|
أهمية السياق التأريخي في دراسة الحديث والرواية 4
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8219 - 2025 / 1 / 11 - 20:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إشكالية قبول المنقول في علم التحقيق القضائي المدني أو الجنائي هناك قاعدة لقبول الإدعاء وهي (أن كل إدعاء زعم واجب الإثبات بالأدلة والحجج المنطقية وفق ما يسن من قواعد لها، فلا يمكن قبول الزعم على علاته ما لم يخضع للتحقق منه شرط أن يكون هذا الزعم أبتداء مقبول عقليا وممكن ومن غير المحال تحققه، أو صادر ممن له مصلحة في إثباته ومن ينكره أصلا لا يكلف بالإثبات بل عبء الإثبات ملقى على المدعي، والإنكار الكلي والجزئي يسمع ويتحقق منه بنفس الوسائل السابقة عندها يلجأ للترجيح بين الأدلة والحجج وفق معيار واحد بينهما)، هذه القاعدة القضائية صالحة في دعم كل محاولة لقبول سردية ما يعرفونه من حديث نبوي أو سنة نبوية طالما أن قواعد المحاججة والإثبات تخضع لمبدأ الذاتية دون معيار علمي قياسي محدد، النقطة الأخرى هو عدم وجود الحكم الفاصل والحيادي الذي له سلطة التقرير والترجيح بين الزعم وإثباته وبين النفي وحججه، إذا نحن أمام أعتباط وأنتقائية وإكراه فكري وعقائدي على قبول الزعم طالما أنه مغطى بالمقدس. إن النص الحديثي كان ومنذ عصر التدوين ولليوم ينطوي على الكثير من الإشكاليات لباي تحد من قيمته العملية لولا الإكراه السلطوي الذي تمارسه السلطة السياسية المرتبطة والمتخادمة مع المؤسسة الدينية المنتفعة منه، ليس فيما يخص بعض الأحكام المستقاة منه والتي دعمت بنية النظام السياسي والعقائدي المحافظ فقط، والتي هي بذاتها موضع إشكال وحيرة وتضارب وصدام مع منطق العقيدة القرآنية، ومع خيارات أهل الإيمان الصادق بالله وبالرسول والكتاب إضافة إلى الفسحة الكبيرة من أمر الناس المحكوم من الله بتدبيره شورى بينهم، ومع ترجيحات بدون مرجح وكما قلنا مع غياب الحيادية الفكرية المجردة التي بنيت عليه عملية التدوين والجمع والنقد والتصحيح عند المسلمين فحسب، وإنما أيضا فيما يخص أيضا إشكالية ثبوت النص "الحديث للنبي ص" وموثوقية صدوره عنه، وهي إشكالية ليست كبرى بغياب المراجعة العلمية القياسية والمطلوبة بذاتها لكل عنصر من عناصر التراث، هذه الإشكالية قديمة قدم تبلور الفكر والخطاب الإسلامي ذاته بعد عصر الرسالة، إذ فأن الجدل يدور أولا وأساسا ليس في النص القرآني الثابت والمتواتر والمحفوظ من الله حول الحديث، وهل كل ما يقوله النبي ص هو من الوحي المعصوم الذي تجب كتابته لتأبيده، فلو كان الأمر وجوبي وهو وحي لما منع الرسول كتابة حديثه وهذا المنع هو تقصير منه في أداء الأمانة التشريعية لو كان الأمر كذلك، وقد أختلف رواة الحديث أنفسهم حول موقف النبي من كتابة كلامه وإن كان الراجح مع موقف الخلفاء الراشدين الأربعة من تدوين الحديث والنهي عنه إلا تعزيزا للرأي السائد بالمنع، خاصة أننا نجد ما يؤكده في المسار العام لممارسة خلفائه المقربين من بعده وصحابته الكبار الذين لم يُحجموا عن "التدوين " فقط، وإنما أحجموا عن الكتابة وعن رواية الحديث الشفهي أيضا. مشكلات التدوين المتأخر لكي نقبل المنقول التأريخي على أنه حقيقي لا بد أن يكون هذا المنقول خاليا من الإشكاليات الطاعنه به من حيث هو نقل قيل أن يكون من حيث هو موضوع، فمشكلة القبول تتعلق أولا بإشكالية التدوين قبل أي أمر أخر، وتبدأ الإشكالية التدوين بالتسمية أولا، ومن تحديد معنى السنة التي كانت المبرر الأول للتدوين، ثم ماهية السنة وتفرعاتها والتي لم يتفق عليها المدونون، فمنهم من جعلها ذات مدلول مطاطي يتسع لكل ما يمكن أن ينسب للرسول ومن معه من صحابة وأل البيت، ومنهم