|
نشوء مُجتمعات الاقتصاد المُنتِج (العصر الحجري الحديث)- وردٌّ على النُقّاد
مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)
الحوار المتمدن-العدد: 8203 - 2024 / 12 / 26 - 02:05
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مؤلف المقال: فلاديمير رافائيلوفيتش كابو*
ترجمة: مالك أبوعليا
إن نشوء الاقتصاد المُنتِج، مثله مثل أي حالة انتقالية أُخرى في تاريخ المُجتمع، بل ومثل أي انتقالٍ من ظرفٍ الى آخر، يحتل أهميةً نظريةً بارزة. لقد كان لهذا الانتقال عواقب ثورية، إذ كان نشوء المُجتمع الطبقي والمُلكية الخاصة والدولة، وتطورها، مُستحيلاً بدونه. كان للاقتصاد المُنتِج للغذاء، شروط مُسبَقة، فقد قامَ بناءاً على عمليةٍ طويلةٍ ومُعقدة والتي لم تتحقق دُفعةً واحدة. لقد كانت ثورةً اقتصاديةً وثقافيةً امتدَّت آلاف السنين. إن تطور المُجتمع والثقافة، هو عمليةٌ تراكمية، وهي تتسارعُ مع مرور الزمن، وتصل الى أبعادٍ تؤدي في النهاية الى بروز حالةٍ جديدةٍ نوعياً. كلما كان مُستوى التطور أقل، كانت التغيرات التي تحدث أبطأ وأقل وضوحاً. يُطلَقُ على نشوء الاقتصاد المُنتِج، تبعاً لغوردون تشايلد، اسم ثورة العصر الحجري الحديث. ومع ذلك، فهي تتميّز عن الثورة الصناعية التي حدثت في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، والثورة العلمية التكنيكية الحالية، بكونها بدأت من الداخل. وهذا انعكاس لإحدى السمات الأكثر تمييزاً للمُجتمع البدائي، وهي أن اقتصادهُ مُتشابكٌ تماماً مع حياته الاجتماعية. ففي المُجتمع البدائي، يرتبط الاقتصاد ارتباطاً وثيقاً بالتنظيم الاجتماعي والايديولوجي، أي اندماج وظائفه الأساسية. ففي مُستويات التطور العُليا، وبالترافق مع التمايز المُتزايد بين الوظائف الاقتصادية والايديولوجية، يفقد النشاط الاقتصادي شموليته الأصيلة. إن جوهر ثورة العصر الحجري الحديث، هو الانتقال من نمط نشاطٍ اقتصاديٌ استحواذي، الى نمطٍ اقتصاديٍّ انتاجي. إن أشكال النشاط الاقتصادي، ليست هي المعيار الوحيد للمُجتمع البدائي، ولكنها تلعب دوراً هاماً. لقد ساهَمَ التطور الشامل للمُجتمعات القائمة على الاقتصاد الاستحواذي، في تمهيد الطريق لثورة العصر الحجري الحديث. إن مُجتمعات الصيد واللقاط (الاستحواذية) تتمتع بعددٍ من السمات التي يُمكن أن نرى فيها شروطاً مُسبقةً للاقتصاد المُنتِج. واذا نحيّنا جانباً الشروط المُسبَقة لتربية الحيوانات وتدجينها، والانتقال اليها، والتي هي موضوعٌ خاص تناولته أدبيات واسعة النطاق، فإننا سوف نتطرق في هذا المقال، الى الشرط المُسبَقَة للزراعة، باعتبارها الشكل السائد للاقتصاد الانتاجي، والشكل الرائد في عملية تحويل الطبيعة والمُجتمع. وعلى أية حال، فإن عمليتي نشوء الزراعة وتربية الحيوانات، كانتا في كثيرٍ من الأحيان، وثيقتي الصلة، وتحدثان داخل نفس المُجتمعات. تُعتَبَرُ العوامل التالية، في العادة، المُتطلبات الأساسية المُسبَقة لنشوء الزراعة: الخلفية الجيولوجية النباتية المواتية (وجود نباتات صالحة للزراعة، بالدرجة الأولى)، ومُستوى مُتطور بما فيه الكفاية لتكنيكات اللقاط، وحضور أزمة الاقتصاد الاستحواذي. إن كل هذا هام. ولكن الى جانب هذه العوامل، ينبغي علينا أن نهتم بمسألة لم تحظَ بقدرٍ كبيرٍ من الاهتمام، ونعني بها المُتطلبات الاقتصادية-الاجتماعية المُسبقة لنشوء الزراعة، داخل مُجتمعات Communities الصيادين وجامعي الثمار. لقد كان يسبق الزراعة المُتعمَّدة، عمليات لقاط وحصاد للنباتات البرية وأشكال لقاط أكثر تعقيداً. على سبيل المثال، وَصَفَ ليبس شعوب الحصاد Erntevölker التي يعتمد اقتصادها على اللقاط المُخطط لنوع أو عدة أنواع من النباتات البرية. إن حقول الحصاد التي يزرعها هؤلاء الصياديون وجامعو الثمار تُشكّل محور حياتهم، وتتمركز مُجتمعاتهم حولها. هذه ليست سمةً من سمات الصيادين وجامعي الثمار النموذجيين، بل هي سمة لمجتمعات أكثر تطوراً بقليل. إن مُجتمعات الحصاد وجامعي الثمار أكبر بشكلٍ ملحوظ من مُجتمعات الصيد واللقاط النموذجية، وتميل بُنيتها الى التشابه مع بُنية المُجتمعات الزراعية الباكرة. لقد نَظَرَ ليبس الى الحصاد المُنتَظَم للنباتات البرية باعتبارهِ مرحلةً وسيطةً بين اللقاط والزراعة. فقد اعتَبَرَ أن جامعي الثمار، الذين يحصدون دون أن يزرعوا، والذين يتشابه عملهم مع أنشطة المُزراعين، هُم أكثر استعداداً للزراعة، من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، من جامعي الثمار النموذجيين. هذه الفكرة مقبولة، بشرط أن نُدرِكَ أنها تنطبق على المناطق الجُغرافية التي تحوي على نباتاتٍ تُوفّر حصاداً مُنتظماً ومُستقراً ووفيراً (على سبيل المثال، ألأرز البري الذي يحصده الهنود في منطقة البُحيرات العُظمى). أظهَرَ الكسندر نيكولايفيتش ماكسيموف Aleksandr Nikolaevich Maksimov (1929) أن الصيادين وجامعي الثمار الكلاسيكيين، مثل سكان استراليا الأصليين، والذين يُقاربون في مُستواهم الثقافي مُستوى العصر الحجري الوسيط، كانوا قريبين جداً من الاقتصاد الانتاجي، خاصةً أنهم أتقنوا فُنون العناية بالنباتات، والحصاد في مواسم مُعينة، ومُعالجة النباتات للحصول على الغذاء بطُرقٍ مُختلفة (بما في ذلك ازلة السموم من النباتات السامة، والدَرس، والغربلة، والطحن، وخبز الخُبز غير المُخمَّر). وقد أظهَرَت الأبحاث اللاحقة أن سُكّان استراليا الأصليين كانو، في بعض الأماكن، أقرب الى الزراعة مما كان ماكسيموف يعتقد. على سبيل المثال، كانت هُناك أشكال بدائية للري (بناء السدود البسيطة والخزانات)، لمنع جفاف الأراضي خلال المواسم المُقفرة، وتحفيز نمو النباتات المُفيدة التي تجتذب الأسماك والطيور والحيوانات. وقد تم بناء قنوات بطول مئات بل وآلاف الأمتار منذ زمنٍ سحيق,، قبل الاستعمار بوقتٍ طويل. لقد كان هذا تأثيراً مقصوداً وهادفاً على الطبيعة، وأكثر فعاليةً من محاولات زراعة نبات اليام Yam والنباتات الأُخرى، التي لوحِظَت في أجزاء مُتفرقة من استراليا. ولكن السكّان الأصليون، كانوا يفتقرون الى الشيء الرئيسي: الزراعة المنهاجية الهادفة للنباتات، والتي تبدأ بتحضير التُربة أو بذرها. إن الزراعة الموسمية المُتقطعة للنباتات من قِبَل السُكّان الأصليين، مثل السيمانغ والسينوي، تُعَدُّ ذات أهمية منهجية في مُقاربة هذه المسألة، من حيث أنها تُشكّل أحد مصادر الاقتصاد الانتاجي. لقد بدأ الناس في زراعة النباتات أثناء عملية اللقاط: ربما كان يوري فيدوروفيتش نوفيكوف Yuri Fedorovich Novikov يُبالغ بعض الشيء في تقدير هذه القضية، اذ قال بأن الناس كانوا يزرعون النباتات أثناء جمعهم لها من خلال الاصطفاء غير المقصود أو الاصطفاء ما قبل الزراعة. كان جمع الثمار، مصدراً أكثر موثوقيةً للغذاء من الصيد، وبالتالي، كان نشاطاً اقتصادياً واعداً من أجل تطور الزراعة، على الرغم من التكنيك البدائي (ما عدا طُرُق مُعالجة المُنتجات واعدادها، والتي كانت مُعقدة ومُتنوعة الى حدٍّ كبير). ولكن السُكّان الأصليين، لم يُقدموا على الخُطوة الحاسمة التي فَصَلَت المُزراعيين الأكثر بدائيةً عن الصيادين وجامعي الثمار. ولم يكن السبب في أنه لم تكن في حوزتهم النباتات المُناسبة، كما يزعم البعض أحياناً. إن نفس الدرنات التي كانت تُزرَعُ منذ زمنٍ سحيقٍ في غينيا الجديدة، تنمو أيضاً في استراليا، وحتى الظروف الطبيعية في شمال استراليا قريبةً جداً من تلك الموجودة في غينيا الجديدة. فضلاً عن ذلك، كان هُناك تواصل مُنتَظَم لعدة قرون بين المُزارعين في أندونيسيا وبابوا غينيا الجديدة وسكان استراليا الأصليين في الشمال الاسترالي، وقد استعارَ الاستراليون عدداً من المُنجزات الثقافية من جيرانهم الأكثر تطوراً. ولذلك، يجدُرُ بنا البحث عن السبب الذي لم يُصبح فيه سكان استراليا الأصليين مُزراعين، في مكانٍ آخر. يُمكن مُلاحظة اللقاط المُعقد المُرتبط بمُعالجة المُنتجات النباتية، والذي حددته الاثنوغرافيا عند السُكّان الأصليين، نقول، يُمكن ملاحظته في السجل الأركيولوجي لأوروبا الشرقية في العصر الحجري الحديث. لقد تطوّرَت عملية اللقاط، مثل الصيد، طوال فترة العصر الحجري القديم، وكانَ شكلاً هاماً من أشكال الاقتصاد ومصادر الغذاء. لَعِبَت النساء في هذه المُجتمعات نفس الدور الذي لعبته لاحقاً في المُجتمعات الزراعية. تُعد تماثيل النساء الصغيرات (فينوس) ذات الخصائص الجنسية، نموذجيةً للعصر الحجري القديم الأعلى الأوروبي. في بعض الأحيان، تم تصويرهن مُنخرطاتٍ في الرقص الطقوسي، وكانت هذه التماثيل، مثل تماثيل الآلهة الأُم تلك في الفترة الزراعية في أوروبا الشرقية والشرق الأدنى وآسيا الوسطى، مُرتبطةً بعبادة الخصوبة وتجديد الغطاء النباتي، والعالَم الحيواني وعالم البشر ذاته. وقد يكون أساس هذه العبادات، مجموعة مُشتركة من الأفكار التي نشأت في الحالة الأولى من اللقاط المُتطور، وفي الحالة الثانية، في الزراعة الباكرة. لقد كان الطحن هو القاعدة التكنيكية للقاط المُتطور. ومن بين الشروط الأساسية الأُخرى لتطور الزراعة، ظهور المجرفة Hoe (التي ظَهَرَت لأول مرة في العصر الحجري القديم)، والفأس المصقولة Axe، والذي أتاح لزراعة القطع والحرق أن تنشأ. لقد تطوَّرَ تكنيك المجارف الخشبية في العصر الحجري القديم، وهي واحدة من أقدم الطُرُق المُستخدمة في حرث التُربة، الى جانب حضور عملية اللقاط. في العصر الحجري الوسيط، كان هُناك سكاكين حصاد، وهي أسلاف للمناجل. ولكن لا المطحنة، ولا المجرفة، ولا الفأس المصقولة ولا سكين الحصاد بحد ذاتها حققت ثورة العصر الحجري الحديث. لقد استخدَم سُكان استراليا الأصليون المطاحن والفؤوس المصقولة لآلاف السنين كأدوات في اقتصادهم الاستحواذي، الذي كان يشمل الري كذلك. إن التكنيك ليس أكثر من شرطٍ مُسبَق، وشرطٍ للانتقال، وليس دافعه النَشِط. إن الناس أنفسهم، أو بالأحرى المُجتمعات، كانوا هُم القوة الفاعلة النَشِطة. ولكي يبدأ مُجتمع الصيد واللقاط في البحث بنشاط عن وسائل جديدة جذرية للسيطرة على بيئته، فلا بُدَّ وأن يحوز دافعاً قوياً ونوعياً. وقد