|
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
آلان وودز
(Alan Woods)
الحوار المتمدن-العدد: 8216 - 2025 / 1 / 8 - 10:38
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إن استمرار الرأسمالية يعني موت الفن. إن إنقاذ الثقافة ورفعها إلى مستوى أعلى للأجيال القادمة يشكل مهمة أساسية من مهام الصراع الطبقي.
لقد رافقنا الفن طيلة تاريخ جنسنا البشري. ورغم أن الفن له قوانينه الخاصة للتطور، فإنه يعكس أيضًا التغييرات الجذرية الثورية التي شكلت المجتمع. في هذه المقالة، التي نشرت في العدد 46 من مجلة “الدفاع عن الماركسية”، يقدم آلان وودز نظرة عامة شاملة عن تاريخ الفن، والطريقة التي تأثر بها الفن بمسار التاريخ، وكيف أثر بدوره على مساره.
الرجل الفيتروفي، ليوناردو دافنشي، 1942 الفن البشري أقدم بكثير مما قد يتصور المرء. ويقال إن أقدم فن كهفي في أوروبا يعود تاريخه إلى ما لا يقل عن ثلاثين ألف عام، كما عُثر على مثال أقدم في إندونيسيا يعود تاريخه إلى ما يقرب من خمسة وأربعين ألف عام. إلا أن الأبحاث الأحدث تشير إلى أنها اكتشفت أدلة على وجود رسوم كهفية فنية أقدم وخرزات صدفية تعود إلى ما يقرب من خمسة وستين ألف عام، والتي هي ربما من إنجاز إنسان نياندرتال قبل وصول الإنسان العاقل (Homo sapiens) الحديث إلى أوروبا.
لكن ومهما يكن من أمر، فإن ما لا جدال فيه هو أن الفن قديم قدم الجنس البشري نفسه. ولا يمكن لهذا أن يكون مصادفة. يبدو أن هناك شيئا ما متأصلا في نفسيتنا بشكل جوهري. ولذلك لابد من أخذه بالاعتبار في أي دراسة جادة للتطور البشري والتاريخ.
المادية التاريخية ومع ذلك فإن العلاقة الدقيقة بين الفن وبين التطور البشري مسألة صعبة. فالصلة بين الفن وبين تطور قوى الإنتاج هي صلة غير مباشرة ومعقدة.
مدارس الفن تتغير باستمرار، وهذه التغيرات تعكس إلى حد كبير السيرورات العميقة للتغير الذي يشهده المجتمع، والذي يمكن إرجاع جذوره النهائية إلى التغيرات في أسلوب الإنتاج والعلاقات الطبقية المقابلة لها، مع كل المظاهر القانونية والسياسية والدينية والفلسفية والجمالية العديدة.
يشرح ماركس أن الفن، مثله مثل الدين، له جذوره في عصور ما قبل التاريخ. فالأفكار والأساليب والمدارس الفنية يمكنها أن تبقى في أذهان البشر لفترة طويلة بعد أن يتم نسيان السياق الاجتماعي والاقتصادي الملموس الذي نشأت في ظله. فالعقل البشري، في آخر المطاف، يتميز بمحافظته الغريزية.
إن الأفكار التي فَقدت منذ فترة طويلة سبب وجودها، تظل راسخة بعناد في النفس البشرية وتستمر في لعب دور، بل وحتى دور حاسم، في التطور البشري. وهذا واضح بشكل خاص في مجال الدين. لكن هذا التأثير موجود أيضا في عالم الفن والأدب.
وفي مخطوطاته الاقتصادية، 1857-1858، كتب ماركس: «فيما يتصل بالفن، من المعروف أن بعض قممه لا تتوافق بأي حال من الأحوال مع التطور العام للمجتمع؛ ولا تتوافق بالتالي مع البنية التحتية المادية»[1].
وبالتالي، يمكننا أن نقول إن الفن له قوانينه الخاصة للتطور والتي يجب دراستها باعتبارها مجالا خاصا للبحث. من الواضح أن التطور الاقتصادي والاجتماعي يؤثر على تطور الفن بطريقة بالغة العمق، لكنه لا يمكن اختزال أحدهما ميكانيكيا في الآخر.
وبكلمات إنجلز، سيكون من التحذلق محاولة تتبع الصلة بين الفن والاقتصاد، والتي هي، في أفضل الأحوال، صلة غير مباشرة ومعقدة[2]. إن الفن يتبع قوانينه الخاصة المعقدة للتطور والتي لا تعتمد بشكل مباشر على تطورات اجتماعية أخرى. لكن ورغم ذلك فإن الخطان يتقاطعان عند نقاط حاسمة معينة.
ولا بد أن تتم دراسة تاريخ الفن تجريبيا، في محاولة لاستخلاص القوانين الكامنة التي تحدد تطوره. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها استخلاص العلاقة الحقيقية بين الفن وبين المجتمع.
أصول الفن من الصعب بالضرورة تحديد الأسباب الدقيقة وراء ظهور الفن. فهي تظل محاطة بظلام الكهوف حيث تم رسمها تحت الضوء الخافت لمصابيح الدهون الحيوانية.
لم يترك أسلافنا الأوائل أي سجل مكتوب لشرح أفكارهم ومعتقداتهم، وبالتالي فمن المستحيل علينا أن ننظر إلى تلك الإنتاجات الرائعة من خلال عيون الأشخاص الذين ابتكروها.
لوحة لثور البيسون في كهف ألتاميرا بإسبانيا، حوالي 20 ألف إلى 34 ألف قبل الميلاد/الصورة: متحف التاميرا ود. رودريغيز ومع ذلك فإنه من الممكن تكوين بعض الاستنتاجات العامة من خلال دراسة محتوى ذلك الفن، الذي ما يزال يدهشنا بنضارته وواقعيته التي لا تقاوم.
إن السمة الأكثر لفتا للانتباه في فن الكهوف المبكر هي حقيقة أنه لم يتم رسمه عادة في الأجزاء الخارجية من الكهوف، حيث يمكن الوصول إليه بسهولة. كان يتم العثور عليه غالبا في أعمق أجزاء الكهف وأكثرها صعوبة في الوصول إليها. وأيا كان الغرض من ذلك الفن، فإنه بالتأكيد لم يكن للزينة. كما أنه لم يكن، بأي حال من الأحوال، “فنا من أجل الفن”.
أول ما يلاحظه المرء في ذلك الفن هو ما لا يظهره. لا توجد فيه نباتات أو أشجار أو أزهار. إنه يتكون بشكل أساسي من رسومات للحيوانات. ومن الواضح أن اختيار الحيوانات المرسومة ليس عرضيا.
تلك الحيوانات مرسومة بدقة مذهلة واهتمام كبير بالتفاصيل. وفي المقابل يتم تصوير البشر، الذين نادرا ما يظهرون، بطريقة مبسطة للغاية، يشبهون تقريبا أشخاص عود الثقاب الذين يرسمهم الأطفال الصغار.
الفن كنشاط اجتماعي في الفن البشري المبكر يختلط العلم والدين (والسحر التعاطفي) بشكل لا ينفصم. كان هدف الفن المبكر منح الناس السلطة على الحيوانات التي يقتنصونها.
عاش هؤلاء القناصون وملتقطو الثمار في صراع دائم لا هوادة فيه من أجل البقاء في بيئة معادية. كان عليهم قياس قوتهم ضد قوة الوحوش القوية من أجل الحصول على الطعام والسيطرة على الأرض.
وترتبط الرقصات القبلية عادة ارتباطا وثيقا بتلك الطقوس. إنها تمثل محاولة للتصالح مع البيئة الطبيعية، وفهم العالم والسيطرة عليه.
لكن هذا الفهم المحدود وجد تعبيره في لغة الدين والسحر. يشرح عالم الأنثروبولوجيا الشهير، جيمس جورج فريزر، في عمله الأكثر شهرة “The Golden Bough” والعديد من الدراسات الأخرى، السحر التعاطفي باعتباره ارتباط الأفكار بين الأشياء وبين الكائنات التي لا وجود لها في الواقع.
ربما كان الغرض من تلك اللوحات الرائعة مزدوجا: زيادة قوة ومهارات القناصين، من جهة، ومنحهم السلطة على المخلوقات المرسومة، من جهة أخرى. وفي بعض الحالات تم تصميم الطقوس لزيادة خصوبة القبيلة أو العشيرة.
لا يمكن أن تنجح عملية قنص الثدييات الكبيرة والخطيرة، مثل الماموث، إلا إذا اجتمع عدد من القناصين لدفع الحيوانات إلى الفخاخ أو فوق المنحدرات.
