|
صراع السرديات.. معركة وجود
جمال الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 8221 - 2025 / 1 / 13 - 22:09
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
يتأرجح التاريخ على بون شاسع بين النسيان والتزييف، وتنبثق الحكايات كجداول متفرقة، بعضها يوحي بالصدق وأخرى تنضح بالخداع.. وهنا، في قلب الصراع العربي الإسرائيلي، نجد أنفسنا مكرهين للعودة إلى حديث عن حرب السرديات التي تدور رحاها على أكثر من صعيد، والتي تستهدف عقل وقلب وضمير المواطن العربي وصميم ذاكرته الجمعية، ونحن نعيش في عالمٍ يُعاد فيه تشكيل الحقائق بأقلام المنتصرين وفق أهواء القوة، وتُطمس فيه الذاكرة تحت وطأة المصالح.. وفي ظل هذا التشابك العسير، تتجلى أهمية السردية، لا كمجرد رواية للتاريخ، بل كمرآة للوجود نفسه، وكصرخة تُعلن الحقائق التي لا تموت، مهما أُثقل كاهلها بالافتراءات. السردية الإسرائيلية، المدعومة بآلة دعائية جبارة، لا تكتفي بتبرير الاحتلال، بل تسعى إلى شرعنته من خلال تقديمه كضرورة تاريخية وأخلاقية. تحت شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، والكثير من مراكز القوى السياسية والفكرية في الغرب تُقدَّم الرواية الإسرائيلية للعالم كحقيقة مطلقة، متجاهلةً مأساة شعبٍ اقتُلع من أرضه، وهُدمت قراه، وتشتت في المنافي. هذه السردية، التي تستند إلى مظلومية تاريخية مفترضة مثل المحرقة، تُوظَّف لتبرير مظالم حقيقية جديدة، في مشهدٍ يعكس ازدواجية المعايير التي تحكم الضمير العالمي. على الجانب الآخر، تقف السردية العربية، التي وُلدت من رحم النكبة، حاملةً في طياتها ذاكرة شعبٍ قاوم التهجير والقهر. لكنها، للأسف، لم تحظَ بالدعم الكافي لتتبلور كرواية متماسكة قادرة على مواجهة السردية الإسرائيلية. وتراجعت هذه الرواية بفعل عوامل عدة، منها غياب مشروع ثقافي عربي متكامل، وضعف المؤسسات التعليمية والإعلامية، والانقسامات السياسية التي أضعفت الموقف العربي. وتحت هذا التراجع، بات المثقف العربي أمام تحدٍ مزدوج: مواجهة آلة الدعاية الإسرائيلية، وفي الوقت ذاته، ترميم السردية العربية وإعادة تقديمها للعالم كحقيقة لا تقبل التشكيك. وهنا تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة كتابة تاريخ الصراع، ليس فقط كواجب تجاه الأجيال القادمة، بل كفعل مقاومة في وجه مشروعٍ يسعى إلى محو الذاكرة واستبدالها بسردية زائفة. مما يضع المثقف العربي أمام مسؤولية تاريخية تتجاوز حدود الكلمات إلى عمق الفعل. إذ إنَّ صراع السرديات بين العرب وإسرائيل ليس مجرد تنازع على رواية الماضي، بل هو معركة على الوجود ذاته، على الهوية التي تتعرض للتشويه، وعلى الحق الذي يُعاد تعريفه وفق موازين القوة لا معايير العدالة. إنَّ المثقف، بما يملك من أدوات فكرية وقدرة على التأثير، يتحمل مسؤولية كبرى في هذه المعركة. فدوره لا يقتصر على تسجيل الأحداث، بل يتعدى ذلك إلى صياغة الرواية التي تُبرز الحق العربي، وتفنّد الادعاءات الإسرائيلية. المثقف هو الذي يُعيد تعريف الصراع في سياقه الإنساني، فيكشف للعالم أن القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع سياسي، بل مأساة إنسانية تتطلب موقفاً أخلاقياً قبل أي شيء آخر. إنَّ المثقف العربي، في هذه اللحظة