|
حرية الفكر بين ضرورة العقل وأوهام السلطة
حسام الحداد
الحوار المتمدن-العدد: 8210 - 2025 / 1 / 2 - 02:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حرية الفكر كانت وما زالت إحدى القضايا الأكثر جدلاً في التاريخ الإنساني، خصوصاً عندما تصبح في مواجهة مع السلطة الدينية أو السياسية. في هذا الاطار يقول الفيلسوف اسبينوزا في وصفة عقلية أخذت بها أوروبا لتكون الخلاص من ذلك الواقع المضطرب بسبب طبيعة الدين و طبيعة الدولة : "حرية الفكر ليست ضد التقوى او ضد الدولة ولكن القضاء على حرية الفكر فيه قضاء على التقوى والدولة ، حرية الفكر ( الفلسفة ) تحمي الدين والدولة من شهوة الرغبات ، ما تغيب تلك الفضيلة العقلية حتى تحتكر اقلية حق الفهم و التفسير و القرار لتكون الأنا و الرغبات معيار الصواب فيما حرية التفكير تدفع بالمنفعة والصلاح الخاص ( الفرد ) و الصلاح الشامل لدين والدولة كلما غابت حرية الفكر والفلسفة فإن التشدد هو البديل ، لأن المعيار هنا هي الذوات المهيمنة على الحقيقة او تصور الحياة ، حين عملت أوروبا بتلك الحكمة انتهت الحروب الدينية و تطورت الدول إلى انظمة علمانية لأجل تحقيق تلك الأفكار كواقع ان كان للتقوى او الدول او حتى الإنسان كلما غابت حرية الفكر فإن المجتمعات لا تعيش ضرورة التطور بل تعيد إنتاج ذات الشيء مهما بدا مختلف في المظهر لأن الذي يشكل الرؤية هو الرأي الواحد الذي هو بمثابة الحقيقة و عقيدة الحياة فيكون إقصاء الرأي الآخر و الإنسان الآخر فيكون صراع لا ينتهي." يرى اسبينوزا في الاقتباس الذي قدمناه من رسالته في اللاهوت والسياسة أن حرية الفكر ليست عدوة للتقوى أو الدولة، بل هي في جوهرها السبيل لحماية الاثنين من الانزلاق نحو الفوضى أو الهيمنة. تحليل هذه الفكرة يستدعي التوقف عند مجموعة من القضايا الأساسية: العلاقة بين حرية الفكر والتدين، تأثير الفلسفة على تطور الدول، والبدائل الخطيرة لغياب الفكر الحر.
جدلية الصراع والتكامل من النقاط المحورية في رؤية سبينوزا أن حرية الفكر لا تتعارض مع التقوى، بل تعمل على حمايتها من التشويه. عندما يُغيَّب التفكير النقدي، تُترك المساحة مفتوحة لاحتكار الأقلية لتفسير النصوص الدينية، ما يؤدي إلى تحويل الدين إلى أداة قمع سياسي واجتماعي. هذه الحالة كانت واضحة في العصور الوسطى الأوروبية، حيث تم احتكار الفهم الديني من قبل الكنيسة، ما أدى إلى حروب دينية وصراعات أيديولوجية دموية. حرية الفكر، بحسب سبينوزا، لا تهدد جوهر الدين، بل تُطهّره من أهواء البشر وتعيد له معناه الروحي. حرية الفكر تُعدّ وسيلة لإعادة الدين إلى جوهره الأخلاقي والروحي، بعيداً عن التفسيرات المصلحية التي تخدم مصالح قلة متنفذة. في المجتمعات التي تحتكر فيها النخب الدينية فهم النصوص، يتحول الدين إلى وسيلة لفرض السيطرة والتحكم بالناس، مما يُفقده قيمته كرسالة إنسانية تخاطب الروح والعقل معاً. حرية التفكير تتيح للفرد أن يتأمل ويبحث ويفهم الدين بمعزل عن السلطة، مما يعزز إيمانه القائم على الاقتناع بدلاً من الخضوع. بذلك، تصبح التقوى تجربة شخصية أصيلة وليست مجرد طاعة عمياء لأوامر مسيطرة. من جانب آخر، غياب حرية الفكر يجعل الدين أداة للإقصاء بدلاً من التعايش. عندما يُمنع النقد والتفكير الحر، تُختزل العقائد الدينية إلى قواعد جامدة تُفرض بالقوة، مما يؤدي إلى تقسيم المجتمع بين "مؤمنين" و"كفار" وفقاً لمعايير السلطة الدينية. في المقابل، عندما تُفسح حرية الفكر المجال لتعدد التفسيرات والمقاربات الدينية، يتحول الدين إلى مصدر للتنوع الثقافي والتكامل الاجتماعي، حيث يتعايش الأفراد باختلاف رؤاهم في بيئة تحترم التعددية الفكرية والعقائدية.
