|
خاير بك بين صفحات العار والتاريخ: كيف سقطت دولة المماليك؟
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8220 - 2025 / 1 / 12 - 10:13
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
د.حمدي سيد محمد محمود
على مرِّ العصور، خطّت صفحات التاريخ أسماء قادة وزعماء وشخصيات أثرت في مصير الأمم، بعضها بزعامته وشجاعته، والبعض الآخر بخيانته وغدره. ومن بين هؤلاء الذين تركوا بصمةً في ذاكرة التاريخ، سواء بحسن الذكر أو سوئه، تبرز شخصية خاير بك، الذي عُرف بلقب "خائن بك"، كأحد أبرز رموز الخيانة السياسية والعسكرية في التاريخ الإسلامي. إن قصته ليست مجرد حكاية شخصية صعدت إلى قمة السلطة بخطوات من الخيانة، بل هي انعكاس عميق لتحولات سياسية كبرى شهدتها المنطقة في بداية القرن السادس عشر الميلادي، حيث تداخلت الأطماع الشخصية مع المصالح الدولية، وانهارت دول لتقوم على أنقاضها إمبراطوريات جديدة.
في زمن كانت فيه مصر والشام معقلين للحضارة الإسلامية تحت حكم المماليك، واجهت هذه الدولة تهديدًا وجوديًا من قبل الإمبراطورية العثمانية الصاعدة. كان المماليك في حالة ضعف داخلي وتصدّع سياسي، في حين كانت العثمانية تمد نفوذها بقوة السلاح والدهاء السياسي. وسط هذا المشهد الملتبس، ظهر خاير بك، الرجل الذي شكّل نقطة تحول حاسمة في صراع القوى بين المماليك والعثمانيين، ليس بسبب شجاعته أو حكمته، بل بسبب خيانته التي غيّرت مجرى الأحداث.
إن خيانة خاير بك في معركة مرج دابق (1516) لم تكن مجرد فعل شخصي، بل كانت تمثيلًا دراميًا لانهيار قيم الولاء والشرف في مواجهة الأطماع والمصالح الذاتية. تلك اللحظة التي التقى فيها الطموح الشخصي بالخيانة الوطنية أدت إلى زلزال سياسي أطاح بدولة المماليك، وفتح الطريق أمام سيطرة العثمانيين على مصر والشام، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ الإسلامي.
لكن، ما الذي يدفع رجلًا كخاير بك إلى خيانة دولته وسلطانه؟ وكيف يمكن لخيانته أن تؤدي إلى تغيير موازين القوى الإقليمية؟ هل كان خاير بك مجرّد انتهازي، أم أن الظروف المحيطة دفعته لاتخاذ هذا المسار؟ وكيف نظر إليه معاصروه، وكيف بقيت سيرته في ذاكرة الشعوب؟
في هذا الطرح ، سنسلط الضوء على حياة خاير بك، منذ نشأته وصعوده في دولة المماليك، وحتى دوره المحوري في سقوطها، وعلاقته بالعثمانيين الذين منحوه السلطة التي كان يطمح إليها. سنقف عند الأسباب التي دفعته إلى الخيانة، وسنناقش تبعات أفعاله على المستويين السياسي والاجتماعي. كما سنتناول الإرث التاريخي الذي تركه، وكيف أصبحت سيرته عبرة لمن يخون الأمانة ويبيع الوطن.
