|
إنتهاء إزدواجية السياسة التركية منذ مائة عام والفوضى على الأبواب أو الحل الجذري
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 8220 - 2025 / 1 / 12 - 11:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تشذ تركيا عن الطبيعة المعهودة للدول القائمة برزمة من الصفات. هذه الصفات تجعل تركيا أن تجد نفسها دوما في مواضع شاذة وغريبة، وتلقى دوما نتائج لا تعكس رغباتها، بل تزيد إحباطها وفشلها في مضمار العلاقات الدولية. ماهي هذه الصفات ومن أين ينبع الشذوذ والغربة التركييان عما هو معهود في مضمار السياسة والعلاقات الدولية؟ تتسم السياسات الدولية في مضمار العلاقات الدولية بكثير من المتغيرات، والثابت الدائم هو المتغير، وتتباين المتغيرات بتباين الظروف والعوامل الكثيرة والمتداخلة. وهذا المتغير في السياسات الدولية يعطي الصورة الدائمة على المستوى العام إشعاراً بأن هذه الصورة مستقرة، وكل ما يحدث في إطار الصورة العامة من تقلبات وأحداث إنما هو عقابيل ولواحق للسياسات المعهودة ومن متطلباتها. وفي هذا الإشعار أو النظرة العامة الكثير من الصواب، رغم أن الثابت الدائم المتغير لا يتقيد ولا يلتزم بقواعد محددة ذات حافات حادة واضحة التقاسيم. فالمساحات الرمادية هي الأكبر رقعة من الديباجات التي نقرأها في القوانين والدساتير الدولية. مثلا، إن إستخدام الأسلحة المحرمة دوليا يعتبر من الجرائم ضد الإنسانية، وعليه فإن العقوبات ستطال الدول والمنظمات التي تستخدم الأسلحة المحرمة دوليا. وحين استخدم صدام حسين الأسلحة المحرمة ضد الكُرد في الثمانينات، التزمت الدول الكبرى الصمت، ولم تستخدم هذه الورقة ضد نظام صدام حسين إلا حين خرق قواعد دولية أضرت بمصالح الدول الكبرى، وتجلى ذلك في غزو الكويت عام 1990. ففي الثمانينات، استخدمت القوى العظمى، وتحديدا أمريكا وبريطانيا وكذلك الإتحاد السوفييتي، أجهزة إعلامها لصالح دحض الأخبار التي كانت تتداول بشأن إستخدام العراق للأسلحة المحرمة في مناطق كُردستان. لذلك، فشلت جهود ومساعي قادة الكُرد في إيجاد آذان لهم في أمريكا وأوروبا، ناهيك عن الإتحاد السوفييتي، في ما يتعلق بشكاويهم ضد العراق وإستخدام الأسلحة المحرمة. ويروي جلال طالباني الرئيس العراقي الراحل (في حديث تلفزيوني عام 1991)، أنه دنى من الوزارة الخارجية الأمريكية في عام 1988، للتباحث مع المسؤولين الأمريكان بشأن إستعمال العراق الغازات السامة في مناطق كُردستان، لكن الوزارة رفضت إستقباله، وبدلا من ذلك بعثت موظفا صغيرا للإلتقاء بطالباني في إحدى مقاهي واشنطن. ويضيف طالباني أنه دفع ثمن القهوة بنفسه، ولم يشكل اللقاء أي أهمية تذكر، فيما عاد هو خائبا متذمرا وحانقا على أمريكا وإنحطاطها الإنساني كما قال!