ضمان الاستقرار والتنمية يربط سبينوزا بين غياب حرية التفكير وبين هيمنة التشدد. في المجتمعات التي تغيب فيها حرية التعبير، تصبح القرارات الحاسمة حكراً على فئة واحدة تدّعي احتكار الحقيقة. هذا يؤدي إلى تصعيد النزاعات الداخلية وتكريس القمع والاستبداد، مما يضعف الدولة ويعيق تطورها. تاريخياً، عندما تبنّت أوروبا حرية الفكر كقيمة أساسية، كانت النتيجة ولادة الأنظمة العلمانية التي عملت على فصل الدين عن الدولة. هذا الفصل لم يكن عداءً للدين، بل وسيلة لحمايته من استغلال السلطة، وفي الوقت ذاته تعزيز الدولة كمؤسسة مدنية تضمن حقوق الجميع. غياب حرية الفكر لا ينعكس فقط على استقرار الدولة، بل يمتد ليؤثر سلباً على الابتكار والتقدم الاجتماعي والاقتصادي. عندما تسيطر فئة واحدة على القرارات والممارسات، يصبح الإبداع محاصراً والمعرفة محدودة بحدود ما تراه هذه الفئة مناسباً. حرية التفكير تفتح المجال أمام تنوع الآراء والمبادرات، مما يعزز قدرة المجتمع على إيجاد حلول مبتكرة للتحديات المختلفة. في المجتمعات التي تحتضن التفكير الحر، يصبح المواطنون شركاء في بناء الدولة بدلاً من أن يكونوا مجرد تابعين لقرارات النخب المسيطرة. بالإضافة إلى ذلك، حرية الفكر تسهم في بناء نظام سياسي قائم على التعددية والمساءلة. عندما تكون هناك حرية في التعبير عن الآراء وانتقاد السياسات، يتم تقويم أخطاء السلطة وتعزيز العدالة الاجتماعية. في الأنظمة التي تغيب فيها حرية الفكر، تتحول الدولة إلى كيان جامد يخدم مصالح فئة صغيرة على حساب الأغلبية، مما يؤدي إلى انتشار الفساد وعدم المساواة. أما في المجتمعات التي تتبنى حرية التفكير، فإن المشاركة السياسية تزداد، مما يعزز استقرار الدولة من خلال خلق توازن بين السلطة والمجتمع.
