جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 8217 - 2025 / 1 / 9 - 18:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقد عادت الكهرباء إلى البيت الأبيض .. ذلك ما كان قد قاله أحد الجمهوريين الظرفاء وهو يصف مغادرة الرئيس (الأسمر جدا) أوباما مقر الرئاسة, ودخول الرئيس (الأشقر جدا) ترامب بديلا عنه.
إن شعره الشديد الصفرة حد الإحمرار ووجهه الشديد الحمرة حد الاشتعال يجعلانه يبدو أشبه بمصباح كهربائي شديد التوهج من الصعب النظر إليه ولو لوهلة.
لكن ديمقراطياً على الجهة الأخرى سرعان ما رد بنفس لهجة التهكم : لنأمل أن تبقى قوة الكهرباء الأمريكية عند حدودها لكي لا يصير هناك ضحايا كثيرون لشحنتها القوية. صحيح أن الكهرباء تٌنير لكنها تقتل أيضا, وقد يؤدي البريق إلى تخصيب التربة لكنه قد يحرق الغابات أيضاً.
لم يكن الهدف من هذا الحوار إثارة الضحك بقدر ما أريد منه وصف التغيير مضموناً وليس شكلاً, ولربما يمكن تفسير استخدام المقارنة اللونية بين أوباما وترامب على أنها لا تحمل أية ثقافة أو نوايا عنصرية, بإفتراض أن ثقافة المجتمع الأمريكي قد تجاوزت إلى حد كبير هذه النزعات وحرمتها أخلاقياً وقانونياً, لكن عراقيا كان في وسط المعمعمة سرعان ما علق على ذلك : بالإمكان الإعتقاد أن ترامب ليس عنصرياً لو أمكن إعتبار أن المالكي ليس طائفياً.
اما بعض أنصار ترامب فيقولون أن بإمكان رئيس أبيض ان يكون أكثر حرصاً على حقوق السود من رئيس اسود يخاف ان يتهم بأنه يمالئ جماعته, وكذلك هم يدَّعون إن رؤية عدد لا يستهان به من السود الذين وقفوا إلى جانب ترامب أو الذين سيكونوا في فريق عمله كفيل بالحد من تلك الإتهامات والتخوفات.
من الناحية الثقافية قد تنتج المقارنة بين شخصيتي ترامب وأوباما نقاطا عديدة لصالح الأخير, كما لو أنها جرت بين أستاذ جامعي مع رجل سوق. لكن المقارنات الغربية لا تجري على هذه الشاكلة.
بالنسبة لأصحاب تجارة (الخمط) الإقتصادي, العالمثالثي بشكل عام والعراقي بشكل خاص, فإن النجاح بات وكأنه خلطة تجمع ما بين الاحتيال والغش مع تكنيك هات وخذ بمستويين رئيسين: تحت الطاولة من خلال الكوميشن والرشى, أو فوق الطاولة من خلال مبدأ إقتسام الكيكة المحاصاتي.
أما في الغرب فأمر تجميع الثروة يتطلب منافسة شديدة لا يمكن حسمها إلا بوجود حد معقول من الذكاء والمبادرة والتفوق الذهني وقدرة الإبتكار وحتى الإختراع, والأمر في النهاية قد يتلخص بالفرق بين مهندس التفليش ومهندس البناء.
في الغرب, مع حقك في بناء ثروتك يجب ان تبقى ملتزما قانونياً واخلاقياً بوضع سياقات بنائها في خدمة بناء الثروة القومية وتطوير المجتمع وبناء بلد حصين. أن الثروة تمنحك القوة بمقادير تتناسب مع ما تمنحه ثروتك للبلد من قوة. أما التفوق, ومنه أن يصبح الشخص ملياديرا, فهو يحتاج إلى أن يكون المتفوق ذا خبرة, أو على الأقل محاطاً بخبرات منها ما هو اقتصادي ومنها ماهو قانوني ومنها أيضا ما هو سياسي.
لقد إستطاع (بيل غيت) و(ستيف جونز ) و(إيلون ماسك) ان يٌكوِّنوا ثروتهم الملياديرية عن طريق الإبتكار والاختراع, لكن أيا منهم لم يكن بمقدوره أن يحقق هذا التفوق بسبب اختراعه لوحده وإنما من خلال إقامة إمبراطورية تضمن تسويق ذلك الاختراع ببراعة بعد فهم دقيق سواء للداخل الأمريكي أو للخارج العالمي.
وحتى يصبح تاجرعقارات مثل ترامب ملياديراً, اي متفوقاً, فإن ذلك لم يكن ليتحقق لولا إمتلاكه لقدرات وأدوات التفوق الأمريكية. صحيح انه لم يكن مخترعاً أو مبتكراً مثل بيل غيتس, وصحيح أنه لم يحصل على شهادة الدكتوراه في القانون كما فعل أوباما, لكن تفوقه في مجال السوق الأمريكي وحتى العالمي لم يكن ليحدث لولا حيازته وفريق عمله على لوازم النجاح المتعدد والمتلازم الصفات, ففي أمريكا قد يكون هناك مليونير صدفة لكن لا يوجد هناك مليادير صدفة, بإستثناء حالة التوريث.
إن ترامب يملك في الحقيقة مقومات النجاح على الطريقة الأمريكية, لكنه يملك أيضا الثغرات التي يتسرب منها الفشل. هنا سنقول على سبيل المثال أن دعوة ترامب لتأجير الجهد العسكري الأمريكي مقابل بدل نقدي ستجعل توجهات ترامب قريبة من مفهوم (البلطجة) ويحول الجيش الأمريكي إلى مجاميع من المرتزقة, ويٌفْقِد الأمة الأمريكية على صعيد عالمي مكياجها الأخلاقي.