تركيا على خطى العراق وسوريا تأسست الدولة التركية الحالية في عام 1923، كجمهورية منبثقة من التركة العثمانية مثل سوريا، العراق، لبنان ودول أخرى. الجمهورية التركية، وهي جمهورية آيديولوجية بإمتياز، ترسخت بقواعد ثابتة شديدة الحدة في السياسة وفي بناء القانون في الدولة الجديدة. في مقالات سابقة، منذ عام 2006، أردد بشكل أو آخر، أن تركيا تتبع السياسات التي تقصم ظهرها، وهي ليست إلا تكرارا لنفس الآداء الذي قدمه نظام صدام حسين والذي أدى إلى أن يدفع العراق والمنطقة برمتها أثمانا باهظة لسياسات خاطئة جدا، وحسابات مغلوطة كارثية. يؤلمني جدا، وأنا أرى الممارسات البلائية تتكرر في أنظمتنا المتعاقبة التي لا تتعظ بحال، وكأنها مسحورة تساق إلى العواقب الوخيمة. إلى عدم إتعاظها، لا يبدو أن أنظمة منطقتنا مقبلة على ما يثبت العكس، ولا سبيل للناصحين بالخير إلىها، وعقبى كل نظام منها إرتكاس في نفس الوهدة، حيث الخراب يتسع مدى الأفق، وكأنّ الفرَج معدوم لا سبيل إليه أبدا. الأزمة الأساسية في السياق التركي لا يتعلق بالساسة والشخصيات المتنفذة مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فهذا الرجل يبدو طيبا، ويريد الخير لتركيا والمنطقة، لكنه بقدر ما هو محكوم ليس حاكماً. ومرد ذلك هو أنه مكبل بالسياسات الثابتة والراسخة التي تجعل حركته مشلولة حينا، وسريعة حينا آخر، ومتضاربة في جلّ الأحيان في صرعة جنونية وتذبذب مضطرب. وهذه السياسات التي تشكل لب الدولة والحكومة والعقل الجمعي للشعب التركي، هي التي أسسها ورسمها كمال أتاتورك مؤسس الدولة الحالية. من المؤسف لتركيا، وهي بلد جميل يحتضن تراثا غنيا للدولة العثمانية ذي القرون المتعاقبة، فضلا عن الغنى الحضاري للإسلام والثقافات المتراكمة في تلك البقعة، أن تكون لقرن كامل أسيرة بعض الأفكار والسياسات الشاذة والمنحطة حقا والتي رسمها ضابط صغير نزق، سمي بأتاتورك (أي والد الأتراك)، قضى معظم حياته في شرب الكحول والدخان ومطاردة النساء، فضلا عن إحتقاره لنفسه وشعبه بسبب الإسلام والثقافة العربية. أي أن سياسات تركيا لم يرسمها المتخصصون في القانون والفلسفة والتأريخ والسياسة، بل ضابط سكير ينبذ تأريخ الأمة ودينها وتراثها. إن شخصية هذا الضابط وأصله الغامض يقولان لنا الشئ الكثير، قبل أن نتحدث عن سياسات تركيا الخاطئة والكارثية. إن أم أتاتورك معروفة وإسمها زبيدة، وهي غجرية شبه شقراء من بلغاريا من الأقلية اليوروكية وهم غجر بدوييون. هذا ما يقوله بعض الدراسات التأريخية التركية. وثمة دراسات تركية أخرى تقول: أنها و والدها ولدا في مكدونيا شمال اليونان. تزوجت هذه المرأة من شخص إسمه علي رضا أفندي، حين كان عمرها أربعة عشر عاما، وكانت أصغر منه بحوالي عشرين عاما. مات رضا أفندي، عندما كانت زبيدة شابة ذي ثلاثين عاما. كان أتاتورك شبيها بأمه وأخذ منها لونا فيه شئ من الشقرة