|
محبتك للناس تبدأ بمحبتك لنفسك ليسهل انتدابها للأعمال الجليلة
خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8215 - 2025 / 1 / 7 - 02:54
المحور:
قضايا ثقافية
لا يمكن للإنسان أن يرتقي بنفسه لمحبة الناس ، دون أن يرتقي بمحبة نفسه هذه ، ليمكنه بعدها انتدابها للأعمال الإنسانية الجليلة. منذ ان عرف الانسان نفسه عرف الحب والكراهية ، وشهد الصراع بينهما ، ليبقى سعيه نحو المحبة والسلام هدفا منشودا و محورا لتطوره.
كم هو أمرا غريبا أن يجد الإنسان نفسه قد تعلم أن يحلق في السماء كالطيور ، ويسبح في البحار كالأسماك ، ولكنه لم يفكر بعد جادا في أن يتعلم كيف يمشي على الأرض مع أخيه الإنسان بأخوة صادقة و بمحبة خالصة ، ليجد أثرها إن بحثه عن راحه باله ومن ثم سعادته والاخرين كمن هنا ، والامر لا يتعدى كونه حالة ذهنية تأتيه بمثابة اختيار له ، وليس قرار يتبناه على حساب غيره وظرف غيره ، وفق حسابات لا تهمه فيها ما سيترتب عنها من ثمن باهض على النفس ، أوله خصام و كراهية الذين يمكن أن يستهلكا الطاقة الإيجابية ويؤديان من ضمن ما يؤديان إلى شعور دائم بالقلق والتوتر و يبعدان الإنسان عن السلام الداخلي.
بقدر ما كانت الكراهية وسيلة تثير البغضاء بين الافراد و العداءات بين الشعوب ذلك ، و بقدر ما كان دعاة الشر والعدوان ينشرون الفتن و يبثون سموم افكارهم ، بالمقابل بقي الحب رمزا للبحث عن السلام والتآلف والاستقرار بين هذه الشعوب ، ومنطلقا لتشريع قوانين تنظم الحياة البشرية.
عبر العصور ، كان ايمان منشدي السلام والمحبة ، من فلاسفة و مصلحين ومفكربن و ثائرين ، بقدرتهم على النجاح في تحقيق الأشياء العظيمة اول خطوة لهم ، لينطلقوا بعدها من ضمير البشرية ليرتادوا المجهول و ينشروا عناوين المحبة و ركائز السلام والعدالة بين الناس ، وامضوا في ذلك قدما مضحين بحياتهم ، ان تطلب الأمر ، في سبيل اعداد أسس راسخة لسلام دائمي و مستقبل أفضل للبشرية ، بعيدا عن مستنقعات الكراهية و عن لغة سفك الدماء و افتعال الحروب لتصل الكثير منها حد الابادة بحيث عجزت البشرية في مفاصل كثيرة من تاريخها حتى عن دفن ضحاياها فيها ليبان كم بعض المجتمعات البشرية بحاجة الى اجتياز اشواط كثيرة قبل ان تتعافى و تحقق ما تتوق له.
منذ ان وعي الانسان على نفسه وجد أنه خُلق ليَحب ويُحَب ، ليألف ويُؤلف ، فالمحبة قوام طبيعته وجوهر فطرته ، ووسيلته في تنوير حياته.
لذا تجد أن من يحمل قيماً انسانية وانتماء للحياة يدع روحه ووجدانه يسموان بحبهما ليتجاوز حدود النفس والاسرة لتمتد يداه بعدها لمصافحة كل شيء وتحويله الى صديق
وهذا مافعله القديس فرانس حين شارف حقيقة الوجود بترديده دائما : اختي الشجرة واخي الطير.
ان السبيل لعالم ملئه الطيب والسلام هو انت كفرد في مجتمعك او وطنك بل عموم الارض كفرد من أفراد البشرية . نعم السبيل هو انت وقرار ذلك يبدا بك و ذلك ليس بالامر الصعب ، فالمحبة مثل الصداقة لا تحــتاج الى عهــود وشـــروط واســـباب وقرارات ، انما تحــتاج فقــط الى ثقة و وفاء ، و ليس عليك الا أن تكون محبا لا تفرق بين الناس على اساس الانتماء القومي او الديني او اللون ، ولا على اساس مادي او معنوي ، فالكل يتكامل مع بعض بعمله وانسانيته. ومنذ زمن بعيد لمس هذه الحقيقة محي الدين بن عربي وعبر عنها بقوله :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني وقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
المحبة جوهر الحياة الانسانية ، بل كما يقول شاعر الهند الكبير طاغور هي الوقود الذي تغذي النور الذي ينير الحياة الإنسانية الخالصة التي يقول كل فرد فيها لأخيه يا أنا.
