|
هواجس وهواجس 391
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 8204 - 2024 / 12 / 27 - 14:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا ترم حقدك على الناس العاديين المعاديين بسبب تصوراتك المرضية، ضع السياسة أمامك، حولها إلى شيء وهم، أو إلى صنم أو مطاط. الكمها كما يفعل الملاكم المحترف، أضربها بكل قسوة وحقد، كما ترغب وتريد، وتخيل عدوك بهذا الشبح. مشكلة السياسة أنه لا يمكننا مسكها باليد أو بالرأس أو بالرجل، لهذا أغلب القضايا الإنسانية العظمى، كالإبادة أو المجازر الفظيعة تموت وتدفن في المزابل.
الرقص هو امتزاج الطاقة العليا في الإنسان مع الحياة والفرح، هو طيران دون أجنحة، بل هو أجنحة غير مرئي. أما اللطم فهو شحن طاقة هائلة من الحزن، يتم تفريغها بعد رؤية اللون الأحمر، لون الدم السياسي.
أنا في مدينة سويدية صغيرة، مدينتي، فيها الكثير من النساء المحجبات يقدن باصات النقل الداخلي، تراهن في أجمل مشهد وصورة، وأغلب من يعملن في شركة البيوت، في التنظيفات كالأدراج، إزالة أوراق الشجر أو العمل حول مدخل البناية، معززات مكرمات، بالنسبة لي أفتخر بهن. لا أرى أن هناك فرق بين امرأة محجبة وأخرى غير محجبة في العطاء، في تربية أولادهن بعرق جبينهن، بل أنهن مباركات بهذه الأعمال الجليلة. العمل يبعد الإنسان عن الكآبة، عن الحزن، عن الأفعال القذرة، بل يشعر المرء أنه يأكل لقمة خبزه بعمله. ليس من السهل أن تصبح إنسانًا.
يبدو أن الوجود موجود، والعدم يفعل فعله فيه، يبدو هو كما هو، بيد أنه منفصل عن ذاته. هو في كل لحظة وجود آخر، منفصل عما هو قبله.
في لحظة تفكيك النص، يخضع هذا النص لجملة غايات وأهداف وتناقضات. يقارن الإنسان بين ذاته ورغبات الأخر، يدخل في صراع بيني، بين ما يريد وما يجب ان يكون. الإنسان ذاته مفكك، ففي لحظة تفكيك النص، يدخل ذاتيًا في عدة تفكيكات قبل أن يخرج النص إلى العلن. ففي لحظة خروج النص إلى العلن، يكون قد استوفى الكثير من الحوامل، تقليم أظافر وحراشف النص، نزع القيم الحرة عنه، الحفر عليه، تكسير الحرية في داخله ليصبح على مقاس العبودية. عندما يخرج النص إلى العلن، يصبح ممزقًا مكسورًا، يفرح العبيد به لأنه جاء على مقاس بنيتهم النفسية. لم يحن زمن النص الحر. ولا توجد نصوص تعرف معنى الحرية. وكيف للعبيد أن ينتجوا نصًا حرًا لا يعرفوه.
أغلب المفاهيم المستخدمة في السياسة والفكر والفلسفة وبقية العلوم الإنسانية عاجزة على تقديم صورة متكاملة عند استخدام الحد أو المفهوم المراد تفعيله. أي، أن المفاهيم لا تساعدنا في الوصول إلى الغاية والحقيقة، بل من الممكن أن ننزلق معهم إلى مواقع لا نريدها. إن هذه المفاهيم تأخذنا من أيدينا وترمينا إلى منزلقات غامضة، ليس بإرادتنا وأنما بإرادة المفهوم ذاته، لانه لا يستطيع أن يلبي شروط الواقع ولا يلم به كله بشكل أصيل. المفاهيم كتل صلبة جامدة عاجزة، متحجرة، في داخل كل مفهوم حواجز وحدود، يتحرك وفق مقتضيات الحاجة. مثاًلا، مفهوم القومية، يشير إلى كتلة اجتماعية ما، بيد أن هذا المفهوم، القومية مفهوم عام، أي ليس أصيلًا، أنما حاجة رغبوية لتمرير غايات وأهداف ليست حقيقية، أنما سياسية. ففي بنية القومية، هناك قوى مختلفة، قوى ناهضة وقوى كابحة، متشابكة، متناقضة، لا شيء يوحد أو يربط بينهم سوى الاستخدام البراغماتي الضاغط. هذه المفاهيم تسويقية، ترقص في الميادين العامة حسب المستثمر والمسوق.
