضعف الاستثمار وتباطؤ نموّ الإنتاج وارتفاع مستويات الديون" (7).
يقول الاقتصادي مايكل روبرتس "على الأرجح أن يظل النمو في أوروبا واليابان في العام 2025 قريبا من الركود. وكذلك الأمر في كندا وأستراليا. كما أن النمو الاقتصادي والتوسع التجاري في كل دولة من دول “البريكس” سيكونان أبطأ مما كانا عليه في عام 2024. لذا، بدلا من بداية العشرينيات الصاخبة في عام 2025، من المرجح أن يكون ذلك استمرارا للعشرينيات الفاترة للاقتصاد العالمي" (8).
سيتعيّن على العالم إذن أن يخضع مرة أخرى لسنوات طويلة لظروف أسوأ تتميّز بتباطؤ كبير في النمو ّالاقتصادي جرّاء أزمة الإنتاج في جميع القطاعات وخاصة قطاع الصناعة وشحّ الاستثمارات وتفاقم المديونيّة على نطاق واسع ومديونيّة اقتصاديات الجنوب خاصة وارتفاع نسب التضخّم وأسعار الموادّ الأساسيّة والمواد المصنّعة على حدّ سواء واشتداد أزمة الغذاء في العالم وانتشار الفقر والبؤس وهشاشة الشّغل وارتفاع معدّلات البطالة وتعمّق الفوارق بين الطّبقات وبين الجهات والبلدان. هذا ما اتّفقت عليه كلّ التقارير تقريبا وفي مقدّمتها تقرير منظمة العمل الدولية المتعلق بتطور الأجور والمقدرة الشرائية في العالم منذ جائحة الكوفيد.
لكن وفي مثل هذه المناخات التي هي بصدد تأجيج المنافسة والصراعات بين الاحتكارات وبين القوى الاقتصادية الرّأسماليّة العظمى بدأت تنشأ عوامل أخرى تبعث على توقع خطرين كبيرين إضافيين هما أولا حرب التعريفات القمرقية وعودة السياسة الحمائية وبالتالي ركود التجارة العالمية وثانيا ظهور بوادر أزمة مالية عالمية جديدة. الخطر الأول ناجم عن السّياسة المنتظر اتّباعها من طرف الإدارة الامريكيّة الجديدة بقيادة الشّعبوي دونالد ترامب الذي لوّح بالزيادة في التعريفات الجمركية على واردات السلع وهو ما من شأنه أن يسرع في تراجع العولمة وركود التجارة العالمية والإضرار باقتصاديات الجنوب خاصة. واعتبرت شركة "كابيتال ايكونوميكس" "إن هذا قد ينتهي بحرب تجارية عالمية، على الرغم من أنها قد تتخذ أشكالا عديدة، إلا أنها قد تخفّض من2 إلى 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي"
في نفس الاتجاه رسم تقرير بلاك روك الامريكي Black Rock، أكبر صندوق استثماري في العالم، توقّعاته بشكل مباشر للعام القادم ولبقية العشرية ككل فقال: "كان عام 2024 عاما انتخابيا رئيسيا وعقابا للحكومات الحالية. أعرب الناخبون عن إحباطهم، وعلى الأخص بشأن ارتفاع تكلفة المعيشة بعد الوباء، ولكن أيضا بشأن قضايا مثل الهجرة. وشهدت العديد من البلدان الآن إمّا تغييرا في الحكومة أو تآكلا في دعم الحزب الحاكم. يمكن أن تظل الرغبة في التغيير السياسي والاقتصادي قوى دافعة في عام 2025. في الولايات المتحدة، تعني سيطرة الجمهوريين على كل من الكونجرس والرئاسة أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يمكن أن ينفّذ الكثير من أجندته. إذا تم تنفيذها على نطاق واسع، فإن بعض سياساته يمكن أن تعزّز التشرذم الجيوسياسي وتزيد من التضخّم (انظر الرسم البياني). إن تركيز الحكومة الأقل على سياسات تحقيق الاستقرار الكلي مثل أطر المالية العامة وأهداف التضخم من شأنه أن يضع عبئا أكبر على الأسواق المالية لفرض الانضباط" (9).