إن هذا يتطلب التعاون لبناء الفخاخ، وحفر الحفر العميقة، أو بناء الحظائر المصنوعة من الأسوار الخشبية. وكل هذا يعني العمل التعاوني على نطاق واسع.
كان هذا، وليس الدين أو السحر، هو ما أعطى أسلافنا ميزة عظيمة في الصراع من أجل البقاء. وقد كان التعاون الاجتماعي، وليس المنافسة الفردية، هو المفتاح لنجاحنا التطوري.
المجتمع الطبقي اليوم، يبذل المدافعون عن النظام القائم كل ما في وسعهم لإثبات أن المجتمع الطبقي كان موجودا دائما وأنه كان هناك دائما أغنياء وفقراء.
ويسعون إلى إثبات أن المجتمع لا يمكن إدارته إلا من قبل طبقة خاصة من الناس “الأذكياء” الذين هم الوحيدون القادرون على العمل بعقولهم، في حين أن الحشد الجاهل -“الحطابون والسقائون” كما وصفهم الانجيل- أغبياء للغاية بحيث لا يستطيعون أداء المهمة المعقدة المتمثلة في الحكم.
يزعمون أن هذا كان الحال دائما. لكن هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة. كان الفن في الأصل ملكا للمجتمع بأكمله، وليس نشاطا متخصصا لنخبة متميزة. إن هذا الفن كان اجتماعيا وجماعيا في الأساس، وليس شخصيا.
والواقع هو أن الفصل بين العمل الذهني والعمل اليدوي يشكل تطورا حديثا نسبيا في مسار تطور البشر. من المستحيل أن نتوصل إلى وصف دقيق للسيرورة التي حدثت بها هذه الثورة، وذلك لأنه لا توجد سجلات مكتوبة، لكن حدوث مثل هذا التغيير أمر لا يرقى إليه الشك.
فقبل نحو 12.000 سنة، بدأ أعظم تحول في تاريخ البشرية في الهلال الخصيب في الشرق الأوسط. وأنا أشير هنا إلى ما أسماه عالم الآثار الأسترالي العظيم، فير غوردون تشايلد، (الذي كان ماركسيا أيضا) ثورة العصر الحجري الحديث.
وهذا ما أسماه إنجلز، على غرار لويس هنري مورغان، بالانتقال من مرحلة الوحشية إلى مرحلة البربرية، أي الانتقال من القنص وجمع الثمار إلى أسلوب حياة أكثر استقرارا يقوم على الزراعة وتربية الماشية.
لقد أدت تلك الثورة إلى تطوير قوى الإنتاج إلى حد كبير، وبالتالي إلى زيادة سيطرة الرجال والنساء على الطبيعة. لكنها في نهاية المطاف أرست الأساس المادي لظهور اللامساواة، والملكية الخاصة، واغتصاب السلطة من قبل أقلية.
منذ ما يقرب من ستة آلاف عام، صار الفائض الذي ينتجه السكان المزارعون يتركز في أيدي نخبة متميزة، عادة تحت سيطرة المعبد، أي فئة الكهنة. وقد أدى ذلك إلى تغييرات جوهرية في المعتقدات الدينية وثورة ثقافية تلت ذلك.
كان صعود فئة الكهنة المتميزة يعبر عن نفسه من خلال إنشاء معابد ضخمة ونصب تذكارية للآلهة مكرسة لإنجاح نشاط الزراعة، وخصوبة المحاصيل، والشمس، والمطر، وما إلى ذلك. والمعبد الأبيض في أوروك، الذي كان قائما على منصة يبلغ ارتفاعها 12 مترا وعرضها 50 مترا، هو مثال صارخ عن هذه الظاهرة.
نجد هنا لأول مرة التقسيم بين العمل الذهني والعمل اليدوي، وهو التقسيم الذي ارتفع إلى مستوى المبدأ عند كل المجتمعات اللاحقة.
آنذاك لم تعد الأديان والفنون، وكل مظاهر الحياة الثقافية والفكرية، ملكية مشتركة للجميع، بل أصبحت أسرارا خاصة محتكرة من طرف أقلية، تتولى على عاتقها الحق “الممنوح من الله” في تفسير تلك الأسرار لعامة البشر.
التحول الذي عرفه الدين عبر عن نفسه في أشكال جديدة من الفن. وقد كان اغتراب الطبقات العاملة عن منتوج عملها مصحوبا باغترابها الروحي والثقافي.
مصر قال أرسطو في كتابه “الميتافيزيقا”، إن الفلسفة تبدأ عندما يتم توفير ضروريات الحياة[3]. وأضاف أن علم الفلك والهندسة تم اختراعهما في مصر لأن الكهنة لم يكونوا مضطرين للعمل. لدينا هنا بالفعل استباق عبقري للمفهوم المادي للتاريخ.
كانت الظروف المواتية في وادي النيل هي الشرط المسبق لارتفاع مستوى إنتاجية العمل. وإضافة إلى ذلك كانت لدى الدولة القدرة على الوصول إلى احتياطيات هائلة من القوى العاملة.
كان عدد السكان صغيرا نسبيا وكانت التربة خصبة بما يكفي لتوفير الغذاء للشعب وفائض للنخبة الحاكمة. إن وجود فائض الإنتاج هذا هو سر الحضارة المصرية.
وعندما تم تنظيمه على نطاق واسع، أصبح من الممكن تحقيق مآثر مذهلة مثل بناء الأهرامات. تعتبر تلك الآثار الضخمة عموما أعظم إنجازات مصر القديمة لأنها تبهرنا.
إلا أن الشيء الذي كان أكثر إثارة للإعجاب وأكثر أهمية من الأهرامات هو نظام الري. كان ذلك هو ما سمح بخلق طبقة من المتفرغين، والتي كانت بدورها مسؤولة عن كل الإنجازات المبهرة في الفن والعلم والثقافة المصرية.
تقسيم العمل على أساس ذلك الاستغلال، تمكنت الطبقة السائدة المصرية من توسيع حدود المعرفة البشرية وعجلت بتطور القوى المنتجة، التي تعتبر الأساس الحقيقي لتطور الثقافة والحضارة.
كانت كل تلك الإنجازات الرائعة تقوم، في آخر المطاف، على ظهور الفلاحين المصريين. كانت اللحظة الحاسمة للتقسيم بين العمل الذهني والعمل اليدوي هي اختراع الكتابة، الذي حدث في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، والتي شكلت دليلا آخر على التقدم السريع للمجتمع.
الكتبة، الذين ينتمون في الأصل إلى فئة الكهنة، حرصوا بشدة على حماية سر الكتابة. ويتجلى موقفهم من العمل اليدوي بشكل لافت للنظر من خلال نصيحة أحد المصريين الأثرياء لابنه، حيث يقول له:
«لقد رأيتَ أولئك الذين تعرضوا للضرب، لذا يجب أن تركز اهتمامك على الكتابة. انظر بنفسك، إنها تنقذ المرء من العمل. انظر، ليس هناك شيء يفوق الكتابة… لقد رأيتَ عامل صهر النحاس في عمله عند فوهة فرنه. كانت أصابعه مثل مخالب التمساح، وكانت رائحته أكثر نتانة من رائحة بيض السمك… الخزاف مغطى بالتراب… يحفر في الحقل، أكثر مما تحفر الخنازير، لتجفيف أواني الطبخ. ثيابه صلبة بالطين… صانع السلاح، منهك تماما، يذهب إلى الصحراء. إن ما ينفقه على حماره بعد ذلك أعظم (من أجره) … بينما عامل غسل الملابس يعمل على ضفة النهر بالقرب من التمساح… لاحظ أنه لا توجد مهنة لا رئيس لها، إلا مهنة الكاتب. إنه رئيس نفسه… لاحظ أنه لا يوجد كاتب يفتقر إلى القوت وإلى مؤن البيت الملكي… أكرم أباك وأمك اللذَينِ وضعاك على طريق الأحياء. وانتبه إلى هذا الذي وضعته أمام عينيك وأمام أعين أبناء أبنائك»[4].
تمثال ضخم لرمسيس الثاني، تم إنجازه حوالي 1213 قبل الميلاد / الصورة: Adelbayoumi هذا مقتطف من نص مصري معروف باسم “هجاء المهن”، كتب حوالي 2000 عام قبل الميلاد. يُفترض أنه تحذير من أب لابنه الذي يرسله إلى مدرسة الكتابة لتعلم الكتابة.
