أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - ونتساءل عن لوطن















المزيد.....


ونتساءل عن لوطن


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8219 - 2025 / 1 / 11 - 20:59
المحور: قضايا ثقافية
    


كثيرة هي المرات التي أتساءل فيها عن الوطن، فقبل عقود كتبت في مقال منشور متسائلا إن عن الوطن ثم تابعت تساؤلي بأننا لن نستطيع اختزال الوطن بالشجر والحجر ولا بد أن نصطدم بمن يحكمون البلد ويسمون أنفسهم بشر!؟ هل الوطن هو ذلك الكيان الذي يبدو للوهلة الأولى بسيطا ومباشرا، لكنه ما إن يُوضع تحت المجهر الفلسفي حتى تتبدى طبقاته المعقدة والمتشابكة التي تجمع بين الجغرافيا، والانتماء، والهوية. ما الوطن إذا؟ هل هو مكان؟ فكرة؟ شعور؟ أم مزيج من كل ذلك؟ تتقاطع في هذا السؤال قضايا الأدب والفلسفة والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، مما يجعله محورا لا ينفك عن التطور بتطور الوعي الإنساني.
ربما يبدأ الوطن عادة بفكرة وجود الأرض بذلك الامتداد الجغرافي الذي يؤطر وجود الجماعات ويحدد ارتباطها المادي بالمكان. من هذا المنطلق، ينظر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إلى علاقة الإنسان بالمكان على أنها علاقة وجودية إذ يرى أن "الإقامة في المكان هي تمكين للكينونة". هنا، تتوسع الفكرة ليصبح الوطن أكثر من مجرد مساحة؛ إنه فضاء ينكشف فيه الإنسان على ذاته.
لكن، وعلى نطاق مختلف، فإن فكرة الوطن بوصفه "أرضا" لم تكن دائما ثابتة. ففي سياقات الاستعمار والنزاعات الحدودية، تبدو الحدود الجغرافية فرضية سياسية أكثر منها حقيقة طبيعية. يشير إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية إلى أن الوطن قد يُستلب بفعل روايات القوى الكبرى التي تعيد رسم خرائط الجغرافيا بما يتوافق مع مصالحها . وذلك أمر أكثر من جلي في منطقتنا إذ أن حدود البلدان ليست ثابتة بل تترسم وفقا لضعفنا وقوة صناع القرار السياسي العالمي.
من جانب آخر، ليس الوطن مكانا فحسب، بل هو الشعور الذي يولد من انتماء الفرد إلى جماعة تاريخية وثقافية. يُعرّف عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الهوية الوطنية باعتبارها بناءً اجتماعيًا يتشكل عبر التقاليد، واللغة، والرموز المشتركة التي تولد إحساسًا بالانتماء . في هذا السياق، يمكن استحضار أدب نجيب محفوظ الذي عبّر في رواياته عن وطنية عميقة متجذرة في الحارة الشعبية، كأنها اختزال للوطن المصري كله، فــ"الحارة عند نجيب محفوظ ليست مجرد مكانٍ جغرافي، بل هي مصر بكل تناقضاتها وأحلامها ومعاناتها. وفي روايته زقاق المدق، يختصر الحي الشعبي صورة الوطن من خلال أبطاله الذين يعكسون واقعا اجتماعيا وسياسيا معقدا يظهر ذلك جليا في الثلاثية، حيث يقول في إحدى الحوارات: "الوطن ليس ما تراه بعينيك فقط، بل هو ما تحسه في قلبك. " بعبارة أخرى، الأعمال الأدبية لمحفوظ والتي تجسد فكرة الوطنية الشعبية تعبر عن تمثيل رمزي للمجتمع المصري وأطيافه في ظل التحولات السياسية والاجتماعية في القرن العشرين. وفي كتابه بلدي داغستان (My Dagestan)، يعبّر رسول حمزاتوف عن فكرة الوطن باعتبارها امتدادا للروح والهوية الجماعية، حيث يتداخل المكان مع القيم والتقاليد ليشكل انتماء راسخا. يكتب حمزاتوف: "إنّ الإنسان بلا وطن مثل طائر بلا عشّ"، ويضيف موضحا عمق الرابط الروحي بين الفرد ووطنه: "الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية، بل هو الشعور الذي يولد مع الإنسان ويتجدد مع كل ذكرى وصوت وصورة تعيدنا إلى جذورنا الأولى."
لكن الانتماء ليس بالضرورة شعورا إيجابيا دائما؛ فالأديب الفلسطيني محمود درويش كتب: "الوطن ليس سؤالا تجيب عليه وتَمضي. إنه حياتك وقضيتك معًا" ، مشيرا إلى أن الوطن أحيانا قد يُختزل في صراع دائم لاستعادته أو لتعريفه.
من جانب آخر، يرتبط مفهوم الوطن بالدولة القومية التي عرّفها ماكس فيبر بأنها "كيان يحتكر استخدام القوة المشروعة في حدود معينة" . لكن هذه الدولة القومية، التي يفترض أن تحتضن مواطنيها، قد تتحول إلى أداة قمعية ضد البعض منهم، وهو ما ناقشه فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض ، حيث يشير إلى أن الأنظمة السياسية يمكنها أن تفرغ مفهوم الوطن من محتواه الحقيقي، ليصبح رمزًا للاضطهاد بدلاً من الحرية.
على الجانب الآخر، تمثل الديمقراطية محاولة لتصحيح هذا الانحراف. فهي تسعى لإعادة تعريف الوطن باعتباره فضاء للمشاركة والتعددية، حيث يتمكن كل فرد من الإحساس بأنه جزء من المشروع الوطني المشترك.
وفي عصر العولمة، تغيّر مفهوم الوطن اقتصاديا بشكل جذري حيث أصبح الوطن، في كثير من الأحيان، مجرد موقع في نظام عالمي أوسع يُحدد وفقا لقواعد السوق والتجارة. يرى الفيلسوف زيجمونت باومان في كتابه الحداثة السائلة أن العولمة أضعفت مفهوم الوطن ككيان مستقر، حيث أصبح "المواطن" معلقا في فضاء متحرك بين عولمة رأس المال ومحلية الاحتياجات اليومية.
لكن هذه الدينامية أثرت على مفهوم العدالة داخل الوطن. فبينما يشهد الاقتصاد ازدهارا في بعض المناطق، تعاني أخرى من التهميش. هنا يصبح الوطن ساحة للصراعات الطبقية، كما حللها كارل ماركس في نقده للرأسمالية.
ولو بسطنا المفهوم وتداعياته من الناحية الاجتماعية لاستطعنا القول إن الوطن هو شبكة من العلاقات والرموز التي تصوغ تجربة الفرد في المجتمع. بحسب إيميل دوركايم، فإن الوطن يُعاش كواقع يومي عبر تقاسم القيم والعادات . لكنه يمكن أيضا أن يتحول إلى أداة إقصاء، حيث تُفرض رؤية أحادية على الجماعة. هذا ما ناقشه هومي بابا في مفهومه "الهجنة الثقافية"، الذي يشير إلى أن الهويات الوطنية لا تُبنى في الفراغ، بل عبر التفاعل مع الآخر المختلف .
بعبارة مختصرة، يبقى مفهوم الوطن فكرة متغيرة، تتلون بتجربة كل فرد وجماعة. قد يكون الوطن هو الأرض التي نقف عليها، لكنه أيضا الذاكرة التي نحملها، واللغة التي نتحدثها، والحلم الذي نسعى إليه. إنه ذلك الالتقاء الغامض بين الذات والجماعة، بين الماضي والمستقبل، بين الواقع والمثال. وكما قال أمين معلف في غزو الذاكرة :"الوطن ليس حيث تكون، بل حيث تستطيع أن تكون" ، وهو ما يجعل هذا المفهوم أبعد من أن يُختزل في تعريف واحد أو رؤية نهائية.
وأخيرا، يبقى السؤال قائما: كيف نُعرّف الوطن ونحن نعي أن تاريخه، كما جغرافيته، ليس مستقرا ولا ثابتا؟ أين يجد الفرد نفسه في هذا الوطن الموزّع بين الواقع السياسي والمصالح الاقتصادية، وبين الحلم الكامن في قلب كل إنسان؟ وفي ظل هذا التعقيد، كيف يمكن للبشر أن يعيدوا بناء أوطانهم ليستعيدوا سُلطتهم الذاتية والوجدانية ويحققوا توازُنا بين الهوية والحرية؟