إن تناول شخصية خاير بك هو في جوهره استدعاء لسؤال جوهري يتكرر في التاريخ: هل يمكن للخيانات أن تصنع أبطالًا أم أنها لا تُخلف سوى رموزٍ للعبرة والندم؟
خاير بك شخصية مثيرة للجدل
خاير بك، المعروف أحيانًا بلقب "خائن بك"، هو شخصية تاريخية بارزة لعبت دورًا محوريًا في أحداث سقوط المماليك وسيطرة العثمانيين على مصر والشام في بدايات القرن السادس عشر الميلادي. يعتبر خاير بك شخصية مثيرة للجدل بسبب أفعاله وتحالفاته التي أثرت بشكل كبير على مسار الأحداث في تلك الفترة. فيما يلي عرض لحياته ودوره التاريخي:
النشأة والخلفية التاريخية
ولد خاير بك في أوائل القرن السادس عشر كواحد من مماليك السلطان الأشرف قانصوه الغوري، سلطان دولة المماليك في مصر والشام. كان ينتمي إلى نخبة المماليك الشراكسة الذين حكموا مصر منذ أواخر القرن الرابع عشر. تميز بخبرته الإدارية والعسكرية وصعد سريعًا إلى مراكز القوة داخل الدولة المملوكية، حيث عُيّن واليًا على حلب، التي كانت من أهم ولايات الشام في ذلك الوقت.
الدور في معركة مرج دابق (1516)
خاير بك كان أحد القادة المماليك الذين شاركوا في معركة مرج دابق الشهيرة، التي دارت رحاها بالقرب من حلب بين الجيش المملوكي بقيادة قانصوه الغوري والجيش العثماني بقيادة السلطان سليم الأول.
خلفية خاير بك ودوره
كان خاير بك والي حلب آنذاك وأحد القادة المماليك. على الرغم من موقعه البارز في صفوف المماليك، إلا أنه كان يتطلع لتحقيق مصالح شخصية على حساب الولاء لدولته. في إطار تحالفاته السرية، تواصل مع السلطان العثماني سليم الأول، الذي كان يستعد لمواجهة المماليك بهدف بسط نفوذه على العالم الإسلامي. قام خاير بك بالتآمر مع العثمانيين، حيث وعدهم بتسهيل الهزيمة المملوكية مقابل ضمان بقائه في السلطة بعد انتصار العثمانيين.
خيانة خاير بك في المعركة
خلال المعركة، التي وقعت بالقرب من مدينة حلب، اعتمد السلطان المملوكي قانصوه الغوري على قادته ومن بينهم خاير بك. إلا أن الأخير استغل هذه الثقة لصالح مخططاته الخيانية. في لحظة حاسمة من القتال، نشر خاير بك شائعات بين صفوف المماليك أن السلطان قانصوه الغوري قد قُتل، ما أدى إلى إثارة الذعر والتشتت بين الجنود. هذه الإشاعة، التي كانت جزءًا من خطته بالتعاون مع العثمانيين، أربكت القوات المملوكية وأضعفت مقاومتها.
علاوة على ذلك، انسحب خاير بك من المعركة مع قواته، تاركًا الجيش المملوكي في حالة من الفوضى، ما سهل على الجيش العثماني بقيادة سليم الأول تحقيق النصر. هذا الخيانة كانت أحد العوامل الحاسمة التي أدت إلى انهيار دفاعات المماليك وسقوط قانصوه الغوري قتيلًا في أرض المعركة.
عواقب فعلته
بعد انتصار العثمانيين، وفى السلطان سليم الأول بوعده لخاير بك، حيث عينه واليًا على مصر، مكافأةً له على خيانته. ومع ذلك، لُقب خاير بك بين المصريين بـ"خاين بك"، في إشارة إلى خيانته لوطنه ودولته، وهو لقب استمر يلاحقه في التاريخ.
تقييم الدور التاريخي
دور خاير بك في معركة مرج دابق يُبرز كيف يمكن للخيانة الداخلية أن تكون أكثر تدميرًا من أي تهديد خارجي. لقد أدى تواطؤه مع العثمانيين إلى سقوط دولة المماليك التي كانت تمثل قوة سياسية وعسكرية في العالم الإسلامي آنذاك، ومهّد الطريق لسيطرة العثمانيين على الشام ومصر النتائج المدمرة: بسبب خيانة خاير بك، تفكك الجيش المملوكي أثناء القتال، ما أدى إلى هزيمته ومقتل السلطان قانصوه الغوري في المعركة. هذا الانتصار العثماني فتح الباب أمام سقوط الدولة المملوكية.