وعينان زرقاوتين، لكنه فضلا عن عدم وجود تشابه بينه وبين أفندي (الوالد المفترض)، فقد كان ينفر من أي ربط ينسبه بأفندي، كما تقول الروايات التأريخية التركية. لكن الثابت أن أفندي أيضا من الأقلية اليوروكية الغجرية، ولد في صالونيكي باليونان وخدم تحت إمرة مدحت باشا جنبا إلى جنب مع نامق كمال المعاديان للإسلام والعثمانية ومن مؤسسي منظمة الإتحاد والترقي. وثمة روايات تركية أخرى تقول بأن أتاتورك من يهود الدونمه (الذين هربوا من الأندلس واستقروا في تركيا)، وهو نفسه لم ينكر ذلك حين قاله له خادمه الشخصي فأجابه أتاتورك: لا يهم أصل الإنسان بل ما يقدمه من عمل. إسم أتاتورك أثناء الولادة هو مصطفى، وأضاف معلمه في المرحلة الإبتدائية إسم كمال، للتفريق بينهما نظرا لإشتراكهما في إسم مصطفى (أرجو المعذرة للخطأ في المقال الأول، نظرا لإعتمادي على الذاكرة البعيدة في قراة كتب تأريخية تركية عن أتاتورك حول الروايات المتعلقة بأصل إسمه). مات أفندي قبل بلوغ الخمسين عاما، بسبب المرض والإدمان على شرب الكحول كما يُروى، وكان سن أتاتورك أقل من سبع سنين. بعد ذلك، تزوجت زبيدة من رجل آخر. لماذا نذكر هذا الجانب من حياة أتاتورك؟ لأن الدراسات حول هذا الشخص تؤكد، أن لون بشرته وشعره شكل أهمية قصوى في حياته، حيث كان مغمورا بذلك منساقا إلى أحلام اليقظة بالإنتماء إلى الجنس الأوروبي، والنفور من الإسلام والعرب، وكل ما يمت بصلة إلى الشرق. كان مدمنا على الخمر والدخان وكراهية الإسلام والنبي، إلى حد إمتعاظه الشديد ذات مرة وهو يسمع الآذان بين جمعٍ من ضباطه ومساعديه قائلا "اسمعوا كيف يُردد إسم هذا البدوي العربي من الصحراء خمس مرات في اليوم في بلادنا!" لذلك، قام بتغيير الآذان إلى اللغة التركية، ومحا أي أثر إسلامي أو عربي في حياة الدولة، وقام بتغيير جذري خطير للغة التركية، حيث حول حرفها من العربي إلى اللاتيني، مما خلق كارثة كبرى، حيث ضاع جيل كامل في التيه والمعاناة مع اللغة الجديدة التي جهلها الأتراك، وصاروا غرباء في وطنهم. وإلى يومنا هذا، لا يقدر الأتراك على قراءة التراث العثماني المكتوب بالحرف العربي، ويحتاجون إلى مترجمين ومعظمهم كُرد يتقنون العربية والتركية والعثمانية! هذا الضابط، بمرتبة ملازم، وجد طريقه إلى السلطة بمعاونة الدول الأوروبية، واستطاع أن يسن الدستور والقانون، ويغير ثوابت الأمة من جذورها، ومازال الأتراك ماضين على دستور وقانون هذا الضابط. والسؤال هو أين هذه الأمة وعلماؤها وكبار رجالاتها، ليقفوا أمام شاب عسكري نزق، قلّب السماء والأرض على تأريخهم ودينهم وتراثهم وبلدهم؟! وكل الإسلاميين الأتراك، منذ عدنان مندريس في خمسينيات القرن الماضي، وصولا إلى أردوغان ومرورا بأربكان، لم يقدروا أن يغيروا عُشر ما أسسه أتاتورك، رغم أن أتاتورك نجح في أن يغير كل ما يمت بصلة إلى الأتراك وقد عاشوا عليه لقرون وأحقاب!