إن الازدراء الذي تعكسه هذه الأسطر تجاه العمل اليدوي هو تعبير دقيق عن نفسية الطبقة السائدة حتى يومنا هذا.
وقد وجد هذا الاغتراب تعبيره في الفن. فالتماثيل الضخمة للفراعنة في مصر تتحدث إلينا وتوجه لنا رسالة واضحة للغاية: رسالة القوة.
ورغم أننا لا نستطيع فهم لغتها، فإن تلك التماثيل الضخمة تتحدث إلينا بوضوح شديد. إنها تقول لنا:
أنا جبار، أنتم ضعفاء. أنا كبير، أنتم صغار. أنا قوي، أنتم عاجزون.
ومنذ ذلك الحين صار الفن محتكرا من طرف الطبقة السائدة وسلاحا قويا في يدها. وبما أن الآلهة والإلهات أقوياء، فلابد أن يكون خدمهم على الأرض أقوياء بنفس القدر، ولابد أن يعاملوا بخوف واحترام أكثر من أي رجل آخر أو امرأة أخرى.
وجدت الجماهير نفسها آنذاك مقصية تماما من عالم الثقافة. لقد تم حرمانهم ليس فقط اقتصاديا، بل وعقليا وروحيا. وما يزال هذا الحرمان مستمرا حتى الوقت الحاضر.
الفن المصري المبكر كانت الفترة المبكرة من الفن المصري ذات طابع طوطمي بالكامل تقريبا. فقد صورت الآلهة والإلهات، في أغلب الأحيان، في أشكال شبه حيوانية.
وفي وقت لاحق ظهرت أشكال بشرية، لكنها غالبا ما كانت تصور في وضع جامد وغير واقعي.
كانت الصيغة الخاصة بالرجال هي نفسها دائما: حيث يظهر الرأس والعنق في صورة جانبية، بينما يتم تصوير الجسم من الأمام، مع إظهار الكتفين العريضين.
وبقي تمثيل الشكل البشري هو نفسه إلى حد كبير طوال التاريخ المصري، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات.
كان الفنانون المصريون مجرد حرفيين، ولم يتمتعوا بمكانة اجتماعية خاصة. ولم يصل إلينا من أسمائهم سوى عدد قليل جدا. كانت مهمتهم هي أن يخدموا بأمانة أسيادهم: فئة الكهنة، والمسؤولين في الدولة، وقبل كل شيء الملك الإله، الفرعون.
والسمة الأكثر وضوحا في ذلك الفن هي محافظته ومقاومته للتغيير. وهذا يعكس حقيقة مفادها أن ذلك الفن لم يكن حرا، بل كان خاضعا لوصاية الدين الصارمة والمطالب الصارمة لفئة الكهنة.
إن هذه الحقيقة تساعدنا على فهم طبيعة وروح الفن المصري، الذي لم يصل قط إلى ما وصله الفن اليوناني، على الرغم من إنجازاته الرائعة.
اليونان عندما نترك وراءنا عالم الفن المصري الغامض المغترب، ونخطو إلى عالم اليونان القديمة، يكون الأمر أشبه بالخروج من غرفة ذات إضاءة خافتة، مضاءة بومضات متلألئة من الألوان، إلى جو مليء بالهواء النقي وأشعة الشمس الساطعة.
هنا نشعر أخيرا بأرض صلبة تحت أقدامنا. فبدلا من الآلهة والإلهات التي نصفها بشر ونصفها الآخر حيوانات، نجد أنفسنا أمام أشكال بشرية حقيقية يمكننا التعرف عليها.
أفروديت من كنيدوس – نسخة رومانية على أصل يوناني من القرن الرابع قبل الميلاد بقلم براكسيتيليس الأثيني/ الصورة: Marie-Lan Nguyen /Wikimedia Commons / CC-BY 2.5 تفوق الفن اليوناني، في كثير من النواحي، على كل ما سواه، ربما باستثناء فن عصر النهضة. وما زال قادرا على إثارة دهشتنا عندما نشاهد تلك الأشكال المنحوتة في الحجر البارد والتي تبدو واقعية للغاية حتى أنها تبدو وكأنها كائنات حية تتنفس.
لدرجة أن المرء يعتقد أن تلك الأجساد تشعر بالدفء عند لمسها. لكن هذا الكمال لم يتحقق على الفور. فأقدم التماثيل اليونانية كانت لذكور صغار، تعرف الآن باسم كوروس (Kouros)، ويرجع تاريخها ما بين القرن السابع إلى القرن السادس قبل الميلاد. ومن الواضح أنها مستوحاة من النماذج المصرية.
تظهر تلك التماثيل نفس الصلابة ونفس الوضعية الجامدة، الأمامية، لأشخاص عريضي المنكبين وضيقي الخصر. الذراعان مسدلين على الجانبين، والقبضتان مشدودتان، والركبتان متصلبتان، والقدم اليسرى متقدمة قليلا.
لكن وبحلول نهاية تلك الفترة، بدأت الصلابة تختفي، مما أفسح المجال لشعور جديد بالمرونة والحركة. وقد عكست تلك المدرسة الجديدة في الفن روحا جديدة. كانت الروح الجديدة لليونانيين الأحرار، وخاصة في أثينا، حيث حدثت ثورة ديمقراطية.
في عامي 508 و507 قبل الميلاد، انتفض شعب أثينا ضد الأرستقراطية الحاكمة، وأنشأ حكما ديمقراطيا، كان من المتاح في ظله لجميع المواطنين الذكور الحق في المشاركة.
وفرت الديمقراطية الأثينية حافزا لتطور الفن. وقد عبر ذلك التطور عن نفسه بطرق عديدة، بدءا من الرسومات على المزهريات التي كانت من أهم صادرات المدينة، إلى التماثيل والنصب التذكارية، واللوحات الجدارية، وغير ذلك الكثير.
لكن تلك الديمقراطية لم تكن للجميع. فقد استبعدت العبيد الذين شكلوا نسبة كبيرة من المجتمع، فضلا عن النساء والأجانب.
لقد أصبح من المألوف في أيامنا هذه انتقاد فنون المجتمعات السابقة على أساس أنها لا ترقى إلى المعايير الأخلاقية الحالية. لكن هذه طريقة غير علمية تماما في التعامل مع التاريخ.
قال هيغل ذات مرة: لم يتحرر الإنسان من العبودية بقدر ما تتحرر من خلال العبودية[5]. قد يبدو هذا، للوهلة الأولى، وكأنه مفارقة غريبة للغاية. لكنه، في واقع الأمر، يحتوي على فكرة عميقة للغاية.
نحن اليوم نعتبر العبودية شيئا يتعارض تماما مع كل المعايير الأخلاقية. لكننا إذا طرحنا سؤال من أين جاء علمنا وفلسفتنا الحديثة، فسوف يجيب الكثيرون بأنها نشأت في اليونان وروما.
إلا أن تلك المجتمعات كانت على وجه التحديد قائمة على العبودية، وقد كانت كل الإنجازات العظيمة التي حققتها تلك الحضارات قائمة، في آخر المطاف، على عمل العبيد.
لكن يجب أن نضيف أن كل الفنون والعلوم، والثقافة بشكل عام، كانت قائمة على استغلال العمل البشري في ظل المجتمع الطبقي، سواء كان ذلك عمل العبيد في اليونان وروما، أو استغلال عمل الأقنان تحت نير الإقطاع الثقيل، أو عبودية العمل المأجور الحديثة.
إن الأفكار السائدة في المجتمع هي دوما أفكار الطبقة السائدة. ومن لا يفهم هذا سوف يبقى عاجزا إلى الأبد عن فهم أي شيء عن التاريخ.
الانهيار تقوم الثقافة على قاعدة مادية. وقد أدى انهيار العبودية إلى انحدار المجتمع الروماني والانزلاق إلى البربرية. وأعقب تدمير القاعدة الإنتاجية انحطاط الحضارة طيلة قرون من الزمن.
ومع ذلك فقد نشأ تدريجيا نظام اقتصادي جديد، هو النظام الإقطاعي، على أنقاض المجتمع العبودي القديم. لكن السمة الرئيسية للعصور الوسطى كانت هي الركود الاقتصادي والثقافي، كما كتب ويليام مانشستر:
«خلال كل ذلك الوقت لم يتحسن أو يتراجع أي شيء ذا أهمية حقيقية. فباستثناء الناعورة في القرن التاسع وطواحين الهواء في أواخر القرن الثاني عشر، لم تكن هناك اختراعات ذات أهمية. ولم تظهر أي أفكار جديدة مذهلة، ولم يتم استكشاف أي أراض جديدة خارج أوروبا. بقي كل شيء كما كان منذ أقدم العصور»[6].