الولايات المتحدة هي التي جاءت بهذا الوحش القاتل، الخميني، على رأس السلطة في إيران، لنهب الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ربته كل شبر بنذر ثم زرعته، لينبت حقل سام قاتل، ليس في العام 1979، أنما في العام 1954. هل يعقل أن تتعب الولايات المتحدة على تنشأة طفلها المدلل، الممتد كرأس قاتل على طول حدود اليمن إلى لبنان وربما سيمتد إلى الباكستان وغيرها، ثم تسمح لإسرائيل بضربها؟ لو أني بدأت ببناء مشروع نووي كما تفعل إيران لكان عندي اليوم عشرة قنابل جاهزة للاستخدام. منذ أن فتحت عيني على الدنيا، والمتاجرة بالمشروع النووي الإيراني مستمر، وإيران تتمدد وتكبر، وتخرب وتدمر كل من يقف في طريقها. ما يخيف أكثر أن تتحول تركيا إلى دولة سنية ويدخلوا هي وإيران في صراع مسلح لاستنزاف كل اخضر وجميل في العالم. الولايات المتحدة لن يهدأ لها بال إلا إذا صحرت الأرض والسماء والمحيطات من أجل تلبية أمراض داخلية في عقول أصحاب القرار فيها.
نستطيع القول إن الثقافة عالم واسع وسع وجود هذا الكون، يلجأ الكاتب والقارئ إليه ليدخل بوابات العالم من المكان النظيف، من الرقي الروحي والنفسي، من المكتبة. المكتبة، هي الخزان الثقافي، الماء الزلال أو النهر الإنساني العظيم، روافده كانت وما زالت مستمرة في كل مكان من هذا العالم المتلاطم الأمواج، كتاب إلى جوار كتاب، مستيقظ، جالس أو واقف على الرفوف، ينتظر اليد الرقيقة الحنونة لتمسكه وتجول في أفيائه.
المكتبة صوت صارخ، تنادي بصوتها الآخاذ لمكتبة أخرى في مدينة أخرى، إحداها في شمال الكرة الأرضية والأخرى في جنوبها وأخرى في شرقها تناغي غربها. هذا الباحث الرائع ألبيرتو مانغويل، ينقلنا ببراعته من كاتب إلى آخر، ومن مؤرخ إلى آخر، ومن فيلسوف إلى عالم الرياضيات إلى الطبيب. ومن حضارة في زمن ما إلى حضارة أخرى في زمن آخر، فيتوحد الزمن في الزمن، والمكان في المكان ليفتح طريقه في روافد العقل الإنساني. ويتناغم عصر في عصر. وننتقل ونجول في العصر الروماني، ونكمل طريقنا إلى الإغريقي إلى العربي فالإسلامي، فعصر النهضة إلى أن نصل إلى الثورة الفرنسية، ومن ثم من وإلى النت.