يتخذ هذا الدافع شكل أزمة، مثل اختلالٍ مُفاجئٍ في توازنه مع بيئته، نتيجةً لتغيُّرٍ مُفاجئٍ في الظروف الطبيعية (كما حَدَثَ في مناطق شاسعة من العالم في عصر ما بعد الجليدي)، أو ربما نتيجةً للنشاط البشري (مثل ابادة الحيوانات)، والاضطرابات الديموغرافية. أو قد يتخذ شكل تأثيرٍ قادمٍ من مُجتمعاتٍ أكثر تقدماً. عندما سُئِلَ البوشمن لماذا لا يزرعون، أو لما ليس لديهم زراعة، أجابوا: "لماذا نزرع النباتات في حين هُناك الكثير من جوز المونغونغو في العالَم؟". بالاضافة الى ذلك، فمن أجل تبنّي أي ابتكار، لا بُد أن يكون المُجتمع قد بَلَغَ مُستوىً مُعيناً من التطور. لم يُعانِ سُكان استراليا الأصليون من أزمةٍ مُماثلةٍ في اقتصادهم الاستحواذي، ولم يكن لديهم أي حافزٍ لاستعارة الزراعة من سكان بابوا أو اندونيسيا. وفي بعض الحالات، هناك احتمال ثالث، وهو التراكم التدريجي البطيء للتطورات التي ينبثق عنها الاقتصاد المُنتِج في نهاية المطاف، بوصفه انبثاقاً عفوياً، مُستقلاً عن ارادة الناس- أي التراكم الكمي للظواهر الجديدة التي تتحوّلُ في نهاية المطاف الى تغيّرٍ نوعي. لقد كان الاستراليون في طريقهم الى مثل هذا الانتقال. ولعل العديد من المُجتمعات الزراعية الباكرة، والمُجتمعات الرعوية الباكرة،، تطوَّرَت على هذا النحو. كانت المُجتمعات التي سكَنَت المناطق التي كانت ظروفها مواتيةً للزراعة وتدجين الحيوانات، هي رائدة الاقتصاد الانتاجي. وقد أثبَتَ فافيلوف أن مراكز الزراعة الرئيسية في العالَم، كانت تقع في المناطق الجبلية الاستوائية وشبه الاستوائية، التي كانت الظروف فيها، مواتيةً لعملية الزراعة وحياة الانسان القديم. كانت منطقة غرب آسيا، التي تُعَد واحدةً من أقدم مراكز الاقتصاد الانتاجي، إحدى تلك المناطق. لم تكن أهمية الاضطرابات الايكولوجية كبيرةً بالنسبة لغرب آسيا. وعلى النقيض من ذلك، كانت أوروبا في العصر الجليدي بالقُرب من الأنهار الجليدية، تُعاني من أزمة الاقتصاد الاستحواذي نتيجةً للأزمات البيئية، ومن المُمكن أن تكون اوروبا قد استعارَت عناصر من الاقتصاد الانتاجي من مركز غرب آسيا التاريخي. يقترح فاديم ماسون، ثلاث نماذج مُحتملة لثورة العصر الحجري الحديث: 1-نشوء اقتصاد زراعي رعوي على أساس اقتصاد صيد ولقاط مُتطور للغاية. 2- ظهور الاقتصاد الزراعي على أساس اقتصاد لقاط مُتخصص للغاية في ظروف أزمة صيد ناجمة عن تغيّر المناخ القديم. و3- نشوء اقتصاد زراعي في ظل ظروف هيمنة صيد الأسماك أو الصيد البحري، مما أدى الى ظهور الاستقرار. ربما تطورت المُجتمعات الآسيوية الغربية، وغيرها من المُجتمعات، وفقاً للنموذج الأول من هذه النماذج، على أسس الخبرة المُتراكمة على مدار آلاف السنين والتحسُّن المُتزايد لأساليب زراعة النباتات وتدجين الحيوانات. إن النموذج الثاني مُنتشرٌ على نطاقٍ واسعٍ في أنحاء أُخرى من العالَم. أما النموذج الثالث، فهو محدود الوجود نسبياً، ذلك أن اقتصاد صيد السمك والصيد البحري المُتخصص، يوفر للمُجتمع امداداتٍ مُنتظمةٍ وأكيدة من المواد الغذائية. ولكي ينتقل مثل هذا المُجتمع الى اقتصادٍ مُنتجٍ مُكثّف فإن عليه أن يواجه أزمةً في الاقتصاد الاستحواذي، وفي هذه الحالة، نعود الى النموذج الثاني أو حتى الأول. إن الاستقرار، ليس شرطاً مُسبقاً للاقتصاد المُنتِج، وإن كان يُسهل عملية الانتقال اليه. وأخيراً، ينبغي علينا أن لا ننسى بأن الثقافات المُتقدمة للغاية تسعى الى التوسّع، وأن استعارة مُجتمعات الاقتصاد الاستحواذي لعناصر الاقتصاد المُنتِج، من شأنه أن يُعقِّدَ مسارات ثورة العصر الحجري الحديث. إن النظر الى مُجتمعات الصيادين وجامعي الثمار بوصفهم يعيشون حياةً بائسةً تحت تهديدٍ دائمٍ بالموت جوعاً، لها جُذورٌ عميقةٌ في الأدب الأجنبي والسوفييتي على حدٍّ سواء. ولكن علينا أن نُعيد النظر بهذا الرأي. لقد عدَّ جورج غراي George Grey هذا الرأي بأنه "سخيف". فكما يقول غراي "يعرف الاسترالي الأصلي بالضبط ما الذي عليه أن يُنتجه، والوقت المُناسب لظهور مُختلف النباتات والحيوانات في موسمها، وأسرح الوسائل للحصول عليها، ووفقاً لذلك، يقوم بجولات الى الأجزاء المُختلفة من أرض الصيد التي يملكها. ولا استطيع الا أن اؤكّد أنني كُنت دائماً ما أجد وفرةً كبيرةً من الطعام في أكواخهم". وباستثناء فتراتٍ قصيرةٍ نسبيةٍ من العام، أشدها حرارةً وأشدها أمطاراً، حيث يُعاني الاستراليون حقاً من الجوع، يقول غراي: "انهم يستطيعون في غضون ساعتين أو ثلاث، الحصول على امداداتٍ كافيةٍ من الطعام ليومٍ واحد". ان هذا الوصف يتوافق مع التقارير التي قدمها باحثون آخرون في القرن التاسع عشر (ادوارد م. كور Edward M. Curr وادوارد جون اير Edward John Eyre)، وهو بنفس القَدَر، يتوافق مع مُجتمعات السكان الأصليين الذين يعيشون اسلوب حياةٍ تقليديٍّ في وقتنا هذا. عَمِلَ أعضاء جماعتين محليتين تمت دراستهما عام 1948 من قِبَل مكارثي وماك آرثر حوالي 4-5 ساعات في اليوم فقط. وكان هذا الوقت كافياً لتأمين الغذاء الكافي لجميع أفراد الجماعة وفقاً لمعايير المجلس الوطني الأمريكي للبحوث. أشارت البيانات التي جمعها ريتشارد لي Richard Borshay Lee (1968، 1969) بين شعب البوشمن كونغ، الى أنه لتأمين الغذاء الكافي لجميع أعضاء الجماعة، كان على كُل شخص بالغ أن يعمل يومين ونصف فقط في الأُسبوع (6 ساعات في اليوم)، بمتوسط ساعتين وتسع دقائق في اليوم. إن الوقت اللازم لإعداد الطعام وصُنع الأدوات لم يُحتَسَب هُنا، واذا ما أُضيف هذا الوقت الى تلك البيانات، فسيكون قريباً من الرقم الذي طَرَحه مكارثي وماك آرثر.وقد أُجرِيَت عمليات الرصد في شهري تموز وآب، وهما شهرين من العام تكون فيه الظروف في مرحلة انتقالية من أكثر ملائمة الى أقل مُلائمة، وبالتالي، فهو رقم يُمثل السنة بدرجة كافية. وتُشير الحسابات الى أن شخصاً واحداً يصطاد ويجمع الثمار يُمكنه أن يؤمن غذاءاً كافياً لأربعة أو خمسة أشخاص، وأن 61.3% من السكان كانوا قادرين على العمل. ويذكر جيمس وودبيرن James Woodburn أن صيادي وجامعي الثمار عند الهادزا لم يقضوا أكثر من ساعتين في اليوم في المتوسط للحصول على الغذاء. وتُشير هذه البيانات، برأي مارشال سالينز Marshall Sahlins الى أن الوسائل المُتاحة للمُجتمع البدائي ما قبل الزراعي كانت كافيةً تماماً لتلبية احتياجاته، وأن ظروف معيشة أسلافنا في العصر القديم كانت جيّدة. إن الواقع بالطبع، أكثر تعقيداً وتناقضاً من هذا. فالعديد من الصيادين وجامعي الثمار، في المناطق ذات الظروف البيئية القاسية يُعانون من المجاعة الدورية (وهذا ينطبق أيضاً على المُزارعين). وكانت الظروف المعيشية للمُجتمعات التي عاشت في العصر الحجري القديم في أجزاء مُختلفة من العالَم، وفي عصورٍ جليدية وما بعد جليدية، مُتنوعة ومُتباينة. ولكن بالنسبة لغالبية الصيادين وجامعي الثمار فإن الصورة التي رسمتها للوضع صحيحة من حيث المبدأ. إن القول بأن الحياة في المُجتمع البدائي كانت صراعاً قاسياً من أجل البقاء، هو أمرٌ مُبالغٌ فيه، وهذا يعني، أن الانتقال الى اقتصادٍ مُنتِج لا يُمكن تفسيره فقط بالتناقض بين الاحتياجات الحيوية للناس، والمُستوى المُنخفض لتطور القُوى المُنتِجة، كما يُفتَرَض في كثيرٍ من الأحيان، بل يجب أن نَضَعَ في الاعتبار عوامل أُخرى كذلك. ومن بين هذه العوامل، تحتل عملية تطور الثقافة التراكمي مكانةً هامة. تتمتع الثقافة بالقُدرة على التطور وفقاً لقوانينها الداخلية على أساس القِيَم المُتراكمة مُسبقاً. وهذه القِيَم الثقافية تخلقها المُجتمعات التي تشعر بأنها تُلبّي حاجاتٍ مُعينة، وفي الوقت ذاته، هذه الحاجات نفسها، تخلقها الثقافة. على سبيل المثال، ان الصيادين الرُحَّل، لا يحتاجون الى الاستقرار طويل الأمد أو الفخار أو احتياطات كبيرة من المواد الغذائية، وما الى ذلك. كُل هذه الأُمور من شأنها أن تجعلهم يشعرون بعدم الارتياح لأنهم ليسوا بحاجةٍ اليها. إن الحد الأدنى من الاحتياجات هو سمة تميز حياتهم. ولا تظهر الحاجة الى هذه الأُمور وغيرها الكثير، الا مع الاستقرار والانتقال الى الاقتصاد الانتاجي. وحتى أثناء هذا الانتقال، لن تظهر هذه الاحتياجات طالما تتم تلبية مُتطلبات المُجتمع من خلال الاقتصاد الاستحواذي. هُناك أمثلة عديدة على التراكم التدريجي للسمات والخصائص التي تؤدي الى ظهور الاقتصاد الانتاجي عند الصيادين وجامعي الثمار، وهي أمثلة على التطويع الواعي الهادف للطبيعة. إن البيانات المأخوذة من سُكّان استراليا الأصليين نموذجية في هذا السياق، ولا يقل عن ذلك اثارةً للاهتمام الأمثلة المأخوذة من سُكان تازمانيا، وهُو المُجتمع الوحيد الذي ظلَّ على مُستوى العصر الحجري القديم الأعلى حتى وصول الاستعمار الأُوروبي. حتى الاستراليين كانوا أكثر تقدماً الى حدٍّ من من التازمانيين. فقد كان سُكان تازمانيا والاستراليون يحرقون الأعشاب الجافة في مناطق الصيد الخاصة بهم من أجل مُحاصرة حيوانات الكنغر التي كانوا يصطادونها، وهي حيوانات تأكل الأعشاب الخضراء الطازجة. وفي الوقت نفسه، كانوا يحرصون على عدم احراق مجموعات الأشجار التي كانت تختبئ فيها الحيوانات. وكان كُل هذا، يجتذب قطعان الكنغر الى مثل هذه الأماكن ويُساهم في زيادة أعدادها. يعكس هذا، الاهتمام الواعي الذي كان يُبديه الصيادين في الحفاظ على امدادات اللحوم عند المُستوى الأمثل. إن هذا الوعي العفوي للصيادين البدائيين لبعض قوانين الطبيعة-فهم العلاقة بين السبب والنتيجة التي تفصل بينها فجوات زمنية طويلة- أمرٌ لافتٌ للنظر، حتى أن ريس جونز Rhys Jones يُطلق على هذل الوضع "زراعة العصا المُشتعلة" fire-stick farming. بالتأكيد، هذه ليست زراعة، بل يُمكن أن نُطلِقَ عليها "التدجين البدائي للحيوانات"، ولكن يُمكننا، من حيث تأثيره على الطبيعة، أن نُقارنه بالزراعة الى حدٍّ ما. فقد خَلَقَ الانسان بيئةً اصطناعيةً جديدة بطريقةٍ مقصودة. حَدَثَ هذا قبل وقت طويل من حلول العصر الحجري الحديث وظهور الزراعة، التي اعتدنا أن نربط بينها وبين ظهور العالَم الطبيعي المؤنسن.