وقد انعكس انهيار الثقافة في اللامبالاة العامة والموقف الازدرائي تجاه التعلم بين الطبقة السائدة.
كان الإمبراطور سيغيسموند -الخليفة السابع والأربعون لشارلمان- يقول جملته الشهيرة: “Ego sum rex Romanus et super grammatica”، (أنا ملك روما وفوق القواعد النحوية)[7]. ومن الممكن أن ينطق بهذه الكلمات اليوم أكثر من رئيس للولايات المتحدة الأميركية! لكننا لن نتطرق إلى هذا الموضوع هنا…
لقد مارست الكنيسة في العصور الوسطى دكتاتورية روحية مطلقة على أرواح البشر. فقد خنقت يدها الميتة كل فكر حر طيلة قرون من الزمان. كما شلت التطور الحر للفن.
الولادة الجديدة في ذلك العالم الساكن، بدا وكأن لا شيء سوف يتغير، أو يمكن أن يتغير. لكن وبحلول أوائل القرن الخامس عشر، بدأت روح جديدة تنبض في أوروبا. بل وحتى قبل ذلك، استبق ذلك رجال مثل دانتي، وبترارك، وبوكاتشيو، وغيوتو، وحتى القديس فرانسيس الأسيزي.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يظهر هؤلاء المفكرون في إيطاليا، حيث تطور الإنتاج الرأسمالي في وقت مبكر. لقد شكل صعود البرجوازية تحديا للنظام الإقطاعي، بدءا بالانتقادات الموجهة إلى عقائد الكنيسة الجامدة، والتي أدت في نهاية المطاف إلى صعود البروتستانتية والإصلاح الديني في شمال أوروبا.
شهد عصر النهضة المبكر ولادة أدب أوروبي مزدهر، مكتوب بشكل متزايد باللغة العامية، لتلبية احتياجات الجمهور البرجوازي الجديد الذي لا يقرأ اللاتينية.
وقد مثل تشوسر بداية أدب جديد ولغة جديدة في إنجلترا. وفي إيطاليا، كان مكيافيلي، الذي لا يستحق بالكامل سمعته السيئة، العقل الشامخ في ذلك العصر.
في مجال الرسم، تضمن الأسلوب الفني الجديد تقنيات ثورية ذات تعقيد كبير، مما مكن الفنان من تصوير تفاصيل لم يسبق لها مثيل من قبل: الخيط الذهبي في الفستان، وطيات العباءة، وبريق أشعة الشمس على الدروع، وانعكاسها على مرآة مصقولة، والتي تشكل صعوبات تقنية خاصة.
داود، مايكل أنجلو، 1504/ الصورة: Jörg Bittner Unna وابتداء من حوالي عام 1420، أصبحت رسوم الأشخاص أكثر واقعية. صارت رسوم الوجوه رسوما لأفراد يمكن التعرف عليهم. وقد كانت تلك ثورة حقيقية في الفن، ظهرت أولا في إيطاليا وفلاندرز.
سمحت تلك الثورة، قبل كل شيء، بتصوير الأفراد باعتبارهم أفرادا: رجالا ونساء حقيقيين، وليس مجرد تجريدات نمطية. ويمثل التمثال الرائع لداوود، الذي يعد أحد أهم إنجازات فن مايكل أنجلو، عودة إلى عالم الفن اليوناني الذي احتفى بجمال الجسد البشري العاري. كانت الكنيسة قد قمعت بوحشية ذلك النوع من الفن، إذ كانت تنظر إلى الجسد البشري -وخاصة الجسد الأنثوي- باعتباره مثيرا للاشمئزاز ومصدرا لكل خطيئة.
ارتبط الفن الجديد بصعود البرجوازية، وكان ذلك تعبيرا، في مجال الفن، عن السيكولوجية الفردانية للبرجوازية في فترة التراكم البدائي لرأس المال.
نجد هناك التحركات المبكرة للثورة التي بلغت ذروتها في الثورات البرجوازية في هولندا وإنجلترا. وقد أنتجت تلك الثورة العظيمة بدورها ثورة في الفن والثقافة.
الفن والثورة البرجوازية كان لوثر هو الذي قاد الهجوم على العالم القديم. وعندما ترجم الكتاب المقدس إلى الألمانية، أطلق شرارة ثورة لم يكن حتى هو نفسه يمتلك أدنى فكرة عن مداها.
يمكننا أن نقول إنه هو من اخترع اللغة الألمانية الحديثة. وقد كان مؤلفا للعديد من القصائد، والتي، نظرا لطبيعة تلك الفترة، كانت بالضرورة تتخذ شكل ترانيم دينية.
تمتلئ تلك الترانيم بالحماس الثوري، ولا سيما قصيدة Ein feste Burg ist unser Gott (إلهنا هو الحصن العظيم) ، التي وصفها إنجلز بأنها نشيد مارسيليز القرن السادس عشر[8].
وعندما هاجم البابا والبابوية، فعل ذلك باللغة العامية التي يستخدمها الفلاح الألماني، حيث قال:
«بسبب غضب الله، عاقبنا الشيطان بمؤخرة روما السمينة».
الثورة البرجوازية التي أجهضت في ألمانيا، حققت أول نجاح كبير لها بانتصار الشعب الهولندي في نضاله الطويل والدموي ضد إسبانيا الكاثوليكية.
لقد خلق ميلاد الجمهورية الهولندية الظروف ليس فقط لبروز قوة اقتصادية جديدة عظيمة في أوروبا، بل وأيضا لثورة ثقافية وفنية عظيمة.
كانت طبقة جديدة من التجار الأثرياء تعمل على تعزيز مكانتها الرائدة في المجتمع وكانت مستعدة لإنفاق الأموال على الأعمال الفنية، من أجل تزيين قصورها.
وفتحت الحريات الجديدة، التي تحققت بفضل الكفاح الثوري، الباب أمام ظهور مناهج جديدة ومبتكرة في الفن. لقد مكنت من ظهور جيل عظيم من الرسامين، بمن في ذلك فيرمير، وفرانز هالس، وأخيرا وليس آخرا، رامبرانت فان راين.
وحدها هولندا في القرن السابع عشر التي كان يمكن فيها لابن عامل طاحونة، مثل رامبرانت، أن يطمح إلى أن يصبح رساما مشهورا. كان يتمتع بروح جامحة وطبيعة عنيدة ومتمردة، وهو ما يظهر بوضوح في لوحاته.
امرأة تستحم في مجرى مائي، رامبرانت، 1654 لم تكن مواضيع رامبرانت صورا لآلهة، بل لنساء حقيقيات، كانت كثيرات منهن مأخوذات من الشوارع وبيوت الدعارة. ورغم أنهن متنكرات في هيئة شخصيات توراتية، مثل زوجة بوتيفار أو بثشبع، فإنهن كن مجرد نساء عاريات. وهو الشيء الذي خلق له الكثير من الأعداء بين هؤلاء المنافقين في المؤسسة الكالفينية.
كانت إحدى عارضاته الرئيسيات هي هندريكجي، التي كانت مدبرة منزله وعشيقته. وقد ظهرت في سلسلة من الأوضاع الاستفزازية، وهي ترفع تنورتها في لوحة “امرأة تستحم في مجرى مائي”.
سرعان ما أثار رامبرانت غضب السلطات الدينية. فتعرض للاضطهاد واللعن. وفي شيخوخته وقع في محنة شديدة.
ولعل آخر صوره لنفسه هي أعظم روائعه. فهي تصور رجلا عجوزا نقشت على وجهه خطوط عميقة من المعاناة. وهي تبين اختلافا مؤلما مع الصور السابقة لرسام شاب مزدهر، يشرع بثقة في طريق النجاح.
في عام 1658، اضطر إلى تقديم طلب إفلاس. ومثله مثل فيرمير، والعديد من الفنانين العظماء الآخرين، مات فقيرا معدما.
رامبرانت، صور ذاتية في عامي 1628 و 1669 على التوالي الفن والثورة لقد قيل إنه عندما تهدر المدافع، تصمت الموسيقى. وإذا كان هذا صحيحا، فهو صحيح جزئيا فقط. غالبا ما استمدت الموسيقى الإلهام من صوت المدافع والحماسة الثورية للجماهير.
لا بد للصحوة الثورية للجماهير أن تجد صدى لها في قلوب وعقول المثقفين، أو على الأقل أفضل العناصر بينهم.