لكن في الحال هناك ترامبياً سيخبرنا : أن تكون بلطجياً على طريقة ترامب أفضل من أن تكون منافقا على طريقة أوباما, وأفضل من كل أولئك الذين أقنعوا الفقراء ان خريفهم سيكون ربيعاً وبعدها فقد حصل الفقراء على أشياء لا علاقة لها سوى بفصل الخريف.
على صعيد آخر سيبقى من المهم التساؤل عن هوية ترامب السياسية, وهل هو جمهورياً ام أنه يشكل لوحده ظاهرة سياسية مستقلة, وهل أنه سيدخل التاريخ بوصفه ترامبياً, أم أن الجمهوريين سينتصرون في النهاية في معركة تطويعه.
إن الإجابة على ذلك قد تفرض استفاضة في الحديث عن الأجنحة المختلفة داخل الحزب الجمهوري, لكن مع ترامب سيكون ممكناً الحديث عن وجود ترامبيين من جهة وجمهوريين من جهة أخرى في داخل الحزب الجمهوري نفسه.
والواضح أيضا أن ترامب لوحده يشكل مؤسسة خارجة على سياقات المؤسسة الأمريكية التقليدية بما يجعله في مواجهة مكونيها الجمهوري والديمقراطي في ذات اللحظة, وبما يرشح الرجل لصدام مباشر مع عتاة الجمهوريين, وليس مع الديمقراطيين لوحدهم.
إن ترمب يريد ان يغير حركة العالم بإتجاه معاكس لدوران عقرب الساعة: الخروج من منظمة التجارة الحرة والعودة عن العولمة / الخروج من إتفاقية الإحتباس الحراري/ تغيير تقاليد الناتو أو حتى فضِّه نهائيا / تغيير الصورة النمطية للشيطان الروسي والكوري الشمالي / العودة عن الإتفاقات التي تكرس عائدية تايوان للصين وتسخين الموقف ضد الأخيرة / الخروج على إتفاقية التسلح النووي مع إيران / وقد نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وأنهي مشروع الدولتين / الحصول على أجور نقدية من جميع الدول التي تتكفل أمريكا بحمايتها / مع مجمل من الإجراءات التي تعيد لأمريكا عظمتها من موقع القوة التي تتقاطع مع جميع شعارات وعناوين الحركة اللبرالية التي كتب لها ان تتسيد أغلب الدول الأوروبية وحتى أمريكا نفسها / الإفصاح عن أراء تصب في خانة تغذية الإسلاموفوبيا بطريقة قد تؤدي إلى صراعات عنصرية وليس إلى صراعات ثقافية / الوقوف ضد حركة الهجرة وخاصة من مناطق الصراعات الساخنة في ساحات باتت توصف بالإسلامية / أول رئيس يتسبب بشق المجتمع الأمريكي إلى نصفين على مستويات مختلفة, منها ما هو عنصري ( اسود وأبيض) أو عرقي (أنكلوسكاسوني أو خلافه) أو جنسي (رجل وإمراة) أو ديني (مسلمين وخلافهم) / بناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك لمنع الهجرة من الأخيرة التي عليها أيضا أن تتحمل تكلفته الباهضة/ تنفيذ حملة تهجير مباشرة تنال أكثر من عشرة ملايين غالبيتهم العظمى من المكسيك حتى وإن إقتضى الأمر فصل الإبن عن والديه والأخ عن أخيه/ المطالبة بضم بنما وقناتها وكندا وغرينلاند إلى أراضي أمريكا العظمى
كل هذه البرامج في نظر البعض هي معاكسة بالتمام لإتجاه حركة أمريكا في العقود الأخيرة, لكن أحد سيوصف لك الفرق بين ترامب وبايدن قائلاَ أن الأول يذبحك بسكين أما الثاني فيذبحك بقطنة.
لكن وقبل أن يعود السيد ترامب للجلوس مرة أخرى في الغرفة البيضوية نراه يتصرف وكأنه (باربا الشاطر) مؤكدأ على أن بإمكانه أن يوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا حتى قبل أن يجلس على كرسي الرئاسة ومنذراً خلفاء السنوار في أنفاق غزة أن عليهم أن يطلقوا سراح الأسرى الإسرائيليين المختطفين قبل يوم التتويج وإلا فإنه سيفتح عليهم أبواب الجحيم.
والمعركة, كما أراها, ستنتهي إما إلى (أمركة) ترامب أو إلى (تربنة) أمريكا.
أما الـ (إما) الثالثة فأصحابها يفترضون أن الصراع بين (الأمركة والتربنة) سينتهي ربما بقليل بعد التنصيب, حينما يقدر لمساحة المؤسسة بين الديمقراطيين والجمهوريين ان تتسع لكي تصدم بالترامبية إصداما قد يستدعي سبيلاً ديمقراطياً للتخلص منه مثلما حصل مع نيكسون, رغم اختلاف السبب.
وربما, ربما سيكون هناك من يقنع السيد ترامب أن عليه أن يخفف كثيراً من وهج لونه الأشقر لكي يستطيع العالم النظر إلى وجهه الخاطف للأبصار, كأن يستدين من أوباما بعضاً من سمرته حتى يكون قادراً على قيادة مجتمع متعدد الألوان والأعراق والأجناس, مجتمع سيكون صعباً عليه العودة إلى الذات التي كان عليها قبل عقود.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