|
صورة بوجهٍ آخر (وجع الحرية)
أحمد غانم عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 8214 - 2025 / 1 / 6 - 17:54
المحور:
الادب والفن
عندما ارتديت ثيابي في يوم الإفراج عنا شعرت أنها لشخص آخر غريب عني، وكذلك ضوء النهار الذي استقبلني في باحة السجن ومن ثم خارج البوابة الأمامية التي نسيت أي أمل بعبورها نحو الحياة الاعتيادية، وأني سوف أرى اناسًا يمشون في الشوارع بكل حرية، دون قيود ولا أوامر ولا تهاوي العِصي الغليظة لدى تعليقنا بالفلقة حتى نفقد الوعي. لوهلة كدت أطلب من السجان أن أبقى في زنزانتي حيث اعتدت التأرجح ما بين الحياة والموت، دون السماح بالاتكاء على أي حائط ولا القيام بأي حركة لمدة اثنتا عشرة ساعة، لأنني لا أدري إن خرجت في أي اتجاه أمضي، فقد ضاعت مني اتجاهات مدينتي وشوارعها وميادينها ومناطقها، حتى أني خشيت ألا أستطيع المشي ولو لعدة أمتار حتى أعثر على سيارة أجرة تقلني إلى منطقة الكرادة، فلا بد من الابتعاد عن مبنى السجن الكبير مسافة كافية كي لا يخشى ركوبي السائق الذي لزم الصمت طول الطريق متوجسًا من هيئتي الغريبة، وقد بدوت في المرآة الجانبية الصغيرة، والقريبة من جلستي إلى جواره، بقصة شعري الغريبة والمضحكة عن عمد وبقسمات وجهي المتورم أشبه بشبح خرج من قبر شخص مات مقتولًا دون أن يعرف سبب مقتله. ظلت السيارة تجوب بي الشوارع، من سجن (أبو غريب) نحو منطقة العامرية، ومن اليرموك نحو تمثال الفارس العربي، ولمَا مرت من أمام جهاز المخابرات شعر السائق بما اعتراني من رجفة سرت في كل أنحاء جسدي الذي تغور فيه أوجاع الجروح والرضوض والكدمات، فمد يده نحو ركبتي المرتجفة كي يهدئني، كما لو أنه اعتاد فعل ذلك، وحاول الإسراع قدر ما يستطيع كي يبعد عني شبح الاعتقال مجددًا، ثم أوقف السيارة إلى الرصيف المحاذي لمتنزه الزوراء، خشيت أن يطلب مني النزول، إلا أنه التفت نحوي مبتسمًا، وقد بدا لي في مثل عمري، بملامح تنم عن طيبة أصبحت غريبة عني، ثم قال أنه سوف يجلب لي عصيرًا وشيئًا آكله، على حسابه، فقد بدا له أني لا أملك نقودًا، مع ذلك قبَل أن يوصلني. تجرأت وأخبرته أني أشتهي سيجارة الحرية أكثر من أي شيء آخر. أخذت أتنقل بنظراتي عبر سياج الزوراء وشارع دمشق العريض بجانبيه من أمام محكمة بداءة الكرخ ومعهد الفنون الجميلة، وأكثر ما شد انتباهي الزي العسكري الذي يرتديه الشباب، كما لو أنه (مودة) أشبه ببناطيل (الجارلس) الفضفاضة وياقات القمصان العريضة والسوالف الطويلة في السبعينات، إلا أن قرار إطلاق السراح أكد أننا في عقد الثمانينات. رحتُ أحدق في كل صورة تمر السيارة من أمامها في (علاوي الحلة) و(الصالحية) و(حافظ القاضي)... صور كثيرة، في كل الزوايا تقريبًا، متباينة الأحجام، منها صورة كبيرة جدًا، شعرت أنها تحتويني وتحتوي كل المدينة، وتغشى حتى قطع القماش السوداء المعلقة إلى الأسوار وبعض الحوائط، تنعي الشهداء في قواطع جبهات المدن الحدودية جهة الشرق. لم يحاول السائق أن يتكلم معي كلمة واحدة، فتواطأت معه على الصمت، وكأن كلًا منا يتلمس رجفة الخوف الذي يراود الآخر، لكن عندما وصلنا منطقة الكرادة لم أستطع تمالك نفسي أكثر، فأجهشت ببكاء ربما أكون اختزنته على مر سنوات، وكأني أشم عبق أمي وأبي بعد عمر من الغياب، دفء البيت ورائحة البخور التي كانت والدتي تحب أن تعَطر بها مكان جلستها بصورة خاصة، أمام المدفأة النفطية التي يعلوها دورق الماء المغلي (الكتلي) يرتكز فوق فوهته دورق الشاي (القوري) (المهَيَل). كانت تنتظر عودتي المتأخرة بصبر وعينين قلقتين من أسى اعتقال جديد يبعدني عنها لفترة لا تعرف أمدها، أو من تفتيش يقلب البيت رأسًا على عقب حتى أُنهكت من ترتيبه كل حين، إلا أنها لم تعد تقول شيئًا تحاول من خلاله إثنائي عن الطريق الذي اخترته منذ أن كنت في السادسة عشر من عمري، تكتفي فقط بالتنهد الحزين الذي راح يغور في أوصالي مثل سكين حاد حتى استطعت تذكر شارع بيتنا، بعد أن مررنا بعدة أحياء ومحلات وشوارع، فأخذت ذاكرتي تسترجع أسماءً كثيرة غابت عني، رغم أنها كانت فيما مضى بمثابة الشرايين والأوردة المتشعبة في أوصالي. كان الدمع يغَبش نظراتي المتطلعة إلى ذلك التوهان الجميل، وكأن السائق تعمد أن يروي بعض حنيني إلى عمرٍ آخر أوجعني مدى غربتي عنه، كما لو أن القيود تواصل حزَ جسدي والضربات توالي طعن أضلعي وعظامي بألمٍ مبرح لا يرضى أن يفارقني. أشفق السائق على نظرات ذهولي فتخلى عن الصمت أخيرًا وأخذ يتلو على مسامعي أسماء (البوشجاع)، شارع (السيد إدريس) (الزِوية)، (رخيتة)، (أبو قلام)، محلة (البو جمعة)... كان يبدو كمن يستغل الفرصة كي يتغزل بصفات محبوبة سكنها الحزن منذ سنوات، فيما أواصل النحيب مثل الثكالى ممن يفقدنَ أحباءهن في حرب تقيم مجالس العزاء هنا وهناك كالوباء المنتشر بسرعة في أوصال المدينة، بينما لا يحق لذوي القتلى منا تحت وطأة التعذيب الجهر بذرف الدموع لدى تشييع الجثامين نحو المقابر. كنت شبه أكيد أن السائق الذي لم يستطع كبت دموعه لدى اقتراب عثوري على بيت والدي، كما لو أني اغتربت عنه منذ كنت صغيرًا أكاد لا أعي في الدنيا شيئا، مبتلى باعتصار الفقدان الذي يقبض على حسراتي الحرى بعد أن طال كتمانها، وأن له حكاية لعلها تفوق حكاية هزائمي على أيدي الرفاق مرارة، مع ذلك لم يفضِ بمواجعه، وبدَوري لم أشأ أن أضيف نزيف ألم آخر إلى غصة اختناقي. عندما ترجلت أخيرًا أمام باب بيت والدي لم يرضَ الانتظار حتى آتي بالنقود من الداخل، فقط أخبرني أن أحرص ألا أعود إلى (هناك) مجددًا مثلما حدث لأخيه الصغير، فلم يصله خبر عنه سوى شهادة وفاة، واكتفى بهذا القدر دون شرحٍ أكثر، ثم مضى بالسيارة سريعًا كما لو أنه شارك بجريمة شنعاء ويخشى اكتشاف أمره. أولمّا عبرتُ الباب الخارجي لبيت أهلي الكبير، والذي كان يبدو لي مثل قلعة شامخة لا يمكن لشيء النيل منها، ولا حتى الزمن، هجست أكثر فأكثر أني أمام واقع مغاير لكل ما ألفت، واقع ليس لمناضل منبوذ مثلي القدرة على تغييره ولا حتى التغاضي عنه، ودوي قصف غارة جديدة يكاد يدك الأرض من تحت قدميّ كما لو أنه يصدني عن الدخول كي أستأنف حياتي من جديد.
كاتب عراقي
#أحمد_غانم_عبد_الجليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خارج السلطة
-
صورة بوجه آخر... باب الغرفة
-
ويبقى لي معكِ حلم
-
سادة الحروب
-
مجنون الثورات
-
إلى أقصى حد
-
رواية باولا... السيرة الذاتية المرَكَبة والبعد الإنساني ما ب
...
-
دلالات السخرية في رواية -اعترافات كاتم صوت-
-
عيون مستورَدة
-
حبكة هوليودية
-
صوَر بوجهٍ آخر (باب الغرفة)
-
صورة بوجهٍ آخر (التلويح الأخير)
-
راقص الجبهات
-
رواية -لفائف كيسليف-... ما بين تعدد ووحدة الهوية
-
مسافات حلم
-
صور بوجه آخر (أولى سنوات العصف)
المزيد.....
-
رفض طلب ترامب بشأن -قضية الممثلة الإباحية-
-
امتحانات الثانوية العامة بالسودان.. كيف تهدد الحرب مستقبل ال
...
-
خالد أرن.. رحلة 40 عاما في خدمة الثقافة والفنون الإسلامية
-
لابد للكاريكاتير أن يكون جريئاً ويعبر عن الحقيقة دون مواربة
...
-
بعمر 30 عامًا.. نفوق الحمار الشهير الذي تم استيحاء شخصية منه
...
-
الفنان خالد الخاني : انتهى زمن اللون الرمادي...
-
محامي المخرج المصري محمد سامي يكشف حقيقة إحالته للجنايات
-
بعد مصادقتها على النتائج.. الكوميدي جون ستيوارت يسلط الضوء ع
...
-
أطفال فوق المباني..فنانة تبتكر صورًا خيالية لهونغ كونغ بالذك
...
-
الحداثة والفن الإسلامي في لوحات هندية تجسد ميلاد المسيح
المزيد.....
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
المزيد.....
|