لقد أنتجت الثورة الإنجليزية أدبا شعبيا عظيما في شكل كتب ومنشورات، ولا سيما الأعمال الجدالية البارزة لجيرارد وينستانلي.
وقد وجدت الثورة في شخص جون ميلتون أبرز المدافعين عنها. لقد خدم النظام الجديد بإخلاص ولم ينج من الإعدام بعد إعادة تشارلز الثاني إلى العرش إلا بفضل شهرته العظيمة.
في قصيدة ميلتون الرائعة “الفردوس المفقود”، كانت الحرب بين الجنة والجحيم مجرد انعكاس للحرب الثورية بين البيوريتانيين وبين الملكيين، حيث يقول:
«وعندما يجتاح الليل الشوارع، يتجول أبناء بيليال، مسلحين بالغطرسة والنبيذ»[9].
نجد هنا صرخة يائسة لرجل عجوز أعمى، يحتج على وقاحة الفرسان السكارى (أبناء بيليال) الذين يجوبون الشوارع ليلا، ويهينون ويضربون الثوار المهزومين.
إعادة تشارلز الثاني أدت إلى فترة من الردة الرجعية الجامحة التي وجدت انعكاسا لها في الفن المنحط الساقط، وخاصة في المسرح.
الثورة الفرنسية كان أعظم تأثيرا على الثقافة العالمية هو ذلك الذي أحدثته، بعد قرن من الزمان، الثورة الفرنسية العظيمة، في الفترة من 1789 إلى 1793. كثيرا ما يتم نسيان أن الطريق إلى تلك الثورة قد مُهِد من قبل عصر التنوير الفرنسي.
كانت الثورة مصدر إلهام للجيل الجديد من الفنانين الذين كان أفضل ممثل لهم هو الرسام جاك لوي ديفيد. كما ألف كلود جوزيف روجيه دي ليل نشيد “لا مارسييز”، ذلك النشيد الثوري العظيم، الذي تحول فيما بعد إلى ترنيمة عالمية للثورة.
ومع الثورة الفرنسية، كما لاحظ بليخانوف، وضع العوام (Sans-culottes) الفن «على المسار الذي لم يكن بوسع فن الطبقات العليا أن يسلكه؛ فقد أصبح الفن شأنا يخص الشعب بأسره»[10].
لكن انتصار الثورة المضادة الترميدورية كان بمثابة بداية فترة من الجزر، حيث حلت النزعة المحافظة الضيقة الأفق، التي تتوافق مع عقلية الشريحة الجديدة من البرجوازيين المحدثين والبيروقراطيين الذين حكموا البلاد آنذاك.
لقد كان للثورة الفرنسية تأثير هائل، ليس في فرنسا فحسب، بل وعلى نطاق عالمي أيضا. لقد كان الأمر أشبه بصخرة ضخمة ألقيت في بحيرة كبيرة.
فبين عشية وضحاها حطمت النماذج الكلاسيكية القديمة الجامدة التي كانت تفضلها الطبقة الأرستقراطية، وفتحت الباب أمام الثورة الرومانسية العظيمة التي خلقت مدرسة أدبية وفنية وموسيقية جديدة تماما في أوروبا.
وقد الهمت تلك الثورة بعضا من أعظم الشعراء الإنجليز، مثل بايرون وشيلي ووردزوورث وكولريدج، وكذلك روبرت بيرنز في اسكتلندا. وكان ويليام بليك، الكاتب والفنان الأصيل للغاية، من المؤيدين المتحمسين للثورة.
عبر ويليام وردزوورث، الذي كان حاضرا في فرنسا في ذلك الوقت، عن تأثير الثورة ببراعة. ففي قصيدته العظيمة المقدمة (The Prelude)، كتب الكلمات الملهمة التالية:
«كان من النعيم أن تكون على قيد الحياة أثناء ذلك الفجر، لكن أن تكون شابا كان بمثابة الجنة!»[11].
وفي ألمانيا، استقبل العديد من الفنانين والمثقفين الثورة الفرنسية بحماس شديد، بمن فيهم الشاعر العظيم شيلر. لكن التأثير الأعظم كان على عالم الموسيقى. كان أعظم عبقري موسيقي في التاريخ، لودفيغ فان بيتهوفن، من أشد المعجبين بالثورة الفرنسية.
لقد شعر بالفزع من حقيقة أن النمسا كانت القوة الرائدة في التحالف المعادي للثورة ضد فرنسا. كان بيتهوفن يختنق في أجواء البرجوازية في فيينا، فكتب تعليقا يائسا: «ما دام النمساويون لديهم بيرتهم البنية ونقانقهم الصغيرة، فلن يثوروا أبدا»[12].
لقد حطم بيتهوفن بجرأة كل الأعراف الموسيقية القائمة، تماما مثلما حطمت الثورة الفرنسية كل القمامة المتراكمة من عهد الإقطاع والملكية المطلقة.
تمثل سيمفونيات بيتهوفن قطيعة جوهرية مع الماضي. فقد انفجرت كالصاعقة في عالم الموسيقى، فغيرته بشكل جذري. وقد بدأ هذا التحول بسيمفونيته الثالثة، إيرويكا (Eroica).
إنها عمل ضخم، أثار استياء العديد من الذين اعتادوا على ذلك النوع الناعم من الموسيقى الذي يفضله الجمهور الأرستقراطي. وقد كانت الحركة الأولى وحدها أطول من أي سيمفونية معروفة في ذلك الوقت.
إن قصة تأليفها تأخذنا مباشرة إلى قلب الثورة الفرنسية. فقد أعجب بيتهوفن في البداية بما سمعه عن نابليون بونابرت الشاب، الذي اعتبره رمز الثورة.
لكنه عندما سمع أن نابليون توج نفسه إمبراطورا، فثار غضبا. وشطب إهدائه لنابليون بعنف شديد حتى أن المخطوطة التي ما تزال موجودة حتى الآن بها ثقب يخترقها.
وأعاد تسميتها بسمفونية إيرويكا. ويذكرنا مقطعاها الافتتاحيان بقبضة تضرب مكتبا، وتطالب بالانتباه في اجتماع عاصف، يتبعه على الفور هجوم لا يقاوم من سلاح الفرسان. والحركة الثانية عبارة عن مسيرة جنائزية، تخليدا لذكرى بطل ميت.
ولم يتراجع بيتهوفن قط عن دعم مبادئ الثورة الفرنسية حتى نهاية حياته. وكانت آخر سيمفونياته العظيمة، السمفونية التاسعة -التي كتبها في فترة الردة الرجعية القاتمة في أوروبا- ترنيمة منتصرة للثورة.
هزيمة الملائكة المتمردين (1807)، إحدى رسوم ويليام بليك التوضيحية لكتاب الفردوس المفقود لجون ميلتون الفن كاحتجاج يقدم الرسام الإسباني الشهير غويا مثالا جليا عن كيف يمكن للفن العظيم أن يتحول إلى سلاح قوي للغاية في النضال.
تقف أعمال غويا الشاب في تناقض تام مع أعماله التي رسمها في شيخوخته. يبدو الأمر وكأننا أمام فنانين مختلفين، أو أمام عالمين مختلفين.
لوحات غويا الشاب مليئة بمتع الحياة. ففيها نرى مشاهد لشابات سعيدات يحملن المظلات، بينما الشباب المعجبون بهن يرتدون ثيابا أنيقة.
لكن لوحات غويا التي تعود إلى فترة شيخوخته، تنقلنا إلى عالم آخر: عالم من الظلام والظلال السوداء، يسكنه الوحوش والعاهرات والسحرة والكهنة الفاسدون والقتلة والمتسولون المشوهون. إن هذا التحول يعكس بصدق حالة إسبانيا في ذلك الوقت، عندما وجدت نفسها محتلة من قبل جيوش نابليون.
في الثاني من ماي 1808، انتفض شعب مدريد ضد قوات الاحتلال في تمرد بطولي لكنه كان محكوما عليه بالفشل. أمر الفرنسيون بشن هجوم شامل لسحق المتمردين، وقتلوهم بلا رحمة.
وصف غويا التمرد في لوحتين شهيرتين له. ويقال إن الفنان زار ساحة المذبحة برفقة خادمته التي كانت تمسك بفانوس، حيث حُفرت كل التفاصيل الوحشية في ذاكرته.