كَتَبَ ميتشيل عام 1848، أحد أوائل مُستكشفي استراليا: "يبدو أن النار والعشب والكنغر والبشر يعتمدون على بعضهم البعضمن أجل البقاء في استراليا، فإذا فُقِدَ احد هذه العناصر، لم يعد بإمكان الأُخرى أن تعيش". ورُغم المُبالغة في هذا التأكيد، الا أنه يُسلط الضوء على وجود نوعٍ من التوازن البيئي في استراليا، يكون فيه الصياد البدائي عُنصراً نشطاً. وباعتبار هذا الصياد جُزءاً من هذا النظام البيئي، فإنه يُنظم تفاعل العناصر الأُخرى لصالحه. ولكن التأثير النَشِط والمُنتظم للانسان على النظام البيئي، يؤثر عاجلاً أم آجلاً على التوازن البيئي. لقد كان حرق العُشب على يد سُكان تازمانيا الأصليين سبباً في اندلاع حرائق دورية، غطَّت مساحاتٍ شاسعة، فحلَّت السافانا محل الغابات الرطبة، مما أدى الى تغيير المناخ وطبيعة التُربة. وأدَّت الحرائق الى تحرير مناطق بأكملها من الغابات الكثيفة (وهو ما كان ميزةً عظيمةً للصيادين في تازمانيا)، ودمَّرَت الغطاء النباتي في مناطق واسعة، وزادت من تآكل التربة. كُل هذا يُشير، الى أن البشر، حتى في المراحل الباكرة من التطور الاجتماعي-الاقتصادي، لم يتكيفوا بشكلٍ سلبيٍّ مع الطبيعة وحسب، بل أنهم أثَّروا فيها أيضاً بشكلٍ نَشِط. ففي سعيهم الى تحقيق أهدافهم الخاصة، وبوعيٍ تام في كثيرٍ من الأحيان، أحدثوا تغييرات بعيدة المدى في البيئة الطبيعية، لم يكن من المُمكن التنبؤ بعواقبها بطبيعة الحال. ولكن مهما كانت الطريقة التي استطاع الناس فيها تعلّم الزراعة في مُختَلَف أنحاء العالَم (نتيجةً لتوافر الطروف الطبيعية والجُغرافية المُواتية، أو بسبب أزمة الاقتصاد الاستحواذي، أو بعض العوامل الأُخرى)، فإنها نشأت بالتأكيد من مُمارسات اللقاط التي وصَلَت الى مُستوىً مُرتفعٍ من التطور. غالباً ما يُنظَرُ الى الاستقرار باعتباره أحد المُتطلبات الأساسية الهامة للانتقال الى الاقتصاد الانتاجي، وهو فعلاً يُسهّل ظهور اقتصاد انتاجي في مجال الانتاج الزراعي، ورُبما بدرجةٍ أكبر، في مجال تدجين الحيوانات. ومع ذلك، هُناك أشكال شبه بدوية للزراعة، تؤدي بحد ذاتها الى الاستقرار. وقد لاحَظَ زيبر N. I. ZIBER "أن هذا النوع من الزراعة البدوية الأصلية يُلائم الحياة البدوية القائمة على الصيد، وبدايات الزراعة، على حدٍّ سواء". إن انتقال المُجتمع الى الاقتصاد الانتاجي، والاستقرار التدريجي، هما عبارة عن عمليتين مُترابطتين وتشترط احداهما الأُخرى. إن الاستقرار الدائم، أو الدوري، لا يُمكنه أن يتحقق الا في ظروفٍ مُواتية تماماً. إن هذه الظروف تحققت، على سبيل المثال، عند الصيادين المُستقرين في الشرق الأقصى والساحل الشمالي الغربي لأمريكا، وربما عند صيادي العصر الحجري القديم الأعلى في أوروبا. ولكن في ظل الوفرة النسبية، لم تنشأ عند صيادي الأسماك والصيادي وجامعي الثمار الحاجة الى الانتقال الى اقتصادٍ مُنتِج. إن تدجين الحيوانات (الكلاب والغُزلان والجَمَل) لا يُحدد الاتجاه الأساسي للاقتصاد، الذي يَظَل من حيث المبدأ، اقتصاداً استحواذياً، بل وأحياناً، ذو طابعٍ وفير. إن الاقتصاد الاستحواذي الوفير، قادر على إعادة انتاج نفسه على مرّ الأجيال دون اتخاذ الخُطوة الحاسمة نحو أشكال النشاط الاقتصادي المُنتِج. ولعل هذا الحال، هو الذي كان سائداً عند الصيادين المُستقرين وشبه المُستقرين في أوروبا في العصر الحجري القديم الأعلى. لم يحدث التحول في الاقتصاد ونمط الحياة الذي كان يعيشه الصيادون وجامعو الثمار شبه الرُحَّل في العصر الحجري الوسيط الا نتيجةً للتغيرات الحادة التي طرأت على الظروف البيئية في ذلك العصر. وقد أدَّت هذه التغيرات في نهاية المطاف، الى حلول أزمة اقتصاد الصيد واللقاط، التي كانت سبباً في انتقال البشر الى الاقتصاد المُنتِج. تحتوي الاثنوغرافيا على مواد غنية تصف مُجتمعاتٍ تقف على عتبة الاقتصاد المُنتِج، والتي لم تعد تعتمد بالكامل على الصيد وصيد الأسماك واللقاط، ولكنها لم تتحوَّل بعد الى مُجتمعاتٍ زراعيةٍ بالكامل. تُوجد العديد من هذه المُجتمعات في أمريكا الجنوبية، حيث يندُرُ وُجود القبائل التي تجهل الزراعة تماماً، وتُمارس أغلبها أشكالاً بدائيةً من الزراعة، دون أن تستبعد تماماً أشكال الاقتصاد الاستحواذي. إن إحدى هذه القبائل، هي قبيلة نامبيكوارا Nambicuara في البرازيل. إن بعض مجموعات النامبيكوارا، غير مُعتادة على بناء المُستوطنات الدائمة وصناعة الفخار. إنها تتحرك في مجموعاتٍ صغيرة، يتألف كُلٌّ منها عموماً من خمس أو ست عائلات، ولكنها أحياناً تتألف من عائلةٍ نوويةٍ واحدة، بعبارةٍ أُخرى، مجموعات Communities اقتصادية نموذجية مُشابهة لمُجتمعات الصيد واللقاط. اعتماداً على الموسم، يلعب الصيد واللقاط الدور الأساسي في اقتصاد النامبيكوارا. وخلال الأشهر الخمسة الماطرة، يعيشون في مُجتمعاتٍ على طول ضفاف الأنهار، ويزرعون قِطَعاً صغيرةً من الأرض. وخلال هذه الفترة، يكون للصيد واللقاط أهميةٌ ثانوية. في موسم الجفاف، يتجولون في السافانا في مجموعاتٍ صغيرة تعمل حصرياً غي الصيد واللقاط. وكما هو الحال بالنسبة للعديد من الصيادين، يشغل الرجال مكانةً مُهيمنةً في مُجتمع النامبيكوارا، حيث يكون على رأس كُل مجموعة، صيادٌ مُحترف، والزوجين يمكثان عند عائلة الزوج virilocal. إن شعب نامبيكوارا، في الأساس، هو عبارةٌ عن صيادين شبه مُستقرين، حيث تُعتَبَرُ الزراعة البدائية اقتصاداً مُؤقتاً. إن شعب سيريونو Sirionó، الذي يقطن غابات شرق بوليفيا، هو مُجتمعٌ لا تزال الزراعة عنده ضعيفة التطور، ويلعب الصيد واللقاط فيه دوراً مُهيمناً. إنهم يعيشون في مُجتمعات Communities يتراوح عدد أفرادها بين 30 الى 120 فرداً. إن هنود الأمازون، الذين درسهم روبرت كارنيرو Robert L. Carneiro (1969)، والذين كانوا يعرفون الزراعة منذ عام 1500 ق.م، لم يستغلوها بشكلٍ كامل. يظهر الاختلاف في درجة أهمية الزراعة عند قبائل المُختلفة. إن شعب أماهواكا Amahuaca، على سبيل المثال، يحصل على 50% من رزقه من الزراعة، ونحو 40% من الصيد، أما صيد السمَك واللقاط فيؤمن 10% منها. ويبدو أنه في الماضي، وقبل استحداث الأدوات المعدنية، لم يكن الطعام المُحصَّل في الزراعة (لكل كيلو كالوري) أكبر بكثير من الزراعة. والواقع، أن مزايا الزراعة وحدها، لا تكفي هُنا لتؤدي الى هيمنة كاملة على الصيد. فالصيد، هو المصدر الرئيسي للبروتينات، وهذا لا يتوافق مع حياة القُرى المُستقرة. إن كُلاً من شعب أماهواكا وسيريونو Sirionó مضطران للتنقل بحثاً عن الطعام، وهذا ما يُحدد نمط حياتهما. والقبائل التي تعيش على طول الأنهار الكُبرى، هي قبائل صيادة للأسماك مُستقرة نسبياً، والاستقرار يُسهِّل من تطوير الزراعة لديها. ومن بين هذه القبائل على سبيل المثال، قبيلة كويكورو Kuikurú على نهر زينغو Xingú الأعلى في وسط البرازيل. إن صيد السمك يُلبي 15% من احتياجاتها الغذائية، وتُلبي الزراعة ما لا يقل عن 80% منها. وفي حين يضم أعضاء مُجتمع Community أماهواكو 15 شخصاً، قد تضم إحدى قُرى كويكورو 145 شخصاً. إن زراعة الحرق والقطع في الأمازون، لا تعني وجود اقتصادٍ مُستقرٍّ صرف، حتى بالنسبة لصيادي أسماك مثل الكويكورو. ولكن الاستيطان بالقُرب من النهر يزيد من دور صيد الأسماك والزراعة، وهذا يُساهم في استقرار السُكّان وتركزهم. وعلى النقيض من ذلك، يؤدي الاستيطان بعيداً عن النهر، الى تعزيز أدوار الصيد واللقاط وتشتت المُجتمع. وهُنا، كما هو الحال في أي مكانٍ آخر في العالَم، فإن التحوّل الى الاقتصاد الانتاجي، يتحدد بدرجةٍ ما من خلال العوامل البيئية. إن زراعة القطع والحرق، الى جانب صيد السمك والصيد واللقاط، أساساً لاقتصاد أغلب سكان البرازيل الأصليين. وكان كثيرٌ منهم قد بدأ للتو في اتقان الزراعة. في نهاية القرن التاسع عشر كان شعب الباكايري Bakairi يقول بأنه يتذكر بأن أسلافه لم يكونوا يعرفون الذُرة والمنيهوت. وكان صيادي قبيلة بورورو Bororo يتعاملون مع محاصيل جيرانهم على أنها هبةٌ من الطبيعة: فكُلما سنَحَت لهم الفرصة، كانوا يقلعون المنيهوت غير الناضج من جذوره ويشوونه في النار ويأكولونه. كان المُزارعون يقطعون الغابات بالفؤوس الحجرية، ويُفتتون التُربة بالعصي، ويستخدمون العصي المُسننة لعمل حُفَرٍ في الأرض لزراعتها، وهي نفس أدوات عمل اللقاط. كانت المُجتمعات، كُل 6-8 سنوات، تنتقل الى أماكن جديدة، لأن التُربة القريبة من المُستوطنات تكون قد استُهلِكَت. وكان دور أشكال الاقتصاد