أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بهجت العبيدي البيبة - أصداء الرعب: كيف تتحطم الأمم تحت وطأة الديكتاتورية















المزيد.....


أصداء الرعب: كيف تتحطم الأمم تحت وطأة الديكتاتورية


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8217 - 2025 / 1 / 9 - 20:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


على مر العصور، أثبت التاريخ أن الديكتاتورية، مهما بلغت قوتها، تترك آثارًا عميقة على الشعوب والأمم التي تخضع لها. يلتقي الديكتاتوريون عبر الزمان في استخدامهم لذات الأدوات: الحديد والنار والمؤامرات، محولين الخوف والرعب إلى وسائل لفرض الهيمنة. لكن النهاية، وإن تأخرت، تحمل ذات المصير: شعوب خانعة، وأوطان مدمرة، وحكام انتهى ذكرهم في صفحات التاريخ ملعونين.

في عام 1934، قدم أدولف هتلر أولى دروسه الدموية في فنون التصفية السياسية، واضعًا أسس سلطته على أشلاء معارضيه، في حدث دخل التاريخ باسم “ليلة السكاكين الطويلة”. كانت تلك الليلة بداية لترسيخ حكم الديكتاتورية النازية، ومشهدًا مأساويًا من الرعب والقسوة.

إن كتيبة العاصفة (SA)، التي شكلت يومًا الذراع الضاربة للحزب النازي وساهمت بشكل كبير في صعود هتلر إلى قمة السلطة، تحولت إلى تهديد حقيقي لسلطته المطلقة. هذه الكتيبة، التي تأسست عام 1921، كانت قوة شبه عسكرية تضطلع بمهمات حساسة؛ حماية التجمعات النازية، وتعطيل اجتماعات الأحزاب المعارضة، ومهاجمة الوحدات المسلحة التابعة للخصوم السياسيين. ولكن مع مرور الوقت، رأى هتلر أن قادتها، وعلى رأسهم إرنست روم، قائد الكتيبة وصديقه القديم، أصبحوا عبئًا على النظام النازي الطامح لترسيخ سلطته عبر الجيش النظامي لا الميليشيات الثائرة.

ففي يونيو 1934، قرر هتلر القضاء على هذا التهديد الداخلي. فشن حملة تطهير عُرفت بليلة السكاكين الطويلة، حيث استغل تهم الخيانة والمؤامرة كذريعة لتبرير أفعاله. في تلك الليلة، اعتُقل وأُعدم عشرات من قادة كتيبة العاصفة والشخصيات السياسية التي اعتبرها تهديدًا، من بينهم إرنست روم، الزعيم الكاريزمي للكتيبة، وجريجور شتراسر، أحد قادة الفصيل اليساري داخل الحزب النازي، وكورت فون شلايشر، المستشار السابق لألمانيا، بالإضافة إلى غوستاف ريتر فون كهر، الذي كان دوره في إفشال انقلاب هتلر في ميونخ عام 1923 عالقًا في ذاكرته كرغبة في الانتقام.

لم تكن ليلة السكاكين الطويلة مجرد حملة تطهير، بل كانت بيانًا واضحًا بأن الدم هو الثمن الذي يدفعه كل من يجرؤ على تهديد سلطة هتلر. لقد نجحت الحملة في تحقيق أهدافها السياسية على المدى القريب، إذ عززت قبضة هتلر على الحزب النازي، وأسكتت كل أصوات المعارضة الداخلية. لكن هذه الأفعال لم تقتصر على السياسة وحدها؛ فقد بثت موجة من الرعب في أرجاء ألمانيا، رعبًا امتد لعقود وحفر عميقًا في الذاكرة الجمعية للشعب الألماني.

ومع إحكام قبضته الحديدية، انطلق هتلر في مسار عدواني جعل من العالم بأسره مسرحًا لحرب مدمرة. لقد زج البشرية في أتون صراع عالمي التهم أممًا بأسرها، وأودى بحياة الملايين. لقد كانت ليلة السكاكين الطويلة مقدمة لقصة قمع وطغيان، تُذكّر العالم دومًا بأن حكم الخوف والدم لا يزرع سوى الخراب.

بعد أربعين عامًا من صعود حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي صيف عام 1979، أصبحت قاعة الخلد ببغداد شاهدة على واحدة من أكثر اللحظات دموية في تاريخ العراق الحديث. في تلك القاعة التي احتضنت اجتماعًا استثنائيًا دعا إليه الرئيس العراقي الجديد حينذاك، صدام حسين، تحول المشهد إلى دراما مأساوية حُبكت تفاصيلها بدقة متناهية، لتصبح رمزًا لرعب الديكتاتورية وقسوتها.