لا يتقيد الباحث بالزمن، فزمن الثقافة مفتوح على زمن الثقافة، والثقافة على بعضها بعضا، أحدهم يأخذ بيد الآخر كروافد يصب في النهر الشلال. كما أن الفهرس من ضرورات الثقافة والمكتبة والكتب: «إذا كانت المكتبة مرآة للكون، فإن الفهرس سيكون مرآة المرآة. والفهرست ابتكار أدبي فريد». من النادر أن تجد شعبًا أو قومية ليس فيها مكتبة وفهرس، فقد أعطى المكتبيون العرب، الأفضلية أحيانًا للمواضيع والانضباط، أكثر من قيود الأبجدية. فابن سينا حين كان يزور مريضه، سلطان بخارى، اكتشف مكتبة مقسمة على نحو ملائم إلى مواضيع علمية من كل الأنواع، فيها عدة حجرات: «في كل حجرة هناك خزانات ذات أدراج ملأى، مكدسة الواحد فوق الآخر. في حجرة منها دواوين شعر بالعربية، في القانون، كتب إغريقية. كتب لم أرها من قبل أبدًا ولم أرها من بعد أبدًا». إذا كانت المكتبة في الصباح توحي بصدى نظام واقعي بسيط ومعتدل للعالم، فإنها في الليل تبدو منتشية وسعيدة بفوضى العالم. المعمار الضمني لهذه المكتبة اللامتناهية ـ الغامض، المهيب، السرمدي ـ يدفعنا ليستمر حلمنا بنظام كوني.
في السابق، ربما لم تكن الكتب مفتوحة، لهذا كان الكون مصاغًا في كلمات في اللحظات الحميمية التي يعيشها الإنسان، يفقد قدراته على التواصل في المدى الواسع بالمكان. ويدخل الباحث ألبرتو مانغولي، في حيثيات المكتبة، وينقلنا معه بشوق المحب الرقيق، إلى المكتبات العربية، التي ازدهرت في نهاية العصور الوسطى، ثم فهرستها حسب الترتيب، فتقف على الرفوف في صفحات ابن النديم النصوص الدينية جنبًا إلى جنب مع النصوص التجديفية، ومؤلفات علمية صنفت معا كتابات علم المنطق، بينما الدراسات الإسلامية اقترنت بدراسات أديان الأمم الأخرى. الشعوب التي تهتم بالكتب والمكتبات والثقافة هي شعوب حية، حتى إن يوليوس قيصر، على الرغم من جبروت دولته ومكانته تردد على مكتبة الإسكندرية العظيمة، إحدى أهم صروح العالم القديم، ذهوله، وربما غيرته من المصريين، دفعته لتشييد مكتبة في روما، بيد أن افتتاح أول مكتبة تم في أول سنة من حكم أغسطوس، وأقيمت في المكان الذي دعي بقاعة الحرية، وتم تزيينها بالتماثيل وبصور شخصية لمشاهير الكتاب، ومن سخريات القدر أن اسينيوس بوليو، الشاعر والكاتب المسرحي والناقد الأدبي والمؤرخ، شيد المكتبة من غنائم الحرب وبناها في القاعة المذكورة.
يعتبر النص السومري كما ذكرنا هو أقدم أشكال الكتابة في العالم، يضغط المرقم: «في طين ناعم وينتج عنه أسلوب كتابي على شكل إسفين، تمثل هذه التجربة كعلامات للكلمات، استخدموها للاحتفاظ بسجل لكل شيء، بدأت بالصور، ووصلت إلى مفاهيم كلمة». لقد احتفظت مكتبة أشور بانيبال التي تأسست في القرن السابع قبل الميلاد بأكثر من ألف رُقم طيني، ويقال إن الملك أشور المثقف، جمع آلاف الألواح الطينية التي تمثل تراث الحضارات التي سبقته، سواء المكتوبة باللغة السومرية والأكادية أو غيرها، ومنها ملحمة جلجامش. سعت الثقافة منذ زمن وجودها لإطلاق العنان للخيال والبحث في ثنايا وزوايا الوجود عما هو مخفي، لهذا شيدت المكتبات التي هي في جوهرها كيان دائم النمو، بعصارة العقل والروح، والدم الحار الذي سفك على الورق ليعطي البشرية خلاصة الجمال الكائن وراء المحجوب والمتواري. المكتبة هي المكان الأليف، في داخلها كائنات عظيمة نائمة على صفحات الورق، تعيش دافئة بين الكلمات الرقيقة الحنونة: «وعلى الرغم من أن الكتب مخلوقات فوضوية، تبقى أكثر أسرار معانيها بعيدة عن فهم القارئ، فالترتيب الذي يحفظ بها عبر الفهرس، يمنحها تعريفًا معينًا يعطينا سببًا للتفاؤل، والمكتبات، إنها مثل الطبيعة، تمقت الفراغ بشدة، ومشكلة المكان متأصلة في طبيعة أي مجموعة من الكتب». وإن توسيع المكتبة لا يمكن أن يتم: «إلا إذا أصبحت مرجعًا شاملًا بأكبر قدر ممكن، ولا يمكن أن تصل إلى الشمول إلا في حالة وصول حدودها إلى حدود العالم نفسه». إن هذا البحث، الدراسة أكثر من مهم وضروري قدمه لنا ألبرتو مانغويل على طبق من ذهب، اختصر لنا تاريخ المكتبة وتطورها وفاعليتها منذ نشوئها إلى حين وصولها إلينا اليوم.