وسواء كان ذلك صحيحا أم لا، فإن اللوحات تصور الأحداث بواقعية شديدة العنف. تُظهر اللوحة الأولى الأحداث المروعة التي وقعت في الثاني من ماي. أما اللوحة الثانية فهي تصوير مذهل لعمليات إطلاق النار التي حدثت في تلك الليلة.
تقدم تلك اللوحة القوية مشهدا من الرعب المستمر، الذي يتكشف في ظلام دامس، لا يكسره إلا الشكل الخيالي لرجل يرتدي قميصا أبيض يرفع ذراعيه إلى السماء احتجاجا على مصيره بينما يستهدف الجنود الفرنسيين صدره العاري.
يتم عرض الجلادين من الخلف، بحيث لا يمكن رؤية أي وجه بشري. لم يعد هؤلاء بشرا بل مجرد آلة عسكرية صامتة تطيع بشكل أعمى الأمر بالقتل.
الثالث من مايو، فرانسيسكو غويا، 1814 وعلى النقيض من ذلك، فإن وجوه الضحايا بشرية بشكل مؤثر، حيث يكون الشخص الذي يشبه المسيح بمثابة النقطة المحورية للوحة مليئة بالدراما والحزن. برك الدماء على الأرض حقيقية لدرجة أن المرء يكاد يشم رائحتها. وهنا نرى الفن الملتزم في أقوى صوره: ليس مجرد تصوير للأحداث، بل صرخة احتجاج صادقة.
بدأت آنذاك ما أصبحت تعرف بحرب شبه الجزيرة، والتي كانت ربما أول مثال في العصر الحديث لما نسميه الآن حرب العصابات -Guerrilla- (الغيريا (Guerrilla) في الواقع، كلمة إسبانية، معناها “حرب صغيرة”).
تم تصوير الأحداث الدموية لتلك الحرب في سلسلة من النقوش بالأبيض والأسود من تأليف غويا بعنوان Los Desastres de la Guerra (كوارث الحرب). وهي رسوم لا مثيل لها باعتبارها تصويرا للرعب الذي تتسبب فيه الحرب.
أخيرا، ندخل ما يسمى بالفترة القاتمة لغويا. وهنا نلتقي بفنان مختلف وعالم مختلف. إنها رؤية لعالم مزقته سنوات من الحرب والثورة والثورة المضادة، عالم مقلوب رأسا على عقب.
إنها نظرة شيخ، نظرة رجل شهد الكثير من المعاناة الإنسانية وليست لديه أدنى فكرة عن كيف يمكن إنهاء كل ذلك. إنها نظرة قاتمة ومتشائمة للواقع. إنها صرخة يأس تأتي مباشرة من قلب رجل محطم.
ولكي نجد شيئا يضاهي هذه الروائع الفنية، يتعين علينا أن ننتقل سريعا إلى فترة مماثلة في التاريخ الإسباني، أي فترة الحرب الأهلية الدموية التي شنتها جيوش فرانكو الفاشية ضد الشعب الإسباني في ثلاثينيات القرن العشرين.
وفي هذا السياق أبدع بابلو بيكاسو ما يعتبر بحق أحد روائع القرن العشرين العظيمة: وهي اللوحة المعروفة باسم “غيرنيكا”.
هنا، كما في لوحات غويا، نرى الحرب بكل رعبها. اللوحة بالأبيض والأسود، وهو ما يعطيها تأثيرا دراميا أعظم. والصور صارخة ومرعبة.
في خضم الظلام الدامس، يسلط مصباح كهربائي ضوءه على مشهد الدمار. لكنه ليس ضوء النهار المريح، بل هو ضوء يشبه ضوء غرفة للتعذيب في زنزانة مظلمة خالية من الهواء.
ومن كل جانب هناك العنف والمعاناة والموت. إنها لوحة تصور حصانا يخترقه رمح، ويمكن سماع صراخه بطريقة ما، على الرغم من أن اللوحة نفسها صامتة.
كما نرى امرأة تحتضن جثة طفل ميت بين ذراعيها وتطلق صرخة احتجاجية صاخبة موجهة إلى السماء، التي لا تبالي بمعاناتها.
وفي ذلك المشهد المرعب نرى رأس ثور هائج، وهو تصوير مخيف حقا للوحشية والعنف، والذي يجسد جوهر الفاشية.
نرى قنابلا تنفجر وتغطي الأرض أجساد المحاربين الممزقة وهم يمسكون بسيوف مكسورة. لكن كل تلك الأصوات المرعبة يتم اختزالها إلى صمت أكثر إزعاجا. إنه صمت الكابوس.
فن النفاق في عالمنا المنافق الحديث، ترغب جماعة ما بعد الحداثة في تهدئة أعصابنا من خلال إزالة كل العبارات المسيئة من معجمنا اللغوي.
وبما أن الحرب تسبب لهذه الجماعة إزعاجا أعظم من أي شيء آخر تقريبا، فقد تم تعديل المفردات المحيطة بها بشكل مناسب لتقليل آثارها الضارة على النفوس الحساسة.
وهكذا فإنه لا أحد يُقتَل في الحروب في أيامنا هذه، إنهم فقط “يرحلون”. والضحايا الأبرياء للحرب ليسوا أكثر من “أضرار جانبية”.
هنا يرتفع النفاق إلى مستوى الفن. لكن بابلو بيكاسو، الذي كان فنانا حقيقيا، قال الحقيقة عن الحرب. وكما هي الحال في كل الفنون الحقيقية، تُرفع أمامنا مرآة لتكشف لنا في صورة صادقة حقيقة عصرنا بكل قبحه المثير للاشمئزاز.
قد يزعم بعض الناس أن هذا ليس فنا، بل مجرد دعاية. فالفن الحقيقي لا يهدف إلى إعادة إنتاج أي رسالة مفارقة له، بل هو مجرد تعبير صادق عما يشعر به الفنان في قلبه وروحه.
وهذا صحيح. فالدعاية لا يمكن لها أبدا أن ترتفع إلى مستوى الفن العظيم. لكن الفن الحقيقي لا يغلق نفسه عن واقع العالم الخارجي. لا يعيش الفنان في برج عاجي.
الفنان الحقيقي هو إنسان حي، يشارك في أفراح وأتراح الوجود البشري، كما عبر عن ذلك الكاتب المسرحي اللاتيني تيرينس في مقولته الشهيرة: “Homo sum, humani nihil a me alienum puto” («أنا إنسان، وأعتقد أن لا شيء إنساني غريب عني»)[13].
لقد كان بيكاسو، مثله مثل غويا من قبله، يعبر عن شعور بالسخط والغضب المتقدين اللذين كانا يغليان في صدره.
صورة مركبة من سلسلة صور أنتجها يوري روجكوف لقصيدة ماياكوفسكي “إلى عمال كورسك” في عام 1924 لا شك أن بيكاسو كان ملتزما سياسيا. ورغم أنه نادرا ما يُذكَر هذا اليوم، فإنه انضم إلى الحزب الشيوعي في عام 1944 أثناء وجوده في المنفى في باريس المحتلة من قبل ألمانيا. ويقال إنه عندما سأله ضابط ألماني بعد فحص لوحته، “هل فعلت هذا؟”، أجابه: “كلا، أنتم من فعلتموه”.
إلا أنه في لوحة “غيرنيكا” لم يكن يعبر عن أية رسالة سياسية محددة، بل كان يعبر فقط عما نبع مباشرة من قلبه وروحه.
لكنه من خلال ذلك اتخذ مكانه بشجاعة على المتاريس. لقد استخدم فرشاته في سبيل القضية الثورية، وقد أثبتت فرشاته أنها سلاح أكثر فعالية من البندقية أو المدفع الرشاش.
إنها لإدانة للفن في عصرنا هذا كون المذبحة الذي تحصد الرجال والنساء والأطفال في غزة، والتي تُعرض على شاشات التلفاز كل يوم، لا تجد تعبيرا مناسبا لها من خلاله.
اهتمام الفنانين اليوم منصب على أشياء أكثر أهمية، مثل الأسرة غير المرتبة، وأسماك القرش التي تسبح في الفورمالديهايد. ويكفي أن نقارن فننا بفن بيكاسو وغويا لندرك مدى انحدار الروح البشرية في العصر الحالي. لكن هناك عصور أخرى أثبت فيها الفن والفنانون أنهم يستحقون اسمهم.
الفن وثورة أكتوبر لقد أنتجت ثورة أكتوبر في روسيا نهضة عظيمة للفن والأدب، رغم أنها سحقت فيما بعد، مثلها مثل الكثير من الأشياء الأخرى، تحت مؤخرة الثورة المضادة الستالينية.