- المناصب الممنوحة: عُيّن خاير بك واليًا على مصر عقب سقوطها بيد العثمانيين بعد معركة الريدانية (1517)، التي أنهت فعليًا حكم المماليك في مصر.
- الحكم الفعلي: حكم خاير بك مصر بصفته ممثلًا للسلطان العثماني، ولكنه واجه صعوبات كبيرة في إدارة البلاد بسبب كره السكان المحليين له، الذين اعتبروه خائنًا لوطنه ودولته.
- الصورة الشعبية: ظل خاير بك رمزًا للخيانة في الذاكرة الشعبية المصرية والعربية. ارتبط اسمه دائمًا بالغدر وعدم الولاء، وأصبح مثالًا يُضرب في بيع الوطن لصالح المكاسب الشخصية. - الصراع الداخلي: يُقال إن خاير بك عانى نفسيًا من تداعيات خيانته، ويُزعم أنه كان يتجنب ذكر هذا الأمر علنًا.
- وفاته وإرثه: توفي خاير بك في عام 1522 بعد خمس سنوات فقط من توليه حكم مصر.
- السمعة التاريخية: رغم أنه ساهم في تحقيق الطموحات العثمانية في المنطقة، إلا أن التاريخ لم ينصفه بل أدانه بسبب خيانته.
التأثير على الأحداث: ساهم خاير بك بشكل مباشر في إنهاء حكم المماليك ودمج مصر والشام في الإمبراطورية العثمانية، وهو تغيير أثّر على مسار المنطقة لقرون.
دروس من تجربته
- الخيانة ومآلاتها: يبرز تاريخ خاير بك مثالًا على كيف يمكن للخيانة أن تُحدث تغييرًا جذريًا، لكن على حساب سمعة الفرد. - الدور الفردي في التحولات الكبرى: يظهر تاريخ خاير بك كيف أن الأفراد يمكن أن يؤثروا بشكل كبير على مسارات الأمم عبر قراراتهم وأفعالهم.
وهكذا، تبقى شخصية خاير بك رمزًا معقدًا في ذاكرة التاريخ، يتجسد فيها الصراع الأبدي بين الطموح الشخصي والمصلحة العامة، وبين الولاء والخيانة. إن سيرته ليست مجرد قصة رجل باع وطنه من أجل مكاسب فردية، بل هي فصل من فصول التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة الإسلامية في بداية القرن السادس عشر، حينما سقطت دول وقامت أخرى على أنقاضها.
إن خيانة خاير بك في معركة مرج دابق لم تكن مجرد لحظة عابرة في سياق الصراع بين المماليك والعثمانيين، بل كانت نقطة تحول تاريخي أثّرت على مصير أمة بأسرها. لقد أسهمت أفعاله في تسريع سقوط دولة المماليك العريقة، ودمج مصر والشام في الإمبراطورية العثمانية التي أصبحت القوة المهيمنة في العالم الإسلامي لقرون لاحقة. ومع ذلك، فإن ثمن تلك الخيانة كان باهظًا، ليس فقط بالنسبة لخاير بك نفسه، الذي ظل يحمل وصمة العار طوال حياته، بل أيضًا لشعوب المنطقة التي عانت من تداعيات هذا التحول الجذري.
إن قصة خاير بك تُذكّرنا بأن الخيانة، مهما كانت دوافعها أو تبريراتها، تظل وصمة لا تُمحى في سجل التاريخ. فالأفراد قد يظنون أن أفعالهم تُمليها ظروف اللحظة، لكن التاريخ ينظر إليها بمعايير أعمق، ترى ما وراء المكاسب الآنية لتكشف عن جوهر القيم التي تتجاوز الزمان والمكان. لقد أراد خاير بك أن يصنع لنفسه مجدًا في عالم السياسة والصراعات، لكن إرثه لم يكتب باسمه مجدًا، بل خلد اسمه في صفحات العار.