السياسات التركية المعاصرة وعقبة أتاتورك وضع أتاتورك سياسات ثابتة للدولة التركية، تقضي بأن الناس الموجودون في تركيا هم أتراك، ولا غير ذلك. ومن هنا نشأت عقيدة جديدة بين الأتراك هي، فضلا عن تقديس أتاتورك، الإيمان والإلتزام الحرفي بكل ما قاله حد النص المقدس. ولذلك فإن الملايين من الكُرد لم يواجهوا عنصرية الدولة والأنظمة المتعاقبة في تركيا فحسب، بل وعنصرية الشعب التركي الذي ظل يتحسس من لفظ الكُرد وكُردستان إلى يومنا هذا، والأدلة كثيرة لا تحتاج إلى الإشارة. ومن هذا الباب، فإن سياسة تركيا العامة ظلت مرتبطة إرتباطا لا فكاك منه بهذه العقيدة الناشئة، وهي إنكار وجود الكُرد والهوية الكُردية. وترسخت هذه العقيدة والسياسة بعد أن قضى الأنظمة التركية منذ أتاتورك، بمعاونة الإنجليز والفرنسيين، على جميع الثورات الكُردية التي قادها العلماء والشيوخ مثل شيخ سعيد بيران، بديع الزمان سعيد الكُردي (المعروف بالنورسي)، سيد رضا ديرسيمي، إحسان نوري باشا وغيرهم الذين قادوا إما ثورة مسلحة أو ثورة إيمانية فكرية. ومع كل هذا العداء للدين والكُرد من قبل النظام الأتاتوركي، لكن الدعاية التركية منذ مائة عام هي تضليل الرأي العام العربي والإسلامي عبر تصوير الكُرد كأعداء للدين، مع أن الواقع يثبت العكس. مع العلم، فإن الدعاية التركية بإتجاه أوروبا كانت على العكس، وهي تصوير الكُرد كمسلمين متزمتين وأعداء للغرب والديموقراطية، وكانت الحكومات التركية تقدم الأدلة للدول الأوروبية بثورات الكُرد، أنها تقاد من قبل علماء المسلمين وشيوخ الطرق! في مضمار السياسات الدولية، تمسكت تركيا ككيان مصروع ومضطرب بالمبدأ الأتاتوركي الثابت القاضي بالعداوة والإنكار المطلق للهوية الكُردية، وأي حقوق تُبت فيها على أساس الإقرار بالوجود الكُردي في المنطقة كلها، بل وفي العالم! وحتى لا يستغرب القارئ، فمثال واحد يوضح مدى رعب تركيا من أي شئ يمت بصلة إلى الإسم الكُردي. قبل أعوام، تبرع مثقف كُردي بمجموعة كتب كُردية للمكتبة العامة بسيدني في أستراليا التي وضعتها في خانة خاصة تحت عنوان: كتب كُردية. لكن بعد فترة، تفاجأ هذا المثقف أن الكتب أزيلت، وحين استفسر عن سبب ذلك شرحت إدارة المكتبة له كيفية تدخل السفير التركي، وإعتراضه على وضع الإسم الكُردي في المكتبة و وضع كتب كُردية، لأن هذا يضر بسياسة وأمن تركيا وفق السفير التركي! منذ تأسيس هذه الجمهورية الآيديولوجية، فإن تركيا رضخت للدول الغربية بشكل مطلق، مقابل مكاسب لا تبدو ذي أهمية تذكر وهي ما يتعلق بالسياق الكُردي. فالدول الغربية نالت من تركيا ما يخدم سياستها، لكن تركيا فضلا عن خدمتها لهذه السياسات الغربية، كان لها هدف دائم وهو خنق الكُرد داخل تركيا، ومحاربتهم عالميا، دون أي إنجاز آخر. ففي عام 1991، شاركت تركيا في حرب دول التحالف الغربي ضد العراق مقابل عدم إقامة دولة كُردية، وفعلا وعدت دول التحالف تركيا بمنع دولة كُردية في العراق، لكنها أقامت المنطقة الآمنة التي طوّرها الكُرد لاحقا إلى الفيدرالية بمرور الزمن، وصارت تركيا في موقف ينطبق عليه المثل العربي: كأنك يا بو زيد ما غزيت. وفي عام 1993، دخلت طانسو تشيلر، رئيسة الوزراء في ذلك الوقت، إتفاقا أمنيا-إستخباراتيا مع أمريكا وإسرائيل لمواجهة التهديدات