رياض رمزي
الحوار المتمدن-العدد: 8214 - 2025 / 1 / 6 - 00:26
المحور:
الادب والفن
صنع في بغداد ( رقم 1) رياض رمزي
بنص بغداد أريدن أموت/ اشتهيت الموت مثل واحد اليمر بالبصرة وهو بالكوت.
شتهيت الموت مثل اكله اشتهيت الموت
مثل واحد يحبله بنيه بالبصرة وهو بيتهم بالكوت
بالغربة ويجيني الصوت
وين انت اشتهيت الموت
بنص بغداد اريد الموت
والجناز من يم الرصافة يفوت
وطلب اخر اطلبه والحجي بسكوت
لاتخلي قبغ لو باب ع التابوت
حتى اشتم هوا بغداد . الشاعر الشعبي خضير عباس
أنبئكم أني على العهد سالم ... ووجهي لمّا يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغير ما ... تيممه غيلان عند بلال. أبو العلاء المعري
أي هوى شممت في مدينة ما فتئت تسعرها ريح ذكريات اشتدت عليها وطأة حنين عمره خمسون عاما شممت خلالها ونظرت بأفضل ما أستطيع، وجدت بعد انقضاء خمسة عقود، أن البيوت اعتمرت لونا أسود لا يناسبها، ورائحة طفحٍ أوقع سرورا في قلوب من يقودون، أما الرعية فقد امتنعت عليها الدموع لأن وعيا سيطر عليها أن الدولة التي جلبتها صدفة غامضة أوقدت ذبالة متوهجة أنارت وجوههم التي لا تستدر غير الشفقة لما لحق بهم من عقود، لأن من شبع من الرواتب والسرقات أدخل فيهم حكاما ومحكومين استخفاف بيّن بمسيرة التاريخ والصراع بين الأمم ما جعلهم يهملون احتياطاتهم من ذكاء وعزيمة يُستعان بهما لاسترداد قوى غابت وربما تلاشت فلم يجدوا مستقبلا موثوق بمجيئه ، فشاهدوا قاماتهم أوقع رضى في قياداتهم وفيهم سيل رواتب وسرقات ولم يشاهدوا ما يعادله من فورة استهلاك بعد عدة سنين من حصار استثار فيهم الغيظ على حرمان ما زال أثره باقبا في نفوس خالطها عذاب جعلهم يخسرون دعواهم من الدين والدنيا سبّب ليس توعكا عابرا بل علل لن تنصرف بهدوء وليس إلى شفائها سبيل فأقصت حب الوطن والغيرة عليه إلى سلة مهملات حين لجأ القادة مع جزء من الرعية إلى النوم بطريقة من يطفئ النور لينام في الليل مثل مريض يتناول مسكّنات كي ينسى التهاب المفاصل . لم اتعرّف على مدينة لها علاقة بذكرياتي. أن اتلقى الحال برضا وامتثال، علي التخلي عن بغداد وعن ما حفظته من شعر أبي العلاء المعري الذي شاهد أم العراقين يعينين بصيرتين" وردنا ماء جلة خير ماء وزرنا سيد الشجر النخيلا". حسبك أن تقرأ وتستعيد كي لا ترى صور على جدران الرصيف المقابل وعليها رجال يرتدون لحى وقمصان وجُبب" إحِمْ" سوداء تستمد تسليتها وإنفتها وقدسيتها من عظام بالية محملقين على جموع غير مرئية بحملقات رهبانية توحي بأنهم متعالون وقاسون وهم يقولون كلمات تتساقط منهم مثل رذاذ من فم أدرد يلقون خطبا وأمامهم جمهور يبكي ويلطم وهو ينظر لسرادق الطعام.