من قصرها في حدود ضيقة معتبرا أن السنة تعني التشريع، فهي تحمل كل محمول تشريعي فقط وبذلك خصوا أحاديث الأحكام بمعنى السنة أستنادا لمعنى التسنين أي التنصيص على الملزمات فقط، فابتداء نجد أن "التعريفات التي يقدّمها الباحثون المعاصرون للسنة متداخلة ومتناقضة إلى حد يصعب تتبعها في نسق منتظم"، (فبعضهم يرى أن الحديث ليس مرادفا للسنة، وتوفيق صدقي مثلا يرى أن السنة هي طريقة الرسول التي جرى عليها في أعماله، أما قوله فلم يكن طريقة متبعة له ولا لأصحابه، ولهذا نقل ابن عبد البر أن عمر كان يأمر الناس بتعلم الفرائض والسنن كما يتعلمون القرآن، بينما كان في الوقت نفسه ينهى وبحزم عن التحديث بحديث النبي ص) . إذا من أهم أسباب عدم قبول النقول بالشكل المعروض حاليا وبالمعايير التي طبقت عليه من قبل من يزعمون أنهم من أهل الأختصاص والدراية، الأسباب التالية:. 1. تقديم المعنى العام على البناء اللفظي الأصلي، أي الأعتماد على مقولة تحصيل الحاصل، وهذا أحطر ما يمكن أن يكون في نقل الحديث عبر التركيز على المعنى فقط، يقول أحد المهتمين بنقد النقل الشفاهي للحديث مبينا العلة في ذلك بقوله (على افتراض صحتها ابتداء ليست هي بلفظها الأول الصادر عن الرسول، فالحديث المتكرر لا يُروى بنفس اللفظ عند جميع الرواة المحدثين، مع أنه حديث واحد، تتضمنه مناسبة واحدة)، ويضيف الباحث مثالا أخر أو سببا أخر للطعن بالمصداقية في النقل من خلال تشويه المعنى منذ البدء ( ولهذا ترى ألفاظ الحديث الواحد وقد تكررت بمترادفاتها، وقد يكون ثمة تقديم وتأخير، وقد يختلف التشكيل بما يؤثر على تحديد المعنى مثل حديث "من قال هلك الناس فهو أهلكهم" رُوي بضم الكاف وفتحها، ولكُلٍّ معنى"، وقد يسقط جزء من اللفظ يخترم السياق فيؤثر جذريا على المعنى بما يجعله يحمل معنى مضادا كما في حديث "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" بل حتى ما ورد بلفظ واحد ما الذي يضمن أنه هو اللفظ الأصلي ما دام أن الرواية في العموم قائمة على المعنى؟)، هذا الأمر جديرا بالأخذ به مانعا من قبولنا النص المنقول ليس أعتراضا على ما فيه، بل نسبته صحيحا إلى الرسول محمد ص كما هو والرسول لم يقله ولم يعلم بنه قاله بهذا الشكل، فنكون قد كذبنا على الله وعلى رسوله بما لا يحق وليس بحق والله تعالى يقول {قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (33). سورة الأعراف. 2. من الناحية الشكلية وبعد أن قدمنا في ما سبق الناحية الموضوعية، نجد أن تأخر التوثيق تدوينا لا يتعلق فقط بتأخر الكتابة لأكثر من قرن، من خلال الربط بالإسناد الشفهي المعتمد فيما بعد كشرط جوهري لصحة الرواية هو الأخر قد تأخر كثيرا، إذ يذكر فؤاد سيزكين أن محمد بن شهاب الزهري (توفي 124هـ) هو أول من أسند الحديث مثلما هو أول من دوّن الحديث، فمرور قرن من الزمان على وقائع نقلت على الشفاه ووفق أليات تعتمد على الذاكرة الشخصية التي لم تشهد أيا منها وبغياب الشهود العدول عليها بين الوفاة والتشتت والخضوع لإملاءات الصراع ومصالح السلطة وخصومها، يكون الطعن فيها ضروريا وطبيعيا وواجبا عقليا وحق منطقي أيضا، وحتى تلك المحاولات التي حاولت توثيق بعض ما وصلها بعد تداوله شفهيا لمدى ثلاثة أجيال، لم تكن كتابات منسقة في كتب مستنسخة من الرواة، بل كانت مجرد صحائف متفرقة يستعين بها بعض الرواة على استذكار محفوظاتهم، بدليل أنه لم يصلنا منها شيء إلا ما وصل متضمنا بوصفه جزءا من الكتب المصنفة لاحقا. 