|
حين تصبح الذاكرة وطناً: قراءة في منزل الذكريات للأديب محمود شقير
ديمة جمعة السمان
الحوار المتمدن-العدد: 8218 - 2025 / 1 / 10 - 13:18
المحور:
الادب والفن
إنّ الأدب الفلسطيني لطالما كان مرآةً تعكس نضال الإنسان الفلسطيني وصراعه مع الاحتلال والاغتراب، إلا أن رواية “منزل الذكريات” للأديب الفلسطيني محمود شقير تكسر هذه الصورة النمطية، لتغوص عميقًا في أعماق النفس البشرية، مستكشفةً موضوعات غير مألوفة كالرغبات في الشيخوخة، والذاكرة كأداة لمقاومة الفقد. بأسلوب أدبي يمزج بين البساطة والعمق، يقدم شقير سردًا يعبر حدود القضية الفلسطينية ليصل إلى القضايا الإنسانية الكبرى، مستلهمًا من الأدب العالمي، وفي الوقت نفسه محافظًا على خصوصية القدس كرمز فلسطيني يتحدى الزمن والجدران. في هذه الرواية، لا تتجلى فقط مأساة الشّعب الفلسطيني، بل تظهر صورة الإنسان المتأمل في مآلات حياته، الباحث عن الحبّ والدّفء وسط عالم قاسٍ. عنوان “منزل الذّكريات”، يحمل أبعادًا رمزيّة تعكس الجوهر العميق للرّواية. فالمنزل، الذي يفترض أن يكون رمزًا للثّبات والأمان، يتحوّل هنا إلى فضاء يموج بالحنين والألم، حيث تصبح الذكريات هي الركيزة الأساسية التي يستند إليها أبطال الرواية لمقاومة تيّارات الفقد والزّوال. العنوان، إذًا، ليس مجرّد إشارة إلى مكان مادي، بل إلى حالة شعورية تُمثِّل صراع الإنسان مع الزمن، ومع ما يتركه من ندوب على الرّوح والجسد. في السياق الفلسطيني، يحمل المنزل دلالة إضافية مرتبطة بالوطن، الذي يتحوّل بدوره إلى ذكرى بالنسبة للكثير من الفلسطينيين، في ظل الاحتلال والاستيطان. كما تميّزت رواية “منزل الذكريات” برسم شخصيّات ذات أبعاد نفسية عميقة، على رأسها محمد الأصغر، البطل الذي يواجه صراعًا داخليًا بين رغباته وهواجسه وضعفه الجسدي في مرحلة الشيخوخة. يقدم محمود شقير شخصيةً غير نمطية في الأدب الفلسطيني، حيث لم يعد البطل محاربًا أو مناضلًا في ساحة القتال، بل هو إنسان يعيش هزائم الزّمن والجسد، ويبحث عن معنى لحياته وسط ذكريات تلتفّ حوله كخيوط العنكبوت. هذا التّحول في صورة البطل يُظهر تطوّر الأدب الفلسطيني نحو التّركيز على القضايا الإنسانية والفردية، بدلًا من التّناول الحصري للصّراع السياسي. إلى جانب محمد الأصغر، تُضيء الرواية شخصيات أخرى، تشكّل بانوراما لمجتمع متشظٍ تحت وطأة الاحتلال والاغتراب. هذه الشخصيات ليست فقط عناصر درامية، بل هي رموز تعكس شرائح مختلفة من الشعب الفلسطيني، وتبرز تحدياته اليومية في ظلّ القيود المفروضة على الجسد والرّوح. ولم تظهر مدينة القدس في الرّواية على أنّها مجرد خلفيّة للأحداث، بل برزت كشخصية روائية بحدّ ذاتها. يظهرها شقير كمدينة تعيش تناقضاتها بين قدسها القديمة المتشبثة بجذورها، وحداثتها التي تتآكل بفعل الاحتلال والحواجز. تتحوّل القدس إلى رمز للوطن الفلسطيني المُحاصَر، الذي رغم القيود والجدران يظلّ نابضًا بالحياة، مُصرًّا على البقاء. يُبرز شقير من خلال الوصف التفصيلي للأماكن حالة العزلة التي يفرضها الاحتلال على المدينة وسكّانها، ليظهر كيف تتحوّل الأماكن إلى “منزل للذكريات”، حيث يُجبر الفلسطيني على استعادة ماضيه، لأنه لا يستطيع العيش بحريّة في حاضره. كما تتناول الرواية موضوع الشيخوخة من منظور فلسفي وإنساني، إذ أن الكاتب يقدّم الشيخوخة ليس كمرحلة زمنية عابرة، بل كحالة وجودية تفرض على الإنسان مواجهة ذاته، ومراجعة حياته. من خلال التناص مع روايات مثل “منزل الجميلات النائمات” و”ذكريات عاهراتي الحزينات”، يظهر شقير أن هواجس الشيخوخة ليست حكرًا على ثقافة معينة، بل هي جزء من التّجربة الإنسانية المشتركة، ولو أنها في سياق فلسطيني، تصبح الذاكرة فعل مقاومة. أمّا بالنّسبة لشخصيات الرواية، فعلى الرّغم من تناقضاتها، نلحظ أنّها تستند إلى ذكرياتها كوسيلة للبقاء، وكجسر يصل بين الماضي والحاضر. الذاكرة هنا ليست مجرد استرجاع للأحداث، بل هي محاولة لإعادة بناء الذات في ظل