أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بن حلمي حاليم - سوريا صوب تغيير عميق بالمنطقة العربية















المزيد.....



سوريا صوب تغيير عميق بالمنطقة العربية


بن حلمي حاليم

الحوار المتمدن-العدد: 8209 - 2025 / 1 / 1 - 22:16
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


تمتد سوريا على مساحة شاسعة تضم عدة قوميات، وثقافات متعددة واديان ومذاهب قديمة، وبعد الحربين الامبرياليتين في بداية القرن العشرين ومنتصفه؛ الأولى في 1914 و1918، والثانية في 1939 و 1945 تشكلت دول حديثة نتيجة معاهدات واتفاقيات بين القوى الامبريالية والرأسمالية والطبقات المسيطرة على الثروات بالمنطقة، منها الدولة السورية، هل الطبقات البرجوازية العربية التي تزعمت الحركات الوطنية التحررية من الاستعمار المباشر العسكري استطاعت حل مشاكل المنطقة، ومنها سوريا؟ هل حلت كل المشاكل والقضايا المطروحة على المنطقة؟ وأهمها قضية القوميات المضطهدة، والمساواة بين الجنسين وتقرير المصير الحقيقي من السيطرة الاستعمارية والامبريالية اقتصاديا واجتماعيا، وتحقيق الديمقراطية الفعلية الجذرية من خلال المجالس الوطنية التأسيسية وصياغة الدساتير الضامنة لسلطة الشعب وتوزيع الثروات واستفادة الأغلبية الساحقة منها.
فالجواب على هذه الأسئلة وغيرها سيقرب لا محالة من معرفة ما يحصل الآن في الشقيقة سوريا وغيرها سابقا، وذلك إذا انطلقنا فقط من اندلاع الثورة العربية أواخر العام 2010 وبداية 2011؛ لا ريب أن خلق الكيان الصهيوني من طرف القوى الامبريالية والرأسمالية واحتلاله لبلد فلسطين وتشريد شعبه وتأسيس دولة إسرائيل زاد عمق بصورة قوية مشاكل المنطقة وانعكاس ذلك على العالم بأسره، وبالأخص اليهود الذين صدقوا اندماجهم بصورة طبيعية بالمنطقة تحت دولة احتلال؛ فاستغلال القوميات والأديان والثقافات والأعراف والتقاليد والعادات القديمة من طرف الرأسماليين والامبرياليين للسيطرة على الكادحين والكادحات قادت سابقا لحروب طاحنة، وتقودها اليوم للهلاك الشامل، بما فيه تدمير الكرة الأرضية والقضاء على اصل الحياة.

أسرة الأسد حافظ وبشار والبرجوازية السورية

ففي 8 آذار/ مارس عام 1963 استولت اللجنة العسكرية المنتمية لفرع حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم في البلد بعد نجاحها في تنظيم الانقلاب، وهي الخطة نفسها التي قام بها حزب البعث العربي الاشتراكي في الشقيقة العراق؛ ما عرف بحركة 8 شباط/ فبراير 1963، وتنظيم انقلابه على حلفائه الشيوعيين وسحقهم.

برزت هذه الأسرة على المشهد السوري والعربي منذ منتصف تشرين الثاني / نوفمبر 1970 بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي تزعمه وزير الدفاع بالجيش السوري حافظ الأسد الذي كان عضو القيادة الوطنية لحزب البعث، هذه الخطوة للسيطرة على جهاز الدولة ظلت راسخة في سياسة الحزب الذي ربط نشاطه بالمؤسسة العسكرية، وبعد نجاحه في ذلك، وضع في الواجهة عضو بعثي من فئة التعليم وهو نقيب مهنيي وموظفي القطاع: احمد الحسن الخطيب رئيسا للجمهورية السورية بعد نحو ثمانية وأربعون ساعة على نجاح ما أطلق عليه " الحركة التصحيحية" بالسيطرة على جهاز الدولة الحديثة؛ وفي أواخر شباط/ فبراير 1971 تم إبعاد الرئيس المؤقت احمد الحسن الخطيب أو استقال بعد الاستفتاء الشكلي المؤيد لحافظ الأسد، ليكون هذا الأخير رئيسا للبلد.
وهذا ما حصل وهكذا بدأت مأساة الشعب السوري الحقيقية، بعد ذلك عٌين احمد الحسن الخطيب رئيسا لمجلس الشعب، ورئيسا للمجلس التأسيسي، وفي صيف 1971 تشكل اتحاد ثلاثي ضم سوريا وليبيا ومصر، وعُين رئيسا له احمد الحسن الخطيب، أطلق عليها حكومة" اتحاد الجمهوريات العربية " وهكذا وظف حزب البعث السوري المسيطر على الجيش نقيب المدرسين على الواجهة من اجل جلب هيئات ونقابات التعليم إلى سياسته وامتصاص غضب بعضهم وإطفاء احتجاجاتهم والقضاء على طموحهم/ن السياسية في تسيير البلد.

حافظ الأسد عضو القيادة الوطنية لحزب البعث السوري وقائد القوى الجوية والطيران شكل بهذه الصفات والمهام نظاما سياسيا يعتمد على حكم امني وعسكري واستخباراتي وإيديولوجي لخدمة الامبريالية والرأسمالية في المنطقة ومحاربة الشيوعيين والماركسيين الثوريين الذين يعملون من اجل بناء أدوات الطبقة العاملة من الأسفل، وعمل النظام السوري كذلك على محاربة الديمقراطيين الحقيقيين الذين يطمحون لبناء دولة عصرية حديثة وإصلاحات جذرية.

فسوريا تربط بين ثلاثة قارات وبذلك تركزت فيه البرجوازية التجارية والملاكين العقاريين الكبار والبيروقراطية الإدارية والعسكرية المستفيدين من الموقع الاستراتيجي للبلد، والأزمات المتتالية والحروب بالمنطقة في فلسطين ولبنان والعراق، وبدأت الدائرة لنظام الحكم تتضايق شيئا فشيئا مع مرور الزمن حتى أصبحت صغيرة جدا وانعزلت عن الشعب ثم انفصلت عن سوريا وتاريخها وحضارتها، وارتمت في يد القوى الأجنبية الخارجية والامبريالية والرأسمالية سواء في الغرب أو الشرق، مع فرنسا أو روسيا ، تركيا أو إيران، وهؤلاء كلهم على ملة واحدة وهي الرأسمالية وسحق القوميات والشعوب من اجل المال والثروات الطبيعية.