آرام كرابيت أن تقرأ لوليتا في طهران " أنت نفسك قلت لنا مرة بأننا جميعًا في المحصلة النهائية خائنون لأنفسنا، فكل منا يضمر في داخله يهوذا لمسيحه الخاص". الأدب هو القابض على خيانات الواقع، إنه بالمرصاد، يعري العيوب والحقائق الذي تنمو في بنية المجتمع كالأعشاب الضارة. إنه الحقيقة، الكائن المعبأ بالنبل، الذي يدخل دون استئذان إلى المتاحف والبيوت، والمواخير، وحجرة النوم وحركة الأنفاس والليل والنهار، يرصد ويخزن ويعلن على الملأ أن هناك خلل، ورم، جمال باهت ووردة جميلة تحتاج إلى سقاية. المكان الذي يدخله الأدب لا يستطيع أي علم أخر دخوله، أنه يمهد أو يعبد الطريق لاكتشاف الحقيقة. سرفانتس كان أول من تنبأ بموت الاقطاعية، ومجيء مولود جديد إلى الحياة في روايته أو رائعته دون كيشوته، وجيوفانو بوكاشيو أول من أعلن دون أن يعلن، أن هناك جنين ينمو في أحشاء المجتمع الأوروبي في رائعته الدّيكاميرون. " لأن ما نبحث عنه في الأدب ليس هو الواقع، وإنما هو الاحتفاء بإظهار الحقيقة، مثلما يحتفل النصارى بعيد الظهور" هذا هو الأدب، وهذا هو دوره النبيل، جاء على لسان كاتبة الرواية وبطلتها، ك" دعوة لضرب العنق ل " نابوكوف.. أو.. أنني ربما أجد أقرب الأعمال حتى الأن هو: لوليتا. ولوليتا هي الرواية المشهورة للكاتب الروسي الذي كان مقيمًا في الولايات المتحدة، التي صدرت في العام 1955، وتناولت فيه حب فتى صغير لفتاة في الثالثة عشرة من العمر، وغلب حب هذه الفتاة على حياة بطل هذه الرواية العميقة، ويبقى أسير هذا الحب طوال حياته، وارتباطه مع أية فتاة أخرى كانت صدى لذلك الحب الأول، وأخذت الروائية الإيرانية آذر نفيسي، منها سيرة روايتها. الرواية التي في يدي، "أن تقرأ لوليتا في طهران"، فعل تعرية، وتشريح" فكرت في انتقاء عمل أدبي يعكس واقعنا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، بكل فئاته. " التقطنا صورتين فوتوغرافيتين أنهما أمامي الأن، تظهر في الأولى سبع نساء يقفن أمام حائط أبيض، وقد اتشحن بأردية وأغطية رأس سود وفقًا لقانون البلاد. كل شيء فيهن مغطى ما خلا دوائر في الوجوه والأيادي. وفي الصورة الثانية، تبدو المجموعة ذاتها وهي تقف الوقفة ذاتها أمام الحائط ذاته. بيد أن الاختلاف الوحيد هو أن مجموعة النساء تبدو هذه المرة بلا أغطية. فتبرز بقع الألوان لتميز النساء عن بعضهن، تبدو الملامح أوضح والتفاصيل أدق" لا شك الفارق كبير بين الأسود القاتم في الصورة الأولى، ولون الحياة الحية ووهجها في الصورة الثانية، بين الشبح والقناع والظلمة، والنور المبهج الذي يشع من الخلق الأول للمرأة. عندما يأتي القانون