يحب منتقدو ثورة أكتوبر البرجوازيون تصوير البلاشفة وكأنهم وحوش متعطشة للدماء، عازمة على تدمير كل القيم الإنسانية المتحضرة. وهم يحاولون أن يربطوا فن الثورة بفن البيروقراطية المتصنع المسمى “الواقعية الاشتراكية” الستالينية.
إن هذا كذب. فقد أطلقت السنوات التي أعقبت أكتوبر مباشرة العنان للقدرات الإبداعية الهائلة التي كان يختزنها الشعب الروسي، ليس العمال فقط، بل وأيضا أفضل فئات المثقفين.
ظهرت أسماء مثل تاتلين، ومايرهولد، وشوستاكوفيتش، وماياكوفسكي، ضمن مجرة من المواهب الأخرى التي لم يسبق لها مثيل في القرن العشرين.
لقد اندلعت دراما الثورة على نطاق واسع حقا، بما في ذلك في قلوب وعقول ملايين الناس.
عزفت الثورة نغمة تردد صداها في أعماق الجماهير، فأثارت عطشا للمعرفة والثقافة كان مكبوتا لفترة طويلة في ظل المجتمع الطبقي.
كان ذلك مسرحا أكثر ضخامة من أي مسرح شهد مآسي إسخيلوس أو شكسبير. استمع العمال والجنود إلى شعر ماياكوفسكي باهتمام شديد، حيث بدأوا في اكتشاف بُعد جديد للحياة ولشخصيتهم الفردية.
في تلك السنوات العاصفة، مسرح بولشوي في موسكو -الذي كان في السابق حكرا على الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة المثقفة- صار فجأة يمتلئ بالعمال بملابس العمل والجنود بمعاطفهم الرمادية، وكلهم حريصون على اكتشاف عالم جديد من الموسيقى كان مغلقا أمامهم حتى ذلك الوقت.
كانوا يستمعون ويشاهدون بذهول الأوبرا الرائعة لموسورغسكي وبورودين وريمسكي كورساكوف، وباليهات تشايكوفسكي الرائعة.
لقد دخلوا عالما جديدا لم يكونوا يعرفون بوجوده تقريبا، وحملتهم مشاعر جديدة لم يختبروها من قبل. وعند هذه النقطة، أصبح الخط الفاصل بين الفن والحياة نفسها غير واضح وكاد أن ينعدم.
كانت تلك فترة من الجدالات والنقاشات اللامتناهية. وبسرعة ظهرت العديد من المدارس الفنية الجديدة ثم اندثرت بنفس السرعة. وكانت بعض الأفكار الجديدة مثمرة. وكانت أفكار أخرى مخطئة إلى حد كبير. ولكن جميعها كانت موضع مناقشة مفتوحة وبكل حرية.
وقد تعامل تروتسكي بأسلوبه الرائع واستخدامه البارع للديالكتيك مع الفنانين والكتاب السوفيات في ساحتهم بالذات وأجابهم بلغتهم بالذات.
عزز بذلك الأسلوب نفوذ البلاشفة وثورة أكتوبر، وساعد في اجتذاب أفضل الفنانين والكتاب إلى القضية الثورية. لم يتم آنذاك استعمال أسلوب الترهيب والتهديد البيروقراطيين، ناهيك عن العنف الإداري.
ملصق فيلم سيرجي آيزنشتاين لعام 1928 ، أكتوبر: عشرة أيام هزت العالم “الواقعية الاشتراكية” لكن كل ذلك تغير عندما أطاحت الثورة المضادة البيروقراطية الستالينية بالنظام الديمقراطي الذي أسسه لينين وتروتسكي في أكتوبر 1917.
كان لتلك الردة تأثير مدمر للغاية على الفن وعلى كل الفكر الأصيل والإبداعي بشكل عام. وكان المبدأ الرسمي الجديد الذي أطلق عليه اسم “الواقعية الاشتراكية” يتلخص في المقام الأول في فن مدح البيروقراطية بلغة يمكنها أن تفهمها.
كان الغرض من ذلك الفن هو تصوير الحزب -الذي كان التعبير السياسي الجماعي عن البيروقراطية- باعتباره كلي العلم وكلي القدرة.
وعلى قمة الحزب كان يقف الزعيم الجبار والعليم بكل شيء، ستالين، الذي كان، في واقع الأمر، هو الوحيد من بين كل زعماء الحزب البلشفي الذي كان جاهلا بشكل كامل بالثقافة وغير مبالٍ بها، بل وحتى معاديا لها بشكل صريح.
إن الروتين موجود في الفن والأدب، كما هو الحال في أي شيء آخر. لكن الثورة جاءت فحطمت الروتين المحافظ القديم وفتحت الأبواب أمام أفكار جديدة ومثيرة. إلا أن هذا كان آخر شيء يحتاجه ستالين والبيروقراطية.
إن تاريخ الفن والأدب له العديد من الأبطال، لكنه يحتوي أيضا على نصيبه العادل من السطحيين، والمتملقين، والتافهين. وقد سارعت تلك المخلوقات إلى خدمة دكتاتورية ستالين، حيث عملوا كحراس مخلصين للسيطرة على الفن والموسيقى والأدب وفرض الرقابة عليهم.
الأبواب التي فتحتها الثورة تم إغلاقها بسرعة. وسرعان ما وجد أولئك الذين اعترضوا على ذلك أنفسهم في السجن أو في معسكرات العمل في سيبيريا.
كان انتحار ماياكوفسكي، عام 1930، في سن السادسة والثلاثين، احتجاجا مبكرا ضد الأجواء الخانقة والمحافظة والقمعية التي فرضها نظام ستالين، والذي كان على النقيض تماما مع كل ما مثله ماياكوفسكي والبلشفية.
وبفضل الروح الفنية العظيمة للشعب السوفياتي تمكنت التقاليد العظيمة للأدب والفن والموسيقى الروسية من البقاء حية على الرغم من كل الصعاب.
بقيت الشعلة متقدة، ومعها ولاء الشعب الشديد للينين ولذكرى أكتوبر، وهو ما مكنهم من إلحاق الهزيمة بجحافل النازية التي كانت تمتلك كل ثروات أوروبا.
الرأسمالية والفن لعبت البرجوازية، في فترة صعودها، دورًا تقدميا في تطوير قوى الإنتاج ودفع حدود الحضارة والثقافة إلى الأمام.
لكنها في فترة انحطاطها واحتضارها، لم تعد تهتم بتطوير قوى الإنتاج. فالحدود الضيقة للرأسمالية لا يمكنها حتى احتواء قوى الإنتاج الموجودة بالفعل.
إن الطبقة السائدة في هذه الأوقات تفتقر إلى أي أفق واسع، أو أي فلسفة عميقة أو رؤية للمستقبل. كيانها كله يتركز حول الجشع إلى المال بالمعنى الضيق والمثير للاشمئزاز.
تبدو البرجوازية كما لو أنها عانت من انحدار إلى مرحلة طفولتها، إلى مرحلة التراكم البدائي لرأس المال. صار ضيق الأفق طبعا لها، وصار البخل خُلقها الوحيد.
إن الرأسمالية في مرحلة تدهورها وهرمها تظهر كل السمات المثيرة للاشمئزاز التي وصفها شكسبير بشكل لافت للنظر عندما قال: «بلا أسنان، بلا عيون، بلا ذوق، بلا أي شيء»[14].
الفن الحقيقي ثوري بطبيعته إن التأثيرات الأكثر سلبية لهذا الانحطاط يمكن العثور عليها في عالم الثقافة. فحيثما نظرنا نرى أن الفن البرجوازي يموت وهو واقف على قدميه.
أعراض الانحطاط كثيرة لا يمكن حصرها. إن وضع الغالبية العظمى من الفنون البصرية مؤسف بصراحة، ووضع ما كان يسمى بالموسيقى “الكلاسيكية” هو أكثر سوءا.
لكن القوى اللازمة لتحدي النظام الرأسمالي المتداعي والخرف لا يمكن العثور عليها داخل حدود عالم الفنانين البرجوازيين.
يمكن للفنانين ويجب عليهم أن يلعبوا دورا في الثورة الاشتراكية. لكنهم لا يستطيعون النجاح في ذلك إلا من خلال الاتحاد مع البروليتاريا الثورية.
ومثلما كان من غير الممكن في فترة انحطاط النظام الإقطاعي أن تتم الإطاحة بطغيان الكنيسة والملكية إلا بجهود الطبقة الثورية الصاعدة، أي البرجوازية، فإن النظام الرأسمالي الراكد والقمعي لا يمكن أن تتم الإطاحة به الآن إلا بقوة أعظم منه.
