|
شقشقة عراقية
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8213 - 2025 / 1 / 5 - 15:55
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ويقال إن أحد أسباب كسر بعض الكلمات في لهجة سكان جنوب العراق أنهم كانوا يميلون إلى الرقة والوداعة والسلم وعدم استخدام العنف بعد فترات من القتال، سواء كان هذا القتال نتيجة غزو خارجي أو اقتتال داخلي ، فضل أكثر سكان المدن التوغل بعيدًا عن المدن، حيث الأراضي الزراعية والبساتين التي عمروها، فكانوا يكسرون الكلمات نتيجة كسر في نفوسهم ، وحتى إذا جاء العرب محتلين تلك الأراضي، فإن هؤلاء السكان المحليين كانوا من الوداعة بحيث إنهم لم يواجهوا هؤلاء الأعراب ولم يقاتلوهم، بل إن الكثير منهم انخرط في السياسة المحتلة عسكريًا وقبليًا ولغويًا أيضًا ، وإذا كان كسر بعض الكلمات موجودًا للأسباب التي ذكرناها، فإن كسر النفوس زاد أكثر من ذي قبل، لأن هؤلاء المحليين فقدوا لغتهم وأرضهم وربما نساءهم في بعض الأحيان، وصار التحدث باللغة المحلية لحناً ولابد من الولاء لإحدى تلك القبائل المحتلة كي يستطيع المواطن الشروكي أن يقاتل أو يعمل ، فالقتال صار عملاً في ظل الاحتلال ، وبالمناسبة، فإن كلمة الشروكي تعني ربما مواطنًا من سكان الأرض المحليين ، وهذا الولاء تحول فيما بعد إلى انتماء، حيث يتصور من ينتمي إلى تميم حاليًا أن أصله من تميم الجزيرة العربية، وهذا غير صحيح ، أين اختفى سكان العراق الأصليون؟ ففي الوقت الذي كان فيه سكان الجزيرة بدو رحل لا يُذكر لهم في التاريخ، كان العراقيون يُنشئون أولى الحضارات البشرية ، لكن الحال لم يَبْقَ على ما هو عليه، فبسبب سيطرة الفرس على العراق، التي أضعفت الشعب وكسرته، صار من السهل على هؤلاء البدو أن يغزوها، حاملين معهم دينًا جديدًا وثقافةً مغايرة، ولغةً هي أدنى من لغتهم، لكن القرآن الكريم جعلها ذات قيمة ، والا فإن لهجات العرب هي مكسور السريانية ، لم تكن عند العرب لغة موحدة قبل القرآن، ولولا القرآن لذهبوا في غياهب التاريخ لا يعلم بهم أحد ، وسبحان من جعل المكسورين لغة يغزون المكسورين نفسيا. وكتعبير عن الانكسار النفسي، ابتكر العراقيون مظاهرَ الحزن على تموز ، وهذه المظاهر بقيت في النفوس تظهر وتختفي حسب الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حتى ظهرت بعد قرون طويلة، لكن هذه المرة حزناً على الحسين الشهيد الذي اختار الله له العراق مكاناً للشهادة، ولأن الله حكيم، فهو يعلم أن القضية الحسينية لا يحييها إلا من عرف الحزن منذ المهد وهو يبتسم ، ولفاضل الربيعي رأي في هذا الشأن، ورد في كتابه "المناحة العظيمة"، لكن للربيعي شطحات لا يمكن قبولها مطلقًا.
