|
فلسطين .. بين الموت والحياة
محمود الباتع
الحوار المتمدن-العدد: 1788 - 2007 / 1 / 7 - 10:07
المحور:
القضية الفلسطينية
لا يملك العربي فضلاً عن الفلسطيني أياً كان توجهه أو انتماؤه، إلا أن يشعر باليتم والخذلان لما يجري الآن في فلسطين وهو يرى تلك القضية النبيلة المقدسة وهي تنتهي على هذا النحو وتلفظ أنفاسها على أيدي أبنائها دون غيرهم؟
تمثل في المشهد الفلسطيني شاخصة حالة من الانقسام الشعبي الشديد تحت سطوة الاستقطاب الحاد بين مايبدو للوهلة الأولى سياسي أيديولوجي بين تيارين أحدهما علماني والآخر ديني يؤمن أحدهما بما يكفر به الآخر، وما يظهر أنه خلاف منهجي بالدرجة الأولى حول كيفية إدارة الصراع مع المحتل الإسرائيلي وصولاً إلى التحرير وإقامة الدولة المستقلة، إلا أنه وبقليل من التأمل يظهر لنا أن الخلاف في حقيقته خلاف ثقافي فلسفي بين قيمتين إحداهما تؤمن بالحياة على كل ما يقتضيه ذلك الإيمان من تضحية ببعض المثل المعنوية وبعض الحرية في سبيل رغبة البقاء والاستمرار بينما تبدو الأخرى على استعداد للتضحية بكل قيم الحياة بكل ما لها وبها من بريق وقدسية في سبيل قيمة أقدس هي الحرية والاستقلال والخلاص من الاحتلال وتراها تضع الاستشهاد بديلاً حتمياً عن إخفاق أمل الحرية. ولا ريب أن إرادة الحياة هي القيمة الأصيلة للأفراد والمجتمعات البشرية في كل مكان في الأرض، وخصوصاً المجتمع الفلسطيني الذي كانت فلسفة الموت هي البدعة المستجدة والثقافة المستحدثة عليه. لا أعني في ذلك مثل التضحية والفداء التي كانت وستظل لصيقة بالثقافة العربية والإسلامية إلى الأبد ولكن ذلك الموت العبثي والمجاني بدون مقابل فكيف بذاك الذي يعود على البلاد والعباد بالدمار والخراب.
لم تكن فلسفة اليأس يوماً عنواناً للحياة الفلسطينية ولم يكن هناك من هو أكثر من الشعب الفلسطيني إمساكاً بخيوط الأمل عندما أبدع في قدرته على ابتكار وسائل جديدة دائماً للبقاء وإثبات الذات والتفوق في ذلك على غيره قياساً بأوضاعه الصعبة وظروفه القاسية، وليس بعيداً ذلك اليوم الذي كان فيه الفلسطينيون وفي ظل بؤس التشرد وقسوة المخيمات وبعد مرور أكثر من ربع قرن على النكبة الكبرى يربكون علماء الاجتماع عندما كانوا يحققون أعلى نسبة للمتعلمين بين شعوب العالم أجمع ويقلبون رأساً على عقب النظرية الثابتة حول تناسب معدل الأمية طردياً مع مستوى الفقر. وهكذا نرى أن مدى غربة اليأس بين صفوف هذا الشعب الذي ربما لو تعرض شعب آخر لما تعرض له لكان أمره قد انتهى منذ زمن.
نعرف أن أهم الإنجازات السياسية الفلسطينية كانت بسبب الانتفاضة الأولى التي كانت سلمية وأجبرت العالم على الانحناء لها احتراماً كما أجبرت قوى الاحتلال إلى التفاوض مع الفلسطينيين بعد عقود كان ينكر فيها وجود الشعب الفلسطيني أصلاً وبدأت مسيرة التسوية السلمية التي أفشلها التلكؤ الإسرائيلي وقضى عليها اغتيال اسحاق رابين على يد متطرف يهودي ليأتي المتطرف بنيامين نتنياهو تحت وقع العمليات الفدائية المسلحة التي أمطرت المقاومة الفلسطينية بها العمق الإسرائيلي وهكذا حتى اندلعت الانتفاضة الثانية والتي كانت انتفاضة مسلحة هذه المرة.