ولا يمكن أن تكون هذه القوة إلا الطبقة التي تشكل أغلبية المجتمع، تلك الطبقة التي تمسك بزمام السلطة الاقتصادية بين يديها، والتي بمجرد ما تتحرك لتغيير المجتمع لا يمكن أن تفشل في تحقيق النجاح.
إن المطلوب هو انفجار الصراع الطبقي الذي يتحدى الوضع الراهن ويحطم الجو الخانق من الغطرسة والرضا عن الذات الذي هو موت للفن.
عندما ستدخل الطبقة العاملة طريق النضال، سوف تكنس رياح الصراع الطبقي الجديدة كل الغبار والأنسجة العنكبوتية التي استقرت في عقول الرجال والنساء، وأضعفت وعيهم وخدرت أحاسيسهم.
وبمجرد ما أن تبدأ الجماهير في التحرك، فإنها لن ترضى بتلك الثقافة البائسة المنحطة التي تصيبها بالجهل في الوقت الحاضر. بل سوف تبحث عن شيء أفضل مما تحملته حتى الآن: سوف تبحث عن كتب جديدة، وأفكار جديدة، وموسيقى جديدة.
ومن خلال رفضها لكل ما هو فاسد ومتعفن في الثقافة الحالية، سوف تحتضن أفضل أفكار وثقافة الماضي بحماس.
إن النضال من أجل التحرر الاجتماعي للطبقة العاملة أمر لا يمكن تصوره دون أن يؤدي أيضا إلى تحررها الفكري والثقافي.
الفن والشيوعية
تصميم فلاديمير تاتلين للنصب التذكاري المقترح للمؤتمر الدولي الثالث، والمعروف أيضًا باسم برج تاتلين، في عام 1920 إن الفن الحقيقي هو دائما ثوري بطبيعته.
يتعين على الفن أن يعارض نير الطغيان بكل أشكاله، ليس فقط رجل الشرطة الذي يحمل هراوته وأغلاله، وليس فقط البيروقراطي عديم الروح الذي يحمل كتاب القواعد في يده، وليس فقط البوليس الروحيين (رجال الدين)، بل وأن يقف أيضا ضد دكتاتورية رأس المال، المادية والروحية.
لا يمكن للفنانين والكتاب أن يظلوا غير مبالين بالمعاناة الرهيبة التي يعيشها الجنس البشري. يتعين عليهم، هم أيضا، أن يقرروا إلى أي جانب ينتمون وأن يتخذوا مكانهم على المتاريس.
وعندما سيصبح الرجال والنساء أحرارا حقا في تطوير أنفسهم، وتحقيق إمكاناتهم الحقيقية باعتبارهم بشرا، وعندما سيتم تقليص يوم العمل إلى الحد الأدنى ويتم القضاء على الخصاص، فلن يكون هناك نقص في أمثال شكسبير ورامبرانت وبيتهوفن، تماما مثلما لن يكون هناك نقص في أمثال أينشتاين وداروين.
صعود المجتمع الطبقي أدى إلى الاغتراب الكامل للجماهير عن عالم الفن والثقافة. وسوف تؤدي الإطاحة به إلى تهيئة الظروف المادية لإلغاء التقسيم الممل بين العمل الذهني والعمل اليدوي.
وبعد آلاف السنين من العبودية، سوف يتم هدم أبراج العزلة العاجية. وسوف تفتح الأبواب التي كانت تسد كل السبل للوصول إلى الثقافة. وسوف تزدهر مدارس جديدة للفن والموسيقى والأدب، دون عوائق من الرقابة التي تفرضها الدولة أو الكنيسة أو السوق.
لكن الشيوعية سوف تعني تحولا أعمق وأهم بكثير:
في ظل الشيوعية، سوف يصبح الفن مرة أخرى ملكا للشعب بأكمله. ولن يبقى حلما بعيد المنال، أو شيئا غريبا ومنفصلا تماما عن الحياة الحقيقية.
سوف يندمج الفن مع الحياة اليومية، وسيصبح في النهاية جزءا لا ينفصل عنها. ذلك لأن أسمى الفنون على الإطلاق هو فن الحياة.
هذا هو المعنى الحقيقي لتعريف إنجلز الشهير للشيوعية بأنها: «قفزة الإنسانية من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية»[15].
العنوان الأصلي للمقالة: A muse of fire: art, society and revolution
مصادر: [1] K Marx, ‘Economic Manuscripts of 1857-1861’, Karl Marx Frederick Engels Collected Works, Vol. 28, Progress Publishers, 1986, pg 46
[2] F Engels, ‘Engels to C Schmidt in Berlin’, Karl Marx and Frederick Engels Selected Correspondence, Progress Publishers, 1965, pg 423
[3] Aristotle, Metaphysics, University of Michigan Press, 1966, pg 7
[4] W K Simpson (ed.), ‘The Satire on the Trades: The Instruction of Dua-Khety’, The Literature of Ancient Egypt, Yale University Press, 2003, pg 432-437
[5] G W F Hegel, Philosophy of History, P F Collier and Son, 1901, pg 511
[6] W R Manchester, A World Lit Only by Fire, Little, Brown and Co., 1993, pg 26
[7] ibid. pg 3
[8] F Engels, Dialectics of Nature, Wellred Books, 2012, pg 21-22
[9] J Milton, Paradise Lost, Oxford University Press, 1998, pg 15
[10] G Plekhanov, Selected Philosophical Works, Vol. 5, Progress Publishers 1981, pg 395
[11] W Wordsworth, William Wordsworth: Poems, Faber and Faber, 2001, pg 127
[12] L v Beethoven, ‘An den Musikverleger N Simrock in Bonn’, Beethovens sämtliche Briefe, Schuster und Loeffler, 1906, pg 17-18
[13] N H Dole (ed.), The Latin Poets: an Anthology, Thomas Y Crowell and Co., 1905, pg xi
[14] W Shakespeare, As You Like It, Thomas Nelson and Sons, 1975, pg 57
[15] F Engels, Anti-Dühring, Wellred Books, 2017, pg 336
#آلان_وودز (هاشتاغ)
Alan_Woods#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل الفن ضروري؟
-
عجوز غاضب، أوكراني مختل، وحرب عالمية ثالثة
-
فوز ترامب: ركلة في وجه الإدارة الأمريكية
-
هل نواجه حربا عالمية ثالثة؟
-
أزمة الشرق الأوسط: السير الحثيث نحو الهاوية
-
مغامرة السيد فولوديمير زيلينسكي المذهلة في كورسك
-
مذكرة الاعتقال الدولية: هل سيمثل نتنياهو أمام المحكمة الجنائ
...
-
هجمات إيران: مقامرة نتنياهو الخطيرة
-
لماذا نحتاج إلى أممية شيوعية؟
-
معركة لينين الأخيرة
-
الشرق الأوسط على حافة الهاوية: الإمبرياليون يسكبون الزيت على
...
-
عالم بلا مشاكل: رسالة آلان وودز للعام الجديد 2024
-
الاغتراب والمجتمع
-
ثورة ماركس في الفلسفة – تأملات في أطروحات فيورباخ
-
من قتل بريغوجين؟
-
مقدمة للطبعة المكسيكية لكتاب لينين “الامبريالية أعلى مراحل ا
...
-
وفاة سييفا فولكوف، حفيد تروتسكي: نعي مناضل عظيم
-
دون كيشوت، وإسبانيا في عصر سرفانتس
-
روسيا: من الثورة إلى الثورة المضادة – الحزب والطبقة
-
الدكتور “شؤم” يتنبأ ب”أيام قاتمة” للرأسمالية
المزيد.....
-
م.م.ن.ص// استقبال المعتقلة السياسية المناضلة سميرة قاسمي بص
...
-
رئيسة حزب -البديل من أجل ألمانيا-: هتلر كان شيوعيا!
-
“شارك تانك” وأساطير ريادة الأعمال
-
مصادر في وزارة الدفاع التركية: على قيادة حزب العمال الكردستا
...
-
تجمع ما بين الحداثة والوحشية السوفييتية..نظرة على الروائع ال
...
-
على طريق الشعب: لماذا التغيير الشامل؟
-
إعلام: اعتقال حفيد نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا للاشتباه ف
...
-
!سقوط الأسد انتصار للشعب السوري والمضطهدين في العالم
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 586
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي بخنيفرة يجدد مكتبه
المزيد.....
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|