أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الخاتم














المزيد.....

الخاتم


فرات المحسن

الحوار المتمدن-العدد: 8206 - 2024 / 12 / 29 - 20:04
المحور: الادب والفن
    


في الشهر الفائت جيء بنا مع الفوج إلى هذا الفج من أرض المعركة المجنونة. خمسة رجال بثياب العسكرية الرثة. لم نغتسل منذ زمن لكثرة أيام المعارك وساعاتها المرعبة الموحشة القاسية. في اليوم الأول من الشهر صدحت حنجرة عبد الرحيم الضامن بشجنها المؤسي، فوق الساتر الذي يختفي ملجأنا عند انحناءته الحادة. ناح عبد الرحيم وتوجع وكنا جميعا نلوك الحزن مع صوته تأسيا دون جزع. الأسبوع الفائت كان عبد الرحيم جاثيا على ركبتيه أمام باب الملجأ يترنح مثل شحاذ يستعطف المارة.اختار هذه الزاوية دون غيرها ليتكئ عند حافتها ضاما بين أصابعه خاتم خطوبته الذي ألبسته إياه حبيبته في إجازته الأخيرة. فتح أصابعه ووضع الخاتم في أصبعه الأوسط ثم استله ووضعه في أصبع البنصر من اليد الأخرى، كرر ذلك وهو ينشد مناحته، تهدج صوته حزنا دون أن نرى له دمعا.
البارحة، كانت النجوم تلمع في الطرف الآخر من العالم، وظلمة المساء تسدل عتمتها لتغلق الأفق البعيد، والناس في المدن البعيدة نيام، ربما يتظاهرون بالنوم، ولكن جفونهم كانت مغلقة بانتظار مداهمة النوم، لم يكن هناك سوانا يتنصت أصوات المدافع وأزيز الرصاص وانفلاق القنابل، نمد أجسادنا في الملجأ الرطب نترقب القادم بعيون جاحظة فزعة.
في حديث طويل قال عبد الرحيم بأن في قريته القصية هناك في الجنوب، يتبادل الناس المحبة والخوف والتوجع وحتى الشتائم بالغناء، ولن تجد بينهم من لا يمتلك صوت غريد. هكذا قال عبد الرحيم وهو في حالة انشراح ونشوة، يدير الخاتم حول أصبعه ثم راح ينشد.
حين يغني عبد الرحيم أراه وكأنه وحده من يمتلك المكان وكل شيء فيه، جميعا كنا نشعر ذلك، لذا نعافه لهواجسه وتلذذه هذا. البارحة غنى وشاركناه، فكنا نردد معه مثل جوق غنائي،وكأنا مارسنا الغناء طويلا، وعرفنا بعضنا منذ سنين بعيدة. صار عبد الرحيم ملاكنا الذي نرقب تجليات صوته لنحلق بعيدا مع الشجن، ونبعد عنا وحشة الحرب وترقب الموت، ولكل منا أرجوحة من حكايات خوف وألم وتوجع،كنا نتتبعها بين تموجات ورخامة صوته.
كانت لي أسبابي لكتم ألمي وأسراري الشخصية، لم أكن أرغب البوح عنها. لم أود سرد حكاياتي حتى لعبد الرحيم الذي يسرني بالكثير من أسراره، ولست عارضا مشكلة عزوفي الذهاب إلى بيت أمي لوجود الرجل الذي حل بديلا عن أبي، رغم ما أشعر به من ألم ممض لفراقها. وهناك في عيون شركائي في الحظيرة المسكونة بالترقب والرعب اليومي، ما يشفع لذرف الدموع. ولكن عبد الرحيم كان صلدا صلبا رغم غنائه الموجوع الذي يدمي القلب.
البارحة مساءً أدار خاتم خطوبته بين كفيه لمرات عديدة، وكانت عيناه السوداوان تدوران في أفق بعيد عند حافة السماء المغبرة المرمية خلف الساتر الترابي وصوته يعلو شجنا، كان كمن يحلق في الريح ويمسك السحاب. للمرة الأولى شاهدت دمعة منفردة تدحرجت هابطة فوق وجنته المتغضنة وكانت أصابعه تعتصر خاتم الخطوبة بقوة.
اليوم كان المساء شاحبا مغلقا تخترقه التماعات القنابل المتساقطة بهمجية، كنا فيه واجمين مذهولين موجوعين، تلامس أكفنا وجه عبد الرحيم البارد الشاحب، كان يتلوى مثل سمكة أخرجت من الماء، يتأوه بوهن شديد ولا يستطيع رفع جفنيه، بقعة الدم التي نزت من جسده تحيط به مثل دائرة سوداء.
ـ القنبلة سقطت جواره ؟
ـ كلا، فقد انفلقت عندما كان يغني فوق الساتر وشظاياها حزت الكثير من المواضع في جسده.
هكذا اختلفنا حول مكان مقتله حين وجدناه جاثما بين جدار الملجأ وحافة الساتر الترابي. ارتخى جسده كليا وكان القمر شاحبا شحيح الضوء مصلوبا في قلب السماء، حينها لاحظت بأن أصابع الكف اليسرى لعبد الرحيم قد بترت واختفى معها خاتم الخطوبة.
ليومين متتالين بحثنا في تجاويف الأرض القريبة من المكان الذي قتل فيه وخلف الساتر الترابي عن أصابع الكف أو الأحرى عن الخاتم لنلحقه بجثته ولكن محاولاتنا خابت تماماً.



#فرات_المحسن (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ساعة هروبنا من الجنة / اغواء
- معايير الديمقراطية والحلول المبتورة
- نبذ العنف وترميم السلم المجتمعي
- قصتان قصيرتان
- البعد الديني السياسي في معركة غزة
- صناعة الفاشينيستا والبلوغرات في العراق
- تعدد مراكز القوى ومستقبل العملية السياسية
- الحرب والعودة إلى الوادي المقدس/ ج الأخير
- الحرب والعودة إلى الوادي المقدس/ ج الثاني
- الحرب والعودة إلى الوادي المقدس/ ج الأول
- السلطة وخيار الديمقراطية.
- الوقوف عند الزمن الأخر/ ج الأخير
- الوقوف عند الزمن الأخر /ج4
- الوقوف عند الزمن الأخر /ج3
- الوقوف عند الزمن الأخر/ج2
- الوقوف عند الزمن الأخر
- اللجوء: لا ضمان في البحث عن بر الأمان
- الموالاة كمدخل لإحكام السيطرة على السلطة
- حماية الطفولة من عبث تجار العنف
- صناعة الإرهاب إعلاميا


المزيد.....




- الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا ...
- بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب ...
- مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب ...
- فنان مصري يعرض عملا على رئيس فرنسا
- من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة ...
- إطلالة محمد رمضان في مهرجان -كوتشيلا- الموسيقي تلفت الأنظار ...
- الفنانة البريطانية ستيفنسون: لن أتوقف عن التظاهر لأجل غزة
- رحيل الكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا
- جورجينا صديقة رونالدو تستعرض مجوهراتها مع وشم دعاء باللغة ال ...
- مأساة آثار السودان.. حين عجز الملك تهارقا عن حماية منزله بمل ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرات المحسن - الخاتم