الإقليمية. كان هدف تركيا مواجهة الكُرد في عموم المنطقة، ولم تنجز شيئا يُذكر، بينما حققت أمريكا وإسرائيل أهدافا إستراتيجية كبيرة، مكنتها من تحقيق إنتصارات متنوعة وعلى أصعدة مختلفة في السنوات التي أعقبت عام 1993. وفي عام 2014، بعد أن كانت تركيا ممرا للدواعش إلى سوريا والعراق، بهدف تقويض القوة الكُردية، وجدت تركيا أن عدم وقوفها مع قوات التحالف أضرت بها، نظرا لتعاظم القوة الكُردية المحاربة لداعش تحت مظلة القوات الغربية، فهرعت تدخل ذليلة ومنبوذة نوعا ما في حملة القوات الغربية ضد داعش، ولكنها لم تستطع أن تحد من وهج وبروز القوة الكُردية التي كان لها الدور الأبرز في دحر قوات داعش في سوريا والعراق. ثم في عام 2015، أثناء التصعيد العدائي بين روسيا والغرب، عمدت تركيا إلى إسقاط طائرة روسية، دون مبالاة بعواقب هذا الفعل غير المحسوب بدقة، فكان أن كشّرت روسيا عن أنيابها، وأصبحت وجها لوجه أمام تركيا في حالة إنذار حرب وشيكة. لكن تركيا وهي مرتبكة وخائفة، كانت تلتفت إلى الوراء كل ساعة، لعلها تلقى دفاعا ومساندة ودعما من دول الغرب، فما أبدت دول الغرب إلا برودة وإهمالا متعمدا تجاه تركيا، وصرّحت بشكل واضح أن لا علاقة لها بالتصعيد بين تركيا وروسيا. فما كان من الرئيس التركي أردوغان إلا أن ركب طائرته مسرعا إلى موسكو، يستجدي العفو من الرئيس الروسي بوتين بكثير من الإرتباك والذل، رامياً بـ"الخطيئة" على الطيار الذي قيل بإنتمائه إلى جماعة فتح الله غولن التي حظرتها الدولة التركية. وكل هذه العملية التركية، من أولها إلى آخرها، جاءت لهدف واحد، وهو محاولة إستمالة القوات الغربية إلى جانبها لتقويض الكُرد في سوريا وتحجيمهم، لكنها فشلت فشلا ذريعا. وبمرور الأيام، إزداد الكُرد قوة واتساعا ورسوخا، نائلين المزيد من ثقة ودعم الغرب والعالم. الثورة السورية عام 2011 وتركيا وهاجسها المرعب الدائم من الكُرد لولا تركيا، لكان النظام السوري قد سقط في عام 2011. ولو كان النظام السوري ساقطا في عام 2011، لتنجنّب السورييون الأهوال العظيمة التي لاقوها في الأعوام التي أعقبت. كيف ساهمت تركيا في الحفاظ على النظام السوري ولماذا؟ تماطلت تركيا في دعم المعارضة السورية وحصولها على الأسلحة المضادة للدروع والطائرات، وأعاقت دعمها وتقدمها بإتجاه إسقاط النظام في دمشق، نظرا لأنها كانت تنتظر ضمانات دولية، لتفريغ المنطقة الكُردية في شرق الفرات من القوات الكُردية، وأنها لن تكون إقليماً كُردياً بإدارة ذاتية أو فيدرالية لما بعد سقوط نظام سوريا. لكن الدول الغربية لم تكن تبالي بما تريده تركيا التي فقدت موقعها العسكري والجغرافي بالنسبة لقوات التحالف، بسبب وجود قواعد أمريكية أخرى في المنطقة وإنتشار قواتها في سوريا والعراق، و وجود قوى محلية متحالفة معها، بهتت من وهج تركيا وعضويتها الأطلسية الشئ الكثير. لذلك فحين كان نظام بشار الأسد يتقدم منذ عام 2015، ويستعيد المدن تلو أخرى، كان أردوغان (الذي عُرف بداعم الثورة السورية) قد فقد مصداقيته لدى الشارع السوري أولا قبل الآخرين. وكل ما كان يملك إزاء تقدم القوات السورية هو إطلاق تصريحات جوفاء، من قبيل أن حلب خط أحمر، وحمص خط أحمر والغوطة خط أحمر ...