من فوق، من القوى المسيطرة، وفق تصوراتها وأيديولوجيتها الظلامية، يتحول الناس إلى مسخ، أشجار سوداء قاتمة، فتذبل الحياة، وتغيب الحيوية في نفوس البشر رويدا رويدا إلى تموت من الغيض والقهر. إن القانون يملك قوة الحقيقة إذا وظف بطريقة انتقائية، في بيئة سياسية مظلمة، فإنه يجرد الإنسان من خصوصيته وأحلامه، ويشل الجمال الكامن في الجمال في تكوينه، لها نرى الجمال في الشرق يرتد إلى الداخل عندما تغلق الحياة أمامه إلى أن ينزاح كله من الصورة ويبقى اللون الأسود. في العام 1995 قدمت الروائية استقالتها من أخر منصب لها في الجامعة، قررت إطلاق العنان لنفسها، وإشباع رغبة مبيتة في داخلها لتحقيق أحد أحلامها، أن تدعو سبعة من طالباتها في بيتها للخوض في الأدب. الرواية تدخل المجتمع من خلال الرموز الصغيرة والمؤشرات الدالة على المجتمع الذي أغلقته الثورة الإسلامية، على الوجع الاجتماعي، السياسي والتحت السياسي. من خلال الإشارت الصغيرة البسيطة، ترسم لنا، الشغل الشاغل للمسؤوليين في الكلية، القضايا الجانبية البسيطة لإرضاء الفاعل السياسي أو النزعة الذاتية من قبل القائمين عليها ك" حذف كلمة نبيذ، من قصة ل همنغواي؟ أو حينما تكون أولوياتهم إصدار قرار بمنع تدريس "برونتي" لأنها، كما اتضح لبعض المسؤولين، " تتغاضى " عن فعل الزنى". هنا يكمن جمال الأدب، أن يدخل في أدق التفاصيل البسيطة، كتصفيف الشعر والكحل والأقراض، أو تناول لحية رئيس الدولة، وتكوينه النفسي والعقلي، وعيوبه الجانبية، ومنح القارئ الرؤية من كل الزوايا والجوانب الخفية للنفس الإنسانية والاجتماعية. في هذه الرواية نسبح في فضاء الثقافة، استاذة جامعة، أزي، تقدم استقالتها من التدريس لأن الفضاء السياسي لأيران مغلق، تجعل المرء في مختلف المستويات الاجتماعية أن يتمسك بالقشور، ويخضع لما تريده السلطة. وجود إحدى الفنانات، رسامة، تعكس الثقافة الملتصقة بعمق الواقع، بعيدًا عن ابتذال المثاقفين. الشرق الذي كان ينحو نحو الجمال الكامن في دهاليزه، تغيبه الحداثة المعوجة، في الجزء المتخلف من العالم، للإسلام المأزوم فيه، التجريد العالي يفضح ويعلن عن نفسه عبر اللوحات التي تقوم بتجسيد مشاهد من الحياة اليومية، وبخاصة: " غرف مهجورة أو بيوت مقفرة، أو صور فوتوغرافية قديمة لنساء وحيدات". وهنا ينكشف الواقع، عندما تعيش النساء وحيدات وينحون نحو الخواء والضعف: " وشيئًا فشيئًا أصبحت أعمالها تميل نحو التجريد. في معرضها الأخير، كانت اللوحات عبارة عن بقع متناثرة من الألوان الصاخبة، مثل تلك الموجوة في غرفة الطعام في بيتي" وتضيف: " بقع سود تشوبها قطيرات صغار