أما الخطر الثاني فمردّه أنّ البنوك المركزيّة ستتوقّف في وقت من الأوقات (خلال 2025) عن خفض أسعار الفائدة وبالتّالي ستظلّ تكاليف الاقتراض للشرّكات والأسر مرتفعة. وسيؤدّي ذلك إلى مصاعب إضافيّة في تحمّل خدمة الديون الحاليّة، خاصة بالنسبة لدول جنوب الكرة الأرضية، حيث من المرجّح أن يظلّ الدولار قويّا إذا ظلّت أسعار الفائدة الأمريكيّة مرتفعة وتفاقم الصراع الجيوسياسي. ومعلوم أنه إذا لم تنخفض تكلفة الاقتراض وخدمة الديون ستنقاد عديد الشركات إلى الإفلاس. ذلك ما يؤشر لازدياد احتمال خطر الانهيار المالي على الصعيد العالمي.
تدمير فائض الإنتاج والقوى المنتجة أو شبح الحرب لقد أججت هذه الأوضاع المتأزّمة التي يشهدها النظام الرأسمالي العالمي التّناقضات بين كبريات الدول والشركات الاحتكارية الرأسمالية وستؤججها أكثر فأكثر مع تصاعد وتيرة الأزمة. ونشهد اليوم تأكيدات واضحة على انتهاء عصر العالم ذي القطب الواحد كما نشهد دخول العالم في طور جديد تشتد فيه الصراعات التجارية والاقتصادية والعسكرية بين مختلف الأقطاب الامبريالية. ومن نتائج هذه الصراعات بشكل مباشر اشتداد وتائر التسابق نحو التسلّح والتحرّشات العسكريّة من جهة وصعود القوى اليمينيّة المتطرّفة والتنظيمات الفاشيّة الجديدة.
يُعدّ معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (سيبري SIPRI) من أكثر المراجع مصداقية فيما يقدّمه من معطيات تتعلّق بالسلام وقضايا التسلّح. وفي تقرير صدر عنه يوم 22 أفريل الماضي بعنوان "ارتفاع الإنفاق العسكري العالمي وسط الحرب والتوتّرات المتزايدة وانعدام الأمن" جاء ما يلي: "ارتفع الإنفاق العسكري العالمي للعام التاسع على التوالي ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 2.443 مليار دولار. ولأول مرة منذ عام 2009، زاد الإنفاق العسكري في جميع المناطق الجغرافية الخمس التي حدّدها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السّلام، مع تسجيل زيادات كبيرة بشكل خاص في أوروبا وآسيا وأوقيانوسيا والشّرق الأوسط” (10).
ويأتي ترتيب القوى المتسابقة من حيث التكلفة السنوية المخصصة للإنفاق على التسلّح، كما جاء في التقرير، على نحو تتصدره الولايات المتحدة الامريكية بـ 916 مليار دولار ثم الصين بـ 296 مليار دولار فروسيا بـ 109 مليار دولار ثم الهند بـ 83.6 مليار والسعودية في المرتبة الخامسة بـ 75.8 مليار دولار. ويعكس هذا الترتيب إلى حدّ بعيد مساعي وأطماع أطراف الصراع العسكري الجاري اليوم. ومن جانب آخر فإن هذا التسابق يعكس أيضا حالة التوتّر التي باتت عليها العلاقات الدولية ناهيك أن عديد البؤر تعيش في حالة حرب، أوكرانيا وفلسطين، أو هي على شفا حرب يمكن أن تندلع بين الحين والحين وخاصة منطقة الشرق الأدنى (إيران) وجنوب شرق آسيا (تايوان وكوريا).