الطبقة الحاكمة برئاسة حافظ الأسد عملت عل نسف المعارضة

قامت الطبقة الرأسمالية والأقلية البرجوازية المسيطرة على سوريا برئاسة حافظ الأسد بكل الوسائل للقضاء التام على كل أصناف المعارضة السياسية، ومنها فرع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين بسوريا الذي عمل كل ما بوسعه ضد حزب البعث العربي الاشتراكي إيديولوجيا وليس اقتصاديا واجتماعيا، وخدمة مصالح الرأسمالية والامبريالية بالمنطقة، وهو احد ابرز حركات الإسلام السياسي بالمنطقة العربية؛ وأشهر هذه الجرائم التي ارتكبتها الدولة ضد اليمين الرجعي والإسلام السياسي ما حصل في منطقة حماة والتي تعددت المعطيات حول عدد الضحايا المدنيين فيها، فقد تجاوزت عشرات الآلاف.

ففي بداية شباط/فبراير 1982 انطلقت عمليات الحصار للمنطقة وعزلها عن محيطها ثم تدخلت أجهزة القمع من جميع الأصناف، بدعم المؤسسة العسكرية، لان الإسلام السياسي والإخوان المسلمين تخندقوا بالمنطقة وحاولوا تنظيم مواجهة مسلحة مع النظام انطلاقا من مدينة حماة احد أهم معاقلهم.
ظلت الأقلية من الطبقة الحاكمة متمسكة بجهاز الدولة ومؤسسة الجيش الضامن لحسم كل المعارك السياسية على الأرض، وبأجهزة المخابرات والأمن السياسي لمراقبة أنفاس المجتمع، وبحزب البعث العربي الاشتراكي واستعمال إيديولوجيته لفائدتها بالمنطقة ورفع شعار " الجبهة الوطنية التقدمية " لجمع الكل على اتجاه فريد، وخلق " مجلس الشعب" كنادي للإثراء وتحسين الأوضاع من نعمة الدولة الاستبدادية، ومن خالف ذلك يعد " خائن للوطن" وهكذا تمتعت أسرة الأسد في نعيم سوريا لأنها خدمت مصالح الأقلية البرجوازية المحلية والأجنبية، والترتيبات والتوازنات في التنافس الامبريالي بالمنطقة، وكل نظام سياسي يسهر على ذلك تتم حمايته إلى النهاية، وهذا حصل ويحصل في كل مكان وموقع استراتيجي على الكرة الأرضية بالنسبة للامبريالية.
وكل الأعمال السياسية والأمنية بالمنقطة التي قامت بها هذه الأقلية البرجوازية برئاسة حافظ الأسد كانت للمصالح المتبادلة للبرجوازية العربية والعالمية والرجعية والصهيونية، فلم تكن لفائدة البروليتاريا العربية والقوميات المضطهدة والشعوب التي تقاوم الاستعمار والاحتلال، أهمها وأبرزها قضية الشعب الفلسطيني.
ولما بدأت الأمور تطول لمدة حكم حافظ الأسد وذلك منذ 1970 فعليا و1971 علنيا، تم التخطيط مسبقا لتحضير خلفا له، وهذه المهمة لم تكن بيد الأب حافظ لوحده، وهذه أمر غير ممكن بدون عمل منظم للأقلية البرجوازية والرأسمالية المسيطرة على جهاز الدولة الحديثة في سوريا، ولذلك تم ترشيح ابن الرئيس حافظ الاسد، حصل ذلك بعد عدة مشاورات ضيقة ثم اتفقوا على أن يكون ابنه باسل الاسد من يقوم بهذه المهمة السياسية لضمان استمرارية السيطرة على الحكم ومطلوب من المرشح أن يتدرب على ذلك بالمؤسسة العسكرية، فباسل الاسد ابن الرئيس تخرج مهندسا مدنيا ومظليا، وحصل على الدكتورة في المجال العسكري، وقائد لواء في الحرس الجمهوري، وبذلك تمت الترتيبات القبْلية والتحضيرات الاولية للمستقبل واستمرارية نظام الاستبداد والاستغلال والقهر والبطش.

هذا التخطيط من طرف الأقلية البرجوازية السورية للضمان سيطرتها سيشهد هزة عنيفة بعدما تعرض باسل الاسد لحادثة سير في 21 كانون الثاني/ يناير1994 تسببت في وفاته، وكان في سيره صوب مطار العاصمة دمشق، هذا الحدث ومصرع ابن الرئيس وارتباطه بالتخطيط المسبق لخلافة الأب، دار حوله كثير من التفسير والتساؤلات والشكوك لكن الأساسي، هو أن باسل الأسد انتهى؛ إذن يتطلب الأمر تنظيم انتخابات رئاسية وخلق مناخ سياسي، حتى ولو كان انفراجا جد ضيق، لكن الأقلية البرجوازية المسيطرة على جهاز الدولة لا تريد ذلك لأنها تخشى من النتائج غير المضمونة.
فبعد الإعلان الرسمي عن الوفاة المؤكدة لباسل الاسد ساد حزن شديد وحيرة في وسط الأقلية البرجوازية والبيروقراطية العسكرية والإدارية والانتهازيين والمنتفعين/ات، من جهاز الدولة الاستبدادية، وحتى بعض المتملقين من محترفي الأديان والمعتقدات اعد ابن الرئيس باسل بأنه" شهيد الوطن". ففي مثل هذه الأحداث ينتعش عدد من صيادي الفرص من اجل التقرب من الدائرة الضيقة بجهاز الدولة لتحقيق مصالح، وتظهر شبكات المتملقين/ات ولاعقي الأحذية.

ولما مرت على هذه الحديثة التي تسببت في وفاة باسل الاسد نحو ستة سنوات، وهي الفترة التي بدأت صحة الرئيس حافظ الاسد تتدهور شيئا فشيئا، مما جعل الأقلية الرأسمالية والبرجوازية السورية تحضر الابن بشار الاسد وتمهد له الطريق للقيام بمهمة رئاسة البلد بعد وفاة أبيه التي أصبحت محتملة ومدة حصولها ليست بعيدة جداً، حسب تقارير طبية عن حالة الرئيس.

