|
هل السعادة قيمة ممكنة؟
بلال المزوغي
الحوار المتمدن-العدد: 8203 - 2024 / 12 / 26 - 21:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تعتبر السعادة قيمة كونية منذ بداية التاريخ الإنساني. فهي الحالة التي يتحقق عبرها الانسجام والتوافق النفسي والفكري والرضا la satisfaction. وقد اعتبرها البعض من الفلاسفة على غرار ايمانويل كانط حالة من الوعي بالواجب الإنساني، وآخرون اعتبروها جزء من بنية الإنسان الذي يتوق إلى اللذّة والاستمتاع على غرار ما قدّمه أبيقور Épicure، فالسعادة تعتبر من المفاهيم المتعدّدة المعاني والدلالات حيث لا توجد سعادة بقدر ماتوجد سعادات مختلفة حسب تصوّرات وهواجس الأفراد. وتشير دراسات علم النفس الإيجابي la psychologie positive أنّ السعادة هي حاجة إنسانيّة ضرورية عن طريقها يمكن للإنسان التقليص أو تجاوز الألم. فهي تشتغل وفق عالم النفس الفرنسي Boris cyrulink ضمن عوامل الحماية لمسار الصمود la résilience وتجاوز ما بعد الصدمة Post-traumatique. فالهشاشة التي يعيشها الإنسان تجعله دائما عرضة للألم وخصوصًا للأشخاص الذين لم يتلقّوا الأمان والحب الضروري منذ نشأتهم في الطفولة وهو ما ينعكس على تجاربهم الاجتماعية وبينة شخصيّاتهم. فالسعادة في هذا الإطار هي جزء من محرّكات الحماية والدفاع أو كمات تسمّى في علم النفس les mécanismes de défense فالإنسان بحاجة دائمة إلى أن يكون سعيدًا أو لنقول العيش بأقلّ ما يمكن من الألم. ظلّت التصوّرات حول السعادة تحظى بجدل واسع فالبعض يعتبر أن رحلة الإنسان محكومة بالشقاء منذ الولادة (على غرار مؤّلف ايميل سيوران مثالب الولادة)، حيت أنّ السعادة الحقيقية تكمن بالعودة إلى ما قبل الولادة أي العدم le néant. ، والبعض الآخر يقرّ بأنّ السعادة تكمن في الإقبال على الحياة بكلّ شغف. فقد بقيت السعادة قيمة متعدّدة المعاني وجزء من الأسئلة التي بقيت مفتوحة للنقاش العمومي وتحظى بجدل واسع. كما أنّ الإنسان منذ نشأته اصطدم بلغز الحكايات الكبرى les grands récits كالموت، الوجود، السعادة، ويبقى طيلة حياته يبحث عن أجوبة، وفي أغلب الأحيان يبقى مثل صخرة سيزيف أي كلّما وصل الرجل إلى القمة سقط منه الحجر متدحرجاً إلى السفح ثانية، ليعاود مرة أخرى الفعل نفسه دونما نهاية، إلى أبد الآبدين. وإذا ما نظرنا إلى السعادة نجدها جزء من هذا القلق الوجودي الذي يصيب الإنسان، فهي قيمة صعبة المنال تتطلّب جهدًا كبيرًا من العطاء الروحي. كما أنّ كلّ شخص منّا له تجربته الخاصّة في فهم السعادة، باعتبار أنّ الذوات البشرية بطبعها مختلفة ومتناقضة وهو جزء أساسي لتوازن الكون الذي يبقى في حركيّة دائمة وتجدّد. يمكن أيضًا فهم السعادة من خلال رحلة الاكتشاف التي يختارها كل شخص سواء كانت فلسفية، دينية، روحية وغير ذلك. فالتجارب الشخصيّة محدّدة لبناء تصوّر حول السعادة أو إعطاء جواب وقتي حولها. ففي تجربتنا على سبيل المثال وجدنا أنّه يوجد ارتباط وثيق بين السعادة والعودة إلى الأرض والطبيعة. فعند اطّلاعنا على فكر بيار رابحي Pierre Rabhi الكاتب الفلاح l’écriculteur منذ ثلاثة سنوات تقريبًا، وجدنا فكرة مختلفة عن السعادة التي تقوم أساسًا على مفهوم البساطة la simplicité والتفكير من خارج الصندوق أو كما سمّاه الخروج من العلبة. فبيار رابحي اكتشف نفسه عندما ترك حياة المدينة واختار العيش في الطبيعة رفقة زوجته ليؤسس مفهوم الاعتدال السعيد la sobriété heureuse الذي ترجمه في كتاب نشره ونال به شهرة واسعة في الأوساط الفكرية والايكولوجية. كما لا يمكن استحضار بيار رابحي دون ذكر الأسطورة الأمريكية-اللاتينية عن طائر الكوليبري(Colibri) . وهو طائر يحاول إطفاء لهب غابة تحترق بماء يحمله بمنقاره الصغير، لكن يواجهه حيوان (Tatou) يعمل على تثبيط همته، وعلى جعله ييأس. ويأتي جوابه إنه يعرف أن ما يحمله من ماء لن يطفئ النار، لكنه يفعل ما بوسعه فعله (Je fais ma part). لقد كان رابحي نفسه مثل ذلك الطائر تماما. حاول دون أن يدخر جهدا انقاد العالم من الدمار. والأهم أنه قام بواجبه، ليس عن واجب فقط، وإنما، وبالأساس، عن حب. فبيار رابحي الذي رحل عن العالم منذ 3 سنوات تقريبًا ترك في رصيده محاضرات ومؤلّفات تؤسس للسعادة والمصالحة مع الأرض والطبيعة.
#بلال_المزوغي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة حول الخلاص السياسي و الديني
-
قراءة في النموذج الثقافي التونسي (الماضي و الحاضر)
-
نحو إنسان جديد ( 1)
-
جلسات سرية
-
محاولة لفهم الازمة .
-
العقلانية و يوتوبيا التحرر
-
الثقافة وتاريخية الفعل
-
هرمونيطيقا النص ام ازمة الأنا
-
الاسلام بين التسليم الروحي و الجدل العلمي و المنطقي
المزيد.....
-
مدير مستشفى كمال عدوان بغزة: قوات إسرائيلية تحاصرنا وتأمرنا
...
-
صرح فريد لا تحلق فوقه الطائرات!
-
الهند تعلن الحداد 7 أيام
-
الرئيس الصربي: وساطة الصين جيدة في التسوية الأوكرانية
-
جريمة في جامعة مصرية
-
مصر.. شركة كبيرة تثير أزمة بإشارة على أحد منتجاتها
-
وزير خارجية سلوفاكيا: تصريح بوتين عن المفاوضات حول أوكرانيا
...
-
إصابة إسرائيلية بجروح حرجة في عملية طعن قرب تل أبيب
-
المقاتلة إف-15.. لهذا استخدمتها إسرائيل لقصف اليمن
-
إحياء ذكرى سامر أبو دقة في متحف قطر الوطني بصوت ابنه زين
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|