تحت ذريعة الكشف عن مؤامرة مزعومة تهدف إلى الإطاحة بالنظام الجديد، وقف صدام أمام قيادات الحزب ليعلن قائمة المتآمرين. ووسط التوتر والخوف، ظهر محيي عبد الحسين مشهدي، القيادي البارز في الحزب وسكرتير الرئيس السابق أحمد حسن البكر. وُلد محيي في بغداد عام 1935، وشغل مناصب مرموقة، منها عضوية القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة. لكن في تلك الليلة المشؤومة، لم تكن إنجازاته لتشفع له. تحت وطأة التعذيب والتهديد بإعدام عائلته، أُجبر على الاعتراف بدوره في المؤامرة المزعومة، وذكر أسماء 68 شخصًا آخرين.

لم يكن محيي الضحية الوحيدة، فقد اتهم العديد من قيادات الحزب بالخيانة والتآمر، لتبدأ حملة إعدامات جماعية وصفت بأنها تطهير داخلي رسخ سلطة صدام وأحكم قبضته على العراق. إن قاعة الخلد، التي كانت مقرًا للقرارات السياسية، تحولت إلى مسرح دموي اختلطت فيه صرخات الضحايا بقرارات الإعدام. ولقد أضحت تلك الليلة رمزًا للقمع، حيث تهاوت أحلام قيادات الحزب، وارتسمت ملامح حقبة جديدة من الرعب والظلم.

لقد كانت هذه الأحداث نقطة فاصلة، إذ أطلقت شرارة عزلة طويلة للعراق، ألقت بظلالها على شعبه لعقود. فمع كل روح أزهقت، كانت تُغلق نافذة أمل، لتترك العراقيين تحت وطأة الخوف، وأسر البلاد في دوامة من الحروب والحصار لم تفك أغلالها إلا بعد سنوات من المعاناة.

بين عامي 1966 و1976، غرقت الصين في أتون واحدة من أشد الحملات دموية واضطرابًا في تاريخها الحديث، وذلك عندما أطلق الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ما عُرف بـ”الثورة الثقافية البروليتارية العظمى”. لقد كانت تلك الثورة، في ظاهرها، دعوة لإحياء الروح الثورية وتطهير المجتمع من العناصر البورجوازية، لكنها سرعان ما تحولت إلى إعصار جارف اجتاح البلاد، فمزق نسيجها الاجتماعي والثقافي، وخلّف وراءه جراحًا غائرة في الذاكرة الوطنية.

دعا ماو الشباب إلى الثورة على الزعامة الشيوعية والمؤسسات التقليدية، مما أدى إلى تشكيل مجموعات الحرس الأحمر التي حملت مشاعل العنف والاضطهاد إلى كل زاوية من زوايا البلاد. فالمدارس أُغلقت، والمعابد والآثار دُمّرت، والمثقفون تحولوا إلى أهداف سهلة في دوامة القمع. الكاتب والناقد الأدبي لو شون وجد أعماله محظورة ومُمزقة، الفيلسوف لي دا تعرض للتعذيب والقمع، والشاعر آي تشينغ أُجبر على مغادرة المدن الكبرى ليُدفن في الريف بين الحقول والعمل القسري، حيث استحالت أحلامه قصائد مختنقة بالوجع والصمت.

لقد كانت الثورة الثقافية زلزالًا مدمرًا تجاوز كل مقاييس الكوارث البشرية، فلقد اجتثت جذور الثقافة الصينية، وحولت البلاد إلى مسرح مأساوي لتصفية الحسابات السياسية. ملايين الأرواح أُزهقت، التراث الثقافي تعرّض للتشويه أو الفناء، والمجتمع الصيني بدا وكأنه فقد بوصلته الحضارية، تائهًا في عاصفة من الجهل والخوف.

في خضم هذا الجنون، لم ينجُ أحد من قبضة ماو الحديدية. طالت الاتهامات حتى أقرب حلفائه، حيث سعى لتطهير الحزب الشيوعي من أي شخص قد يُشكل تهديدًا لسلطته المطلقة. وبينما كانت النار تلتهم المثقفين والقادة، كانت أجيال كاملة تنشأ في ظلال الخوف والفراغ الثقافي، محرومة من نور الإبداع والتعليم.

عقدٌ من الزمن، طُمس فيه جوهر أمة ودفعت الصين ثمنه غاليًا، لتتأخر عن مسيرة نهضتها الكبرى. ورغم خروجها من تلك الحقبة، بقيت الثورة الثقافية ندبة مؤلمة في وجه التاريخ الصيني، تذكّر الجميع بمدى وحشية السلطة حين تتجرد من الرحمة، وتتحول إلى سيف مسلط على أحلام شعبها.