وكلنا نلمس في واقع حياة الناس جوهر هذه المحبة ، و كم استفاض الكاتب و المفكر خالد محمد خالد بالكثير من الشواهد حول هذا و غيره ومنها قوله : إذا زارك صديق تحبه تحول بيتك إلى عرس ومهرجان ، إذا أحببت عملك ، تفانيت في أدائه وإتقانه ، إذا أحببت زوجتك تمنيت أن تنجب منها بنين وحفدة. وإذا أحببت قانونا احترمته. إذا أحببت أستاذ أحببت المادة التي يدرسها ، و إذا أحببت وطنك لم تفكر في خيانته ، وإذا أحببت الحياة لم تفكر في الانسحاب منها.
ونِعمَ القول فكلنا تمر بنا تلك اللحظات السامية التي تسموا فيها أنفسنا انتعاشاً بالمحبة واحساسا بجمال الحياة و شوقاً لصداقة و ود كل ما فيها ، لتبدو الدنيا بهية ، والناس طيبين، والمستقبل مغردا.
ما احرى بكل فرد منا جميعا ان يأخذ مكانه اللائق بين منشدي السلام ودعاة المحبة بين الناس. ولكن هذا لم ولن يكون الاً بمعايشة ذلك واقعا مع نفسك اولا اي ان تحب بداية نفسك هذه التي ان لم يجمعك معها حب عظيم، فلن تكون أبداً محباً للناس و منشدا للسلام بينهم. اي ان الناس لن يجدوا منك السلام والمحبة والصداقة، قبل ان تمنح نفسك سلاما ومحبة وصداقة.
لقد صدق أفلاطون حين قال: إن أشق انواع الصدقات كافة، صداقة الانسان لنفسه. ليبقى العاجز عن حب نفسه اعجز عن حب غيره.
وحب النفس بالمناسبة لا يعني ابدا الأنانية لأن الانانية هي تعصب وانطواء وغرور بينما الحب يتضمن دائما التسامح والإيثار والتضحية من اجل الاخرين كما عبر عنها المفكر خالد محمد خالد.
ان الناس لن يتلقوا منك إلا ما تعكسه عليهم حياتك الباطنة او قل عقلك الباطن ، وسلوكك النفسي ان كان خيرا او شرا.
ان محبتك لنفسك وانتدابها لكل عمل نبيل تأتي عبر التأثير في عقلك الباطن وتوجيهه و وفقا لما يوضحه عالم النفس جون ميرفي من خلال التعرض لتجارب إيجابية والتذكير المستمر بالنقاط الإيجابية في حياتك ، لتعكس من خلالها الصفات الإيجابية التي نتمنى رؤيتها في الآخرين قبل اقدامك على نشدان كسب محبتهم.
أن طريقة تفكيرك في الآخرين وحديثك الداخلي يعبران عن نفسك، سواء بشكل إيجابي أو سلبي. عليه فان تبادل المشاعر الإيجابية مثل الحب والسلام والنوايا الصافية مع الآخرين يعزز الثقة وتبادل المحبة والاحترام.
للعقل الباطن كما يقول ميرفي تأثير كبير على جذب الأفراد إلى حياتنا ، ذلك ان كل واحد منا يحمل حوله هالة من الطاقة التي تنبعث منه، ويتواصل عقلنا من خلالها مع الآخرين. فالأشخاص الذين تتوافق طاقاتهم مع طاقاتنا يميلون إلى البقاء في دائرة علاقاتنا، بينما الذين لا تتوافق طاقاتهم تجدهم يبتعدون.
وبالتأكيد كلما اتسع مجال طاقتك وقدرتها اتسع معها مجال محبتك للآخرين ومحبتهم لك.
و لتعزيز الطاقه الايجابيه فان علاقاتك بالناس تتطلب منك تركيز النظر على اللمعة البيضاء في كل فرد تلقاه منهم ، دون تتبع نقاط ضعفه ، فكل فرد مهما سما بنفسه نقاط ضعف لا يرغب أن يركز الآخرون عليها.
و تعزيز الطاقة الايجابية يتطلب ايضا ان يتناول حديثك مع غيرك ما يسعده و يحبه ، حديث تكون فيه ليس فقط متحدثا جيدا بل مستمعا جيدا ، لتدعه يتحدث بفخر وانسيابية عن نفسه وعن نجاحاته ، فالكل يعشق الإحساس بالتقدير والاهمية ، فامنح الآخرين ما تحب أن يمنحونه لك.
و هذا لا يعني المجاملة وانما بحثا عن كمال الارتقاء بالنفس الكامن في القدر المشترك الناجم عن تعاون الكل مع بعض ، تعاون تقاوم فيه بفضائل النفس نظرات الكراهية و الحقد والغضب التي تأتي من ضعاف النفوس ، لتتسع بالنتيجة دائرة حبك حتى تشمل الناس جميعا ، وحينها يحق لك القول : كل البشرية هي أسرتي. وبالمقابل يحق للبشرية ان تفتخر بك كأبن بار لها.
