|
الجندول....
أحمد فاروق عباس
الحوار المتمدن-العدد: 8224 - 2025 / 1 / 16 - 16:13
المحور:
الادب والفن
في الفكر والسياسة هناك اربعة مدارس رئيسية كبري حكمت توجه المصريين وحركتهم طوال القرن العشرين وحتي اليوم مع نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين... وهذه المدارس الكبري هي:
ان مصر عربية .. والثانية ان مصر اسلامية .. والثالثة ان مصر دولة متوسطية .. والرابعة ان مصر مصرية ..
ما معني ذلك.. وما علاقته اصلا باغنية يغنيها مطرب هو محمد عبد الوهاب ؟!
لنشرح اول سريعا المدارس الكبري التي حكمت تفكير وتوجه وحركة الفكر والثقافة والسياسة في مصر في القرنين الماضيين ..
١ ــ مدرسة مصر عربية ...
اي ان مصر تنتمي الي امة محددة بالذات هي الامة العربية ، فالتاريخ الواحد واللسان المشترك ــ اللغة الواحدة ــ والعادات والتقاليد المتقاربة والعاطفة والاحساس المشترك والمصير الواحد كلها تقول ان العرب امة متمايزة عن غيرها من الامم ، وقد كان للفكرة العربية في مصر انصار كثر ، وفي السياسة وجدت الفكرة العربية تطبيقها الاول في السياسة المصرية مع انشاء الجامعة العربية عام ١٩٤٥ عندما وضع مصطفي النحاس باشا زعيم الوفد ورئيس الوزراء توقيع مصر علي ميثاقها في قصر انطونيادس بالاسكندرية ...
ثم وجدت تطبيقها الثاني مع دخول مصر حرب فلسطين في مايو ١٩٤٨ في حكومة محمود فهمي النقراشي..
ثم وجدت تطبيقها الثالث في ميثاق الضمان الجماعي ، الذي وقعته حكومة مصطفي النحاس في ربيع ١٩٥١ والذي يرتب مسئوليات امن جماعي ، وبما يعني مسئوليات حربية عند الاعتداء علي احد دول اعضاء الميثاق..
بينما وجدت المدرسة العربية تطبيقها الاشمل والأكبر في مصر مع قدوم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي تبني العروبة كفلسفة للحكم في مصر وكإطار للحركة في محيطها..
٢ ــ مدرسة مصر إسلامية..
وهي مدرسة تري ان مصر تنتمي الي الامة الاسلامية ، فهي تضع الدين كمحدد اوحد للفكر والسياسة، وقد ظهرت الفكرة الاسلامية في مصر مع جمال الدين الافغاني في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، ثم نادت بها حركات مختلفة مثل حركة الاخوان المسلمين والتيارات السلفية، وكثير من الكتاب والمفكرين الذين ظهروا في اطار تلك الحركات..
ولقد كانت الدائرة الاسلامية دوما حاضرة في ذهن مفكري وساسة مصر في مختلف العصور ، كعلاقات قوية ، وتقارب طبيعي ، ولكن من رفع لواء ان مصر اسلامية كانت يقصد اقامة ترتيبات سياسية معينة ــ تشبه نظام الخلافة القديم ــ وترتيب مسئوليات عسكرية لمصر ضمن اطار هذه الدائرة ، وكان هنا موطن الخلاف ...
٣ ــ مدرسة أن مصر مصرية ..
وتري تلك المدرسة ان مصر وحدة بذاتها جغرافيا وتاريخيا ، وهي ربما تكون عواطفها عربية او اسلامية ولكن مصالحها واتجاه حركتها يجب ان يكون مصريا بحتا ، وهذه المدرسة هي التي تحكم في الواقع منذ مجئ الرئيس أنور السادات وحتي اليوم ، وقد وجدت تلك المدرسة ازدهارا كبيرا بعد سقوط الاخوان المسلمين في مصر عام ٢٠١٣ ، وداخل هذه المدرسة اتجاهات متعددة، ابرزها ان لمصر ان تتقارب مع من تشاء من الدول ــ عربية او اسلامية او افريقية ــ ولكن بوصلة الحركة هو مصالح مصر، وقد ظهر علي هوامش تلك المدرسة مؤخرا اتجاه يري ان مصر فرعونية ، بل انه يسمي مصر كيميت وهو الاسم القديم لمصر ، ولكن الاتجاه السائد في هذه المدرسة هو الذي يري مصر قومية مستقلة بذاتها يسميها القومية المصرية ، وربما كان هذا تعبيرا حديثا عما عرف في النصف الاول من القرن العشرين بالوطنية المصرية..
