أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - بين العنف والعفو: مقاربات أدبية وفلسفية في طبيعة الإنسان















المزيد.....


بين العنف والعفو: مقاربات أدبية وفلسفية في طبيعة الإنسان


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8221 - 2025 / 1 / 13 - 02:00
المحور: قضايا ثقافية
    


تناول موضوع كهذا ليس بالأمر السهل، فهو يتطلب تجنب الوقوع في فخ التبسيط المفرط لمسألة تمتزج في فهمها عوامل تتجاوز نطاق التحليل النفسي وحده، كما لا يمكن اختزالها ضمن إطار التركيب الاجتماعي فقط. يبقى السؤال الجوهري: هل يمكن لمن يحمل ماضيا موسوما بالعنف أن ينفصل عن ذلك الإرث، ويعيد توجيه ذاته ليكرّس حاضره ومستقبله في مسار يخلو من تلك الوصمة؟
الأدب ليس مجرد مرآة تعكس الطبيعة البشرية بكل تناقضاتها وعمقها، بل هو كيان يتجاوز ذلك، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة ذاتها، متأثرًا بها ومؤثرًا فيها، في تداخل يكشف عن أبعاد جديدة للوجود الإنساني. في مسرحية ت. س. إليوت جريمة قتل في الكاتدرائية، نجد تصويرًا دراميًا للصراع بين الواجب الأخلاقي والتضحية الشخصية في مواجهة السلطة والقمع (Eliot, 1935). وقد عُرف عن الواقعة التاريخية التي استلهمت منها المسرحية أن القاتل، بعد تنفيذ جريمته، عانى من عذاب الضمير وهول ما فعله، مما دفعه إلى السير حافيًا كوسيلة لتكفير خطيئته. هذا البُعد الإنساني الذي أضفاه إليوت على المسرحية يُبرز الأثر النفسي العميق الذي تتركه أفعال الإنسان، حتى حين تكون دوافعها غارقة في تعقيدات الواجب والسلطة.
لا يبتعد هذا المثال عن روح زوربا في رواية نيكوس كازانتزاكيس زوربا اليوناني، حيث نشهد انغماس البطل في نزاعات أخلاقية بين الفعل القاسي والعاطفة الإنسانية. حينما قتل زوربا كجزء من نضاله الثوري يوما، ويوما تاليا آخر استشعر ألما شديدا عندما التقى أرملة ضحيته وأطفالها المتسولين. بكى زوربا لما رآه، ووهبهم كل ما يملك من نقود، ثم قرر التخلي عن الثورية التي تتطلب القتل وتخلف أرامل وأيتاما. وكأن الأدب يُذكرنا بأن الإنسانية دائما ما تجد طريقة لتُثقلنا بوزن أفعالنا، وتُلزمنا بالتأمل في تبعاتها (Kazantzakis, 1946).
وفي رواية ريبيكا لدافني دو مورييه، يظهر الصراع النفسي العميق بين الذات والآخرين، حيث تكشف لنا الرواية كيف يمكن للماضي أن يظل متحكمًا في الحاضر بطرق معقدة ومتشابكة (Du Maurier, 1938). تبرز هذه القضية بشكل خاص من خلال شخصية البطلة التي يطاردها ظل ريبيكا الغامض، مما يخلق صراعًا داخليًا بين رغبتها في الانطلاق من هيمنة الماضي وبين التأثير الساحق له. هذا التأثير يعكس كيف يُمكن للأفراد أن يكافحوا لتحرر من أخطاء ماضيهم أو أن يصبحوا أسرى له، ولعل الأدب هنا يعكس حقيقة أننا قد نلتقي بجوانب في أنفسنا لا نستطيع الهروب منها، حتى في أحلامنا.
هذه الأمثلة وغيرها توضح قدرة الأدب على مواجهة الإنسان بأسئلة وجودية كبرى تتعلق بالعدالة، الأخلاق، والإنسانية، بالماضي والحاضر. في هذا السياق، نتعمق في التأمل بما نقرأه و في تحليل كيف يمكن للأدب أن يعيد تشكيل تصوراتنا عن الواقع، ويُبرز التحديات التي تقض مضجع المرء الذي يطارد ماضيه حاضره .

