|
مدينة الصحون الطائرة: قمة في العبث وانحلال في القيم
حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 8217 - 2025 / 1 / 9 - 06:32
المحور:
الادب والفن
مدينة الصحون الطائرة: قمة في العبث وانحلال في القيم.. قراءة في قصيدة “حمزة الزغير والصحون الطائرة” للشاعر حسين علي يونس
بأسلوبه الشعري الذي بات مألوفا لدينا كقراء، وبإصراره على تلك المعادلة الكيميائية الصعبة في المزج بين المعاش اليومي والروح الحية وبين النزوع الى القيم الكونية للغة والحداثة (راجع تقديمنا لديوانه “مراوح الخلود” الصادر حديثا عن “منشورات كناية”)، يقدم لنا الشاعر حسين علي يونس قصيدته الجديدة والجريئة بعنوان “حمزة الزغير والصحون الطائرة”، والتي شكلت لي شخصيا مفاجأة من العيار الثقيل، لكن جميلة. عندما سننتقل من العنوان إلى متن القصيدة، سنعرف على الفور ان “حمزة” المذكور باسمه ما هو إلا الرادود الحسيني الشهير “حمزة الزغير”، الذي لا يوجد عراقي على وجه الأرض إلا وقد استمع إلى قصة مقتل الإمام الحسين بصوته الحزين الباكي في تسجيل شهير يستمر لست ساعات متواصلة مليئة بالبكاء والعويل واللطم. لقد خلق حسين علي يونس لنا قصيدة مركبة مبنية بطريقة طباقية، بحيث تتداخل طبقات مختلفة من الزمن، الصوت، والذاكرة، باستخدام تقنية “المونولوج الداخلي” لاستحضار صوت حمزة الزغير، أو أصوات شخصيات من واقعة الطف في كربلاء، مع مزجها برؤية الشاعر الشخصية. كل ذلك عبر لغة شعرية معاصرة، مع الحفاظ على نغمة حزينة وقوية تليق بالموضوع، تجمع بين المجاز العميق والبساطة الرمزية. وبما أن حمزة الزغير كان معروفًا بصوته الموسيقي وإلقائه المؤثر، فقد احتوت القصيدة على إيقاع داخلي يعكس هذا الشجن. قد يتحقق ذلك باستخدام التكرار، التوازي، أو الجُمل الشعرية المتوالدة التي تخلق إحساسًا بالحداد المستمر. تمثل هذه القصيدة التي كتبها حسين علي يونس انعكاساً فنياً وتعبيرياً عن التوتر بين التراث والحداثة، حيث يستلهم الشاعر شخصية تراثية لتواجه شخصية عصرية في إطار مدينة خيالية تحمل أبعاداً رمزية وثقافية. القصيدة تتميز بأنها تجمع بين الكوميديا السوداء والنقد الاجتماعي، الأمر الذي يجعلها نصاً متعدد المستويات يحفز القارئ على التأمل في عمق القضايا التي تطرحها. تصور القصيدة مدينة خيالية تقوم على فكرة الطموح التكنولوجي، حيث تحتضن مصنعاً لإنتاج الصحون أو الأطباق الطائرة، وهو رمز للابتكار والتطلع نحو المستقبل. لكن سرعان ما تنقلب الصورة مع تحول المصنع إلى منشأة لإنتاج الروث الحيواني، في انعكاس ساخر يعبر عن خيبة الأمل في المشاريع التقدمية التي تتهاوى تحت وطأة الفساد أو فقدان الهدف. يجد بطل القصيدة نفسه في مواجهة هذا التحول الكارثي، فيلجأ إلى صديقه طالباً النصيحة. وهنا تتجلى المفارقة الأكبر في النص؛ إذ ينصحه الصديق ذو المسبحة الحسينية بالعودة إلى التراث ممثلاً في أناشيد ومراثي الشيخ حمزة الزغير، القارئ الشهير لمقتل الإمام الحسين، وفي الوقت نفسه يحثه على حمل كتاب “ما العمل؟” لفلاديمير ايليتش لينين، أحد رموز الفكر الثوري الاشتراكي في العصر الحديث. وواضح لنا هنا ان اختيار الشاعر لشخصية الرادود حمزة الزغير وفلاديمير لينين ليس عشوائياً، بل يحمل دلالات رمزية دقيقة. فالشيخ حمزة، الذي اشتهر بأسلوبه البكائي في قراءة مقتل الإمام الحسين، يمثل التراث الروحي الذي يحاول أن يمنح الإنسان المعاصر إحساساً بالهوية والانتماء من خلال استحضار الماضي ومآسيه. أما لينين، فهو رمز للفكر التقدمي الذي يسعى إلى إيجاد حلول عملية للصراعات الطبقية والاجتماعية. كتابه ما العمل؟ يقدم رؤية للعمل السياسي والتنظيمي من أجل بناء مستقبل أكثر عدلاً، وهو ما يجعل وجوده في النص إشارة إلى الحاجة إلى الخروج من حالة الركود والعودة إلى الفعل. يتلاعب الشاعر بهذه التناقضات بأسلوب ساخر، حيث يقدم المدينة والشخصيات كرموز لمأساة الإنسان في العصر الحديث. فالمصنع الذي يبدأ بوعد تكنولوجي وينتهي بإنتاج الروث يعكس فشل الإنسان في تحقيق التوازن بين التقدم المادي والقيم الأخلاقية. أما النصيحة التي يقدمها الصديق في القصيدة فتجسد عبثية الموقف الذي يجد فيه البطل نفسه، حيث يضطر إلى الاختيار بين الاستغراق في البكاء على الماضي أو البحث عن حلول جذرية عبر ثورة فكرية. وُلد حمزة الزغير في مدينة كربلاء عام 1921، واسمه الحقيقي هو حمزة هادي، ولكنه اشتهر بلقب “الزغير” (الصغير) بسبب قصر قامته مقارنةً بغيره من الرواديد. وهو أحد أبرز الرواديد الحسينيين العراقيين الذين برزوا في القرن العشرين، وقد ترك بصمة لا تُمحى في الذاكرة الثقافية والشعائرية للطقوس الحسينية في العراق. تميز حمزة الزغير بصوته القوي والمؤثر وأسلوبه الفريد في الأداء النحيبي الذي يجمع بين العاطفة العميقة والأسلوب المأساوي الملحمي، وهو ما جعله أحد أعمدة الشعائر الحسينية في العراق. كان أسلوبه يعتمد على إيصال ما يردده بأقصى درجات التأثير العاطفي من خلال الجمع بين الإلقاء الجميل والنغم الحزين الشجي، ما جعله قريبًا جدًا من قلوب المستمعين إليه. لكنه رغم مسيرته الغنية في المراثي الحسينية عموما، إلا انه لم يذع صيته ولم تطبق شهرته الآفاق سوى عندما تبنت الاذاعة العراقية الرسمية آنذاك أبرز أعماله التي اشتهر بها ألا وهو تسجيله الصوتي لقصة مقتل الإمام الحسين بن علي في واقعة الطفّ بكربلاء، بحسب رواية “أبي مخنف” كنا أوردها الطبري في كتابة تاريخ الرسل والملوك، والتي تُعدّ من أكثر الأعمال تأثيرًا وانتشارًا في التراث الحسيني. يستمر هذا التسجيل لمدة ست ساعات تقريبًا وبدون توقف مع حضور الجمهور الذي يتفاعل معه بشكل يفوق التصور المعتاد، ويُعتبر مرجعًا شعبيًا وروحيًا للكثير من الشيعة في العراق والعالم الإسلامي الذين يعتمدون عليه لإحياء ذكرى واقعة عاشوراء. في هذا التسجيل، استخدم حمزة الزغير أسلوبًا سرديًا يُدمج بين الحزن والشجن العاطفي، حيث يروي تفاصيل المأساة بأسلوب درامي مؤثر. يتنقل بين مراحل المأساة المختلفة من وداع الإمام الحسين لأهله وأصحابه، مرورًا بمشاهد استشهاد أصحابه وأهل بيته، وصولًا إلى اللحظة المأساوية لاستشهاده. وقد أضفى صوته ونبراته أبعادًا روحية عالية على النصوص التي كان يؤديها، مما جعل هذا التسجيل محفورًا في ذاكرة المستمعين عبر الأجيال. كان حمزة الزغير من الشخصيات الرائدة التي ساهمت في إرساء قواعد الطقوس الحسينية وتطويرها من خلال المزج بين العناصر التقليدية والأساليب الأدائية الحديثة. فكان يوظف الشعر الشعبي العراقي بمهارة ليخلق تفاعلًا مباشرًا مع جمهور المستمعين، مما ساعد على إيصال معاني التضحية والفداء التي تمثلها واقعة كربلاء. ورغم وفاته عام 1977، لا يزال حمزة الزغير حاضرًا في الوجدان الشعبي العراقي من خلال تسجيلاته وأدائه الذي استمر في إلهام الرواديد اللاحقين. أعماله تُعدّ رمزًا ثقافيًا وشعائريًا يعكس التزام الشعب العراقي بإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي وما تمثله من قيم إنسانية وروحية. وإليكم الآن نص القصيدة كاملة:
حمزة الزغير والصحون الطائرة.. قصيدة: حسين علي يونس*