وتاريخيا يعد احمد لطفي السيد وحزب الامة القديم ، ثم حزب الوفد مع سعد زغلول ومصطفي النحاس رواد هذا الاتجاه ــ اتجاه الوطنية المصرية ــ في السياسة المصرية في العصر الملكي..
٤ ــ مدرسة مصر متوسطية..
والمدرسة الرابعة هي التي تري مصر جزءا ــ عبر البحر المتوسط ــ من أوربا ، وان مصر انتمت في اجزاء كبيرة من تاريخها الي اوربا ، وخاصة في عصور الاغريق والرومان ، وبالتالي فإن مصر اذا ارادت ان تجد لنفسها مستقبلا مأمونا فيجب ان تنظر عبر البحر الي الشمال، وليس ان تنظر عبر الصحراء الي الشرق ..
وهذه المدرسة فكرية ثقافية في المقام الاول ، ولم تجد لها تطبيقا حقيقيا علي أرض الواقع ، وكان ابرز انصارها الدكتور طه حسين ، الذي نادي صراحة بمتوسطية مصر في كتابه الشهير مستقبل الثقافة في مصر عام ١٩٣٨، وكذلك الدكتور حسين فوزي ...
وقد ازدهرت هذه المدرسة الي حد ما في الثلاثينات والاربعينات من القرن العشرين...
وقصيدة الجندول التي غناها محمد عبد الوهاب تنتمي الي تلك الفترة والي الروح التي انتشرت فيها ، فقد غناها محمد عبد الوهاب سنة ١٩٤٠..
وبدون تلك الروح التي انتشرت في تلك الفترة كان من الصعب جدا ان يتقبل المستمع المصري قصيدة مثل الجندول ــ وقد حازت علي شعبية كبري وقتها ومازالت تعد من كلاسيكيات الغناء العربي الخالدة ــ أو اغاني مثل كليوباترا أو خمرة الراين ــ والراين نهر في ألمانيا ــ أو ليالي الانس في فيينا ... وغيرهم .
والقصيدة تتكلم عن رحلة الي مدينة فينيسيا ــ واسمها العربي مدينة البندقية ــ وعن اجواء وحياة مصري علي الارض الاوربية ، منقسما بين شرقيته بالارض وبين اوربيته بالحلم ...
والجندول نوع من المراكب أو القوارب الصغيرة ، وكانت وسيلة التنقل في فينيسيا التي تغمرها المياه دوما ، وكاتب القصيدة هو الشاعر علي محمود طه ، وهو ايضا كاتب قصيدة أخري لعبد الوهاب في نفس الإطار ونفس الروح التي انتشرت في تلك الازمنة ، وهي الروح المتوسطية ، والقصيدة الثانية اسمها كليوباترا ، وهي لا تقل عن الاولي جمالا في رأيي ، وان كانت تقل عنها في الشهرة ...
ويصور الشاعر في قصيدته ايامه ولياليه في مدينة الجمال فيقول:
أين من عينيَّ هاتيك المجالِ يا عروس البحر.. يا حلم الخيال ِ اين عشاقك سمار الليالي أين من واديكِ يا مهد الجمالِ
ويصادف ذهاب الشاعر الي فينيسيا احد اعيادها وهو عيد الكرنفال ، ويصور غادات فينيسيا فيه ، وحركة مراكبها ــ الجندول ــ في عيدها قائلا..
موكب الغيد.. وعيد الكرنفال ِ وسري الجندول في عرض القنال ِ
بين كأس يتشهي الكرم خمره وحبيب يتمني الكأس ثغره التقت عيني به أول مرة فعرفت الحب من أول نظرة ............
ثم يصف الشاعر تجربته الخاصة بين مغاني الجمال في مدينة الجمال ...
مر بي مستضحكا في قرب ساقي يمزج الراح بأقداح رقاق ِ قد قصدناه علي غير اتفاق ِ فابتسمنا وضحكنا للتلاقي
وهو يستهدي علي المفرق ظهره ويسوي بيد الفتنة شعره حين مست شفتي أول قطرة خلته ذوب في كأسي عطره
اين من عينيَّ هاتيك المجال يا عروس البحر يا حلم الخيال ........
ويستمر علي محمود طه في الحديث عن غرامه علي الأرض الاوربية...