الخ، حتى سقطت كل الخطوط الحمراء وسمي أردوغان بالسيد خطوط حمراء. وعلى أقل تقدير منذ ثلاثة أعوام قبل سقوط النظام في سوريا، حاولت تركيا فتح علاقة مع دمشق، وترتيب لقاء بين الرئيس السوري والرئيس التركي لكن الأسد رفض اللقاء بأردوغان بشدة. وكان هدف تركيا هو إعادة إنتشار قوات الأسد في عموم سوريا، والقضاء على المنطقة الكُردية الخاضعة لقوات قسد، لكن الأمنية لم تتحقق. وحين علمت تركيا بالخطة التي شاركت فيها إسرائيل وأمريكا وروسيا ودول الخليج، القاضية بإسقاط النظام في دمشق، هرعت إلى إيجاد دور لها وإبراز هذا الدور إعلاميا، فركبت الموجة، لكي تبدو وكأنها هي التي قامت بإسقاط النظام، لتمهد لنفسها ممارسة الوصاية على الحكومة المقبلة في دمشق من اجل نفس الهدف المنشود الذي ظل صداه يتبدد في الهواء منذ عام 1923، أي التأريخ الذي أسس فيه أتاتورك جمهوريته الآيديولوجية العنصرية. وكل سياسة أردوغان اليوم تنبع من إتجاه واحد، وهو مجاملة الداخل التركي المشحون بعنصرية متجذرة وإنفعال قومي صاخب، لا يرضى بأدنى الحقوق للكُرد وأي وجود قومي لهم على الإطلاق. وحاول الرجل جاهدا التوفيق بين هذا الداخل الملتهب أبدا، وتطلعاته الإسلامية المتذبذبة والمجروحة، ومحاولة تقوية تركيا دوليا وإقليميا في شبكة معقدة ومتقاطعة من المصالح والسياسات المختلفة والمتغيرة التي تهيمن عليها القوى الغربية. لكن الثابت التركي-الأتاتوركي ظل عائقا وخائبا أمام زخم المتغيرات الدولية. وفي الأثناء تعاني تركيا تدهورا إقتصاديا شديدا، إلى درجة ارتفع سعر الخبز خمسة عشر ضعفا عما كان عليه قبل خسمة أعوام. وللقارئ أن يتخيل كيفية المعيشة في تركيا، في ظل إرتفاع الأسعار والتضخم، وباقي المعضلات والأزمات الإقتصادية في ظل تدهور سعر الليرة التركية في الأسواق حيث كانت مائة دولار أمريكية تساوي حوالي 450 ليرة تركية في أعوام 2017-2018، بينما تبلغ أكثر من 3500 ليرة في الوقت الحاضر. لذلك لم يبق لتركيا إلا أن تتفاوض مع الزعيم الكُردي أوجلان، بهدف إيجاد مخرج لها في الأزمات التي بدأت تشد الخناق عليها. فتركيا تبدو كهرّ منفوخ في سوريا، وهي تحاول محاربة قوات قسد دون جدوى، وهي تلاقي الضربات والهزائم المتتالية لميليشياتها وقواتها التي لا تملك معنويات القتال، وتفتقد إلى هدف معقول في إستمرار القتال في أراضي ليست جزءا من دولة تركيا. وإذ تتمتع قوات قسد بدعم أمريكي وأوروبي واضح وصريح، فإن أردوغان ودولة تركيا أصبحا في موقف أكثر تأزما وتخبطا وضعفا منذ عام 1923. وليس أمامهما سوى إعلان نهاية الجمهورية الآيديولوجية ورمي قوانين الضابط الغجري النزق في المزبلة والدخول كلّيا في مرحلة جديدة تعيد الصواب للعلاقة بين الشعبين الكُردي والتركي، وعلاقة تركيا بدول الجوار، بدل اتخاذ سياسة إنتفاخ الهر، لأن تركيا لم تجن من هذه السياسة سوى الخسارة والذل والمزيد من الإحباط. وبخلاف ذلك، ومن دون حلّ جذري وجدّي للقضية الكُردية والشعب الكُردي الذي يبلغ تعداده في شمال كُردستان (شرق تركيا) أكثر من ثلاثين مليونا، فإننا سنرى تركيا وقد تحولت إلى سوريا جديدة أو عراق جديد، في غضون عام أو عامين. وسياسة المماطلة والخداع مع الكُرد وقت الضعف، ريثما تتقوى الدولة مرة أخرى، تكرار لنفس السياسات الخاطئة للأنطمة السابقة في المنطقة. ومن جرّب المجرب حلت به الندامة.