إن التسلّح وتطوير قطاع التسليح والصناعات الحربية والإتجار بالأسلحة أصبحت لدى مختلف الامبرياليات ولدى الاحتكارات العظمى في السنوات الأخيرة مجالا أساسيا للاستثمار وتحقيق الأرباح حتى بات واحدا من المخارج التي يعوّل عليها في معالجة أزمة النّظام الرأسمالي العالمي. لكن وفي المقابل من ذلك فإن نسق التسابق نحو التسلّح سيجبر القوى العظمى على فتح جبهات وبؤر "لاستهلاك" كميات السلاح المهولة المكدّسة في كل مكان من العالم. ويأمل نادي الكبار، دولا واحتكارات وطغما، من وراء الحرب سواء كانت شاملة أو في شكل حروب محدودة إقليمية ومحلية، تحقيق حلّ أكثر جذرية لنظامهم، يدمّر أكبر قدر ممكن من قوى الإنتاج وممّا تراكم من أسلحة ومنتوجات بشكل يفتح الباب للبدء من جديد في حلقة تراكم رأسماليّة (un nouveau cycle d’accumulation). لكنّ المخاطرة بهذا "الحل الجذري" من منظور امبريالي، ليست مضمونة العواقب في ظل انتشار أسلحة التدمير الشامل، وقد تنتهي بالقضاء على الوجود البشري. فترسانة الأسلحة التي تتوفر عليها كبريات الامبرياليات، الولايات المتحدة الامريكية والصين والناتو وروسيا والهند وخاصة منها الترسانة النووية بإمكانها أن تقضي نهائيا على الكرة الأرضية وعلى مجمل عناصر الحياة.
ومعلوم أنّ أكثر من منطقة في العالم، الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء، تعيش على وقع إمّا مواجهات مسلّحة مدمّرة أو هي مسرح تحرّشات لا شيء يمنع من أن تنقلب إلى مواجهات عسكرية دامية. هذه الأوضاع تكذّب كلّ الخطب الرنّانة حول "السّلم العالمي" التي يعتمدها ترامب وأمثاله من قادة الدول الامبريالية للمغالطة وتغطية الجرائم التي يعدّونها للمستقبل. فمصير المجتمع الإنساني محفوف في ظل النظام الرأسمالي واللصوص والكواسر بكل المخاطر بما في ذلك خطر الفناء فالحروب من طبيعة هذا النّظام في مرحلته الامبريالية ولا يمكنه الاستغناء عنها لتجاوز أزماته وإعادة اقتسام مناطق النفوذ في العالم. ويزداد التخوف من هذا المآل المظلم مع تصاعد نفوذ القوى اليمينية المتطرفة الفاشستية التي باتت تمثل التعبيرة السياسية الأكثر رواجا نيابة عن الاحتكارات الكبرى ورأس المال المتعفن والاوليغرشات المالية في العالم.
صعود اليمين المتطرّف وزحف الفاشية إنّ المتمعّن في خارطة القوى المؤثّرة في السّاحة السياسيّة العالميّة أي التي تمسك بالحكم في كبريات الدول، الولايات المتحدة الأمريكية والهند وروسيا والأرجنتين وعموم أوروبا وكندا يلاحظ دون عناء هيمنة الأحزاب والحركات الشعبوية اليمينية الشوفينية المتطرفة والفاشستية. فكل هذه البلدان وهي الأكثر تأثيرا في مجرى الحياة الاقتصادية والسلام الدولي والاستقرار إما تقع الآن تحت سيطرة أطراف سياسية يمينية متطرفة أو هي مهددة على المستوى المنظور بالوقوع تحتها. لقد "كان عام 2024 عام الانتخابات، حيث أجريت 40 انتخابات وطنية شملت 41٪ من سكان العالم وتمثل 42٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي"(11). وقد انتهت هذه الانتخابات لصالح اليمين المتطرّف والأحزاب الفاشستية التي اكتسحت البرلمانات والحكومات حيثما جرت باستثناء الانتخابات الفرنسية التي شهدت صعود "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية والانتخابات في سيريلانكة التي فاز فيها اليسار. وضمن ذلك عاد الشعبوي ترامب للبيت الأبيض كما عاد حزبه الجمهوري لافتكاك الأغلبية في الغرفتين. وعلى غرار ذاك فاز الشعبوي نارندرا مودي زعيم الحزب اليميني الطائفي الهندوسي المتطرّف "حزب بهاراتيا جاناتا" للمرة الثالثة على التوالي.