لم اتعرف على ما له علاقة بذكريات كنت أشاهدها سابقا والشديدة الهزال بفعل عراك وجوع، لكنها الآن تجاوزت تلك المرحلة بسير سريع وبمظهر هجين لرجال عريضو الأفواه ليسون أطفالا يبحثون عن أم وأب بل لمن تتملكه رغبة ليتخلص من إرث أهل توالت عليهم النوائب. السائرون تتملكهم رغبة جامحة في جلي حناجرهم بسعلات متتالية كي يزيلوا ما علق بها من دخان رخيص استمر عالقا بها لفتر نافت على الستين عاما وهو ما يطلق عليها المحليون "العهد الجمهوري"، يسيرون مدّعين، زورا، أنهم يخشون شريعة الله،فيما هم يبصقون على الأرض ليتخلص من أثر دخان رخيص كي يحل محله واحدا غالي الثمن. أحدق في السائرين بأفضل ما أستطيع فلا أجد غير منظر امرأة تشبه نفس القطة التي كانت تعاني في زمن الجوع والحروب من هزال استبدلته بجديد ليس غير سمنة مغلّفة بهزال قديم. هي تعيش ليس في هواء طلق بل في غرفة ضيقة ينيرها مصباح يصيب العيون بالعشو. تتمتع بسمنة فائقة جراء طعام لم تعد للمعدة عليه اصطبار لأنها تغرق في مرحلة أسماها المركيز دي ساد العربدة havoc) ) التي تعني أكل الثريد مع الفسنجون أي ما يسمى بفوضى من عانى من سغب لفترة طويلة، وهو سلوك أناس حديثي عهد بالنعمة أصابهم خبل نتيجة ثراء فاحش. يخرجون للنزهة بعربات فارهة ماسحين شفاههم بفوطة منْ تجشأ وغالى في الطعام. حين يعود يسير بوقار رجل دين وهو يردد كلاما يقول أن الرزق مقسومٌ من السماء. لا علاقة له بما يحدث حوله في الدنيا والجوار والاقليم والدنيا، برغم أنه حتى الخيول لها علاقة بالأمر. كل هذا وتسألني عن سبب سمنة هذه القطة؟. أجيبك أنه بسبب سائل أسمه بترول أرضعته الأرض لبنيها، يشربه الآن من يتنكر بثياب رجل دين وأمامه رعية مثل ماشية أبقار ترقص أمام سيدها الثور. البترول مرآة يتمرى بها محروم لا يرى فيها صحراء ولا وقلة ماء فيستجير إلى كذب على النفس جالب للراحة مدعيا أن كثرة المطاعم رونقٌ نضر لبلاد عامرة كي لا يصاب بأذى بالغ فيلجأ لعزاء كاذب لا يصل إلى حقيقة غياب حبه لوطنه، وبطريقة لا تشبه حب المتنبي لحلب، أبو العلاء لبغداد، دوستويفسكي لبطرسبرغ، جويس لدبلن، ديكنز للندن..
في العشرين من ظهيرة تموزية من عام 1974ترك هذا الرجل المدينة وكانت الحرارة تسد مداخل الطرق والأفق فلا تمر غيمة تطيّب خاطر السكان بنسيم يفارق ما اعتادوا عليه. ما هو أشد من ذلك ظهور مذنب هبط إلى دروب المدينة أسمه مذنب أبو طبر ترك فيهم مشاهد تؤذي العين وتدمي الفؤاد جعل السكان يمتنعون عن خطر تداول النوم عل السطوح وهي عادة كانت تصنع لهم إلفة مع الخالق، لأن رؤية سماء ونجوم في المساء تقربهم من الملائكة في السماء وتجلب لهم الرغبة في الرقاد والاسترخاء فكانوا يعانون من أرق كانضباط ليلي لم يفارقهم وهو يرون رجلا مسلحا "بطبر" يظهر في ساعات حلول حلكة الليل منتقيا بعناية ضحاياه وكان أحد اساتذتي في كلية الاقتصاد جان آرنست ألقى الطبر بثقله على عقله المليئ بعلم التخطيط. من ينهض صباحا يعاني من تدن شديد في قدراته على الرد والتفكير فلا تأخذ في عقله فكرة غير صور الذبح بالطبر لوحش يلتقط ضحاياه في أمكنة محجوبة من الشمس في الدروب و على السطوح حيث تترصد أهل بغداد النوائب فلا يعود البغدادي يفكر بطريقة تشبه حب المتنبي لحلب، دوستويفسكي لبطرسبورغ، جويس لدبلن.. فيسير متحسسا رأسه معتصما بالصمت. على تلك الحال مضت الحياة إلى مذلة جلية وإذعان محتم للظروف. لا أحد يسير في مدينة ذكرياته الماضية فلا يجيئه طيف حلو من ذكرياته الغابرة وأن كان يمارس ضربا من خيال مسلٍ للنفس فليس غير رأس مقطوع وبقع حمراء على سطح بيت قريب وجلد لاصق بالوجه من شدة خوف ناجم عن قلة فهم المقتول من مسعى قاتله من وراء موته. يتذكر الأطفال قوة الجني الذي يجترح العجائب وهو محبوس في قمقمه، لكن الجني هنا يستعرض قدراته وهو يسكن قمقما ليس غير قصر جمهوري يوزع منه الكوارث ويؤجج منه سعير حقده على رعيته. أنه أحد أبطال الماركيز دي ساد وهو يكتب عن تفاهة الخير وانتصار الرذيلة من خلال شخصيته جوليت الشريرة أخت جوستين الخيرة، التي بسبب فضيلتها تتعرض للفظائع.
أما الرعية فتستمع لمنشد يصرخ باكيا على خيام احترقت قبل أكثر من ألف عام ولا يرى نيرانا تشتعل في بيته. يستمع الجمهور لكلام مبكِ لا يفرّج عن كربة بل يبث الندم على حدث انقضى ولكنه لم يتلاش. الجمهور يغرق في خيال إعادة المعركة الأولى وفقا لترتيب جديد: استعادة السردية ثم إعادة المعركة وفق مصطلحات جديدة تبعد السامع عن واقعه: خيانة، أمويين، حز رأس السبط... بسردية منغّمة بأنغام شجية تجعل السامع جنديا يخوض معاركه في الخيال. تذكُّر ما يجري الآن أمام عينيه إهانة لحداده.
#رياض_رمزي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