ذهبي الشعر شرقي السمات حلو الاعطاف مرح اللفتات كلما قلت له خذ قال هات ياحبيب الروح يا أنس الحياة
أنا من ضيع في الاوهام عمره نسي التاريخ أو أنسي ذكره غير يوم لم يعد يذكر غيره يوم ان قابلته أول مرة
ثم مع وجوده في ربوع فينيسيا يتذكر بحنين بلده مصر ، وهي لا تقل في نظره عن اوربا او البندقية جمالا وأثرا...
قلت والنشوة تسري في لساني هاجت الذكري فأين الهرمانِ اين وادي السحر صداح المغاني أين وادي النيل اين الضفتان ِ
آه لو كنت معي نختال عبره بشراع تسبح الأنجم إثره حيث يروي الموج في ارخم نبره حلم ليل من ليالي كليوباترا
وقد اخطأ عبد الوهاب لغويا مرتين في غناءه لهذه القصيدة ، الخطأ الاول في قوله " ذهبي الشِعر " حيث كسر الشين بدلا من فتحها ، وهو ما يؤدي الي تغيير المعني ، والخطأ الثاني في قوله : يوم ان " قابلتَه " اول مرة ، حيث فتح التاء في قابلته بدلا من ان يضمها ، وقد استمر عبد الوهاب في الخطأ الاول ولم يصوبه في الاعادة ، في حين انه استدرك خطأه الثاني وصححه في الإعادة ...
ولم يتمكن عبد الوهاب من تصحيح الاخطاء تماما لأن ظروف الحرب العالمية الثانية لم توفر شرائط كافية لإعادة التسجيل ، وكانت تستورد من أوربا ، وكانت الاغنية تسجل متصلة مرة واحدة ، وكان من الصعوبة إعادة تسجيل الاغنية كلها ثانية مرة اخري ...
وبرغم أية اخطاء لم تسمح ظروف العصر ودرجة التطور بإصلاحها ، فسوف تبقي قصيدة الجندول لعلي محمود طه نظما ومحمد عبد الوهاب تلحينا وغناء درة من درر الفن المصري ، وبناء عاليا في فن الغناء العربي ...
#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أعطني الناي ... وغني.
-
يامه القمر علي الباب ... وكيف كانت الأغاني الخليعة قديما !!
-
ثورة الشك ...
-
هل الخطر من الداخل ... أم من الخارج ؟!
-
مصر ... وسوريا الجديدة .
-
أنور السادات ...
-
قنوات الاخوان ... وهل نحن خائفون مما حدث في سوريا ؟!
-
فصل جديد ...من قصة طويلة !!
-
محمد مرسي .. وأحمد الشرع !!
-
فيم واين اخطأ بشار الاسد بالضبط ؟!
-
اسئلة اليوم التالي ...
-
يوم حزين .. ويوم سعيد ...
-
هل ما حدث في سوريا ممكن الحدوث في مصر ؟!
-
هجمة مرتدة ..
-
جمال عبد الناصر .. والناصريون : أين الاختلاف ؟!
-
التزوير والتلاعب في الانتخابات الأمريكية..
-
لماذا يكره الاخوان المسلمين السعودية ويحبون تركيا ؟!!
-
فيتنام وفلسطين : اين الاتفاق .. واين الاختلاف ؟!
-
لماذا لا تدخل مصر الحرب ؟!
-
الي أين اخذت حماس القضية الفلسطينية ؟!!
المزيد.....
-
تمتع بعالم الثقافة.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك على جميع ا
...
-
الفنان العراقي أحمد وحيد لـ-ترندينغ-: -طموحي الوصول إلى الجم
...
-
الممثل الهندي سيف علي خان ينجو من الموت بعد طعنه عدة مرات في
...
-
إقبال كبير على الكوميديا المسرحية الارتجالية بين الشباب في ا
...
-
أبرز الإصدارات التي ينتظرها القراء هذا العام
-
-البخارة- التونسية تفوز بجائزة مهرجان المسرح العربي في دورته
...
-
أمير الكويت في -دمفريس هاوس-: شجرة صداقة تُعمّق التعاون الثق
...
-
خمس مجموعات قصصية ضمن القائمة القصيرة لجائزة -الملتقى- بالكو
...
-
مصر.. فيديو لفنان مشهور يستغيث ويظهر بوضع متدهور
-
ديمتري فالنتينوفيتش ميكولسكي: الاستشراق الروسي رديف للاستشرا
...
المزيد.....
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
المزيد.....
|