التشدد كبديل لغياب حرية الفكر البديل الطبيعي لغياب الفكر الحر هو التشدد والانغلاق. عندما يُقصى التفكير النقدي، تتحول الحقيقة إلى عقيدة ثابتة يُفرض قبولها بالقوة. هذا يؤدي إلى إقصاء أي رأي مختلف، وبالتالي خلق صراعات دائمة داخل المجتمع. غياب حرية الفكر يجعل المجتمعات تدور في حلقة مفرغة، حيث تُعاد إنتاج نفس الأنماط الفكرية والاجتماعية رغم اختلاف أشكالها. النتيجة هي مجتمعات غير قادرة على التطور أو مواجهة تحديات العصر. التشدد الناتج عن غياب حرية الفكر لا يقتصر تأثيره على الأفراد والمجتمع فحسب، بل يمتد ليُضرّ بالعلاقات الدولية. عندما تكون المجتمعات منغلقة فكرياً وتتبنى مواقف متشددة، فإنها تميل إلى اعتبار نفسها في صراع دائم مع الآخر المختلف. هذه النظرة تُغذّي النزاعات الإقليمية والدولية وتؤدي إلى عزلة تلك المجتمعات عن العالم. على النقيض، حرية الفكر تُمكّن الأفراد والدول من بناء جسور تفاهم قائمة على الحوار والاحترام المتبادل، مما يعزز السلام العالمي ويُتيح تبادل الثقافات والخبرات. إضافة إلى ذلك، يؤدي التشدد إلى خلق بيئة اجتماعية تسودها الرقابة والقمع، حيث يتم التضييق على الحريات الفردية والتعبير الإبداعي. هذا القمع الفكري ينتج جيلاً من الأفراد الذين يفتقرون إلى القدرة على التفكير النقدي أو المساهمة الفعالة في تنمية مجتمعاتهم. في ظل غياب حرية الفكر، تصبح المجتمعات غير قادرة على الاستجابة لتحديات العصر، مثل التطورات التكنولوجية والاقتصادية، ما يجعلها في حالة تخلف دائم مقارنة بالدول التي تحتضن الفكر الحر وتُشجّع الابتكار.
نقد الفكرة وتحليل الإشكاليات على الرغم من قوة رؤية سبينوزا، إلا أن هناك نقاطاً تحتاج إلى تمحيص. أولاً، افتراض أن حرية الفكر والفلسفة كفيلة دائماً بإنهاء الصراعات قد يكون مبالغاً فيه. التجارب التاريخية أثبتت أن بعض المجتمعات استخدمت الفلسفة لتبرير الاستبداد بدلاً من مناهضته. ثانياً، فكرة أن العلمانية دائماً تحمي الدين والدولة تحتاج إلى مراجعة، خصوصاً في ظل بعض التجارب التي استُخدمت فيها العلمانية كوسيلة لإقصاء الدين من المجال العام تماماً، ما أدى إلى نتائج عكسية. رؤية سبينوزا حول حرية الفكر تمثل حجر الزاوية لبناء مجتمعات مستقرة ومتطورة. مع ذلك، تحتاج هذه الحرية إلى إطار أخلاقي يضمن استخدامها لصالح الفرد والمجتمع، وليس كأداة لهدم القيم أو تبرير الهيمنة. إن غياب التفكير الحر يفتح الباب للتشدد، لكنه في الوقت ذاته يدعو إلى التفكير في كيفية تحقيق توازن بين حرية الفكر واحترام التنوع الثقافي والديني، بما يضمن استقرار الدولة ورفاهية الإنسان. على الرغم من أهمية حرية الفكر في تحقيق التقدم والاستقرار، إلا أن غياب القيود الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية قد يحولها إلى سلاح يُستخدم لتدمير القيم المجتمعية أو الترويج لأفكار متطرفة. حرية التفكير ليست هدفاً مطلقاً بحد ذاتها، بل وسيلة لتطوير المجتمع وتعزيز قيم العدالة والمساواة. إذا لم تُمارس هذه الحرية بمسؤولية، فقد تؤدي إلى ترويج نظريات خطرة، مثل العنصرية أو الكراهية، تحت شعار حرية التعبير. من هنا تأتي ضرورة وجود منظومة أخلاقية وقانونية تُحدد الأطر التي تتحرك فيها هذه الحرية، بحيث