#علي_سيريني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كسوريا، التقسيم والفوضى يطرقان بوابة تركيا
-
حلب بداية تأريخ جديد في المنطقة وشرارة حروب وتخوم تستعر بجحي
...
-
السلام بين الكُرد والترك بوابة لتأريخ عظيم في المنطقة وتشالد
...
-
لماذا تركز إيران والمحور الشيعي على معاداة إسرائيل
-
حماس والإسلام والصراع مع إسرائيل
-
بسمة النجاة
-
لماذا لم ينهض العرب و المسلمون وتقهقروا
-
نهاية عصر الديموقراطية الليبرالية الغربية
-
تركيا أمام أمام تغيير كبير وحاسم في 2023 على مفترق طريقين تش
...
-
في مسألة الشواذ الجنسي والقوانين المزمع ترسيخها وفرضها على ا
...
-
الدولة التركية والإخراج السيئ لسيناريو تفجير إسطمبول
-
الهجوم على محمد حبش ظلم وعدوان
-
المخرج و الحل الأمثل لأزمة العراق
-
المؤسف من العلاقات الكُردية التركية في ظل المرحلة الأردوغاني
...
-
ماذا نفهم من دنو الرئيس أردوغان من إسرائيل: علم إسرائيل مرفر
...
-
حرب أوكرانيا طريق نحو الدولة العالمية: روسيا ليست جزءا من أو
...
-
مخاطر إستمرار الحرب الروسية الأوكرانية على العالم
-
محنة الكُرد ومحنة بارزاني الصراع على رئاسة الجمهورية مع برهم
...
-
أهل البيت في القرآن لا يشمل علي بن أبي طالب وفاطمة وذريتهما
-
رسالة مفتوحة إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله الس
...
المزيد.....
-
مشهد يثير الغرابة.. دب يسبح في بركة منزل أثناء السبات الشتوي
...
-
حتى تتخيل فداحة الوضع.. خرائط تبين حرائق لوس أنجلوس وامتداده
...
-
لن تصدق ما عثر عليه بحقيبة مسافر كندي بمطار الهند.. شاهد الص
...
-
بعد زيارة ميقاتي لدمشق.. الرئيس اللبناني الجديد يتلقى أول ات
...
-
رئيس محكمة العدل الدولية يعلن استعداده لتولي رئاسة الحكومة ا
...
-
الجيش السوداني يسيطر على مجمع الرواد السكني في الخرطوم
-
-بشرط واحد-.. الأردن يسمح للسوريين المقيمين في عدد من الدول
...
-
بيربوك من الرياض: اقترحنا نهجا ذكيا بشأن العقوبات على سوريا
...
-
اجتماع -الوزاري العربي- بشأن سوريا: تأكيد على دعم العملية ال
...
-
مصر تشدد على أهمية عدم إيواء أية عناصر إرهابية في سوريا واست
...
المزيد.....
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
المزيد.....
|