وقد جاءت نتائج الانتخابات المحلية في كل من هولندا والمجر وإيطاليا والسويد وفنلندا وسلوفاكيا وأخيرا في النمسا لتؤكد هذا المنحى. وتفيد الكثير من الدراسات والإحصائيات أنّ أكثر من نصف بلدان الاتّحاد (27 بلدا) مرشّح على المدى المباشر بأن يكون بيد ائتلاف حكومي يقوده اليمين المتطرف. لذلك ينتظر أن يصبح هذا التوجّه الذي يسيطر على نطاق واسع في أوساط شعوب أوروبا واحدا من أكبر القوى في البرلمان الأوروبي إثر انتخابات شهر جوان القادم. وتعطيه استطلاعات الراي إمكانية حصد ربع المقاعد من أصل 705 مقعدا في هذا البرلمان. حتى الأمثلة القليلة التي تُعتبر استثناء أوروبيا مثل إيرلندا وإسبانيا فقد أكدت الانتخابات الأخيرة وزن التيارات اليمينية الفاشية فيها. ففي إسبانيا يمثّل حزب فوكس Vox القوة السياسيّة وهو يسيطر على 5 مناطق بالتحالف مع نظيره اليميني المتطرف الحزب الجمهوري PP، وفي إيرلنذا ظهرت لأوّل مرّة منذ الثلاثينات من القرن الماضي، مجموعات يمينية متطرّفة ("هوية إيرلندا Identity Ireland والحزب الوطني National Party وغيرهما) وكانت هذه المجموعات وراء أحداث سنة 2022 وأحداث نوفمبر 2023 الدامية في العاصمة دبلين).
ومعلوم أنّ الشّعبوي اليميني الفاشستي خافير ميلاي كان فاز بالانتخابات في الأرجنتين في نوفمبر 2024 بناء على برنامج شعبوي نيوليبرالي وقد سارع فور نجاحه بزيارة الكيان الصهيوني والإعلان عن نقل سفارة بلاده إلى القدس.
وفي شهر مارس الماضي تمّ انتخاب فلاديمير بوتين مجدّدا لرئاسة روسيا. وهو رغم تناقضاته مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلف شمال الأطلسي لا يختلف عنهم من حيث طبيعة التوجّهات الاقتصادية الرأسمالية الليبرالية المتوحشة ومن حيث نزعته العسكريتارية وسياسته الامبريالية التوسّعيّة. فما يختلف فيه عنهم وعن كل القوى الامبريالية الأخرى هو في الحقيقة تباين في الأهداف في هذا الصّراع من أجل إعادة اقتسام العالم وترتيب خارطة مناطق النفوذ والمصالح.
ومازال أمل في المستقبل صحيح أنّ العالم يمرّ بمنعرج تاريخيّ يتهدّده خطر سيطرة القوى الموغلة في الرجعية التي من خصائصها إثارة النزاعات وإشعال فتائل الحرب. ومعلوم أنّ أيّ حرب ستندلع هنا أو هناك من العالم ستكون الشعوب لحما لمدافعها وستكون البشرية جمعاء مهدّدة بالانقراض جرّاءها. لكنّ هذا المآل ليس قضاء وقدرا. فعندما تدرك البشرية أنّ الفوارق البغيضة بين أفراد المجتمع الواحد وبين الأمم والشعوب وأن اختلالات البيئة والمناخ وأن احتضار الحريات والديمقراطية هي كلها من نتائج هذه المنظومة الرّأسماليّة الامبريالية المتعفنة والمتوحّشة وألّا سبيل لتجاوزها إلا بالقضاء عل هذه المنظومة نفسها، وقتها ووقتها فقط سينتهي عهد الحروب وستكون البشرية في مأمن من الموت والفناء. ووقتها سيشرع الناس أيضا في البحث عن الحلول التفصيليّة لكلّ عاهة من عاهات هذه المنظومة التي بدا عليها بلا أدنى شك أنها سائرة نحو الاندحار والتفكك la désagrégation. والأمل في هذا مازال قائما ومع كل أزمة يتجدد وينهض ويزداد قوة ورسوخا عند ملايين من مواطني العالم وبالخصوص في أوساط العمّال الكادحين الذين لا يملكون غير قوة سواعدهم للعيش والاستمرار على قيد الحياة والأمل وهو ما يؤهّلهم تاريخيّا ليكونوا بناة الحضارة الجديدة، الاشتراكية على أنقاض الحضارة البورجوازية الرأسماليّة.