ليس الأدب فقط، بل أمثلة الواقع أيضًا تثرى هذا الجانب، حيث يتجلى مثال الجنرال وارانتو في رواية تيّمور الشرقية لسلمان رشدي، حيث يُظهر الدمار الذي يخلفه القادة بلا ضمير في المجتمعات، مُبرزًا مأساة الأفراد الذين يُسحقون تحت عجلة التاريخ (Rushdie, 1995). لكن في حالة الجنرال وارانتو، لا يتوقف الأمر عند الصورة المعتادة للسلطة والقمع، بل يكشف لنا عن تحول حاسم في شخصيته. بعد أن أنهكته فظائع الماضي، يتجه الجنرال نحو فعل الخير وتكفير ما اقترفه يديه في سنوات قسوة حكمه. في مسعى حقيقي للتوبة، يبتعد عن العنف ويبدأ بتقديم الأعمال الخيرية ويغني لصالح السلام. هذه التوبة العميقة تُبرز الإنسان الذي استطاع مواجهة أفعاله، محاولًا الإحساس بالذنب وتحديد طريق جديد لحياة مليئة بالتوبة والبحث عن المغفرة.
ومن جديد نكرر أن واحدنا لن ينجو من التبسيط الواضح عندما نشير إلى تساؤل ذي أهمية فلسفية وعلمية متجذرة في أعماق الفكر البشري والوجود الإنساني: هل يحمل الإنسان داخله "وحشا" كامنا لا ينفك أن يكون جزءا منه، بل قد يكون أساسا للصراع الداخلي بين غرائزه الأخلاقية والفطرية؟ أم أن هذه النزعة هي مزيج معقّد من الموروثات الجينية، والتنشئة المجتمعية، والاختيار الشخصي؟
في محاولة لفهم هذه الإشكالية، نستدعي رؤية فرنسوا رومان الذي اعتبر أن "داخل كل إنسان هناك وحش"، وفكر الفيلسوف نيتشه حول "الإنسان الأعلى" والتغلب على غرائزنا السحيقة كوسيلة لتجاوز حالة الكائن المبتذلة (Nietzsche, 1883). إن قراءة الجينوم البشري لم تكن مجرد تقدم علمي، بل دعامة علمية أثبتت أنّ الموروثات الجينية تسهم جزئيا في تشكيل سماتنا وسلوكياتنا، لكنها ليست الحاكم الوحيد. ففي دراسة مبدئية لتسلسل الجينات البشرية في أواخر التسعينيات، أصبح واضحا أنّ هناك ما يعرف بـ"جينات السلوك"، التي أظهرت ارتباطا وثيقا ببعض الأنماط السلوكية مثل التوتر، العدوانية، وحتى الميل للإدمان (Collins, 2000).
مع ذلك، لا يمكن للجينات أن تخلق مجرمين أو صانعي قرار بمجردها؛ إذ يُبرز العالِم روبرت سابولسكي في كتابه Behave: The Biology of Humans at Our Best and Worst الدور الفعال للتنشئة المجتمعية والعوامل البيئية (Sapolsky, 2017). فحتى لو كان لدى الشخص استعداد وراثي للعنف، فإن الظروف الاجتماعية والقيم المكتسبة من المجتمع لها قدرة كبيرة على كبح تلك الدوافع أو تعزيزها.
ينبع هذا المزيج المتشابك بين الوراثة والتربية من فكرة أن الجينات هي مثل الألوان التي يرسم بها الفنان لوحته، بينما التنشئة المجتمعية هي اليد التي توجه هذه الألوان لتشكل تحفة فنية متكاملة. وبالتالي، فإننا حين نناقش موضوع العنف والندم أو إمكانية التحرر من وصمة الماضي، نضع خطا تحليليا يتقاطع عند رؤية الأفراد كنتاج تطور بيولوجي وتفاعل اجتماعي مستمر.
عندما ننظر إلى شخصيات مثل نيلسون مانديلا، الذي تحول من التخطيط لعمليات عنف ضد النظام العنصري إلى رمز عالمي للمصالحة والسلام، يظهر أمامنا سؤال وجودي آخر: هل امتلاكنا جميعاً هذا "الوحش الداخلي" يعني أننا محكومون بالخطيئة، أم أننا، كما يشير نيتشه، نملك القدرة على تجاوز حدودنا الطبيعية نحو تحقيق "الذات المثلى"؟
علاوة على ذلك، فلسفيا وأخلاقيا، تشكل هذه الجدلية تحديا دائما لفهم "الإنسان الطبيعي" مقارنة بـ"الإنسان المثالي". إذا قبل المجتمع بالشخص التائب وصالحه مع تاريخه، فهل يتحمل مسؤولية إعادة تشكيله؟ وكيف نميز التوبة الحقيقية عن استراتيجيات التلاعب؟
على المستوى المجتمعي، يبقى العفو مقيدا بمعايير صارمة تصوغها أخلاقيات الجماعة؛ فعلى سبيل المثال، تُستخدم جلسات العدالة الانتقالية في سياقات ما بعد الحروب الأهلية كآليات لتحليل ماضي المذنب، استنادا إلى فلسفة التكفير والمصالحة، ما يبرز لنا تأثير القوة الأخلاقية للعفو ومدى ديمومته في إعادة صياغة هويات المذنبين.