كان بشار الاسد يدرس طب العيون في لندن وتم استحضاره إلى دمشق بعد وفاة أخيه باسل ليتم العمل معه على أساس أن يكون مهيئا لمهمة كبرى ومصيرية تتعلق برئاسة سورية، أي وريث للحكم في نظام يعد جمهوري، وهذا الأمر عجيب لدى الأنظمة الجمهورية في كل من : مصر وليبيا اللذان كان يحضران للعمل نفسه في نظامي حكمي كل من : معمر القذافي وحسني مبارك؛ وكان التحق بشار الاسد بالأكاديمية العسكرية السورية وتحمل مسؤوليات عسكرية، وتقلد منصب رتبة عقيد بالحرس الجمهوري، وتكلف بملف التدخل في الشقيقة لبنان والوجود العسكري السوري على أرضها منذ 1998.

وفي 10 حزيران/ يونيو2000 توفى حافظ الاسد، وقامت الأقلية البرجوازية الحاكمة فعلا بجهاز الدولة بإجراءات عملية منها تعديلات على الوثيقة الدستورية لجعلها مسايرة للمستجدات والتطورات الحاصلة في البلد، وبذلك أجرت تعديلا رفضته القوى السياسية، وباستغراب أغلبية الشعب، فهذا التعديل تعلق بالسن القانوني لرئيس الدولة وتحديده في أربعة وثلاثون سنة[34 سنة] بدل أربعون سنة كما كان قبل وفاة الرئيس حافظ الاسد، وبذلك مهدت الطريق لبشار الاسد حسب عمره وقتئذ الذي كان سنه ثلاثون سنة، وتقدم للانتخابات الرئاسية بدون منافس، وكانت انتخابات شكلية أما نتائجها فهي محسومة مسبقا من طرف جهزا الدولة.

القناع الذي اخفى الشبح

دائماً يحصل بصيص أمل بعد نهاية كل ظالم مستبد لدى أقسام من الشعب، مما يجعل البعض يعتقد بان كل المصائب الكبرى والقهر والجبروت ماتوا مع وفاة رئيس الدولة، وهذا يخفي عنهم وعنهن حقيقة الدور والمهمة بأن الرحيل ليس سوى موظف لدى الأقلية الرأسمالية البرجوازية أو أي فئة أو طبقة مستفيدة ومسيطرة على جهاز الدولة، فالرأسماليين متأكدين بأن المرحلة تحمل "حلم" و"أماني واسعة" لدى الفقراء والمظلومين، وكذلك تحمل طموح الانتهازيين الجدد الباحثين/ات عن ممر يقود إلى مناصب في الجهاز الدولة.

على هذا المنوال تم التخطيط لخلق شعارات المرحلة، وجذب البعض إليها بأساليب فنية ودعائية رسمية واسعة الانتشار بداخل البلد وخارجه، وكثير من الحيل والمناورات السياسية محليا وإقليميا ودوليا، وتطلبت دقة ماهرة؛ فالبرجوازية السورية والمخابرات متمرسة على ذلك جيدا، وتم رفع شعار " ربيع دمشق" صدقه بعض الأشخاص السوريين/ات المحترمين والمحترمات بالساحة السورية ولدى الرأي العام عموما بالبلد.
وكان مفروض على الأقلية البرجوازية في سوريا لإنجاح مناورتها السياسية من بعض التنازلات الطفيفة جدا، تتطلبها المرحلة، أي ما بعد وفاة الرئيس حافظ الاسد، وتمهيد المسلك لابنه بشار الاسد؛ وبذلك تم العفو عن عدد من المعتقلين/ات السياسيين والمعارضين/ات، والادعاء بغلق سجون عهده منها سجن المزة الجهنمي، وفتح مجال للنقاش السياسي والإصلاحات...
وواكب هذه العملية ما بعد حافظ الاسد سياسة اقتصادية واجتماعية مدمرة تتعلق بتطبيق النيوليبرالية التي تطمح إليها البرجوازية والرأسماليين في سوريا صاحبة الحملات الواسعة "للعهد الجديد"، وهو ما قام به الرئيس بشار الاسد الوارث لعرش والده، وقد شجعته على أن يصرح بذلك علنا، وربطه بمرحلة الرئيس الجديد لكي يسهل هضمه من طرف المتضررين من مرحلة والده حافظ الاسد، وإصدار قوانين وتشريعات تعزز الليبرالية الجديدة/ النيوليبيرالية وخصخصة المؤسسات العمومية والإجهاز على الدعم الحكومي لبعض المواد الأساسية لحياة الناس، مما زاد من حجم الظلم الاجتماعي والفوارق الطبقية وانتشار البطالة الواسعة بين الشباب من كل الجنسين، بالأخص الأطر العليا وأصحاب الشواهد الجامعية ومعاهد ومراكز التكوين بعدة تخصصات مهمة.
البيروقراطية الإدارية والعسكرية لجهاز الدولة السورية المقاتلة من اجل مصالح الأقلية البرجوازية والرأسمالية تضخمت كثيرا، ونما حجمها مع بشار الاسد في غياب قطاعات منتجة اقتصادية صناعية وفلاحية قادرة على تشغيل الشباب بدل القطاع الثالث المتعلق بالخدمات.
فالمؤسسات المالية الدولية التي تعد وسائل استعمار جديد غير مباشر تحت سلطة الامبريالية والدول الرأسمالية الصناعية الكبرى في العالم تسعى إلى كسب ود الرؤساء والملوك الجدد لدمجهم في مشاريعها ومخططاتها النيوليبيرالية، وهذا ما حصل مع الرئيس الجديد غير الشرعي الذي ورث المال والسلطة من والده الذي حكم بالحديد والنار سوريا من عام 1970 بعد انقلاب عسكري حتى وفاته سنة 2000 نتيجة سرطان الدم وهو مرض مزمن وطيلة إصابته ظل تحت العلاج ويشرف على الحكم ؛ وكانت مسالة التوريث عملية سياسية تحتاج إلى مستوى عالي من الدهاء لتكييف هذه السياسات مع إيديولوجية حزب البعث العربي الاشتراكي السوري من اجل فرضها على قواعد الحزب لكي لا تشكل مشاكل كبرى مستقبلا، وقد خلقت بعض المشاكل الصغرى فعلا؛ أهمها الخلافات مع احد أعمدة النظام في المنطقة عبد الحميد خدام نائب الرئيس حافظ الاسد.