جيلاني الهمامي جانفي 2025
الهوامش (1) - كارل ماركس – رأس المال، الجزء الثالث (2) – خوسي تابيا – انظر الرابط التالي : Six crises de l’économie mondiale : la mondialisation et les turbulences économiques des années 1970 à la pandémie de COVID-19 | SpringerLink (3) – ماركس – انجلز : البيان الشيوعي، انظر الرابط التالي : بيان الحزب الشيوعي - حزب العمال (4) من اهم ما كتبا المؤلف "العالم في أزمة" world in crisis " أنظر على الرابط التالي : World in crisis: A global analysis of marx’s law of profitability (5) – انظر التقرير على الرابط التالي : Global Economic Prospects – June 2024
(6) – انظر تقرير صندوق النقد الدولي – تحيين جويلية 2024 على الرابط التالي : Mise à jour des Perspectives de l’économie mondiale, juillet 2024
(7) – تقرير الأمم المتحدة – أنظر على الرابط التالي : La croissance mondiale restera modérée dans un contexte d’incertitude persistante | Nations Unies
(8) – مايكل روبرتس: توقعات عام 2025: هدير أم فاتر؟ توقعات عام 2025: هدير أم فاتر؟ - مدونة مايكل روبرتس
9- - Global Investment Outlook Building the transformation 2025estment Outlook | BlackRock Investment Institute
10– تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام – 22 أفريل 2024، أنظر الرابط التالي: Tendance des depenses militaires mondiales, Le SIPRI
11 – مايكل روبرتس – المرجع السابق
#جيلاني_الهمامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية: صعود قوى اليمين المتطرّف
...
-
ترامب على خطى أسلافه: جنون العظمة ونزعات الغطرسة والتوسّع وت
...
-
الأزمة الراهنة للرأسمالية العالمية: صعود قوى اليمين المتطرف
...
-
أزمة الاتحاد: المخاطر واضحة والطريق إلى الحلّ أوضح
-
مرة أخرى حول الموقف من تطورات الوضع في سوريا
-
حول التقرير السنوي للرابطة التونسية لحقوق الانسان
-
منعرج جديد وخطير في حياة الاتحاد
-
سقوط نظام الأسد في سوريا: في ميزان الربح والخسارة
-
3 ديسمبر : تاريخ خالد وأزمة خانقة
-
الشّعبويّة في تونس البواطن والظّواهر
-
عجلة التاريخ تدور أحيانا إلى الوراء
-
رسالة مفتوحة إلى الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التون
...
-
أوت 1924: تاريخ صنع التاريخ أو صورة أوت 2024 في مرآة أوت 192
...
-
المشهد ... والمشهد الآخر أو واقعة -أبو شجاعة-
-
وحدة اليسار في فرنسا ووحدة اليسار في تونس مقارنة ما لا يقارن
-
التصويت تحت وقع الأزمة
-
إدغار موران: -لدي تعاطف نقدي مع الجبهة الشعبية الجديدة-
-
ماذا لو انتصر اليسار في فرنسا ؟؟
-
اليوم الأول من نهاية عهد الماكرونية (1)
-
تونس في لعبة الاصطفافات والمحاور
المزيد.....
-
احتفالات فرنسية غريبة بموت زعيم اليمين المتطرف لوبان
-
الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان يدعو للتعبئة والمشاركة
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي ينعي الرفيق داوود أحمد مراغة “أ
...
-
الجبهة الشعبية تنعي الرفيق أبو أحمد فؤاد نائب الأمين العام ل
...
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 587
-
جريدة النهج الديمقراطي العدد 588
-
السيد الحوثي: ثبات الفصائل الفلسطينية بأبسط الامكانات شيء كب
...
-
نداء من أجل المشاركة في وقفة شعبية أمام مبنى البرلمان بالربا
...
-
النهج الديمقراطي العمالي : نداء من أجل المشاركة في احتجاجات
...
-
رمزي رباح يلتقي نائب وزير الخارجية الفنزويلي
المزيد.....
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
المزيد.....
|