الاستحواذي لا يزال كبيراً. ويحتل العمل الجماعي، في كُلٍّ من الزراعة (وخاصةً إزالة الغابات)،وصيد الأسماك والصيد، دوراً كبيراً، حيث يُشارك فيها رجال المُجتمع Community. كان هذا الاقتصاد الانتقالي عند السكان البرازيليين، في تقسيمه للعمل وأشكال العمل الجماعي، مُشابهاً لاقتصاد الصيادي وصيادي الأسماك وجامعي الثمار النموذجيين. ولعل هيمنة التنظيمات ذات الخط الأبوي Patriclan عندهم، مُرتبطةً بهذا. كانت الأرض مملموكةً للمُجتمعات Communities، ولكن قِطَع الأراضي كانت تُزرَع وتُستَغَل من قِبَل عائلات صغيرة. وكان مكان العائلة في الاقتصاد، أكثر وضوحاً بين المُزارعين الأوائل مُقارنةً بالصيادين. ومع ذلك، غالباً ما كان يتسم الاستهلاك بطابعٍ جماعي ومشاعي. كان المُجتمع Community عند هنود نهر زينغو الأعلى، هو الوحدة الأساسية للانتاج والاستهلاك. وكان العمل الجماعي في الزراعة، هاماً، كما كان الأمر في أماكن أُخرى في البرازيل. ومع ذلك، بحلول نهاية القرن التاسع عشر، ورُبما حتى قبل ذلك بكثير، انقسَمَ المُجتمع Community الى نحو ثلاث الى ثمان عائلاتٍ نووية، لعبت دوراً اجتماعياً-اقتصادياً هاماً. ووفقاً لليف ابراموفيتش فينبيرغ Lev Abramovich Fainberg، فإن تمايز العائلات، كان علامةً على تفكك المُجتمع ذو الخط الأُمومي. في الواقع، كانت العائلات الزراعية الأُولى هذه، عبارةً عن شكل انتقالي من مجموعات الصيادي وجامعي الثمار غير المُستقرة، ووحدات العمل الزراعي الأكثر استقراراً القائمة على القرابة. لم يكتمل بعد، الانتقال من الاقتصاد الاستحواذي الى الاقتصاد الانتاجي. إن وظائف العائلة (ومنها زراعة الأرض على نحوٍ مُشترك)، تُوضح لنا كيف أن هيمنة الزراعة تُحدد البُنية الاقتصادية-الاجتماعية. لم يكن الحال هكذا، ولا يُمكنه أن يكون هكذا في مُجتمع الصيد واللقاط. لذلك، فإن فينبيرغ مُخطئ في افتراضه، أنه يُمكن اعادة بناء مُجتمعات Communities الصيد واللقاط في الماضي من خلال الاستناد الى بيانات مُجتمعات المُزارعين، بناءاً على التشابه الخارجي في شكل الحياة ونمط الاستيطان وتشابه تأمين سُبُل العيش بين الصيادين والمُزارعين في العصر الحجري القديم الأعلى. إن هذين النمطين الاقتصاديين الاجتماعيين، لا يفصل بينهما فجوة زمنية وحسب، بل ويتميزان جوهرياً عن بعضهما من حيث بُنيتهما الداخلية. ويُمكننا أن نُواجه فينبيرغ بكلمات خازانوف: "إن الانتقال الى الاقتصاد الانتاجي وتطور القُوى المُنتجة المُرتبطة به، أدى الى إحداث تغيرات نوعية في حياة المُجتمعات التي تحقق فيها ذلك". وفي أمريكا الشمالية، كانت الخُطوة الأُولى نحو اقتصاد انتاجي قد تم من قِبَل تلك المجموعات (اوجيبوا Ojibwa واسينيبوين Assiniboine) التي لم تكتفِ بحصاد الأرز البرّي، بل كانت على دراية بأساليب زراعته. وكانت قِطَع الأراضي مُلكاً للعائلات التي تعيش عليها. وليس من المُستغرَب أن تبدأ عائلات اوجيبوا في المُطالية بقِطَع الأراضي التي ينتشر فيها الأرز البرّي. وهذه الظاهرة، هي من سمات المُزارعين الأوائل، أي أننا هُنا نتعامل مع مُجتمعٍ على أعتاب الاقتصاد المُنتِج. كما لوحِظَ أن قبائل ساليش Salish الساحلية كانت تخطو خطواتٍ باكرة باتجاه الاقتصاد الانتاجي. لقد أتاحَ لهم صيد السمك التقليدي الى جانب اللقاط، العيش بطريقةٍ مُستقرةٍ الى حدٍّ ما، حيث كانوا يقضون نصف العام في مكان، ونصفه الآخر في مكانٍ آخر، على بُعد مسيرة يومين مشياً على الأقدام. هذا بدوره، سَمَح للنساء برعاية البطاطس المزروعة، والتي استُدخِلَت مؤخراً في الزراعة، دون أن يكون ذلك عائقاً أمام نمط الحياة السابق. لقد تخلّى شعب الإك Ik في شمال أوغندا، تحت ضغط الظروف الخارجية، عن نمط الحياة البدوي الترحالي الذي كان يتبعه الصيادون وجامعو الثمار، وانتقلوا الى الزراعة غير المُستقرة. وحتى وقتٍ قريب، كانت الزراعة شبه البدوية، التي تعتمد على القطع والحرق سمةً تُميّز مجموعات البانتو Bantu في افريقيا الاستوائية. كان يتم بناء مُستوطنة خارج حدود الأرض المُستنفدة، بجوار حقلٍ جديد، ومن ثم بعد فترةٍ من الزمن، ينتقل المُجتمع الى هُناك بكامله. وقد وصَلَت بعض مجموعات الفيدا Veddaلسيريلانكية من الصيادي وجامعي الثمار المُستقرين الى عتبة الزراعة بطريقة القطع والحرق، ربما تحت تأثير جيرانهم السينهاليين Sinhalese الأكثر تطوراً. لقد لوحِظَت بدايات الزراعة، مثل زراعة أشجار الفاكهة والبطاطا البرية، بين صيادي وجامعي الثمار في جزيرة الملايو: السيمانغ Semang، ساكي Saki وسينوي Senoi. إن الصيد عند مُزارعي بابوا غينيا الجديدة وميلانيزيا، على الرغم من أنه ليس ضرورياً بشكلٍ حيوي، الا أنه احتلَّ مكانةً بارزةً في حياتهم. كما كان الماوري Maori في نيوزيلاندا يجمعون بين زراعة البطاطا الحُلوة، وجمع جذور السراخس البرية. إن هذه الأمثلة جميعاً، تُمثل مراحل مُتنوعة من الانتقال من الاقتصاد الاستحواذي، الى الانتاجي. ماذا يحدث في المجال الاجتماعي، في بُنية المُجتمع عند عملية الانتقال؟ من المؤسف أن البيانات المُتاحة لنا، ليست غنيةً كفاية. وقد تم ايراد بعضها أعلاه، وهي تُظهِرُ أن المُجتمع الذي يبدأ هذه العملية، يبدأ في تحولاتٍ اجتماعية مُعينة. فالمُجتمع الزراعي الباكر، يختلف في كثيرٍ من النواحي عن مُجتمع الصيادين وجامعي الثمار. وفقاً لجون واطسون John B. Watson، فإن ادخال البطاطا الحُلوة الى غينيا الجديدة أدى الى تغييرات في التركيبة السُكانية والبُنية الاجتماعية والتكنيك والدين والسحر والأساطير وطبيعة الهيمنة الذكورية. إن حجم مُجتمع Community الصيادين وجامعي الثمار كان يحدّه الاحتياطي المُتاح من الموارد الحيوانية والنباتية في أراضيه. أدى تحسين تكنيكات تحصيل الغذاء وتكثيف الصيد، الى الإبادة التدريجية للحيوانات البرية. ومع ظهور الاقتصاد الانتاجي، ظَهَرَت امكانات غير مُتوقعة لزيادة جودة الغذاء والسيطرة على إنتاجه، وأدّى هذا الى تغييرات ديموغرافية. لقد ازدادت كثافة السُكّان بشكلٍ حاد، كما ازدادت النسبة بين حجم المجموعة، والاقليم الذي تحتله. وصارَت المُجتمعات Communities أكبر حجماً وأكثر استقراراً، على الرغم من أن حجمها كان لا يزال محدوداً بمساحة الأراضي وخصوبة الحقول. وهُناك ميل نحو الحياة المُستقرة، التي تعوقها في البداية الزراعة الكثيفة شبه المُستقرة. ويبلُغ حجم المجموعات المحلية من الصيادين وجامعي الثمار من 50-100 شخص، في حين بَلَغَ متوسط حجمها بالنسبة للمُزارعين من 100-150 شخص، و350-400 شخص كحد أقصى. وأن ارتفاع مُستوى التطور الاجتماعي والثقافي، هو ذو علاقة طردية بهذه العمليات. وازداد التكامل والاندماج الاجتماعي مع نمو المُجتمعات Communities وازدياد كثافة السُكّان. وازداد التفاعل الاجتماعي والثقافي بينها،وتبدأ بالنشوء مُجتمعات اثنية أكبر وأكثر اندماجاً. يُمكننا أن نُلاحظ هذه العمليات الاجتماعية، عند شعب الباينينغ The Baining، وهو مُجتمع زراعي باكر في جزيرة بريطانيا الجديدة (فلاديمير كابو 1964). يُمارس شعب الباينينغ زراعة الحرق والقطع لزمنٍ طول، وهي واحدة من أقدم أشكال الزراعة في منطقة الغابات الاستوائية، باستخدام تكنيك العصر الحجري الحديث الحجرية والخشبية. وهم ينتقلون من مكانٍ الى آخر عندما لا يعود بامكان الأرض انتاج المحصول-ما عدا تلك المُسمدة برماد الشجيرات المحروقة، وعادةً ما يحدث ذلك بعد عامين أو ثلاث من استغلال قطعة الأرض لأول مرة. إن الطابع المُتخلف لزراعتهم، وانخفاض خصوبة التُربة في مناطقهم الجبلية، تمنعهم من الانتقال الى الاستقرار. عادةً ما تقع الأراضي التي يزرعون فيها اليام والبطاطا الحلوة والقلقاس Taro، بالاضافة الى الموز وقصب السكر، بالقُرب من المُستوطنة. ولكن، إن لم تكن هُناك أرض جيدة قريبة، فإنهم يبحثون داخل حدود أراضيهم عن مكانٍ جديدٍ مُناسب، وأحياناً بعيداً عن الأرض السابقة، ثم يُفككون أكواخهم البدائية، وينقلونها بالقُرب من أرضهم الجديدة. وبعد أن يجدوا قطعةً مُناسبةً لتنظيفها، يطقع البانينغ الأشجار ويقصون جذوعها، ويتركونها لتجف، ثم يحرقون الأعشاب الجافة. وبعد ذلك، يزرعون قطعة الأرض إما كوحدة واحدة، أو على شكل أثلام وفقاً لعدد الأكواخ في المُستوطنة وحجم كُل عائلة تعيش فيها. ورُغم أن تنظيف الأرض واعدادها يتم يشكل جماعي، فإن العائلات تزرع وتحصد أراضيها بشكلٍ مُنفصل، باستخدام عصاً بسيطة، وهي أداة قديمة تُميِّز اقتصاد اللقاط. كانت الزراعة بالحرق