وهكذا فتحت الأبواب على مصراعيها للرأسماليين للسعي لمزيد من الأرباح بأسرع وقت ممكن، وتتكلف الدولة الاستبدادية بضمان ذلك وتسمح بتراجعها عن القطاعات الاقتصادية المهمة وتساعد الرأسماليين على المهمة وتتعاون معهم بصياغة القوانين وحمايتها؛ وشهدت عدة قطاعات نشاطا اقتصاديا سيطر عليه الرأسماليين منها: السياحة والنقل والفنادق والعقار وانجاز السكن العمودي، والقطاع المالي والمصرفي والتجارة الخارجية والداخلية مع الاحتكار للأقلية صاحبة النفوذ؛ واتخذت دولة الاستبداد سياسة الاستيراد التي استفادت منها الأقلية الصغيرة جدا التي تربطها علاقات وطيدة بجهاز السلطة الفعلية مما ساهم بالقضاء على جزء مهم من الإنتاج الزراعي السوري الذي يضمن السيادة الغذائية للشعب.
فبعد نحو خمس سنوات على حكم بشار الاسد الذي ورث السلطة من والده صدرت الدولة مرسوم تشريعي متعلق بتأسيس شركات التأمين الخاصة لفائدة الرأسماليين، تنفيذا لمخططات المؤسسات المالية الدولية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومن يدور في فلكهم، وبذلك تم إنشاء عدة شركات من طرف الأقلية الرأسمالية عام 2005؛ وهكذا بدأت الدولة السورية تنزل بالضربات المتتالية والموجعة على حياة أغلبية الشعب، وتسرق أموال الأجراء والموظفين والمستخدمين/ات وتوجهها إلى شركات الرأسماليين.

الفلاح السوري ومائدة الغذاء

فقد تم قهر المزارعين/ات أصحاب الأرض وحتى تجويعهم بعدما طبقت الدولة السياسات النيوليبيرالية على الأراضي والمياه بالشمال الشرقي لسوريا المنطقة التي تمتد فيها حقول القمع الصلب واللين والشعير والذرة على مساحات شاسعة وذات جودة عالية، منطقة يعد سكانها من الناشطين السوريين/ات بالكدح، فسياسات الدولة جعتهم يكدحون من اجل تغطية قسم من مصاريف سلسلة الإنتاج ولا يضمن حتى غذاء جيد ومتنوع للفلاحين الفقراء؛ لان الأقلية الرأسمالية تهدف لتحديد تسعيرته لمصلحة المزيد من الأرباح لفائدتها.
فمناطق وأرياف كل من : الحسكة والرقة ودير الزور والطبقة، وعين العرب ومنبج، وحلب وغيرهم يعدان من أهم المناطق التي توفر مائدة الغذاء للسوريين/ات؛ وذلك نتيجة مليون والآلاف الهكتارات التي يتم زرعها باستعمال المياه الجوفية.
إن السياسات التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وكل من يسايرهما المنهج الاقتصادي نفسه يسعون إلى جعل الشعوب بلا سيادة ويتحكمون في مصيرهم بمساعدة الأنظمة الاستبدادية التي تتحكم في جهاز الدولة مما يسهل عليها الأمور في تنفيذ المخططات الامبريالية، وقد وجدوا في النظام السوري برئاسة الهارب بشار الاسد المجرم أفضل من يقوم بذلك، وقام به فعلا ضد السوريين/ات، لكنه ترك البلد مدمرا وفر إلى الخارج.
وقد خصخصت الدولة السورية الأراضي الزراعية لفائدة الرأسماليين/ات وحرمت الفلاحين الفقراء مما تسبب في عمليات النزوح الجماعي صوب المدن الكبرى من شمال شرق البلد إلى عدة مدن ومحافظات منها: العاصمة دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وغيرهم؛ لقد تسببت في سلسلة هجرات جماعية تعد بالآلاف من سكان الأرياف إلى الحواضر بحثا عن وسائل العيش المضمون.

فالسكان الفلاحين ارتبطت حياتهم بالأرض والزراعة منذ عقود ولا يمتهنون أي عمل أخر غير ذلك، لان سياسة الدولة استغلتهم في مزارعها [الملكية الجماعية] وقد دمرت حياتهم بعدما استغلت أسلافهم سابقا، وبعد تطبيق السياسة النيوليبرالية خصخصت مزارع الدولة لفائدة الأقلية وتشريد الآلاف من المزارعين الحقيقيين الذين افنوا جل أعمارهم بالعمل الزراعي.
هذه تعد جرائم السياسات النيوليبيرالية التي طبقتها زمرة بشار الاسد، لقد وظفت مجموعة من القوانين والتشريعات لهذه السياسات الرأسمالية، فالدولة الاستبدادية السورية جعلت العمال يشتغلون في ظروف العبودية الجديدة محرومين/ات من الحقوق الأساسية، وهذا حصل منذ عهد الرئيس حافظ الاسد الذي مهد الوضع لابنه، والأخير أتم العملية على أحسن ما يرام، فأغلبية السوريين عاشوا ويعيشون على الهامش الاقتصادي والاجتماعي ويحصلون على ضروريات الحياة في الأنشطة غير المهيكلة.