عالم يتغير على نحو لا يمكن التنبؤ به. كما يظهر الكاتب الحب في الرواية كمحاولة لاستعادة ما فقدته الشخصيات من دفء وأمان، وليس كعاطفة رومانسية تقليدية. هذا التناول الواقعي يضفي على الرواية صدقًا إنسانيًا، حيث يكشف شقير عن هشاشة الإنسان ورغبته في التمسك بالحياة حتى في أصعب مراحلها. وقد أبدع الكاتب في سرده أحداث الرواية من خلال تقنية تداخل الأزمنة، حيث ينتقل الكاتب بسلاسة بين الماضي والحاضر، مما يعزز من شعور القارئ بوقع الذكريات على الشخصيات. هذه التقنية تعكس رؤية فلسفية عن الزمن، إذ يتداخل الماضي مع الحاضر ليشكل مزيجًا معقدًا من التجربة الإنسانية. كما تميزت لغة الرواية بالبساطة، رغم إشباعها بالرمزية والشاعرية. أمّا الوصف في الرواية فهو يحمل أبعادًا عاطفية تضع القارئ داخل العالم النفسي للشّخصيات، في حين تساهم الحوارات الداخلية في تعرية مشاعر الشخصيات وهواجسها. وقد أجاد شقير توظيف التّناص مع أعمال أدبية عالمية، ليس كاقتباس مباشر، بل كوسيلة لتعزيز رؤيته الإنسانية. هذا المزج بين المحلي والعالمي يضفي على الرواية بُعدًا أدبيًا رفيعًا يجعلها قادرة على مخاطبة القارئ خارج حدود القضية الفلسطينية. لا شك أن رواية " منزل الذكريات" ليست مجرد عمل أدبي يتناول الشيخوخة أو الحب، بل هي شهادة على الإنسان الفلسطيني، الذي رغم قسوة الواقع، يظل متشبثًا بالحياة والذّكريات كوسيلة لمقاومة النّسيان والاحتلال. وقد قدّم شقير عبر لغته البسيطة وعمقه النفسي، عملًا يُذكّرنا بأن الأدب الفلسطيني لا يُعرّف فقط بصراعه مع الاحتلال، بل بقدرته على التّعبير عن التجربة الإنسانية بأبعادها كافة. “منزل الذكريات” هي صوت الفلسطيني الذي يتحدّى الزّمن والجدران، ويُثبت أن للذاّكرة دورًا أبعد من مجرد الحنين؛ إنها أداة للبقاء والمقاومة.
#ديمة_جمعة_السمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- ولع السباحة في عين الأسد- في اليوم السابع
-
قصة - أرفض تسميتي معاقا- للكاتبة عابدة خطيب في اليوم السابع
-
رواية - تراتيل في سفر روزانا- في اليوم السابع
-
رواية -ذاكرة في الحجر- لكوثر الزين في اليوم السابع
-
ثورة أدبيّة تُصَدِّع الجدران.. تكشف المستور..تضيء عتمة المكا
...
-
قصة- حزمة نور-لنبيهة جبارين في ندوة اليوم السابع
-
ديوان -ما زال في العمر بقية-في ندوة اليوم السابع
-
رواية -في قلبي...-في ندوة اليوم السابع
-
رواية - ثرثرة في مقهى إيفانستون- في اليوم السابع
-
رواية -الوبش- في ندوة اليوم السابع
-
قصّة الكوكب الأحمر للأطفال في ندوة اليوم السابع
-
-الكوكب الأحمر- قصة أطفال تنمي الخيال وتنعشه
-
رواية -والله راجع- لمحمد كريّم في ندوة اليوم السّابع
-
على شرفة حيفا في ندوة اليوم السابع
-
كتاب - الأزرق يليق بك- مجموعة منتقاة من مقالات تبث مشاعر الأ
...
-
شقيقي داوود سيرة غيرية .. تستدعي وقفة بامتياز
-
رواية -الوبش- مرآة تعكس واقع مجتمع يحكمه الجهل وتتحكّم فيه ا
...
-
الوبش رواية جديدة لجميل السلحوت
-
رواية اليافعين -جبينة والشّاطر حسن- في ندوة اليوم السّابع
-
رواية -حقيبة من غمام- في ندوة اليوم السّابع
المزيد.....
-
نزلها الآن .. تردد ام بي سي بوليود لمتابعة الأفلام والمسلسلا
...
-
مشاركة مصرية في مشاريع سينمائية روسية
-
“آخر تحــديـث“ تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025 على النايل
...
-
تفاصيل جديدة في قضية -راست-
-
كوريا الشمالية.. اللغة الروسية لأول مرة في إعلان إصدار طوابع
...
-
ترامب -يحترم- رفض المحكمة تأجيل الحكم ضده بقضية الممثلة الإب
...
-
أكشن ودراما عربي ومصري “مش هتعرف تغمض عينك بجد ” تردد روتانا
...
-
مصر.. حقيقة فيديو سقوط محمد رمضان من على المسرح ودفاع نجيب س
...
-
فيلم -حقيبة سفر-.. الاختيار بين المقاومة والخيانة
-
رفض تعطيل الحكم على ترامب بقضية الممثلة الإباحية
المزيد.....
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
المزيد.....
|