والقطع في أقدم أشكالها البدائية، كما لوحِظَت عند شعب الباينينغ، تُمارَس في العصر الحجري الحديث الأوسط في العديد من المناطق التي تُغطيها الغابات حول العالَم. ولقد انتَشَرَ هذا النمط اللاعقلاني التدميري من الزراعة، على نطاقٍ واسع، في الماضي القريب في جنوب شرق آسيا (وربما من هنا شهد انتقاله الى اوقيانوسيا) ومدغشقر وافريقيا وأمريكا الجنوبية والوُسطى. فكانت الغابات تُزوال ثم تُحرَق في موسم الجفاف. وفي بداية موسم الأمطار كانت المحاصيل تُزرَع على الأراضي المُغطاة بالرماد. وبعد ثلاث سنوات، تقل خصوبة الأرض بسرعة، فينتقل المُزارعون الى مكانٍ آخر. ومن بين الأسباب المُحتملة لاختفاء حضارة المايا القديمة، استنفاد التُربة نتيجةً لهيمنة الزراعة القائمة على الحرق والقطع. وقبل زمنٍ ليس بالبعيد، كان هذا الشكل الواسع منزراعة الأراضي، يُطعم نحو حوالي عشرين مليون انسان من سُكان العالَم. إن المجموعات الإقليمية، هي المالك الرئيسي للأراضي عند شعب الباينينغ. وفي حدود مناطق هذه المجموعات، يتم تقسيم الأراضي بين المُجتمعات Communities المُكونة من عائلة مُمتدة واحدة أو أكثر والتي توجد بمعزلٍ عن بعضها الى هذا الحد أو ذاك. ويُمكن لكل عائلةٍ مُمتدةٍ حسب تقديرها، اختيار قطعةٍ فارغةٍ غير مأهولةٍ من الأرض، وتنظيفها واستخدامها. ولكن لا يُعتَرَفُ بحقها في الأرض الا اذا استمرت في زراعتها. عندما تتوقف الأرض عن الانتاج، وتتخلى عنها العائلة والمُجتمع، تصير مُتاحةً للمجموعة الاقليمية بأكملها. إن كثافة السكان عند الباينينغ مُنخفضة للغاية. يُخبرنا ف. بيرجر F. Burger، أنه يكون على أحد أفراد الباينينغ أن يصعد الجبال لساعات لزيارة مُستوطنات العائلات المُمتدة، المُتناثرة هُنا وهُناك. قد تتألف مُستوطنة العائلة المُمتدة من كوخٍ واحد أو عدة أكواخ، كُلٌّ منها يؤوي عائلةً نوويةً واحدة أو عدداً منها. وعادةً ما يكون لكل عائلةٍ موقدها الخاص، وهي مركز الحياة العائلية. وتتكون بعض المُستوطنات من عشرة الى اثني عشر كوخاً، ويؤلف جميع سُكان مثل هذه المُستوطنة، العائلة المُمتدة. ويُحافظ أفراد العائلة المُمتدة على التواصل في جميع تحركاتهم، وبالتالي يُشكلون مُجتمعاً Community واحداً. كان شعب الباينينغ، وهم السُكان الأصليون لشبه جزيرة غزال، والمُتكلمون بإحدى اللغات البابوية، قد دَفَعَهم الميلانيزيون الى المناطق الداخلية الجبلية. ولم يكن الصيد بالأسلحة البدائية مثل الرماح والهراوات أو جمع النباتات البرية، كافياً لتأمين غذائهم، الأمر الذي أدى الى ظهور أزمة اقتصاد الصيد واللقاط. وبعد أن تعرفوا على أبسط أساليب الزراعة من الملاينيزيين، صاروا بالتدريج مُزارعين. وأصبَحَ الصيد فرعاً ثانوياً مُساعداً في اقتصادهم. ووفقاً لريتشارد باركنسون Richard Parkinson، فإن شعب الباينينغ كان، في تطوره الثقافي، أكثر الشعوب بدائيةً من بين كُل الشعوب التي لاحظها في اوقيانوسيا. وهذا لا ينطبق فقط على افتقار مخزونهم الثقافي، وعدم وجود السهم والقوس عندهم، بل ينطبق كذلك على تنظيمهم الاجتماعي. إن مجموعاتهم المحلية الصغيرة، وكثافتهم السُكانية المُنخفضة، وبُنيتهم الاجتماعية وافتقارهم الى التنظيم القَبَلي، تُذكرنا بالسكان التازمانيين وغيرهم من الصيادين وجامعي الثمار. إن مجموعات قبيلة الباينينغ الاقليمية، وهي عدد من المُجتمعات Communities لا تربطها سوى صلة اللغة والاقليم، والأسماء المُشتركة التي تُطلقها على نفسها، والمٌشاركة الجماعية في الحرب، تُشبه للغاية القبائل التازمانية من الناحية التصنيفية. ولا يختلف التازمانيون عنهم، الا في اجتماعاتهم الدورية من أجل الصيد الجماعي أو مُمارسة الطقوس وغير ذلك من الأنشطة. لا نرى أن القبيلة التازمانية أو الباينينغية تعمل ككيان مؤسسي بأي معنىً تنظيمي. إن طبيعة علاقات مُلكية الأراضي، تتشابه وتشترك بين شعب الباينينغ والشعوب الصيادة. فعد الطرفين، لا يوجد حق للعائلة على الأرض، الا اذا استخدمتها (زراعة أو صيد)، ثم تعود مُلكيتها للمُجتمع. لقد كان هُناك، ولا يزال، اختلافات جوهرية بين شعب الباينينغ وشعب تازمانيا، مثل تكنيك العصر الحجري الحديث عند الباينينغ، وتكنيك العصر الحجري القديم عند التازمانيين. ولكن الفرق الأهم بينهما، يتلخص في الزراعة. ففي حين لم يكد يَبلُغ الباينينغ مُستوى الاقتصاد الانتاجي، الا أن هذه الخُطوة، كانت كفيلةً بتغيير مُجتمعهم. فقد نشأت حالة من الاستقرار النسبي لم تكن من سمات مُجتمعات الصيد واللقاط في منطقتهم الجُغرافية، ومعها نشأت مساكن أكثر استقراراً، وفي بعض الحالات أُقيمَت منازل طويلة يسكن كُل منها عائلةٌ مُمتدة. ولقد حافَظَت الزراعة والاستقرار النسبي، الى جانب البيئة الجبلية وانخفاض كثافة السكان، على عُزلة المُجتمعات Communities. أما الميل الى الاندماج الاجتماعي والتقارب الذي يُميز المُزارعين، فهو بالنسبة للباينينغ، مسألة تتعلق بالمُستقبل البعيد. وكما قُلت، فإن الفارق الوحيد بين القبيلة التازمانية وجماعة الباينينغ الاقليمية، هو المُشاركة في الصيد الجماعي والطقوس وغيرها من الطقوس المُشتركة. أما الباينينغ المُزارعين، فلم يُنظموا الصيد الجماعي، وكان أفراد الجماعية الاقليمية يجتمعون معاً فقط من أجل الحرب. ورُبما كانوا أكثر فرديةً من الصيادين. وقد ظل مُجتمع Community الباينينغ قائماً، ولكنه كان هشّاً، على عكس مُجتمع الصيد واللقاط. ولقد تلاشَت أهمية المُجتمع Community هُنا، وحلَّت محله العائلة المُمتدة باعتبارها المٌستخدِم الرئيسي للأرض، ومركز اعادة الانتاج الاجتماعية. وفي بعض الأماكن، تحوَّلَت العائلة المُمتدة نفسها الى مُجتمعات Communities مُستقلة. وعلى أساس الزراعة، وإمكانية الفائض الناتج عن ذلك، أو بعبارةٍ أُخرى، على أساس التمايز المادي، ظَهَرَت أولى علامات الانقسام الطبقي عند الباينينغ، وصارَ زُعماء العائلات المُمتدة الأكثر ثراءاً، ذوي تأثيرٍ ليس فقط في مُجتمعاتهم، بل وخارج حدودها أيضا. وهذه العملية الغريبة تماماً عن مُجتمع الصيد واللقاط، هي سمة من سمات الزراعة الباكرة. إن ظهور بُنية اجتماعية بدائية، يُعَد من أهم الشروط المُسبقة للاقتصاد الانتاجي. فالاقتصاد الانتاجي نفسه، باعتباره حافزاً للتحولات الاجتماعية الجوهرية، ينشأ من مُستوىً مُعين من تطور القاعدة الاجتماعية. وفي حين أن الأستقرار ليس ضرورياً للانتقال الى الزراعة، الا أن وجود قدر ما من الاستقرار هو شرط أساسي: ثبات البُنية الاجتماعية، والارتباط الوثيق بين المُجتمع Community واقليمٍ مُعين، وتكيُّف النشاط الاقتصادي مع الدورة الطبيعية. جميع هذه الظواهر، التي لولاها لا يُمكن الانتقال الى الاقتصاد الانتاجي، تؤمنها البُنية النموذجية لمُجتمع الصيد واللقاط الذي يقع على شفا الانتقال الى الزراعة. والعناصر الأساسية لهذه البُنية، هي المُجتمع Community، وهي مجموعة محلية مُستقرة نسبياً ودائمة، بوصفها مركز مُلكية الأرض ووظائف الانتاج الرئيسية. إن المُجتمع Community، في حين يُسيطر على اقليمٍ مُعين يؤمن له موارده الحيوية، ينقسم موسمياً الى جماعاتٍ اقتصادية وفقاً للظروف البيئية. والواقع، أن كُل، أومجموع الجماعات الاقتصادية، هو نفسه المُجتمع Community الذي يتكيَّف بشكلٍ نَشِط مع ظروف النشاط الاقتصادي. الجماعة الاقتصادية غير ثابتة من حيث حجمها، وديناميكيتها مشروطة بيئياً. وهذا شكل من أشكال التكيّف النشط مع الظروف المُتغيرة للمكان والموسم، الذي يُميز المُجتمع البدائي، الذي لا يزال يمر في مرحلة الاقتصاد الاستحواذي. لقد كَتبت في مكانٍ آخر، وصفاً مُوسعاً لهذه العناصر الأساسية لبُنية الصيادين وجامعي الثمار النموذجية، الذين يقفون على أعتاب الانتقال الى الزراعة. إن المُجتمع ما قبل الزراعي، ينقسم الى جماعاتٍ وفقاً لمعايير العمر والجنس. وأخيراً، تُعتَبَر القبيلة مجموعةً من المُجتمعات Communities ومالكاً أعلى للأرض التي تُسيطر عليها كُل هذه المُجتمعات. وبالرُغم من كونها تجمعاً اثنياً، الا أنها تُظهِر بعض السمات الاجتماعية-الاقتصادية، وأهمها، مُلكية الأرض. إن جميع هذه العناصر المُكونة لبُنية مُجتمع الصيد واللقاط تُشكل في مجموعها الأساس الاقتصادي-الاجتماعي للاقتصاد الانتاجي في طور التكوين. وفي هذه المجموعة المُعقدة من الظواهر، من الضروري أن نُعرِّفَ ماهية المُجتمع Community. إنه الوحدة الانتاجية الأساسية للمُجتمع ما قبل الزراعي، والتي تكيَّفَت على النحو الأمثل مع