الرأسماليين لا قومية ولا ملة لهم

إن الرأسماليين والامبرياليين يوظفون القوميات والملل واللغات واللهجات والثقافات والعادات القديمة من القروسطى في بناء أنظمتهم وكياناتهم السياسية للسيطرة على الشعوب ويخوضون الحروب المقدسة ضد وحدة الفقراء من جميع سكان الأرض، لأن هذه الوحدة على أساس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تحمل فكرة القضاء على الرأسماليين والملكية الخاصة التي ليس لها لا دين ولا عقيدة ولا قومية.
ففي سوريا استفاد الرأسماليين الأجانب من جميع الجنسيات والبلدان وبالأخص الجيران الرأسماليين التركيين والخليج بينما الأغلبية من السوريين/ات عانوا قسوة الحرمان من أساسيات الحياة، أما حالة الصحة والتطبيب والتعليم والعلم والمعرفة بمستوى جيد فقد أصبحوا من الأحلام بالنسبة للأغلبية الساحقة من الشعب السوري.
لقد مهد الرئيس الراحل والمستبد حافظ الاسد الطريق للرأسماليين بسياسة "الانفتاح الاقتصادي" لتلبية مساعي أقسام من البرجوازية السورية وربطها بجهاز النظام الاستبدادي منذ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، وبذلك بدأت الإجهاز على جل الخدمات الاجتماعية التي كانت مفروضة على حزب البعث العربي الاشتراكي السوري بقوة الأوضاع السياسية التي نتجت عن الانقلاب العسكري عام 1963وسياقاتها وظروفها المحلية والإقليمية والدولية قبل الهزيمة الكبرى للبرجوازية الصغيرة في اوائل حزيران / يونيو 1967 أمام الجيش الصهيوني المساند من طرف القوى الامبريالية ما أطلق عليه " النكسة" من طرف البرجوازية العربية، و"حرب ستة أيام" من طرف الكيان الصهيوني، ودولة إسرائيل الاستيطانية.

فظروف تلك الفترة التي برزت فيها بقوة على المشهد السياسي العربي الأحزاب القومية العربية الناصرية نسبة إلى مساندي سياسة الزعيم جمال عبد الناصر رئيس مصر بعد انقلاب عسكري وتأسيس نظام جمهوري في البلد، والأحزاب القومية العربية البعثية المساندة لأفكار مشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الارسوزي ومحيطهم الضيق، والأحزاب الشيوعية المرتبطة بسياسة موسكو، والمجموعات الليبرالية فكريا وثقافيا عملت الدولة السورية على تبني سياسة" دولة الرعاية الاجتماعية" في قطاع "شركة التامين السورية" التي تأسست في الخمسينيات من القرن العشرين، وفي عام 1977 تغير اسمها إلى "المؤسسة العامة السورية للتامين"

لا احد ينكر أن الدولة السورية قدمت في هذه الظروف خدمات مهمة للسوريين والعرب وغيرهم المقيمين بالبلد، في مجالات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والسكن والتامين والتقاعد والنقل والثقافة والرياضة و الفن والترفيه...الخ؛ هذه المكاسب رافقتها جرائم البطش والقمع ومنع الحريات السياسية والتعبير عن الرأي ، لقد شكلت الطبقة الحاكمة سياسة[ الكل مع الدولة الاستبدادية] ومن حاول غير ذلك فمصيره الهلاك أو النفي والإبعاد إذا نجا بحياته.
لكن الشعب السوري الذي تعد أقسام كبيرة من أبنائه وبناته من ابرز المساهمين والمساهمات في تطوير الثقافة العربية الحديثة شكلا ومضمونا بجل المجالات، ظل يناضل ويقاوم ضد الاستبداد، ويكافح من اجل انتزاع الحرية التامة ولم تشتريه الدولة الاستبدادية بخدماتها الاجتماعية رغم أهميتها مقارنة بشعوب المنطقة العربية وكثير من بلدان العالم حديثة الاستقلال السياسي، ولذلك فالقمع واليد الحديدية والنارية كانوا حاسمي أمر السلطة وإطالة زمن حكمها، والإنسان لا يحيا من اجل العيش وحده فالحياة لها معاني كثيرة، ولهذا لم يدوم حكم النظام البعثي في سوريا رغم طول مدة سيطرته عليها.

عهد بشار الاسد من 2000 الى اواخر 2024

خصخصت الدولة قطاعي الصحة والتعليم وقلصت من الميزانيات وفرضت تسعيرة على عمليات الاستشفاء، وفتحت المجال للرأسماليين لاستفادة من القطاع، وبذلك ظهرت مصحات خاصة، وكذلك الأمر بقطاع التعليم فقد ظهرت جامعات خاصة بيد الرأسماليين، وبدأت سلسلة الخصخصة بجل المستويات منها: رياض الأطفال الصغار الأقل من سبع سنوات، والابتدائية، والثانوية انطلاقا من بالمدن الكبرى إلى كافة البلد.
ثورة اذار /مارس 2011 ضد الاستبداد والسياسات النيوليبرالية
الثورة الشعبية تطمح للتغيير الجذري في البلد والأقلية الرأسمالية تريد كبحها ونسفها واغتيال زعمائها وإرهاب الجماهير بكل الوسائل؛ هكذا تخاض المعارك الثورية والصراع الطبقي والحرب الأهلية، ونتيجة ذلك طيلة معارك الثورة السورية تراجعت صادرات الدولة بجل القطاعات الإنتاجية، وبالأخص المنتجات الصناعية التي تشغل أقسام من البروليتاريا السورية، مثل النسيج والمواد الغذائية، وشلت محطات كهربائية أساسية، إضافة إلى تدمير أساسيات العمران من طرق وشبكات الربط بالعناصر الأساسية للحياة، وعزل أطراف البلد عن بعضها بسبب الحرب الأهلية بين السوريين الذين قسمتهم الحرب إلى عدة إيديولوجيات مختلفة ومرتبط جلها بدعم إقليمي ودولي.
لقد ارتكبت دولة الأقلية الرأسمالية السورية جرائم كبرى ضد البشر فقد قتلت الآلاف من الناس بمختلف الأعمار والفئات ومن الجنسين ذكورا وإناثا، ومن كل الثقافات والقوميات والأديان التي تعد سوريا العظيمة وطننا لهم، وشردت الملايين بكل الاتجاهات؛ هذه الجريمة لا يمكن محوها من تاريخ المأساة الإنسانية العالمية، وهذا سيجعل البلد سيحتاج لزمن كافي بإعادة القوى البشرية والعنصر الأساسي في إنتاج الثروة وبناء سوريا والشام.
لقد حصل الشلل التام للبلد، وانعزلت الزمرة المجرمة عن الأغلبية العظمى من الشعب، وتضاعف السخط عليها حتى من اقرب المقربين إليها، وهذا أمر طبيعي نتيجة تخريب جل الخدمات الاجتماعية الضرورية بالبلد أهمها قطاع العلاج والاستشفاء، والتعليم والمعرفة، وتدمير جل مؤسساتهما وانعدام ضمان أجور الأطر البشرية بجميع فئاتها التي تشرف على تسييرهما العادي.
من سيدافع عن دولة الاستبداد والاستغلال والظلم والطغيان ونظام بشار الاسد المجرم الذي قصف المدنيين بالنيران؟ كيف أصبح حال الجنود البسطاء الصغار بعد أزيد من ثلاثة عشر سنة؛ منذ آذار/ مارس 2011؟ وما هو حال المليشيات وعصابات ما يطلق عليه السوريين/ات [الشبيحة]؟ إن الرأسماليين يبحثون عن الأرباح بجميع الوسائل وفي كل مكان، ولذلك ابعدوا أموالهم وأموالهن الضخمة من بلد تدمر فيه كل شيء إلى مصارف كبرى بالدول التي تضمن ذلك في الخارج.
وهل يمكن أن تظل العاصمة دمشق صامدة طيلة هذه الفترة في هذه الظروف؟ هذا أمر غير ممكن، ومن كان يعتقد ذلك فهو واهم وهما كبيراً.