من الأزرق" وحينما سألتها عن سبب تحولها من الواقعية الحديثة إلى التجريد، أجابتني: " لقد أصبحنا نعيش واقعًا لا يطاق، واقعًا أسود قاتمًا إلى حد أنني لن أستطيع بعد الأن إلا أن أجسد لون أحلامي" لون أحلامي، اللون الأسود، لون الحلم في الدولة التي تنحو نحو انسداد الثقافة والفكر والحرية والجمال، وتتجه نحو تأزيم الدولة والمجتمع ويصبح الحلم مجرد وهم ووجع أو لا حلم: " إلى أين ستفرين من هذا المكان" يا له من سؤال عميق وضارب في عمق الأزمة، أزمة مجتمع ينهار أمام أعين الجميع بفعل فئة اجتماعية سياسية قبضت على كل شيء دون أن تترك حجرًا على حجر على حاله إلى أين ينسحب المرء، والفضاء الاجتماعي والسياسي من المجال العام إلى أن أصبح كل شيء ملوث ويزداد تلوثًا مع الأيام، الانسحاب إلى الداخل فعل مدمر، والخروج منه يحتاج إلى روافع مختلفة غير مهيئة، ولا يمكن للمرء أن يفرغ الطاقة الإيجابية إذا كان مغلقًا، لهذا ارتداده سيتوجه إلى الداخل، وبدلًا من أن تكون الطاقة إيجابية تعمل في مسار البناء يتجه نحو الوحشة والانكماش على الذات. يستنتج المرء أن اللغة السهلة، خارج، البسيطة للرواية، لا يعكس حقيقتها وعمقها، وأنها متفردة، لديها قدرة هائلة في الكشف عن الخبايا والتراكمات القابعة تحت السطح. تبدو الشخصيات إيجابية، جميلة من الخارج، نساء في مقتبل العمر يحببن الحياة، وجمالها، يحلمن بالحلم الجميل، أن يقدمن أجمل ما لديهن من أجل مواصلة الحياة بالرغم من عوالمهن الانعزالية الذي سببتها الدولة البوليسية الإيرانية. هذا يستدعي سؤالًا يطرح على الجميع: هل يستطيع الواقع حمل الأحلام في مكان مسدود؟ في مكان لا حلم فيه؟ في من ستحلم المرأة إذا كان الرجل محجوبًا عن النظر والقلب؟ هل تحلم المرأة دون حضور أنفاس الرجل في حياتها؟ لمن تتجمل، وحولها كله عراء وصحراء طويلة حيث لا ماء ولا شجر ولا خضرة ولا هواء نظيف يزين الجمال؟ قالت وهي تناولني باقة من النرجس البري الأبيض والأصفر: ظننت بأنك خارج البيت؟ فبادرتها وهي تهم بخلع جبتها السوداء: لا رجال في البيت.. بإمكانك خلع هذا عنك أيضًا، فترددت قليلًا، ثم أخذت تفك عنها إيشارب رأسها الأسود الطويل. لا تنفك الرواية ترسل إشاراتها كمجسات نابضة واضحة عن السواد الذي يرفد إيران في ظل حكم الخميني وصبيانه، الجبة السوداء الإيشارب الأسود، الفكر الأسود القاتم الذي يلف الدولة والمجتمع
الكثير من الثورات قتلت الحلم بالثورة لدى أغلب المؤمنين بها. الثورة حلم جميل، حلم وردي، بمجرد أن تدخل أرض الواقع سرعان ما تختطفها الذئاب الجائعة من داخلها أو خارجها. الثورة لا انصار لها لهذا تموت.