الظروف البيئية. هذه المؤسسة الاجتماعية، التي ورثها المُجتمع الزراعي الباكر من المُجتمع ما قبل الزراعي، هي واحدة من أهم الشروط المُسبقة للاقتصاد الانتاجي. إن البُنية الاجتماعية تتغير بالكامل، ولكن بالتدريج مع الانتقال الى الزراعة والتغير في أشكال التكيَّف الاجتماعي، ويُمكن أن نلاحظ هذه التغيرات النوعية، في المُجتمع Community قبل كُل شيء. إن البُنية الاجتماعية لصيادي نامبيكوارا الزراعيين، لا تزال تُحافظ على بعض الخصائص المُرتبطة بالاقتصاد الاستحواذي. تنقسم مُجتمعاتهم Communities في أوقاتٍ مُعينةٍ من العام الى جماعاتٍ اقتصادية مُتنقلة وغير مُستقرة، تُشبه مُجتمعات الصيادين النموذجية. إن ما يُسمَّى بالعائلات لدى هنود منطقة زينغو الأعلى، هي شكل انتقالي بين مجموعات الصيادي وجامعي الثمار، والجماعات الانتاجية التي تُميّز المُجتمع الزراعي الباكر. يختفي نظام المجموعات الاقتصادية التي تعمل على التكيَّف مع الظروف ما قبل الزراعية، بعد اكتمال الانتقال الى الزراعة، ويحل محلها أشكال أُخرى من التنظيم الانتاجي القائم على التقسيم الداخلي للمُجتمع، وفقاً لمعايير العُمر والجنس والعائلة. تقوم المجموعات الاقتصادية أيضاً على أساس انقسام المُجتمع Communities الى عائلات فردية. ولكن على النقيض من الجماعات الانتاجية في المُجتمع الزراعي الباكر، فهي ليس مُجرّد جماعات انتاجية، بل تُشكل في مجموعها المُجتمع Community نفسه. وتلعب العائلة الفردية دوراً أكثر وضوحاً في بُنية المُجتمع الزراعي، نتيجةً لاختفاء المجموعات الاقتصادية التي تُميز المُجتمعات ما قبل الزراعية. هذا هو السبب في أن العائلات في المُجتمعات الزراعية الباكرة، تميل الى أن تكون ذات حجم أكبر (مُمتدة) من تلك الموجودة في مُجتمعات الصيد. إن الشرط المُسبق الأكثر أهميةً للاقتصاد الانتاجي هو تطور المُلكية المشاعية لوسائل الانتاج الأساسية، أي الأرض. إن البُنية الهرمية لعلاقات مُلكية الأرض (المُلكية القَبَلية، مُلكية مُجتمعات Communities مُعينة) والتي تُميز المُجتمع ما قبل الزراعية، قد ورثها المُزارعون الأوائل، ثم تغيرت وتحولت أثناء عملية تغير البُنية الاجتماعية وعملية التمايز الاجتماعي. إن طبيعة علاقات الانتاج والتبادل، وتقسيم العمل، وأدوار الرجال والنساء في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والطقوسية، وحركية السكان، كُلها تتغير مع الانتقال الى الاقتصاد الانتاجي. ولكن، بالتأكيد، كانت جميع الشروط المُسبقة لهذه التغيرات، موجودةً في العصر السابق. يؤدي التحول الى الاقتصاد الانتاجي، الى تحول مُجتمع الصيادي وجامعي الثمار التقليدية بطُرُقٍ مُتنوعة، تبعاً لنمط الاقتصاد الانتاجي. على سبيل المثال، كانت قبيلتان هنديتان في أريزونا، قبل الاستعمار الاوروبي، البيما Pima والباباغو Papago تجمعان بين الزراعة والصيد. كان الاقتصاد الزراعي لأولى هاتين القبيلتين، تعتمد على الري، والثانية تعتمد على هطول الأمطار. ونتيجةً لذلك، فقد طورتا أشكالاً مُختلفةً من التنظيم الاجتماعي: كان لدى البيما مُستوطنات كبيرة مع وجود ميلٍ الى التوحّد السياسي، اعتماداً على وجود نظام ري واحد، بينما كانت قُرى البابغو أصغر حجماً، وذات تنظيم سياسي غير مُتبلور. استمرَّت بعض مجموعات الباباغو في مُمارسة الزراعة البدائية شبه البدوية لفترةٍ طويلةٍ من الزمن. وبالتالي، فإن تنظيم البابغو الاجتماعي، على عكس البيما، قد حافَظَ على العديد من سمات التنظيم الاجتماعي النموذجية المُرتبطة بالاقتصاد الانتقالي. إن العناصر التي تتراكب لتُشكل التنظيمات الاقتصادية الثقافية المتنوعة، مثل الصيد واللقاط، وحصاد النباتات البرية، والرزاعة، مُتنوعة ومُختلفة، ويتبلور نظام الروابط الاجتماعية حول هذه العناصر بطُرقٍ مُختلفة بحيث تجعلها تعمل بطُرقٍ مُختلفةٍ أيضاً. لقد نَجَحَت بعض الشعوب في الوصول الى مُستوىً مُرتفعٍ نسبياً من التطور الاجتماعي-الثقافي على أساس الاقتصاد الاستحواذي. ومن بين هؤلاء، الهنود الذين يقطنون الساحل الشمالي الغربي لأمريكا وجنوب فلوريدا، والأليوت Aleuts والايتلمين Itel men، والتشوكشي Chukchi الساحليين والكورياك، وبعض مجموعات الاسكيمو، والغيلياك Gilyaks. وبَلَغَ تطور المُلكية والطبقية الاجتماعية مدىً أبعد في بعض الأماكن، حتى أنه من يُمكن التحدث عن تفكك العلاقات المشاعية البدائية وبداية تشكُّل الطبقات. إن هذا يسمح لنا بوضع هذه الشعوب، على نفس المُستوى مع مُمثلي أشكال الاقتصاد الانتاجي الباكرة. ويُمكن تفسير ذلك من خلال وجود شكل خاص من أشكال النشاط الاقتصادي: صيد السمك المُستقر، وصيد الثديات البحرية. والواقع، أن ظروفهم البيئية الاستثنائية التي عاشوا فيها، هي التي تُفسر لماذا بلَغَت هذه الشعوب وحدها مُستوى المُلكية والتمايز الطبقي، والتي لا زالت بعيدةً عن الاقتصاد الاستحواذي. يلعب الفائض الدوري من مُنتجات الصيد، والتخزين الشتوي، دوراً أساسياً. كما أن هذه الظروف تؤدي الى استقرارٍ راسخ، وهو أمر غير مُمكن بالنسبة للاقتصاد الاستحواذي، سوى للصيادين الذين يعيشون ظروف استثنائية مواتية جداً. كان الأوروبيون في العصر الحجري الحجري القديم الأعلى صيادين مُستقرين كُلياً أو موسمياً، ويَبرُزُ شعب آينو Ainu في هوكايدو Hokkaido اليابان مثالاً مُعاصراً على الاقتصاد الاستحواذي من النمط المُختلط، القائم على صيد السمك وصيد حيوانات الغابة (الدببة والغزلان). كان سمك السلمون هو الغذاء الأساسي لشعب الآينو والغيلياك وسكُان الساحل الشمالي الغربي، والذي يتوافر موسمياً بأعداد هائلة في الأنهار الساحلية. ولعلنا نرى تشابهاً في هذه الدورية، ووفرة الموارد، مع الحصاد الدوري للمُنتجات الزراعية. فقد بَلَغَ تكنيك صيد الأسماك عند هذه الشعوب، مُستوىً مُرتفعاً من التطور، الأمر الذي جَعَلَ صيدهم يصل الى حدٍّ تجاوزَ صيد الأسماك البدائي عند سكان استراليا الأصليين، على سبيل المثال. كان الهنود يُخزنون لفصل الشتاء، ما يصل الى 1000 سمكة سلمون لكل عائلة. ووفقاً لإيروخيم ابراموفيتش كرينوفيتش Erukhim Abramovich Kreynovich، قامَت إحدى عائلات الغيلياك باصطياد 3840 سمكة سلمون لفصل الشتاء، وحَصَلَ كُل فرد من أفراد العائلة على 400 سمكة، وتُرِكَ حوالي 2000 منها للكلاب. لقد كان هذا الشعب، "يحصدون" السمك "حصداً". وعلى النقيض من ذلك، لم يكن الصيادون البدائيون في الاقتصاد الاستحواذي يجمعون هذا القَدَر الكبير من الأسماك. إن هذا المُستوى المُرتفع من التطور في الانتاج والاستهلاك، والذي لا يُمكن مُقارنته الا بمُستوى الشعوب ذات الاقتصاد الانتاجي، هو الشرط الذي أدّى الى التمايز في المُلكية والطبقات، وبروز شكل باكر من العبودية والتبادل البضاعي النَشِط. فضلاً عن ذلك، كان هؤلاء الهنود يزرعون التبغ، ويُربون الكلاب للحصول على جلودها، ويصنعون أدواتهم من النحاس. وهذا يُميزهم بشكلٍ حاد، عن مُمثلي الاقتصاد الاستحواذي، النموذجيين. لقد طوّرَ صيادو الأسماك والثديات البحرية المُستقرون، بُنيات اقتصادية من نمطٍ خاص، ومن المُستحيل عدم التمييز بينهم وبين الصيادين وجامعي الثمار النموذجيين. إنهم يُشبهون كثيراً الشعوب التي تعتمد على اقتصادٍ مُنتِج. ويُمكن اعتبار أن صيد الأسماك والثديات البحرية المُنتِج في ظل ظروف الاستقرار، على أساس تكنيك صيد مُتطور، ووجود فائض كبير من الانتاج، هو شرط مُسبَق لظهور المُلكية والتمايز الطبقي بين الهنود على الساحل الشمالي الغربي. كان من المُستحيل أن يحدث ذلك، في ظل الظروف التي تعيش فيها المُجتمعات ذات أشكال الاقتصاد الاستحواذي. ومن الجدير بالذكر، أن هذا النمط من الاقتصاد الاستحواذي، كان على الأرجح، مُنتشراً على نطاقٍ واسع في الماضي، أكثر مما هو عليه اليوم. وهذا ما تؤكده على سبيل المثال، الثقافات الأثرية في العصر الحجري الحديث الشمالي، أي ثقافة صيادي الأسماك والثديات البحرية المُستقرين في الشمال، حيث تم فيها، خلق فائص مُنتجات كبيرة، وعلى هذا الأساس تطوَّرَ التمايز الطبقي. واذا أخذنا كُل هذا في الاعتبار، فمن الصحيح، على ما يبدو، أن نتحدث عن خطين رئيسيين لتطور الاقتصاد الاستحواذي. الأول، هو الخط المُعتاد. والثاني، لا ينشأ الا في ظل ظروفٍ خاصة. يتضمن الأول أفاقاً أكثر، لأنه يؤدي في التحليل النهائي الى نشوء اقتصاد مُنتِج، وبالتالي، الى نشوء أشكال اجتماعية جديدة. أما الثاني، فهو يُشكّل نوعاً من الزقاق المسدودة، دون أن يؤدي