الالتفاف على مطالب الكادحين بالمناورات السياسية لا يدوم

ففي اواخر شباط/ فبراير 2012 حاولت الأقلية الرأسمالية وضع دستور جديد لنظام الحكم التفافا على مطالب وحقوق الثوار، وجر الانتهازيين إلى مشروعه السياسي في سوريا والمنطقة بصورة عامة، ونسف مشروع النضال من اجل الديمقراطية الجذرية والتغيير الفعلي الذي حملته شعارات الثورة السورية منذ اندلاعها من منطقة درعة، فمن صاغ هذه الوثيقة الدستورية؟ وكيف كان شكلها ومضمونها؟؟ ما علاقتها بما يحدث على ارض الواقع الحقيقي السوري؟ لماذا لم تنجح هذه المناورات السياسية حول المسالة الدستورية وطبيعة نظام الحكم بالبلد؟ لان الصراع الطبقي عندما يندلع لا يمكن إخماد لهيبه بمثل هذه المناورات البرجوازية والانتهازية وطمس موضوع الأسباب الجوهرية للثورة السورية المتعلقة بالقضية الاجتماعية.
سلسلة الالتفاف والدوران لن تنفع، فقد سبق أن حاولت الطبقة الرأسمالية المسيطرة خلق " لجنة" تقوم بإنجاز وثيقة حول تعديلات دستورية في 30 كانون الثاني/ يناير2018، في حوار" وطني" نظم بمدينة سوتشي الروسية مكونة من خمسون شخص عن كل قوى [ الحكومة السورية والمعارضة وممثلين عن الهيئات المدنية مختارين من طرف مبعوث الأمم المتحدة ] أي 150 شخص بالمجموع؛ وكان أول اجتماع لها في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بعاصمة سويسرا جنيف، وحدد المبعوث الاممي غاية اللجنة بصياغة دستور للسوريين من قبل السوريين؛ ولا داعي لذكر كل التفاصيل حولها، لكن الجوهري هو أن كل هذه المناورات السياسية لم تفيد في شيء ولن تفيد مع ثورة شعبية جذرية.

الرأسمالية والامبريالية يوظفان الحركات الدينية السياسية

لا ريب أن اقتحام العاصمة السورية دمشق في 8 كانون الأول / ديسمبر 2024 من طرف التنظيم الإسلامي اليميني الرجعي كان مخططا له من القوى الإقليمية والامبريالية لدرايتهما بحالة السلطة الفعلية في دمشق عبر تقارير الاستخبارات والأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية، إضافة إلى المشهد الحقيقي للنظام الذي أصبح غير قادر على تدبير شؤون منطقة العاصمة دمشق ومحيطها وبالأحرى بلد بحجم سوريا العظيمة، ولا يمكن أن يخطر على بال أي مهتم بقضايا نضال الشعوب من اجل تحقيق تقرير مصيرها بنفسها، انه من السهل أن تصل إلى السلطة قوى سياسية جذرية تقطع مع مصالح الرأسمالية والامبريالية والرجعية والكيانات السياسية الدينية الغارقة في عهود غابرة، ومؤسسة على الحكايات والغرائب والأساطير بالمنطقة، فمنذ اندلاع الثورة العربية اواخر2010 وكل المنطقة تحت المراقبة والتتبع خوفا من أن تتخذ وجهة غير مرغوب فيها، وتكون لمصلحة الكادحين/ات..
أما الحركات الدينية بجميع مذاهبها وعرقها وملتها فهي في خدمة الرأسماليين والامبرياليين ولذلك يفسحون لها المجال ويدعمونها ماليا ومعنويا، لكي تخوض الحروب المقدسة ضد الشيوعيين بكل مكان منذ 1848 وتحقق انتصارات على من يطمح لتدمير أسس الملكية الخاصة والقضاء على الأنظمة الرأسمالية.
ولهذا ستظل المنطقة تراكم من المأساة والفواجع لسكانها الكثير مادامت الرأسمالية والامبريالية تقود العالم وتتحكم في مصير السياسات الدولية وتخطط لها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ...