لقيت الانتفاضة الفلسطينية المسلحة وما صاحبها من عمليات استشهادية استغراباً شديداً من المحيط العالمي إلى درجة اعتبرها الكثيرون حول العالم ظاهرة مرضية لشعب بدا وكأنه قد غاب عن الوعي. وعلى الرغم من بعض التفهم الذي أبداه بعض العالم بدرجة أو بأخرى لأسباب الجنوح الفلسطيني إلى هذا الشكل من أشكال العنف إلا أنه لم يكن المقنع لهذا البعض أن يتحول الموت إلى ثقافة متكاملة تطيح بكل ثقافة عداها، وعليه كان من الصعب جداً أن يستمر العالم في تعاطفه مع هذه القضية بعد أن بدأ يدرك مدى عدالتها ونقائها وهكذا بدأ الفلسطينيون في خسارة أهم ما أنجزوه.
بغض النظر عن الحاجة الفلسطينية إلى التعاطف العالمي على أهميته، يحق لنا أن نتساءل عن ماهية الحياة وشكل ذلك الاستقلال الذي ينشده أنصار ثقافة الاستشهاد بعد أن يطيحوا بمنظومة القيم الحياتية التي يبني على أساسها المجتمع وبها يضمن وجوده واستمراريته، وما هو شكل الوطن الذي يسعون إليه بعد أن تنهار أركانه وتنجرف ملامحه في تيار الواجب الاستشهادي الذي يقومون بأدائه؟ وهل حقق هذا الاندفاع نحو العنف إلى أي نتيجة من النتائج المرجوة منه وبماذا عادت ثقافة الموت على هذا الشعب وما الذي استفاده الفلسطينيون وقضيتهم من مقتل بضع عشرات من الإسرائيليين غير بعض التشفي والكثير القتل المضاد واعتقال الألوف وتشريد عشرات الألوف غيرهم وهدم المئات من بيوت الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم ولا جريرة إلا كونهم بعض أقارب أو ذوي الفدائي المستشهد. وفوق ذلك بناء هذا الجدار العنصري العازل الذي التهم ما يقرب من ستين في المائة من الأرض الفلسطينية وأدى إلى تقطيع أوصالها.
الواقع يقول أن هذه العمليات لم تفلح في لجم شهوة الاغتصاب لدى اسرئيل وها نحن نرى المستوطنات لا تكف عن التمدد والاستفحال والاستشراء يوماً بعد يوم على حساب الأرض الفلسطينية التى هي آخذة بدورها في التلاشي التدريجي. ليكون الخاسر الأكبر في هذا المهرجان الاستشهادي بعد الأرض والأرواح هو تلك القيم التي سادت المجتمع الفلسطيني حتى وقت قريب وأعني بها قيم التسامح والسلام اللتان هما حجر الزاوية لإقامة أي مجتمع مدني تعددي الأمر الذي سهل على عقلية الانقسام عملية التسلل إلى ثنايا المجتمع الفلسطيني.
يبدو أن مشروع الصمود الفلسطيني قد تأثر بهذه الحقائق فارتأى الدخول إلى المعترك السياسي وبرغبة منه على ما يبدو في محاولة لتصحيح مسيرته و المسيرة الفلسطينية التي رآها قد انحرفت عن ما يعتبره هذا المشروع أهدافها وثوابتها الحقيقية فقررت حركة حماس خوض معركة الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة التي أتت رياحها بما لم تشتهيه سفن كثيرة ولم تتوقع نتائجها أكثر الأوساط حماساً لمشروع المقاومة، وكان خيار الشعب وهاهي الحركة تشكل الحكومة الفلسطينية الأكثر إثارة للجدل في التاريخ الفلسطيني لتتعرض ويتعرض الشعب الفلسطيني برمته إلى عقوبة جماعية على ديمقراطيته هي الأغرب في التاريخ إلى أن وجد الشعب نفسه وبرفقة المشروع التحرري برمته يقعان تحت تأثير ازدواج قطبي وانشقاق داخلي فظيع أفقد الشعب بوصلته وشتت توجهاته. يخبرنا علم الكيمياء أن تحليل الماء بواسطة الاستقطاب الكهربائي القسري هو تفاعل في اتجاه واحد بمعنى أنه بعد خضوع الماء لجهد كهربي فإنه ينحل إلى عناصره الأساسية وهي الهيدروجين والأكسجين ومن المستحيل أن يعود الماء ماءً كما كان. والأدهى من ذلك أنه وهو الذي منه كل شيء حي سيتحول إلى عنصرين غازيين لا وزن لهما الأول متفجر والثاني مساعد على الاحتراق. اللهم نسألك اللطف !
من هنا كان الأمل ولا يزال معقوداً على تدبير وعقلانية الحكماء من أهل فلسطين لتدارك هذا الوضع الخطير وعلى ما أحسب وأظن أن الرئيس محمود عباس من بينهم وعلى رأسهم وهو المشهود له بحسن الإدارة والتدبير والنزاهة وهو المسئول الأول كرئيس عن إخراج هذا الوضع من مأزقه. لكن للرجل على ما يبدو حسابات أخرى فقد دعا مؤخراً إلى انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة لا أرى فيها إلا هروباً إلى الأمام من هذا الواقع الذي وجد نفسه مع شعبه واقعاً فيه، ففي دعوته تلك إقرار ضمني بعدم قدرته على التعايش مع إرادة الناخب الفلسطيني على الرغم من جميع ما عرف عنه في تاريخه من إيمان بالديمقراطية فليس الحصار سبباً وجيهاً لإزاحتها فالحكومة لم تكمل بعد عامها الأول ولم تقر بعد بعجزها أو بفشلها ولا يبدو أنها بصدد ذلك، وها هي قد أوجدت طرقاً إلتفافية لتطويق ذلك الحصار المالي الخانق، ولا يعيب الرئيس محمود عباس أن ينسحب بعد أن يقر في قرارة نفسه على الأقل أن اللعبة لم تعد لعبته وأن الرياح الفلسطينية ليست مواتية لأشرعته. لا بد من الإقرار بأن بعض أجهزة السلطة لا تريد لهذه الحكومة النجاح وتعمل على إفشالها لأسباب كثيرة، منها الحرص على عدم إغضاب الأوساط الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وهو الأمرالذي لا تستطيع هذه الأجهزة أن تتحمل تبعاته.
إذا كانت حركة حماس تتحمل جزءاً من مسئولية إفشال عملية التسوية السلمية، فهل تقدر مؤسسة الرئاسة أن تتحمل مسئولية إفشال حكومة فلسطينية شرعية أمام الشعب والتاريخ؟ وإذا كان من المجدي إجراء انتخابات مبكرة فلماذ لا تكون انتخابات رئاسية فقط فربما تأتي برئيس أقدر من الرئيس أبو مازن على التعايش مع هذه الحكومة المنتخبة الذي لم تعد ملكاته الديمقراطية تطيقها فلربما يتحقق بذلك السلم الأهلي بين أبناء الوطن الواحد والقضية الواحدة على الأقل وليذهب العالم بأسره بعدها إلى الجحيم. ولكم مودتي ..
#محمود_الباتع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعدام صدام .. إحياء ميت
-
تهويمة العيد والعام الجديد
-
المرأة المفترية .. والرجل المفترى عليه
-
ربوني .. وبعرف أهلي
-
الرجل متوحش ولكن .. لماذا تتوحش المرأة ؟
-
شرَّعتُ قلبي
-
الجزيرة .. من الكافيار إلى الخبز
-
فضيلة العجرمة
-
أنا إسرائيلي مسالم
-
مي زيادة بدون جبران
-
فضوها سيرة
-
على بلاطة
-
لا أريد
-
رجلٌ بِرَهْن الإنكسارْ
-
حذاء المرأة
-
آن لنا أن نعرف
-
يا كلمةً هناك
-
عزيزتي الأنثى ... كوني امرأة
-
إسرائيل بعد الحرب
-
هذيان
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|