الى المرحلة التالية من التطور الاجتماعي-الاقتصادي. إن البحث الأركيولوجي في مُختلف أنحاء العالَم، يسمح لنا بتتبع الخط الرئيسي للتطورمن الصيد واللقاط، الى الرزاعة وتربية الحيوانات، من خلال مُلاحظة حياة المُجتمعات الملموسة. وتُظهر لنا الاثنوغرافيا والأركيولوجيا، على حدٍّ سواء، أن الشروط المُسبَقَة لهذا الانتقال كانت موجودةً في مراحل الاقتصاد الاستحواذي. وقد كَشَفَت أعمال التنقيب التي قامَ بها الأركيولوجي ريتشارد ماكنيش Richard MacNeish في تيواكان Tehuacán في المكسيك، في عددٍ من الكهوف، عن طبقات ثقافية تعود الى الألف الثانية عشرة قبل الميلاد، توثق التطور المُتواصل للحضارة الأمريكية الوسطى، منذ نشأتها وسط مُجتمعات صيادي وجامعي ثمار شبه بدوية، حتى ازدهارها من الألف الأولى قبل الميلاد الى الألف الأولى بعد الميلاد. واعتمَدَت هذه الحضارة في أوجها على الزراعة، التي تُبيّن أعمال التنقيب،، أنها نشأت في الألف السابعة والسادسة قبل الميلاد، على أساس من اللقاط المُتخصص المُتطور للغاية. وكان جامعو الثمار والصيادين في تيواكان يتنقلون في منطقةٍ محدودةٍ نسبياً. وكان أغلب المواقع مأهولةً موسمياً فقط، ولم تكن تُغطي أكثر من 30 متراً مُربعاً. ويخلص ماكنيش، الى أن عدد العائلات التي سكنت في الموقع، في وقتٍ واحد، لم يتجاوز العائلتين أو ثلاث. وفي بعض المواقع، كان عدد العائلات التي سكنت الموقع يتراوح بين 3-8 عائلات. وفي موسم الجفاف، كان الناس يرحلون في مجموعات صغيرة الى ذلك الجُزء من ارضيهم التي تتوافر على الطعام. أما في غير هذا الموسم، فقد كانوا يعيشون حياةً مُستقرة. تغيَّرَ هذا مع بداية الزراعة. فمُجرَّد حراثة الأرض، تربط الناس بأماكن مُعينة. أما آخر المُستوطنات الموسمية في الكهوف، فتعود الى الألف السابع قبل الميلاد، وكان سُكانها لا يزالون صيادي وجامعين للثمار. وفي المرحلة التالية (الألف السابع الى الخامس قبل الميلاد)، ظَهرت اشاراتٌ على وجود زراعة النباتات، وانتَقَلَ الناس تدريجياً، في سياق تطوّرٍ تطويل، من الكهوف، الى المُستوطنات الزراعية المُستقرة دوماً. ولكن، حتّى الألف الرابع قبل الميلاد، ظلَّ الصيد واللقاط يلعب دوراً مُهيمناً في اقتصادهم كما كان الأمر من قبل. استغرَقَ نشوء الاقتصاد المُنتِج في أمريكا الوسطى من 3 الى 4 آلاف عام، من الألف السابع وحتى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد. وعلى النقيض من العالَم القديم، حيث لعب تدجين الحيوانات دوراً هائلاً منذ بداية الاقتصاد المُنتِج، وكانت مجموعة النباتات المزروعة صغيرةً نسبياً، كان العالَم الجديد يتمتع بتنوعٍ هائلٍ من النباتات المزروعة، في الوقت الذي كانت فيه تربية الحيوانات قليلة. وكان لهذا تأثيراً كبيراً على تطور حضارة أمريكا الوسطى. وتُظهر كشوفات الأركيولوجيين أن الحضارة المتطورة في أمريكا الوسطى، لا تدين أصولها الى مدينة اطلنطس الأسطورية، أو الكائنات الفضائية التي زارت الأرض، بل الى التطور البطئ والتدريجي والمُتواصل، انطلاقاً من الظرف البدائي الذي كان مشروطاً بالزراعة. وقد اكتَشَفَ الأركيولوجيين على ساحل البيرو، مزيجاً من صيد السمك وصيد الثديات البحرية واللقاط والزراعة (زراعة الذرة بالدرجة الأُولى) في الألف الثالث والثاني قبل الميلاد. وهُنا أيضاً، تطوَّرَ الاقتصاد المُنتج من اقتصاد استحواذي. وقد أسفَرَت الدراسات الأركيولوجية التي أجراها فاديم ماسون في آسيا الوسطى، عن أدلِّةٍ على وجود مُزارعين قُدماء لعبت عناصر الاقتصاد ما قبل الزراعي عندهم دوراً هاماً. وقد كَشَفَت حفريات جيتون عن مُجتمعٍ Community مُستقر، يتكون من عائلاتٍ صغيرة والتي كانت تشتغل بالزراعة وتربية الحيوانات بالاقتران مع الصيد. وفي أريحا Jericho (الألف السابع قبل الميلاد) وإريدو Eridu في سومر (الألف الخامس قبل الميلاد) وأماكن أُخرى في الشرق الأدنى، اكتُشِفَ نوع مُماثل من المُجتمع الزراعي الباكر. وتطور نوع من الاقتصاد الزراعي المُستقر مُقترناً مع الصيد واللقاط في شاتال هايوك Çatal Hüyük (في الألف السابع الى السادس قبل الميلاد). تُشير الحفريات الأركيولوجية في شانيدار Shanidar وأماكن أُخرى الى أن ولادة اقتصاد مُنتِج يجمع بين تربية الحيوانات والزراعة، قد حَدَثَ في تلك المنطقة التي كانت مملوكة للصيادين وجامعي الثمار في الفترة من الألف العاشر الى الألف الثامن قبل الميلاد. كان النطوفيون في فلسطين والأُردن في العصر الحجري الوسيط (الألف العاشر الى التاسع قبل الميلاد)، وهم صيادين وصيادي سمك، يحصدون الحبوب البرية بانتظام باستخدام سكاكين صوانية، وربما كانوا يزرعون الحبوب بأنفسهم. لقد كانوا في فترةٍ وكأنها على أعتاب الاقتصاد المُنتِج. وكانوا، مثلهم مثل صيادي وجامعي الثمار في تيواكان، يعيشون في الكهوف، ولكن من الواضح أنهم كانوا أكثر استقراراً. لقد دامَ عصر الاقتصاد شبه الزراعي وشبه الرَعوي الذي كان يعتمد بشكلٍ رئيسي على الصيد واللقاط في هذه المنطقة، حوالي ثلاثة آلاف-أربعة آلاف سنة. كانت مجموعات الصيادين وجامعي الثمار في العصر الحجري القديم في الشرق الأدنى، تتألف من 15-20 شخصاً، وكانت كثافة السكان أقل 0.1 لكل كيلومتراً مُربعاً. وظلَّت المساكن الكهفية في المراحل الباكرة في الزراعة، ولكن الى جانبها، كما هو الحال في أمريكا الوسطى، ظَهَرَت مُستوطنات دائمة من الأكواخ الأرضية. كانت مثل هذه المستوطنات، تضم من 50-100 شخص، وكانت كثافة السكان أعلى. وقد اضطرَّ الرعي هذه المجموعات الى الانتقال لى مواقع مُنفصلة عن المستوطنات الرئيسية بعد الحصاد. وكانت مثل هذه المواقع المعيشية المؤقتة هي الكهوف، لتي كانت تُستَخدَم كمساكن للصيادين الأوائل. إن الحفريات التي أجراها الأركيولوجي الأمريكي تشيستر غورمان Chester Gorman في كهف سبيريت Spirit Cave في شمال تايلند، تسمح لنا بتتبع التحول التدريجي هُناك، من الصيد الى الزراعة الباكرة في الألف العاشر الى السادس قبل الميلاد. وقد أظهَرَت الطبقة الثقافية السُفلى بقايا من البرقوق والفاصوليا والبازلاء والتنبول betel وغيرها، ودلائل على زراعتها. وقد تم تأريخ هذه الطبقة بالكربون المشع الى 9180 سنة قبل الميلاد. وكانت المنطقة تحتوي على أدوات حجرية من العصر الحجري الوسيط من النمط الهوابيني Hoabinhian.وفي الطبقات الأحدث، عُثِرَ على بذور نباتات أُخرى. وعلى هذا، فإن الاقتصاد المُنتِج في البر البرئيسي لجنوب شرق آسيا، لا يتأخر عن نظيره في الشرق الأدنى أو أمريكا الوسطى. ومن اللافت للنظر، هذا التزامن بين مراحل الاقتصاد المُنتِج الأولية في ثلاث مناطق مُتباعدة جداً من العالَم. إن العمليات التي كُنت أناقشها، قد حَدَثَت في أوروبا أيضاً. يقول يوري سيمينوف: "إن الزراعة في أوروبا، وخاصةً في مناطقها الشمالية، تسبقها... مرحلة تراكمية طويلة من النضوج البطيء وظهور الثثقافة في أعماق أسلوب حياة صيادي المنطقة الجبلية القديم". لقد تم الكشف عن ثقافات أثرية ذات اقتصاد مُختَلَط، حيث لم تلعب فيها الأشكال الانتاجية بعد دوراً رائداً، وحيث تم الجمع بين الصيد المُكثف واللقاط وصيد الأسماك مع الزراعة الباكرة وتربية الحيوانات. استغرَقَ الانتقال الى هيمنة الاقتصاد المُنتِج في أوروبا حوالي 3000 عام. وقد أظهَرَت الحفريات التي أُجرِيَت في مُستوطنة كولن ليندنثال Köln-Lindenthal في ألمانيا، التي تعود الى العصر الحجري الحديث، أن سكانها كانوا في الأصل يزورون حقولهم فقط لزراعة وحصاد الحبوب. وقد أُقيمَت مخازن الحبوب بجوار الحقول، وكانت المُستوطنات تقع في أماكن أُخرى. وفي وقتٍ لاحق، ظَهَرَت الى جانب مخازن الحبوب مساكن مؤقتة تحت أرضية، ثم انتَقَلَ اليها المُجتمع Community بأكمله الذي يتراوح عدد أفراده من 150 الى 200 شخص. وقد انتَقَت قبائل الدانوب في أوروبا الوسطى تُربةً خصبةً وخفيفة لمستوطناتها وحقولها. ومع استهلاك خصوبة الحقول بمرور الوقت، هجروها ولجأوا الى حقولٍ جديدة. إننا نجد هُنا حالةً نمطيةً لزراعةٍ باكرةٍ شبه بدوية، والتي لا تزال أُسسها الاجتماعية-الاقتصادية قريبةً في كثيرٍ من النواحِ من المراحل السابقة القائمة على الاقتصاد الاستحواذي. كانت الزراعة المُسماة شويند Schwende، هي الشكل الأول للزراعة في سكاندنافيا، والتي فيها يتم نقل الحقول الى وسط الغابة كُل سنة. وفي المراحل الباكرة من المجموعات التريبيلية (كوكوتيني تريبيليا Cucuteni–Trypillia) في جنوب شرق أوروبا، كانت الزراعة