النظام السوري سقط

ماذا حصل؟ الدولة عجزت عن تدبير شؤون البلد منذ اندلاع الثورة، فقد حاولت قمعها بكل ما ملكت من جبروت، وكانت كلفتها جد باهظة بشريا وماديا، وظلت متمسكة بشرعية الحكم حسب حلفائها رغم أن ذلك حصل بعد انقلاب غير شرعي سنة 1970، وأعيد الأمر بعد ارث ابن الرئيس للحكم بعملية غير شرعية كذلك سنة 2000، وفي 8 كانون الأول / ديسمبر2024 فر بشار الأسد رفقة أسرته وقلة قليلة من دائرته الضيقة صوب موسكو تاركا دمشق الرائعة، إن التضحية برأس الدولة يتم دائما أثناء الانهيارات الكبرى للدول كيف ما كان نظام الحكم فيها سواء ملكي او جمهوري؛ لكن أسس الدولة وطبيعتها وكنهها وممتلكاتها واتفاقياتها ومعاهداتها وإسرارها وأرشيفها هي التي يخاض حولها النقاش السياسي.
ففي هذه الحالات يحتد العراك السياسي حول هل يتم تدمير نظام حكم سابق وبناء أخر جديد غيره؟ هل المطلوب تحقق الاستقلال الفعلي الذي يضمن تقرير مصير الشعب وحماية حدود البلد، ويحقق المساواة بين الجنسين وتوزيع الثروات الوطنية على جميع السكان؟ و كيف يكون ذلك؟ وكيف يتم انجاز دستور شعبي وديمقراطي شكلا ومضمونا؟
إن إسقاط نظاما سياسيا بواسطة ثورة شعبية عارمة يتطلب تأسيس غيره، أي نظام مختلف عليه بصورة جذرية استجابة لمطالب الثورة الشعبية التي دفعت كل شيء من اجل إسقاطه ، وإذا لم يتحقق هذا فإن الثورات لها مادتها وقدرتها ومنطقها على الاستمرار حتى النهاية، ومهما عملت القوى السياسية التي بلغت رأس السلطة على اتخاذ طريقا أخر غير التغيير الجذري فإنها لان تفلح ابدا.
إن " هيئة تحرير الشام" بعد سيطرتها بتعاون مع حلفائها عينت حكومة جديدة وهذه الأخيرة قدمت كل الاطمئنان للرأسماليين على مصالحهم ومصالحهن، وأنها ستسهر على تطبيق النيوليبرالية والارتباط بالعولمة الرأسمالية.
وكما هو معروف أثناء الثورات والصراع الطبقي والحرب الأهلية يتم خلق مناطق محررة من سيطرة النظام المركزي، وتتأسس ازدواجية السلطة، وتتشكل حكومة تدير تلك المنطقة، وهذا ما حصل في منطقة ادلب بشمال غرب سوريا التي سيطرت عليها حركات الإسلام السياسي السني المدعوم من الدولة التركية ودول الخليج والدول الرأسمالية الغربية بكل الوسائل والحاجات والمتطلبات المادية والإعلامية وشبكات الاستخبارات في ظل مشروع " الشرق الأوسط الجديد" وتوسيع سياسة " التطبيع" مع الكيان الصهيوني الذي احتل ارض فلسطين وشرد شعبها وقام منذ 8 تشرن الأول / اكتوبر2023 بإبادة الفلسطينيين بقطاع غزة ؛و هو كيان احتلالي واستيطاني عنصري يتم السعي إلى دمجه في المنطقة بجميع الوسائل وعزل النظام الإيراني اليميني الرجعي مركز الإسلام السياسي الشيعي، الذي تحالف مع النظام السوري ضد الثورة الشعبية.
وهكذا تشكلت الحكومة السورية المؤقتة للإشراف على عملية "الانتقال" وتدبير المرحلة بعد سقوط دمشق وهروب الرئيس بشار الاسد من العناصر التي سيطرة على إدارة منطقة ادلب بعد هزم قوات النظام البعثي أثناء الحرب الأهلية وطرده منها بتعاون مع حلفائها طبعا؛ فهي حكومة يمينية رجعية تتحدر من فصائل الإسلام السياسي السني الأكثر تزمتا وانغلاقا بالمنطقة، وهذا ما جعلها تتقنع وتخفي أهدافها الأساسية مؤقتا، واستعملت مساحيق " أنية" لتجميل ملامحها وسماتها لكي يتم التسامح معها وقبولها، وهذا عمل تتطلب وقت بتوجيهات من القوى الإقليمية الداعمة لمشروع الإسلام السياسي السني؛ لكن فرض عليها الخضوع للسياسات الامبريالية بالمنطقة تحت الضغط بملف الإرهاب الدولي والجرائم التي ارتكبت في المنطقة من طرفها.
لقد شهدت سوريا أثناء الثورة تغيرات ساهمت بوصول هذا الرهط من الإسلام السياسي إلى رأس السلطة منها : ما عرفه الجيش السوري الحر أواخر تموز/ يوليو/ 2011 مع بداية الثورة والحرب الأهلية بعد عدة انشقاقات عن الجيش السوري، وقد قدم الكثير طيلة سنة، فقد استمر إلى أواخر 2012، وبعد ذلك تأزمت وضعيته نتيجة عدة أسباب تنظيمية وتدخلات إقليمية وخارجية وإيديولوجية؛ وفي 2016 اجتاحت دولة تركيا ارض سوريا عسكريا وأنشأت عناصر من قوميات مختلفة من المنطقة الجيش الوطني السوري سنة 2017 على منهج وضعته الدولة التركية وسياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم فيها.

ما مستقبل الثورة السورية بعد هروب بشار الاسد؟

سؤال يحتاج إلى الكثير من التركيز على تاريخ كل المنطقة منذ القرون الغابرة إلى الآن، وفهم الأزمة المركبة والعميقة للنظام الرأسمالي والتحولات العالمية والكوارث والآفات والظواهر الاجتماعية، والتطورات الصناعية والتقنية الحديثة والدقيقة بجل القطاعات الحاصلة اليوم في سنة 2025.
لقد كافح السوريون والسوريات بكل قوة وصبر طويل، وقدموا تضحيات عظيمة، شهدها كل سكان العالم من اجل إسقاط نظام سلالة الأسد المجرمة، وانتزاع حريتهم وحريتهن، الآن المجرم هرب وترك سوريا.
ولا يمكن أن تحكمهم وتحكمهن هيئات سياسية أخرى تخدم الأقلية الرأسمالية والامبريالية والرجعية والإسلام السياسي تخنق أنفاسهم /ن بعد كل ما قدموه من تضحيات، ويستوجب العمل من اجل فرض الاستقلال التام وتقرير المصير وتحقيق كل الحريات العامة بالوحدة وخلق أدوات شعبية ديمقراطية بكل شبر من الوطن والاستمرار بالكفاح ضد كل من يهدف إلى تغيير مسار الثورة إلى فائدة الرجعية والنيوليبرالية.
إن سوريا العظيمة لم تنجب هذه الزمرة اليمينية الرجعية التي تطمح للسيطرة على دمشق وتوجيه مسار الثورة لفائدة الإسلام السياسي فقط، لقد أنجبت ثوار جذريين وسياسيين ديمقراطيين ومفكرين وأدباء ومثقفين وفنانين كثر، يعدون من بين أهم ما أنجبتهم البلدان العربية والعالمية، وعملت سلالة الاسد ودائرتهم الضيقة على اجتثاث هذه الفئات من سوريا، وزرع الرعب في الباقين واستسلام أخرى لسياستهم حول" الوحدة الوطنية" والجبهة الوطنية" وأضاليل سياسة " الممانعة" وغير ذلك من إبداعات الأنظمة الاستبدادية.
يجب دائما التذكير بجميع ضحايا نظام الاستبداد في سوريا، وكلفة انتزاع الحرية، إن ضحايا النظام السياسي والدولة البورجوازية السورية كان جد ثقيل، فقد اختلفت الأرقام حول عدد القتلى، هناك من يذكر 410،000، وهناك من يذكر 500،000 ومن يذكر نحو600،000 قتيل، ومهما كان العدد فان ما شهده العالم حول مأساة الشعب السوري كان فظيع جداً، ومرعب، وقد ارهب الشباب العربي والقوميات الأخرى بجل المنطقة وساهم في تراجعهم /ن عن التظاهر والاحتجاج والاعتصام وتنظيم المسيرات الشعبية بجل البلدان العربية اجتنابا لما حصل للأشقاء السوريين؛ لقد شهد العالم النزوح الجماعي المتتالي للشعب السوري، وقد بلغ عددهم/ن حسب بعض المعطيات إلى أزيد من ثلاثة عشر مليون[ 13 مليون] وهذا العدد فاق 57 بالمائة من سكان البلد أثناء انطلاق شرارة الثورة.