واليوم، بينما نعيد قراءة تلك الأحداث، تبرز أهمية استخلاص الدروس والعبر من مثل هذه الشخصيات. إن الأمم لا تنهار بفعل الأعداء فقط، بل كثيرًا ما يكون انهيارها نتيجة خيانات داخلية تمزق صفوفها من الداخل. لذلك، تبقى سيرة خاير بك شاهدًا على أن الطموحات الشخصية التي تُبنى على خيانة الأمانة لا تترك وراءها إلا الدمار والندم.
في النهاية، فإن التاريخ يظل الحكم العادل، لا يرحم من يخذل أمته، ولا يغفر لمن يضع مصالحه فوق مصالح شعبه. وإذا كان اسم خاير بك قد ارتبط بالخيانة، فإن ذلك ليس إلا دليلًا على أن الأعمال الخالدة في ذاكرة الشعوب هي تلك التي تُبنى على الإخلاص والوفاء، لا على الغدر والطمع.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاستشراق والسياسة الدولية: قراءة نقدية في جذور الهيمنة على
...
-
الإنسانوية في مواجهة الذات: قراءة نقدية في مركزية الإنسان
-
بين التراث والحداثة: مشروع حسن حنفي الفكري في نقد الواقع الع
...
-
الميتافيزيقا الإسلامية: قراءة معاصرة في القضايا الغيبية والو
...
-
السياسة النقدية والليبرالية الجديدة: قراءة شاملة في فكر ميلت
...
-
تفكيك القيود: فلسفة جوديث بتلر في تحرير الهوية وإعادة تشكيل
...
-
فلسفة فيورباخ: قراءة نقدية للمثالية والتدين في عصر الحداثة
-
الوعي بالإله في الفلسفة الأوروبية: من الأسس الميتافيزيقية إل
...
-
مصر تحت حكم عباس حلمي الأول: استراتيجية الاستقلال في مواجهة
...
-
مدرسة طليطلة: إرث الحضارة العربية في تشكيل الفكر الغربي
-
القلق الوجودي: جدلية الحرية والإيمان في فلسفة سورين كيركغارد
-
الفينومينولوجيا الدينية: رؤية جديدة لفهم الدين في زمن ما بعد
...
-
مفهوم الخلق الإلهي: بين تأويلات الفرق ومسارات الفلسفة الإسلا
...
-
قراءة في فكر مونتسكيو: نحو أنظمة ديمقراطية عربية مستدامة
-
قوة القيم: الفضيلة التنظيمية كاستراتيجية لتحسين الأداء والسم
...
-
ما بعد الكولونيالية: قراءة نقدية لإرث الاستعمار في العقول وا
...
-
تاريخ الفلسفة الغربية: محطات أساسية في سعي الإنسان لفهم الوج
...
-
بين الفلسفة والدين: قراءة في خلاف الغزالي وابن رشد
-
مقاومة الفكر والروح: كيف تحدى ديترش بونهوفر النازية
-
نقد الفلسفات الغربية في فكر الإمام محمد باقر الصدر: رؤية إسل
...
المزيد.....
-
هل تم تجاوز العقبات إسرائيلياً لوقف إطلاق النار في غزة؟
-
ملف الأكراد بين الأهداف التركية والدور الغربي في سوريا
-
نواف خليل ملف الكرد
-
وفد إسرائيلي رفيع يصل الدوحة لإجراء محادثات هدنة وإطلاق سراح
...
-
زلزال يضرب جنوب غرب المكسيك بقوة 6.2 درجة على مقياس ريختر حس
...
-
زيلينسكي: مستعدون لتسليم بيونغ يانغ أسيري حرب كوريين شماليين
...
-
اجتماع الرياض يدعو لعملية سياسية شاملة
-
الهجرة والجوازات في دمشق تتحدث عن جواز سفر سوري جديد وتعديل
...
-
دبلوماسي روسي ينتقد قرار بولندا إغلاق أجوائها أمام وفد من سل
...
-
الجزائر.. نهاية مأساوية لأم وأبنائها الثلاثة خوفا من البرد
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|