التاريخية، مدعوٌ إلى حمل القلم كسلاح مقاومة. عليه أن يُعيد صياغة السردية العربية بأسلوبٍ علمي رصين، مدعومٍ بالوثائق والشهادات الحية. عليه أن يُخاطب العالم بلغة العقل، وأن يُبرز القضية الفلسطينية كقضية إنسانية تُخاطب الضمير العالمي. ففي زمنٍ تُقاس فيه الحقوق بقوة السرد، يصبح المثقف حارساً للحقيقة، وشاهداً على التاريخ، وحاملاً لراية العدالة التي لا تسقط مهما اشتدت العواصف. إنَّ إعادة كتابة تاريخ الصراع ليست مجرد مهمة أكاديمية، بل هي فعل مقاومة ثقافية. إنَّها تعني توثيق النكبة والنكسة بما يليق بفظاعتهما، وإبراز قصص الصمود الفلسطيني التي تتحدى الزمن والظلم. والمثقف العربي مدعو هنا إلى تجاوز الخطاب العاطفي التقليدي، نحو خطاب علمي رصين، يستند إلى الوثائق والشهادات الحية، ويُقدَّم بلغة تُخاطب العالم بلغته. في هذا السياق، يصبح إنتاج الأفلام الوثائقية، وتأليف الروايات، وكتابة المقالات العلمية، أدوات مقاومة لا تقل أهمية عن الحجر الذي يُلقى في وجه المحتل. إنَّ إعادة كتابة تاريخ الصراع ليست ترفاً فكرياً، بل هي واجبٌ وجودي. إنَّها تعني استعادة الحقائق التي سُرقت، وتوثيق الجرائم التي حاول المحتل طمسها. في كل بيتٍ مهدم في غزة، وفي كل شهيدٍ يُزف، تُكتب صفحة جديدة من هذا التاريخ. فغزة، بدماء أبنائها وصمود أهلها، تُعيد تعريف معنى الكرامة، وتُذكّر العالم بأن الحق لا يُمحى، مهما طال زمن الظلم..غزة، التي تقف اليوم في قلب المشهد، ليست مجرد رمز للصمود، بل هي شهادة حية على فشل السردية الإسرائيلية في طمس الحقيقة. في كل بيتٍ يُهدم، وفي كل شهيدٍ يُزف، تُكتب رواية تُفنّد الأكاذيب، وتُعيد تعريف معنى العدالة. غزة تُذكّر العالم بأنَّ الحق لا يُطمس، وأن الذاكرة لا تُمحى مهما بلغت قوة الظلم.. ولا بدَّ لسردية الحق أن تعلو ولو طال الزمن.
#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتب بلا صور
-
الديكتاتورية الخوارزمية
-
مقدمات جديدة..لتاريخ قديم
-
الخلاف والاختلاف
-
موقعة ( الأم بي سي)
-
مثقفو القصاع
-
التاريخ المحكي..والتاريخ المكتوب
-
السيرة.. بين التوثيق والتلفيق
-
الثقافة العربية.. والآخر
-
فقه التكسب
-
ثقافة تلامس الروح
-
طيور المنافي
-
الإمام الحسين (ع) نبراس الحرية للشعوب
-
صناعة الأصنام
-
تكوين، تنوير.. أم إعتام
-
التكفير كثقافة استئصالية
-
مطر وسماء صافية
-
-سفرة- تونس
-
دراما.. في رمضان
-
(بسطية)..لوغوس هوب
المزيد.....
-
مسؤول قطري: محادثات جارية لوضع اللمسات النهائية على الصفقة ب
...
-
بأول كلمة له كرئيس للحكومة في لبنان.. نوّاف سلام يرد على شكو
...
-
حرائق في غير موسمها.. بما يفسر العلماء حدوثها؟
-
لافروف يصف عضوية أرمينيا في الاتحاد الأوروبي بالمستحيلة
-
-محض خيال-.. -تيك توك- تعلق على تقارير بيع الشركة لماسك
-
دولة جديدة تنضم إلى قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل
-
لافروف: روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية -لما يسمى أوكر
...
-
هل تتأثر مصر حال انهيار سد النهضة؟.. خبير يشرح:
-
-قنبلة موقوتة- تهدد القارة القطبية الجنوبية!
-
-فصل جديد-.. رئيس الحكومة اللبنانية المكلف يتحدث عن التحديات
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|