وكم للبشرية من ابناء بررة تركوا بصماتهم الايجابية في تاريخها من علماء وادباء ومصلحين وثوار وقادة ومخترعين ومكتشفين وفلاسفه ومربين وغيرهم ، سأتي الى ذكر بعضهم لاحقا.
الحياة رحلة مليئة بالتحديات والفرص ، لا تدع الصعاب فيها تثنيك عن مسارك الانساني ، بل اعتبرها فرصة لتظهر قوتك وقدرتك الحقيقية على تحقيق أهدافك و تغيير واقع مجتمعك ومستقبله.
سياق الحديث يقتضي الاشارة الى انه ليس بالضرورة عليك ان تحمل عنوان ثائر او رسول للسلام والمحبة لتنثر بذورها بين الناس ، لأن ثمار هذه المهمة يمكن جنيها من اي عمل نبيل اخر ينعكس ايجابا عليك وعلى مجتمعك وكل المجتمعات ، فالعالم إينشتاين بنظريته النسبية غير كل مفاهيم فيزياء الكون وفتح افاقا كبيرة لفهم هذا الكون وسبر اغواره لينعكس ايجابا ذلك في كل الابحاث والاكتشافات والاختراعات العلمية اللاحقة.
في الهند كفاح غاندي و نضال نيلسون مانديلا في جنوب افريقيا وحملة مارتن لوثر كنك للإصلاح في الولايات المتحدة الاميركية ابانت انه يمكن بوسائل السلام ومحبة الخصم تحقيق رغبات الشعوب بالسلام العدالة ونيل الحرية والاستقلال.
بالمقابل نجد لويس باستور وبعده ادوار جينر اكتشفوا الكثير من اللقاحات ومهدوا الطرق للقاحات لاحقه ، مصباح اديسون قد انار البشرية كلها وسيارة مارك بنز سهلت التنقل والاتصال بين كل ابنائها وهاتف كراهام بل وبعده الهاتف النقال (الموبايل) لمارتن كوبر وشبكة الانترنيت لتيم بيرنزلي سهلت كثيرا التواصل المباشر وتبادل المعرفه على نطاق واسع و كبير. والقائمة تطول.
وقد تتسائل هنا اين سأجد لي مكانة بين هؤلاء العظماء؟. و الجواب ان مكانتك تكمن في ابسط واهم ادوارك. ويكفيك ان اردت اعدادك الحسن لنفسك ولافراد عائلتك كي تخرجوا للمجتمع متحابين محبين مسالمين نافعين ، ذلك ان كل ما تقدمه ويقدمه غيرك هو امر نسبي لا يقاس بمقداره بل بمردوده وان كان كلمة طيبة تحيي طفل ميئوس في قارعة الطريق.
هكذا توالت ادوار الخيرين والمصلحين كل في عمله ، دون تكلفة من احد سوى ضميرهم الحي المشبع بمحبة الحياة والحريص على ترك بصماتهم الفاعلة الخيرة ، حتى تحول العالم الى ضيعة صغيرة. ولكن لا تزال هذه الضيعة بحاجة الى نشر دعائم السلم وتوطيد اركان المحبة بين افرادها بسبب اعداء الحياة من هؤلاء الذين ياتون غفلة او وفق مخطط ليضعوا الحجارة في دواليب مسيرتها كي لا ياتي ذلك اليوم الذي يعيش الكل فيه بمحبة وامن وامان ، ولنا في المجتمعات الاوربية والشرق آسوية مثلا عبر تاريخها الحافل بكل شيء ، ونموذجا في حاضرها الذي هو محط انظار بقية المجتمعات البشرية.
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عش كل يوم من ايام حياتك كيوم جديد وسيكون هكذا
-
قراءة لدروس الحياة في محطاتها
-
الأخلاق في الميزان بين المنصب و العلم والمال
-
وقفة تأمل مع الساعات الأخيرة التي تسبق حلول رأس السنة الميلا
...
المزيد.....
-
حماس تطالب بإنهاء الحرب على غزة وإسرائيل ترفض وتصر بالاستمرا
...
-
100 يوم دون طعام... والدة المعارض المصري علاء عبد الفتاح توا
...
-
إيران ترفض -ادعاءات- ماكرون بشأن برنامجها النووي
-
مسؤول سوري: أسطولنا مكون من طائرتين فقط ومطار حلب جاهز فنيا
...
-
مستشار الأمن القومي لترامب يوضح لـCNN -أهمية- غرينلاند لأمري
...
-
مصدران يكشفان لـCNNعن عرض تقدمه واشنطن لـ-طالبان- للإفراج عن
...
-
عشرات الشهداء بغزة والمقاومة تستولي على مُسيرات إسرائيلية
-
محكمة العدل تعلن انضمام أيرلندا إلى قضية الإبادة الجماعية ضد
...
-
تركيا توجه -إنذارا نهائيا- لقسد وتضع شرطا -فوريا- أمامها
-
-الأسد- و-الخميني-.. مطالب بتغيير أسماء شوارع في بيروت
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|