3. من اللا منكر عند كل الباحثين في التدوين والأرشفة والمعرفيين بصورة عامة، هو إقرارهم لوجود فجوات معرفية كبيرة جدا لا يمكن تجسيرها والتقليل من أثرها على المدون التاريخي لأن هذه الفجوات تتيح ملأها لمن يشاء بما يشاء، سواء كان ذلك على سبيل الخطأ والسهو اللاّ واعي المتعلق بطبيعة الذاكرة البشرية، أو كان على سبيل القصد الواعي الذي يستهدف خدمة هدف خاص أو عام، هذه الحقيقة أدركها الكثيرون، وقد سجلوها في نتاجاتهم خاصة مع حدوث حركة الصراع الفكري والسياسي بين أقطاب مؤثرة في المعارضة المقهورة والموالاة المهيمنة مع وجود من هم جاهزين لتنفيذ ما يطلب منهم من أمور هم كانوا أساسا جزء من أسباب الصراع ومفاعيله الأولى. 4. طالما أن الحديث والمرويات قد تناقلت عبر عصور وأجيال متعاقبة لا تقل عن خمسة إلى ستة أجيال، فهنا نقف عند مفهوم هضم الجيل الجديد لما أورده من سلفه، فلكل زمان سياق محدد حضاري وفكري مختلف قليلا أو كثيرا عن سابقه، مثلا بعض الصحابة والتابعين ممن نسب لهم الحديث نشأوا في بيئة مكة والمدينة وبلاد الجزيرة، فعندما أنتقلوا إلى الشام أو الكوفة في زمن لاحق، هذا التنقل والهجرة فرضت تغيرا وتبدلا في الرؤية باللا وعي الشعوري، ينعكس أيضا على البيئة الجديدة التي أنتقل إليها وتحدث بما ينقل، الموجود في البيئة الجديدة عندما ينقل الحديث أو المرويات قد لا ينقلها بالصورة التي سمعها، بل يحاول أن يجعلها قريبة عصره وحاضنته وراهنية المكان، هذا الأمر لا يتعلق فقط باللغة بل بفهم الفكرة أيضا، مما يضعف الثقة بالمرويات التي خرجت من بيئة الرسول وأستحقاقات عصره. إذن المبررات التي عادة ما تساق بشأن عدم موثقية عملية النقل من الشفاهي للمدون لها وجهة نظر منطقية تستند على حقيقة أن كل منقول عبر أكثر من شخص لا بد أن يلحقه لاحق في المعنى أو في المبنى، وطالما أننا نتحدث عن رواية عن رسول الله، وبما تحمل هذه الرواية من رمزية أعتبارية لها وللرسول محمد ص، فلا يمكننا أن نقبله مع الشك خاصة وأننا نؤمن أن الظن مهما توافرت له أسباب موضوعية يبقى ظنا لا يقبل تصديقه يقينا {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} ﴿٣٦﴾ ﴿يونس﴾.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهمية السياق التأريخي في دراسة الحديث والرواية 3
-
أهمية السياق التأريخي في دراسة الحديث والرواية 2
-
أهمية السياق التأريخي في دراسة الحديث والرواية
-
في معنى الحديث والرواية ح 2
-
في معنى الحديث والرواية ح 1
-
الحديث والرواية في ميزان النقد....ما يسمى بالحديث النبوي أنم
...
-
في تدبر سورة الصمد
-
في تدبر سورة القدر
-
في تدبر سورة الشمس
-
عالم ما بعد الأممية
-
رديها
-
الكتاب المبين وكتاب مبين دلالات ومقاصد
-
لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞ¯
...
-
تدبر سورة الزمر
-
اسماعيل الذبيح
-
تدبير سورة يس
-
فاطر السموات والأرض
-
رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ
-
خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ بين النظريات والأراء
...
-
ما معنى الجنة التي كنتم توعدون؟.
المزيد.....
-
بمجال جوي محظور.. -درون- تضرب طائرة مكافحة حرائق وتتلف جناحه
...
-
إسرائيل ترسل رئيس الموساد إلى قطر لإجراء محادثات بشأن وقف إط
...
-
لقطات تظهر حجم الحرائق بكاليفورنيا
-
الجزائر تعلق على قضية مؤثر جزائري طردته فرنسا وتوضح سبب رفض
...
-
وفاة أكبر معمرة ليبية في مدينة زوارة عن 114 عاما (صور)
-
هل تسعى إسرائيل لتقسيم سوريا لكانتونات؟
-
المرشحة لمنصب المستشار الألماني تتعهد بإعادة استئناف -السيل
...
-
إعلام: مقتل 7 جنود إسرائيليين وإصابة 33 آخرين في حدث صعب جدا
...
-
انخفاض احتياطات الغاز في بريطانيا
-
القبض على 7 مصريين ويمنيين في السعودية تشاجروا في مكان عام
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|