عشق الثقافة قديم قدم الإنسان. حاول هذا الإنسان أن يبدد القلق الوجودي في داخله عبر الكتابة. فكانت الكتابة والفن بكل أشكالهما، ورموزهما هي التعبير الأصدق عن المكنونات الإنسانية. خط حرفه وكلماته في الزمن القديم على الطين المشوي. وكان شغفه في الحياة والحب والتألق والارتقاء هو الدافع في البحث عن الآلهة في السماوات السبع، للخروج من إسار السجن الأرضي، والعيش في الفضاء البعيد عن ثقل المكان وصغره بالنسبة للكاتب أو الفنان أو الموسيقي، أي المثقف بعمومه. كان السومريون أول من رفع شأن الثقافة العالمية، فأبدعوا في ملحمة جلجامش، ورقوا البشرية معهم في هذا الكتاب الطيني الجميل. فخلدوا الخلود في الطوفان والتكوين، وشغف الإنسان القلق في البحث عن وجوده في ما وراء الطبيعة، فاكتشفوا العوالم البعيدة عنّا والكواكب السيارة، والموسيقى والكتابة والنحت والرسم، ودونوها على الحجارة والطين وبنوا المدن وقسموا السنة والأسبوع واليوم والساعة والدقيقة. وبعد ذلك، جاءت الكتابة على ورق البردي والجلد، لإملاء العطش الثقافي القابع في النفس الإنسانية العطشى للمعرفة، ووضعت الكتب في لفائف، على الرفوف في المكتبات لتبقى للأجيال القادمة، وكأن كل كاتب أو فنان كان يرغب في الخلود من خلال الكلمة، في السعي لملء الفراغات بين المجموعات المترابطة، وكأننا كنّا وما زلنا أمام جدول مندلييف، يسكننا هاجس تكملة الأنواع والأشياء التي لم تكتشف.
الشيء الذي يحيرني ويطرح علي آلاف الاسئلة: لماذا يحب الكثير من العرب الاحتلال التركي، بل يعشقه؟ ما هي المحطات المهمة في الاحتلال التركي للدول العربية؟ لماذا هذا العشق الذليل لهذا الذليل التركي؟ المكان الذي دخله الأتراك نهبوا خيراته وثرواته ومزقوا شعبه ومع هذا لدى الكثير من العرب نظرة أو صورة وردية عن هذا الدخيل على بلادهم، بل تحول هذا المكان إلى دولة هشة وضعيفة في كل مجالات الحياة هل يقبل الأتراك أن يحتل العرب دولتهم؟
اللطم، هو بكاء سياسي، أو لطم سياسي، على الذات السياسية الغير متحقق، سواء كان دينيًا أو قوميًا أو ايديولوجيًا. إنه بكاء كاذب، مريض. إنه بكاء ايديولوجي، له أهداف وغايات لم يستطع الواقع تحقيقه، لهذا وجب تدمير الذات الحاضرة، كانتقام من التاريخ.
النهج الدولي الجديد سيجرف أمامه مجتمعات كاملة, يلغيها من الوجود, ويمزق وينهي مفاهيم وقيم ومبادئ أخلاقية واجتماعية وإنسانية سابقة عليه دون طرح بدائل جديدة. إن التوحش الفاضح الذي نراه اليوم في ممارسات النظام الدولي عبر داعش وغيرها, يعمل لصالح قيم المال والسوق والسلطة. وليس لدى المجتمعات البشرية على مستوى العالم آلية دفاعية أو قدرة سياسية لوقف هذا الدمار والتوحش والخراب التي تسهر أغلب الدول العظمى عليه. إننا أمام تسونامي خطير جداً, بدأ من سوريا.
جميع المنظمات الجهادية المقاتلة في سورية لا يترتب عليهم أي مسألة قانونية أو أخلاقية أو إنسانية, لإنهم قوى فوق وطنية, فوق الحدود والحواجز. الصانع الذي بث الحياة فيهم, يدرك عمله تمامًا, وإلى أين يسير. إنهم مثل ذلك الكلب الذي يرسل لالتقاط الطريدة دون أن يميز بين هذا أو ذاك أو نوعية الضحية. والدولة القائمة على الإرهاب المنظم, رأت أن المنتج الصغير, خير لها, للقيام بالصيد الثمين عند الحاجة, لتخريب المجتمعات البشرية في هذا العالم.