كنت منشغلا بجمع اناشيد “حمزة الزغير” ومآسيه العظيمة التي تشبه كثيرا تهدجات هوميروس، حين نزلت علي أراجيح القدر وعطلت معمل الصحون الطائرة الذي كانت تعتاش منه المدينة. كنت أضع الدرهم على المكبس فيتحول بقدرة قادر إلى صحن مصفح بالنيكل أرسله الى الجزر البعيدة (فيمحو الناس الغرباء الذين لا يشبهونني) كنت أربح كثيرا، وكاد الكوكب أن يتحول إلى دكانة صغيرة جراء صحوني الطائرة. وحين تغير مسار عملي بشكل غير مفهوم وأصبح معملي ينتج اقراص الروث الكبيرة، اضطررت لغلقه. وهكذا كان أن سرحت عمالي وأطفأت مولد الكهرباء، لكن المشكلة بقيت على حالها ولم تنفع كل محاولات تعطيل المكابس. لعدة شهور ظل المعمل ينتج أقراص الروث المدمرة رغم ان الأبقار لم تكن من مقتنياتي الشخصية. لم أستطع أن أسيطر على المعمل الذي كان ينتج الذهب، فتوجهت الى حانة القرد ووجدت هناك صديقي حكمت الحاج الذي قال لي: – يا رجل، معملك سيحول العالم إلى زريبة. يجب ان نفكر في ما الذي يجب عمله. كلامه اثار شجوني، فتذكرت كتاب لينين “ما العمل”، ورواية نيكولا تشيرنيشيفسكي التي تحمل الإسم نفسه . – علينا ان نبحث عن مكان صالح للعيش. – بعد سنوات قليلة سنغرق كلنا في الروث يا حسين وستصبح مكتسباتنا عديمة الجدوى . واستمر حكمت مسترسلا في حديثه وهو يطقطق بمسبحته الحسينية: – فما فائدة كوكب الروث اذا لم يكن لدينا من يستهلكه؟ سيتجمع الروث وينتج الأبخرة السامة القاتلة للحياة وربما بعد مليار سنة ستنتج هذه الأبخرة ديناصورات نارية تعيد إحياء الكوكب بشكل مختلف، وسيتحتم علينا عندئذ ان نرثيه مرة اخرى عبر “حمزة الزغير” آخر، هوميروس من نوع مختلف، يحد سيف المآسي ويرسل تهدجات صوته في منعرجات الكون.
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنزل ذو الشرفات السبعة
-
تعقيبات على النسوية: بخصوص مقال عواطف محجوب عن رواية -سواك-.
...
-
-مثل زجاجة- ومعمار الحداثة في قصيدة النثر العربية: قراءة في
...
-
صورة للفنان بوصفه جُرواً: ديلان توماس بين القصة والقصيدة وال
...
-
وحيدة على الرصيف
-
حسين علي يونس الشاعر السوريالي المتهكم بمراوح الخلود
-
من الرمزية إلى السوريالية: قراءة في قصص -الحصان الأبيض- لصلا
...
-
أربع قصائد من نوفمبر
-
دورة اللولب
-
حسين علي يونس: الشاعر السوريالي المحلق بمراوح السخرية السودا
...
-
على نهر البلاد جلست وبكيت
-
انفعالات، استعارات، تروبيسمز، مدارات استوائية: عمل متأرجح ما
...
-
من الرمز إلى العاطفة: مفهوم نقدي جديد لسيمياء الأهواء
-
نقد عربي جديد بلا معاطف أو قفازات
-
أربع هايكوات وتانكا..
-
النقد المتأني كطريقة للنظر في النصوص الأدبية
-
إلى أين أنت ذاهب أيها الربُّ
-
في البحث عن طوق نجاة.. كتاب مشترك جديد
-
القصائد-النثر العشر الطوال
-
البحث عن طوق نجاة
المزيد.....
-
فنانة تشكيلية لا ترى في الريشة أداة رسم بل أداة للبوح والحكا
...
-
سيمونيان تغالب دمعها وتقدم فيلم زوجها المخرج كيوسايان (فيديو
...
-
تحوّل بفعل الناس.. طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا
...
-
-السِّت-.. ماذا تحمل الدورة الـ 9 من مهرجان -أسوان لسينما ال
...
-
العراق.. مشاركة روسية في مهرجان -بابل- للثقافات والفنون العا
...
-
بدايات القرن العشرين في المغرب بريشة الفنان الإسباني ماريانو
...
-
اللقاء المسرحي العربي الخامس بهانوفر.. -ماغما- تعيد للفن الع
...
-
يرغب بنشر رسالته في -الخلاص- حول العالم.. توصية بالعفو عن نج
...
-
أهرمات مصر تشهد حفل زفاف أسطوري لهشام جمال وليلى أحمد زاهر (
...
-
الملتقى الإذاعي والتلفزيوني في الاتحاد يحتفي بالفنان غالب جو
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|