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الموت: التأمل في اللايقين الحتمي
- تأمل سريع في مرور الزمن ودروس الحياة
- الحلم بالنهوض بعد الظلم والقمع
- أهمية القاعدة الشعبية في الحكم
- فراق أبدي
- سوريا: ملتقى الشعوب ونموذج للتعايش الثقافي
- أمل سوريا الجديد
- الانتقام والهدم: نحو تجاوز إرث الثأر لبناء سوريا المستقبل
- الخوف: ثقافة عالمثالثية أم تركيب اجتماعي؟
- الخبز والحرية: الاحتياج المادي والكرامة الإنسانية
- من الاستبداد إلى الشتات: حكاية وطن تحت قبضة الطغيان
- سوريا: وطن منهك بين السيادة المزعومة والحقيقة المرة
- بين الفطرة والتطرّف
- -صموئيل بيكيت: انعكاسات عبثية على الوجود الإنساني-
- هويتنا المفقودة
- لقاء لأجل الجواب عن سؤال -ما العمل!؟-
- إلى أين نحن ذاهبون
- طفل الاغتصاب
- فانتازيا لامرئي
- حروف مفقودة وأمنية


المزيد.....




- بمجال جوي محظور.. -درون- تضرب طائرة مكافحة حرائق وتتلف جناحه ...
- إسرائيل ترسل رئيس الموساد إلى قطر لإجراء محادثات بشأن وقف إط ...
- لقطات تظهر حجم الحرائق بكاليفورنيا
- الجزائر تعلق على قضية مؤثر جزائري طردته فرنسا وتوضح سبب رفض ...
- وفاة أكبر معمرة ليبية في مدينة زوارة عن 114 عاما (صور)
- هل تسعى إسرائيل لتقسيم سوريا لكانتونات؟
- المرشحة لمنصب المستشار الألماني تتعهد بإعادة استئناف -السيل ...
- إعلام: مقتل 7 جنود إسرائيليين وإصابة 33 آخرين في حدث صعب جدا ...
- انخفاض احتياطات الغاز في بريطانيا
- القبض على 7 مصريين ويمنيين في السعودية تشاجروا في مكان عام


المزيد.....

- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - ونتساءل عن لوطن