ولكن في المقابل، أصبح الترف البغدادي مضرب المثل، حيث يقال لمن يبدو عليه النعمة إنه يتبغدد، ففي عهد الدولة العباسية، وبِشيء من الاستقرار السياسي والاقتصادي، شهد العراق نوعًا من الترف، لكن هذا الترف سرعان ما انتهى بغزو التتار الذي قضى، وبشكل نهائي، على الحضارة العراقية التي لم تستعد هيبتها لغاية اليوم. ومن مظاهر التّرافة البغدادية أنّها تخلّصت من الكسرة اللغوية لأهل الجنوب المعتادة، فكان أهل بغداد ولا يزالون يُضمِّون بعض الكلمات ويُمدّون ببعض الحروف كنوع من الدّلع أو الفخامة المُزيّفة ، فمن يسير في أزقة الكرخ القديمة يسمع تلك اللهجة المحببة وهي تنطلق من شفاه النساء الجميلة ، واللغة تتبع أحوال الناس الاجتماعية والدينية والاقتصادية، وكذلك السياسية ، لغة أهل العراق القدماء كانت الآرامية المطعمة ببعض المفردات القديمة المستمدة من السومرية والأكدية، وهذه الأخيرة تربطها علاقة قرابة مع الآرامية. كسرة العراقيين تعقبها فترة من الرخاء ثم تعود الكسرة وهكذا، والسبب في ذلك هو الحاكم الذي يحكم هذا البلد. العراق بلد الخيرات فعلاً، ليس النفط فقط، بل إنه بلد لا يجوع، هكذا المفترض، لذا فمن الغرائب أن جاع العراقيون في التسعينيات ،بسبب إهمال هذه الخيرات والاعتماد على النفط، وفي تسعينيات القرن الماضي ظهرت الفهلوة اللغوية إلى جانب بيع الجسد لغرض لقمة الطعام. وفي العراق الجنوبي لا توجد أكلات مميزة إلا اللحم والدجاج والسمك، أما في بغداد مثلاً فكل الأكلات مستوردة إلا سمك المسكوف، فهو أكلة بغدادية مشهورة ، ويقال إن من إكرام الضيف في جنوب العراق أن يُقدم له إما لحم غنم أو سمك، أما الدجاج فهو طعام البيت، أو لنقل من لا يملك ثمن أكلة سمك أو لحم غنم، ومن لا يجد طعامًا من سكان الأهوار، فإنه يصطاد سمك الزوري ويشويه، فتكون وجبة لذيذة في هذا الكون. والكباب أصله عراقي أكدي، لا حلبي ولا تركي، والخبر اليقين عند الأصبغ بن نباتة، فابحثوا عن خبره.
الحاكم لا يتدخل في الاستعمالات اللغوية للشعب، بل إن الحاكم في بعض الأحيان يتبع هذه الاستعمالات التي يستخدمها الشعب في كل مرحلة زمنية ، لأن هذا الحاكم ينبع من تربة البلد، ثم يتمرد، ويتمرد الشعب بعد ذلك، وتستمر سلسلة العداء بين الحاكم والشعب. هذا في العراق، وحتى الحاكم المستورد يبدأ سيرته كما نشأ، ثم يتطبع بطبع العراقيين بعد ذلك، فيحب ما يحبونه ويكره ما يكرهونه، ثم يتمرد، فيسقط، فيأتي بعده من لا يتعظ من سلفه.
والانكسار الأخير هو الاحتلال الأمريكي الغامض، والذي لم يُعرف سببه حتى الآن. هذا الاحتلال صنع مجتمعًا مغايرًا لكل ما عرف العراقيون من قبل ، فالمجتمع العراقي منقسم إلى قسمين، الأول ضد الاحتلال والغرب عمومًا، والقسم الثاني يريد التقرب من ثقافة الغرب. فثمة فرق كبير بين زيونة بغداد ومدينة الصدر، لغويًا. ولغة أهل زيونة تكاد لا تشبه لغة أهل المدينة، فهذه الأخيرة ما زالت تحكمها ثقافة الانكسار الجنوبية، الثقافة التي صنعت جزءًا مهمًا من الحضارة العراقية، لكن لغة أهل زيونة ونمط حياتهم كالطفيلي الذي يعيش على خيرات غيره. الانكسار الجنوبي القديم تحول فيما بعد إلى مفاخرة وتشبث بالقيم العشائرية، وإلى تقاليد مأخوذة من الأنفة البدوية المعروفة، وإلى اعتداد بالنفس لا مثيل له ، لكن هذا الاعتداد بالنفس يتلاشى حينما يذهب الجنوبي إلى بغداد أو المدن الأخرى، ففي المدينة لا وجود للقيم العشائرية، والعمل