لدى الكثير من الناس متعة شديدة لجلد الذات، وأشكال الجلد كثيرة ومتعددة. المازوخية جزء من جدلية الثنائي الموجود، مرافقة لها، مكونة من السادية وصولًا إلى نحر الآخر والاستمتاع برؤية الدم لاطفاء شهوة الموت في داخله.
رسالة شكر من موقع الحوار المتمدن الأستاذ آرام كرابيت المحترم تحية طيبة تأثرتُ كثيرا وأنا أتابع قراءة فصول روايتك (الرحيل إلى المجهول) التي نشرتَها في موقعنا الكريم الحوار المتمدن قبل خمسة عشر عاما صادفتْني وأنا أتصفّح الحوار المتمدن قبل عدة سنوات، وإذا بروايتك تطالعني وتشدّني أحداثها ودقة الوصف وجمال اللغة افتتحت مقالك اليوم بجملة: -ما أذكى الإنسان، لديه القدرة على استنباط الوسائل والأساليب التي تساعده على تكييف الواقع الصعب لشروط عيشه، حتى ولو كان قاسياً وهداماً، وقد وردت الجملة في روايتك وهي تدل على الشجاعة التي تمكّن الإنسان من مجابهة المحن والوقوف في وجه الشدائد بكل قوة وصلابة. إنها إرادة الحياة أنبل المشاعر وأرقاها أتمنى لك نجاحا متواصلا، والسعادة في البلد الجديد الذي أصبح وطنك الحقيقي حيث يشعر الإنسان بكرامته وإنسانيته بعيدا عن السياسة ورجالها والدين وموظّفيه والجلسات العربية الفارغة ومُرتادي مقاهيها شكراً أستاذ كرابيت وإلى الأمام احترامي
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هواجس خاصة وعامة 390
-
هواجس أدبية ــ 389 ــ
-
هواجس متعددة 388
-
هواجس في الحياة ــ 387 ــ
-
هواجس عن قراءات متعددة 386
-
هواجس عن العلمانية والإسلام ــ 385 ــ
-
هواجس اجتماعية وسياسية عامة 384
-
هواجي عن سجن تدمر ــ 383 ــ
-
هواجس أدبية ودينية ــ 382 ــ
-
هواجس ثقافية ــ 381 ــ
-
هواجس عن الاستبداد والعلمانية 380
-
هواجس عن الاستبداد ــ 379 ــ
-
هواجس أدبية 378
-
هواجس 377
-
هواجس عامة وخاصة 376
-
هواجس عن سوريا اليوم 375
-
هواجس عن الاستبداد ــ 374 ــ
-
هواجس تتعلق بالتأويل ــ 373 ــ
-
هواجس تتعلق بسقوط بشار الأسد ــ 372 ــ
-
هواجس تتعلق بسوريا 371
المزيد.....
-
وفاة جندي كوري شمالي أسير في أوكرانيا- تقارير
-
ترامب يطلب من المحكمة العليا الأمريكية تأخير حظر TikTok
-
طائرة مدنية تقل مئات الركاب.. مسؤول أممي تواجد في مطار صنعاء
...
-
سوريا..القوات المسلحة للقيادة الجديدة تشتبك مع قوات قسد في
...
-
روايات عن أشباح تحوم حول المقر الرسمي لإقامة رئيس الوزراء ال
...
-
الجيش النيجيري يقتل 10 مدنيين عن طريق الخطأ
-
زلزال بقوة 6.3 درجة يضرب سواحل جزر الكوريل الجنوبية الروسية
...
-
البرلمان العربي: حرق الجيش الإسرائيلي لمستشفى كمال عدوان شما
...
-
مقاطع فيديو -صادمة-.. سجين يموت تحت الضرب المبرح من حراس الس
...
-
مصادر طبية: كوادر في مستشفى كمال عدوان استشهدوا حرقا
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|