سوريا تعيش وضعا بحاجة لحكومة أكثر ثورية

فقد تدمر البلد على جميع المستويات، فقد اعتمدت الدولة في السنوات الأخيرة للنظام تحت رئاسة بشار الاسد الهارب على المساعدات الخارجية بنسبة كبيرة مع الناتج الداخلي الجمالي، وبلغ العجز التجاري نسبة فاقت سبعون في المائة [70 في المائة] وانكماش الاقتصاد الوطني بدرجة كبرى، وبلغت نسبة المديونية نحو مائتان وخمسون بالمائة [ 250 في المائة] من الناتج المحلي الإجمالي، وحصل عجز كبير بين التصدير والاستيراد، تضاعفت هذه الأخيرة مقارنة مع الأولى بصورة كبيرة بلغت ستة أضعاف، أما حجم البطالة بين الشباب والقادرين على العمل من كلا الجنسين فقد بلغت نحو ثلاثة وأربعون بالمائة [43 بالمائة]، إضافة إلى التهاب أثمان المواد الأساسية والاستهلاك اليومي بصورة كبيرة مما تسبب في عسر الحياة، نتيجة تضخم فاق المائة بالمائة.
استمرار الثورة الاجتماعية إلى النهاية وحده يمنح الأمل ويفتح أفاق التغيير وتحقيق الأهداف التي اندلعت من اجلها الثورة الشعبية، الاستمرار في تنفيذ الإضرابات السياسية العامة والتظاهر والاحتجاج والعصيان المدني، والتنظيم والتجمعات الشعبية الجماهيرية الواسعة بصيغة ديمقراطية حقيقية توفر الكلمة للجميع وتدافع عنها وتحميها، وتطبيق التضامن الشعبي على الأرض، والتعاون على الحصول على ضروريات الحياة وحماية النساء ومساواتهن مع الرجال واحترام المسنين والأطفال وحمايتهم و تقديم كل الخدمات لذوي الحاجات الخاصة، إن الثورة السورية يجب أن تستمر ضد أي نظام أو سلطة حتى يتم تشكيل حكومة ثورية توحد البلد وتقطع ما الماضي وتوفر الخبز والحرية والسلام.



#بن_حلمي_حاليم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتخابات المجالس النيابية والديمقراطية البرجوازية وديكتاتوري ...
- الإسلام السياسي والعمل من اجل الديمقراطية وانتخاب الجمعية ال ...
- المجالس النيابية في الدول الرأسمالية وسائل لديمومة سلطة الأغ ...
- المغرب، رتب لنقل الحكم صوب ترسيخ الاستبداد والعبودية الجديدة
- تونس، من أين؟ والى أين؟
- جوليان اسانج كشف عن حقيقة الديمقراطية البرجوازية وحدود حرية ...
- فرنسا، مناضلي/ات الشعب الفرنسي يتصدون للقوى اليمينية الرجعية ...
- إيران بلد شاسع وغني والطبقة العاملة فيه مسحوقة
- إيران دولة دينية تطحن شعبها وتساند على قهر شعوب المنطقة العر ...
- التضامن الاممي واجب ضد التيارات الرجعية والعنصرية
- الأمم المتحدة اسما مضللا عن دول غير متحدة ولن تتحد لمصلحة ال ...
- الرأسمالية والامبريالية قادتا البشر للهلاك وتهدد الكوكب بالد ...
- فلسطين لن تحل قضيتها إلا الثورة
- المغرب تطبيعا علنيا مع العدو وبعث معونات إلى الفلسطينيين
- فلسطين تقاوم أفظع احتلال في التاريخ ببسالة وصمود
- فلسطين بدون سلاح متطور تقاوم الحصار والقصف الصهيوني المساند ...
- فلسطين كافحت وتكافح ضد الامبريالية
- يحتضن المغرب قمة صندوق النقد العالمي والبنك العالمي، مفتخر ب ...
- صممت الامبريالية الجديدة خريطة سياسية وفعلتها لسحق البشر
- ليبيا مأساة وفواجع


المزيد.....




- الدفاعات الجوية الروسية تتصدى لمسيرة في الخليج الفنلندي بمقا ...
- قادة أوروبا يعززون اليمين المتطرف عبر اتخاذ اللاجئين السوريي ...
- لا وقت للانتظار امام اليسار السوري
- ثمانية أشهر من الحبس والتهمة تعليق «بانر فلسطين»
- إحالة قضية العامل بـ«الإسعاف» سامح زكريا إلى المحاكمة
- «تغريب» محمد عادل.. الإضراب عن المياه يساوي الموت المحقق
- «تغريب» محمد عادل.. النظام يُنكل برموز ثورة يناير
- «قمع الثقافة».. منع المرايا من المشاركة في «معرض الكتاب» 202 ...
- «التضامن مش جريمة».. محاكمة مروة عرفة بعد 4 سنوات من الحبس ا ...
- جريدة النهج الديمقراطي العدد 586


المزيد.....

- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بن حلمي حاليم - سوريا صوب تغيير عميق بالمنطقة العربية