بالمختصر المقل، عندما نواجه سؤالا شائكا كتأثير الموروثات الجينية والسياقات المجتمعية على الجريمة والعفو، يتضح أن الإنسان كائن يعيش على حدود هذه الجدليات. إنه يتأرجح بين الداخل والخارج، بين القدر البيولوجي والقوانين المجتمعية، وبين الوحشية المتأصلة والرحمة المكتسبة. لذا، لا يمكن أن ننظر إلى المسألة ببعد واحد؛ إذ يشير الفيلسوف إيمانويل كانط إلى أن حريتنا الأخلاقية ليست سوى رفضنا أن نصبح رهائن لغرائزنا البدائية أو إرثنا الاجتماعي، واختيارنا بدلا من ذلك طريق الحكمة والتفكر الواعي في بناء حياة أفضل.
السؤال حول ما إذا كان صاحب سوابق وله ماضٍ يمكن أن يكون جزءًا من عملية نهضوية ومسيرة بناء يتطلب عمقا أكثر للأبعاد النفسية والأخلاقية التي تتداخل بين الذات والمجتمع حيث تُبرز الجدلية بين الماضي والحاضر في كثير من الأدب والفلسفة والواقع الحياة الإنسانية انه يمكن أن يكون الشخص الذي يحمل تاريخا مظلما أو ماض مليء بالأخطاء قد تعلم وعمل على التغيير، ومن خلال تطوير الذات والاستفادة من تجارب ذاتية وموضوعية، أن يساهم في عملية النهضة والتطور المجتمعي. ناهيك عن أن ذلك قد يتحقق من خلال الاعتراف بالأخطاء والعمل على إصلاحها. في هذا السياق، إن صاحب الماضي المظلم قد يساهم بنضجه وتعلّمه من أخطاء ماضيه في بناء مجتمع، وتكون توابعه جزءا أساسيا من التطور الإنساني الذي يعترف بالتغيير الشخصي والنمو. بالتوازي مع ما تقدم، نلجأ لرأي الفيلسوف إيمانويل كانط المفيد بأن الحريّة الأخلاقية تكمن في قدرة الشخص على اتخاذ القرار الواعي والحر بعيدا عن الضغوطات الفطرية أو الاجتماعية التي قد تؤثر في سلوكه. فبدلا من الوقوع في فخ ماضيه، يمكن للشخص الذي نال فرصة للقطع مع الماضي أن يكون جزءا من عملية بناء المستقبل بشكل هادف.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ونتساءل عن لوطن
- الموت: التأمل في اللايقين الحتمي
- تأمل سريع في مرور الزمن ودروس الحياة
- الحلم بالنهوض بعد الظلم والقمع
- أهمية القاعدة الشعبية في الحكم
- فراق أبدي
- سوريا: ملتقى الشعوب ونموذج للتعايش الثقافي
- أمل سوريا الجديد
- الانتقام والهدم: نحو تجاوز إرث الثأر لبناء سوريا المستقبل
- الخوف: ثقافة عالمثالثية أم تركيب اجتماعي؟
- الخبز والحرية: الاحتياج المادي والكرامة الإنسانية
- من الاستبداد إلى الشتات: حكاية وطن تحت قبضة الطغيان
- سوريا: وطن منهك بين السيادة المزعومة والحقيقة المرة
- بين الفطرة والتطرّف
- -صموئيل بيكيت: انعكاسات عبثية على الوجود الإنساني-
- هويتنا المفقودة
- لقاء لأجل الجواب عن سؤال -ما العمل!؟-
- إلى أين نحن ذاهبون
- طفل الاغتصاب
- فانتازيا لامرئي


المزيد.....




- -قريبون جدًا لكننا بعيدون-.. جيك سوليفان يعلق لـCNN على مدى ...
- الصين: انطلاق موسم الصيد الشتوي في بحيرة بوستن.. مزاد واعد و ...
- زيلينسكي مستعد لمقايضة أسرى كوريا الشمالية واستخبارات بيونغي ...
- ما وراء استراتيجية أردوغان المزدوجة تجاه الأكراد؟
- كايا توضح شروط أوروبا لرفع العقوبات عن سوريا
- نائبان لبنانيان يعلنان انسحابهما من الترشح إلى رئاسة الحكومة ...
- -رفض عرضنا بغرور-.. زيلينسكي يصعد لهجته ضد رئيس وزراء سلوفاك ...
- كندا ترسل 60 رجل إطفاء للمساعدة في إخماد حرائق كاليفورنيا
- روسيا تحتل المرتبة الثالثة بين القوى البحرية الرائدة حول الع ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيرة تم إطلاقها من اليمن


المزيد.....

- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - بين العنف والعفو: مقاربات أدبية وفلسفية في طبيعة الإنسان