يتشابه هؤلاء الحكام في اعتقادهم بأن العنف والخوف هما مفتاح السيطرة، وأن تحطيم إرادة الشعب ضمان لاستمرار حكمهم. لكن ما أثبته التاريخ مرارًا هو أن مثل هذه الأنظمة تترك أوطانها في حالة من الانهيار الطويل. فالدكتاتوريات لا تبني دولًا، بل تخلف شعوبًا عاجزة عن الإبداع، غير قادرة على المقاومة، تفقد هويتها شيئًا فشيئًا، وتظل أسيرة الماضي بدلًا من أن تتطلع إلى المستقبل.

إن التاريخ، بما يحمله من دروس مريرة، يحذر كل حاكم من الانزلاق إلى مستنقع الحكم الديكتاتوري. فقد يبدو الحديد والنار أدوات فعالة على المدى القريب، لكن ألسنة اللهب سرعان ما تلتهم أصحابها. إن الشعوب قد تخنع لسنوات، لكنها لا تنسى، والتاريخ قد يصمت فترة، لكنه لا يغفر. فمن يريد أن يخلد اسمه في سجل العظماء، فليحكم بالعدل، وليبنِ بالحرية، فالحاكم الذي يزرع الخوف سيحصد الخراب، أما من يزرع الحب والعدل فسيحصد أمة عظيمة وذكرًا خالدًا



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العرب والمسلمون بين أسطورة الماضي وسراب الحاضر
- الإنسان المغترب: قراءة في فكر إريك فروم وأبعاد الاغتراب في ا ...
- انتظار الحلول الغيبية: هروب من الواقع أم أمل زائف؟
- ما الذي يدفع العقول المتعلمة إلى رفض العلم لصالح الوهم؟
- احترام الأديان والتعايش السلمي: رؤية نقدية لسلوكيات تسيء للإ ...
- سوريا على مفترق طرق: تساؤلات حول انهيار الجيش وتحديات المرحل ...
- فرحة بمرض نتنياهو أم هروب من مواجهة الواقع؟
- الثورة الإدراكية: قفزة الإنسان العاقل نحو السيادة على الأرض
- حوار حول مستقبل سوريا: بين التفاؤل والتشاؤم
- محمد صلاح: رمز سلام يتحدى التعصب
- الحروف الفينيقيّة: الثورة الصامتة التي غيّرت مجرى التاريخ
- الرشدية اللاتينية: بذور النهضة الأوروبية وخسارة العالم الإسل ...
- التنوير العربي: رحلة متواصلة نحو العقلانية والعلم
- العقل السحري بين الشرق والغرب: تأملات في عقول الجماهير والمد ...
- ألمانيا في محنة: بين جراح الإرهاب وصوت الضمير
- إعمال العقل في النصوص الدينية: بين نور الفكر وظلام الجمود
- مصر والجائزة الكبرى في مخطط الشرق الأوسط الجديد
- اللغة العربية: بين عظمة الإرث وتحديات العصر
- قراءة في خريطة الصراعات العالمية والإقليمية: مستقبل العرب وم ...
- العقل النقدي بين “حرية العقل” وتحقيق “دويتشه فيله”: معركة ال ...


المزيد.....




- اجتماع أميركي أوروبي في روما لتقييم وضع سوريا ووزير خارجية إ ...
- المحكمة العليا الأمريكية ترفض طلب ترامب لتأجيل إصدار حكم قضي ...
- بايدن يعلق على تطورات -مفاوضات غزة-.. وانتخاب جوزاف عون
- تقرير عبري يفضح ما تخبئه إسرائيل للسوريين وحقيقة موقفها من ت ...
- مصر.. حبس شيخين دجالين ارتكبا أفعالا مشينة مع سيدات بمدينة ن ...
- أردوغان يبحث مع ميلوني الإسراع بإعادة إعمار سوريا
- مستوطنون إسرائيليون يحرقون غرفة زراعية ويرسمون شعارات عنصرية ...
- فرنسا وبريطانيا وإيطاليا تؤكد التزامها بدعم أوكرانيا
- بايدن يفعلها مرة أخرى ويغفو أثناء جنازة جيمي كارتر (فيديو)
- -شبيغل-: شولتس يعرقل إمدادات أسلحة إضافية إلى كييف بقيمة 3 م ...


المزيد.....

- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بهجت العبيدي البيبة - أصداء الرعب: كيف تتحطم الأمم تحت وطأة الديكتاتورية