تحقق مصلحة الفرد والمجتمع دون انتهاك الحقوق الأساسية. إضافةً إلى ذلك، فإن اعتبار العلمانية نموذجاً مثالياً لتحقيق حرية الفكر قد يكون تبسيطاً، خاصة إذا أخذنا في الحسبان الاختلافات الثقافية بين المجتمعات. بعض النماذج العلمانية نجحت في فصل الدين عن السياسة مع الحفاظ على دور الدين في المجال العام، بينما فشلت نماذج أخرى عندما فرضت إقصاءً كاملاً للدين، مما أدى إلى ردود فعل عكسية، مثل صعود التيارات الدينية المتشددة. هذا يؤكد أن تحقيق التوازن بين حرية الفكر واحترام القيم الدينية ليس مسألة سهلة، بل يتطلب سياسات تراعي الخصوصيات الثقافية لكل مجتمع. أخيراً، يبقى السؤال المهم هو: كيف يمكن للمجتمعات تحقيق توازن دائم بين حرية الفكر والمسؤولية الاجتماعية؟ الإجابة تكمن في تعزيز التعليم القائم على التفكير النقدي، الذي يسمح للأفراد بطرح الأسئلة والتشكيك في المسلمات دون خوف أو قيود. عندما يُزرع في الأفراد منذ الصغر القدرة على التمييز بين الحقائق والدعايات، وبين التفكير الحر والفوضى الفكرية، فإن المجتمع يصبح أكثر استعداداً للتعامل مع التحديات المعاصرة، مما يحقق تطوراً مستداماً يحترم التنوع ويحافظ على القيم الإنسانية.
#حسام_الحداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحديات الديمقراطية في العالم العربي.. ثقافة الاستبداد وأفق ا
...
-
محمود أمين العالم.. تاريخ من النضال والثورة والمعارك الفكرية
-
هكذا تحدث فرج فودة (7): حول تطبيق الشريعة
-
دير الأنبا صموئيل.. وفتاوى السلفيين والتحريض على قتل الاقباط
-
الثقافة والحرف اليدوية
-
جمال الغيطاني كما عرفته
-
حالات.. بين الأنثى و الغياب
-
بعد ان باعتهم الكنيسة رهبان دير الانبا مكاريوس يستغيثون بالر
...
-
جائزة ساويرس ... الأقباط يمتنعون
-
عالم من الغواية والعفة.. بين الواقع والأسطورة
-
أحمد عبد المعطي حجازي وسؤال الثقافة!!
-
الوقت.. المرأة
-
إخوان الصفاء عصرهم ومراتبهم والموقف منهم
-
محمد عمارة يتخذ مجلة الازهر منبرا لنشر التطرف وعدم قبول الآخ
...
-
الشعر مسكون بالسياسة في فقه الغضب ليوسف مسلم
-
السيسي وعودة رجال مبارك
-
الرد على اليوم السابع واباحة البخاري ومسلم جهاد النكاح
-
الخلق مصلوبة
-
داعش وأفغانسان وبينهما فلسطين
-
احاديث تؤسس لدونية المرأة (6)«لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَن
...
المزيد.....
-
مسؤولان من مصر وإسرائيل يطلقان تحذيرا بشأن مفاوضات غزة بالدو
...
-
تاركا لسوريا والعالم إرثا ساما.. هذا ما وجده فريق -الخوذ الب
...
-
-لماذا لا تكرر إسرائيل نجاح عملياتها العسكرية في سوريا لتحري
...
-
عميدة سن البشرية.. وفاة اليابانية توميكو أكبر معمرة بالعالم
...
-
-ضريبة المحمول- بمصر .. غضب وشكوك ودعوات لوقف تحويلات الخارج
...
-
سلطات ميانمار تطلق حوالي 6000 سجين وتبقى على سو تشي بالسجن
-
أشد الأمراض فتكا بالبشرية.. حالات غريبة ونادرة لا تبقي فرصة
...
-
الفريق الأمني للرئيس الكوري الجنوبي المعزول يرفض المثول أمام
...
-
أردوغان: إما أن يدفن الإرهابيون أسلحتهم أو أن يدفنوا معها
-
سوريا: وزير الخارجية سيزور قطر والإمارات والأردن و مطار دمشق
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|