هناك لمن يملك المؤهلات الدراسية ،لذا فخلف السدة نشأ مجتمع لا يستطيع الاندماج مع قيم المدينة، لكن سرعان ما هيمنت الثقافة العشائرية على نمط المدينة، فتحولت هذه الأخيرة إلى ريف متمدّن، إذا صح التعبير. والغريب أن أهل بغداد لم يصنعوا حضارتهم إلا بفعل القادمين من مختلف المدن، فبغداد مدينة كوزموبوليتية، أي بمعنى أنها تجمع سكانًا من عدة أقوام، وحتى لغة أهل بغداد الموروثة جاءت من عدة أقوام ، فبغداد قبل العباسيين لم تكن بغداد، بل كانت عبارة عن بساتين، والحضارة لا تنشأ بين سكان البساتين إلا إذا حولوا هذه البساتين إلى مدينة ، فالبصرة، لكونها جنة البستان كما يقول مهدي محمد علي، فلم تنشأ فيها حضارة، والحضارة التي نقرأ عنها نشأت في أطراف البصرة، حيث الجامع الذي لم يتبق منه إلا منارته المشابهة لجؤجؤ السفينة، حيث كان الإمام علي يحدث سكان البصرة. أهلُ البساتين ومن ينتمون إلى أرض السواد هم من يحمون أهلَ زيونة، وأهلُ زيونة يحملون في جيناتهم ترفَ أهلِ بغداد، وكذلك من يسكن في أزقة الكرخ القديمة، وبين الرصافةِ والكرخِ فوارقٌ كبيرة. بغداد ليست مركز العراق بل هي مجرد عاصمة للبلد وفقًا للدستور، وإلا فإن نمط الترف الذي يعيشه أهل بغداد يأتي من الجنوب، فالمدن الكبيرة تعيش على خيرات محيطها، والحضارات تنشأ من وفرة المال، والمدن الكبيرة يأتيها المال من خارجها. ألم يقل هارون الرشيد لتلك الغيمة المسكينة إن خراجها سيأتيه؟
ولمَن يريد أن يتعرّف على بقايا الآرامية القديمة، فعليه أن يذهب إلى ريف ميسان والمشخاب والسماوة والنيل ، ولا يستبعد أن يأخذ نهر النيل تسميته من قرية النيل عراقية ، فالمُغترب العراقي منذ الأزل ينقل أسماء مدنه إلى البلدان التي يقطنها، ويقال إن العراقيين القدماء الذين هاجروا من العراق هم المهندسون الذين بنوا الأهرامات في مصر على غرار الزقورة التي كانت محط اهتمام كل الشعوب؛ لأن في العراق نشأ كل شيء.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظهيرة سوق البصرة القديم
-
شذرة 15 الدين والتحريم
-
شذرة 14 الدين والأخلاق
-
حسين منه وهو من حسين
-
شذرة 13 الارادة الانسانية
-
شذرة 12 العقيدة والانسان
-
غدير الاتمام لدين أكتمل/ رؤية شخصية
-
ليس شعرا بل واقعة حدثت
-
شذرة 10. الفرق الإسلامية/ التوافق والاختلاف
-
شذرة 11 الدين والحرب
-
شذرة 9 نظرة إلى التراث
-
شذرة 7
-
عبد الإله منشد المحمداوي وملحمة يمحمد
-
شذرة 6 النص والنسخ
-
شذرة 5
-
شذرة 4
-
فيصلية الروح
-
في شارع بشار
-
شذرة 3
-
شذرة 2
المزيد.....
-
تشاد والسنغال تدينان تصريحات ماكرون حول الدعم العسكري الفرنس
...
-
الضفة الغربية: -توقفوا عن إطلاق النار! ابنتي ماتت-
-
الخارجية العراقية تتواصل مع السلطات في دمشق لإعادة النظر في
...
-
مقتل 36 شخصا على الأقل في زلزال بقوة 6.8 درجة ضرب التبت غربي
...
-
مادورو يتهم عسكريا أرجنتينيا بمحاولة اغتيال نائبته رودريغيز
...
-
زلزال عنيف يضرب إقليم التبت يوقع عشرات القتلى والجرحى ويتسبب
...
-
الولايات المتحدة: الكونغرس يصادق على فوز ترامب في الانتخابات
...
-
بعد تصريحات -أثارت جدلا-.. ترامب يعلن عن زيارة نجله إلى غرين
...
-
واشنطن توسع الإعفاءات من العقوبات على سوريا لدعم الخدمات الأ
...
-
الكونغرس الأميركي يصدّق رسميا على فوز ترامب بالانتخابات
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|