وتربية الحيوانات مُقترنةً بالصيد، الذي كان لا يزال يلعب دوراً كبيراً، كما هو الحال في الشرق الأدنى وآسيا الوسطى وأمريكا الوسطى. إن الشروط المُسبقة للاقتصاد المُنتِج، لا تقتصر على المجالين المادي والاجتماعي. فهي تشمل أيضاً المجال المعرفي، أي ذلك المخزون الهائل من المعارف الذي استوعبه الانسان البدائي حول العالَم المُحيط به. وقد ساعَدَ تنظيم الخبرات وتناقلها، والتعرف على النظام من ثنايا الفوضى الظاهرية، على السيطرة على مُحيطهم بطريقةٍ عملية. وقد أظهَرَت دراسات الكسندر مارشاك Alexander Marshack أن الناس بدأت في تحصيل المعارف المنهجية حول عالَم النباتات والحيوانات قبل عشرات آلاف السنين من ثورة العصر الحجري الحديث. فقبل 15 ألف سنة،وربما قبل ذلك، كان الصيادون وجامعو الثمارالأوائل، على دراية بالحياة الدورية للنباتات والحيوانات وراقبوها بدقة. وكان هذا بمثابة إعداد مُسبق للزراعة وتدجين الحيوانات. كما عَرَفَ البدائيون أساسيات الكتابة الواعية. لا يُمكن القول بأن الاقتصاد المُنتِج قامَ على أساس علاقة غير واعية بالطبيعة. توثق المواقع الأثرية، فهم الناس البدائيين لبعض قوانين الطبيعة، وتفعل البيانات الاثنوغرافية الشيء نفسه، خاصةً لو تذكرنا ما نعرفه حول سكان تازمانيا وسكان استراليا الأصليين، الذين يُمثلون واحدةً من أقدم مراحل التطور الاجتماعي-الثقافي المعروفة في الاثنوغرافيا. لقد أقامَ الناس الاقتصاد المُنتِج وهم مُجهزون مُسبقاً بأنظمة المعارف حول العالَم المُحيط والتي تراكمن على مدار آلاف السنين من المُلاحظة والخبرة والمُمارسة. وعلى الرُغم من الاقتصاد المُنتِج، يُحول المُجتمع نفسه وثقافته بالتدريج فور ظهوره (وهذا ما نُطلق عليه ثورة العصر الحجري الحديث)، الا أنه من غير الصحيح أن نضع الشعوب التي تحوز اقتصاداً مُنتِجاً في مُواجهة الشعوب التي لا تزال في مرحلة الصيد واللقاط، بشكل قطعي ومُطلَق. إن الفكرة القائلة بأن الشعوب البدائية لا تُحدث أي جديدٍ في الطبيعة، ولا تستخدم سوى عطاياها الجاهزة، هي فكرةٌ عفا عليها الزمن. لقد كانت زراعة النباتات، التي كانت عفويةً في البداية، موجودةً في مرحلة الاقتصاد الاستحواذي، وينطبق الشيء نفسه على تدجين بعض الحيوانات. ولكن حتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإنه لم يكن هُناك اقتصاد "استحواذي" بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الناس بطبيعتهم الاجتماعية، هي كائناتٌ مُنتجة. فهم يصنعون أدواتٍ لا تُوجد جاهزةً في الطبيعة، ويحصلون على وسائل العيش بمُساعدة هذه الأدوات. والفارق الرئيسي بين المُجتمع البشري والمُجتمعات الحيوانية يكمن في الانتاج. فقد رأينا أنه حتى سُكان تازمانيا وسُكان استراليا لم يستخدموا ما تهبه الطبيعة وحسب، بل وحاولوا التصرف فيها بناءاً عن وعي. ولا أقصد هُنا السحر، الذي كان أحد أقدم وسائل مثل ذلك التصرف الواعي، بل أقصد التصرف العقلاني الكامل، سواءاً من حيث نصب الأهداف أو تنفيذها. يتميز المُجتمع الانساني عن مُجتمعات الكائنات الأُخرى، في قُدرته على تعميم قُدرته التكيفية. ولهذا السبب كان قادراً على التكيف مع جميع البيئات الايكولوجية، وأن يستوطن جميع أنحاء الكوكب تقريباً. وبما أن هذا صحيح فيما يتعلق بمرحلة الاقتصاد الاستحوذاي، فلا يوجد فرق جوهري بين الاقتصاد الاستحواذي والاقتصاد المُنتِج في هذا الصدد. إن آليات التكيف العامة هي نفسها في كليهما. لقد بدأ نشوء الاقتصاد المُنتِج في عصر هيمنة الأشكال الاستحواذية. وفي المُقابل، هناك مُزارعون، لا زالت أشكال الاقتصاد الاستحواذي تلعب دوارً هاماً عندهم. وأخيراً، هُناك أيضاً شعوب، تعتمد اقتصاداتها، سواءاً كانت استحواذيةً أم مُنتجة، على الموسم. إن كُل هذا، يؤيد فكرة عدم وجود فرق مُطلَق بين المُجتمعات القائمة على اقتصاد الاستحواذ، وتلك القائمة على اقتصاد مُنتِج. إن أُصول الاقتصاد المُنتِج تكمن في الاقتصاد الاستحواذي، حيث تبدأ غملية إقامة أُسس الاقتصاد المُنتِج في العصر الحجري القديم، وتستمر طوال العصرين الحجريين الوسيط والحديث. وتُساعدنا الدراسات التي يُجريها الأركيولوجيين في الكشف عن المراحل الأساسية لهذه العملية، كما تُزودنا الاثنوغرافيا، بالمواد اللازمة لنمذجة البُنى الاجتماعية على كافة مُستوياتها، في ظل ظروفٍ اجتماعية-تاريخية وجُغرافية طبيعية مُتباينة. ويمنحنا الجمع بين البيانات الاثنوغرافية والأركيولوجية الأدوات اللازمة لإلقاء الضوء على واحدة من أعظم الثورات في تاريخ الانسانية، والتي بدأت بتغيرات تدريجية في النشاط الاقتصادي للصيادين وصيادي الأسماك وجامعي الثمار، وانتهت بتحولات كبيرة في البُنية الاجتماعية-الاقتصادية بأكملها.
رد فلاديمير كابو على نُقَّاده: تُثير تعليقات زُملائي من مُختلف البُلدان اهتماماً كبيراً عندي. ومن دواعي سروري أن أرى أن هُناك عُلماء في مُختلف أنحاء العالَم يُحاولون حل مسائل مُشتركة، مما يُثبت أن العلم هو شأنٌ عالمي. إنني أنظر بعين التقدير، الى أخبار الدراسات الحديثة في تعليقات زملائي، والفرصة التي سنحت لي للتعرف على أدبيات جديدة وحقائق جديدة حول هذا الموضوع لم تكن مُتاحةً لي حتى الآن. وأجد أن مُلاحظات المُعلقين على مقالي، مثيرةً ومُثمرةً في مُعظمها. ولكنني لا أستطيع أن اتفق معها جميعها. أولاً، أود أن الفت انتباه القُراء مرةً أُخرى الى الهدف الرئيسي لمقالي: وصف النتائج الاجتماعية المُباشرة لعملية التحول الى الاقتصاد المُنتِج. لقد كانت نيتي، هي التأكيد على حقيقةٍ مفادها أن هذا التحول، قد حَدَثَ على أساس البُنية الاجتماعية لمُجتمعات الصيد واللقاط، وأن هذه البُنية بحد ذاتها، أو التغيرات الحاصلة فيها، هي التي تسببت في التحول الى الاقتصاد المُنتِج. بعبارةٍ أُخرى، اعرت اهتمامي في المقال الى العوامل التي أدت الى ثورة العصر الحجري الحديث والأساس الاجتماعي الذي قامت عليه هذه العملية. انني لم أُحاول أن أتناول كافة جوانب هذه العملية، ففي رأيي لا يُمكن تناول جميع تلك الجوانب في مقالةٍ مثل هذه. الا أنني ركزت على جانبٍ، لم يحظَ حتى الآن، الا بقدرٍ ضئيلٍ من الدراسة والاهتمام، الا وهو الجانب الاجتماعي. كانت البُنية الاجتماعية لمُجتمع الصيد واللقاط، هي الأساس الاجتماعي للتحول الى اقتصادٍ مُنتِج. وهذه البُنية كانت المُجتمع Community بالدرجة الأُولى، وهي الوحدة الاجتماعية الأساسية والعالمية للمُجتمع البدائي. وقد طَرحت تفصيلاً لهذه البُنية في كتابي القادم (المُجتمع البدائي ما قبل الزراعي). إن المراحل اللاحقة من هذه النقلة، وجوانبها الأُخرى، ظلت خارج إطار مقالتي، فقد كُنت مُهتماً بتحديد الاتجاهات الرئيسية للمرحلة الأولية من هذه العملية. وعلى النقيض من رأي الانثروبولجي الأمريكي دينيس هيسكيل Dennis L. Heskel، الا أنني أُحاول بالفعل أن "أدمج هذه المُلاحظات في منهجية واحدة". وكما سَبَقَ وأن أشرت، لم تكن نيتي طرح جميع جوانب العملية والتعليق على كُل حالة على حِدة، على سبيل المثال، تفسير تجارة الفيروز المُتوسعة، أو التحدث حول أبراج مدينة أريحا. كان هدفي هو لفت الانتباه الى الجوانب الاجتماعية والشروط المُسبقة للانتقال الى ثورة العصر الجري الحديث، وهي مسألة ينبغي التفكير فيها كثيراً. لقد فاتَ الأركيولوجي الأمريكي ستيفين روزِن Steven A. Rosen أن ينتبه الى أن مقالي ليست "مُجرَّد التأكيد على أن ثورة العصر الحجري انبثقت من تكيفات العصر الحجري الوسيط والعصر الحجري القديم". وكما قُلت، كان اهتمام مقالتي مُنصباً على العوامل الاجتماعية في عملية التحول الى ثورة العصر الحجري الحديث. وأن الأعمال التي استشهدَ بها زميلنا روزِن لا توليها أي اهتمام خاص. أما الاثنوغرافي الايطالي غيتانو فروني Gaetano Forni، فيرى بأن الانتاج، ليس شيئاً يُميز البشر عن الحيوانات. وهو يُذكِرنا بالنمل الذي يُربي حشرات المن، ويزرع الفطر، والعديد من الحالات المُشابهة(أ). ولكن كما أشارَ ماركس "إن العنكبوت يقوم بعمليات تُشبه عمليات النسَّاج، والنحلة في بناء خلاياها، تبز الكثير من المهندسين المعماريين. غير أن ما يُميِّز أسوأ معماري عن أبرع نحلة، هو أنه يُقيم البنيان في خياله قبل أن يبنيه من الشمع. ففي ختام كُل عملية عمل، نحصل على نتيجة كانت موجودة سلفاً، في مُخيلة العامِل عند بدء العملية، أي مثالياً Ideal".(رأس المال-الجزء الأول، كارل ماركس، ترجمة فالح عبد الجبّار، دار الفارابي 2013، ص234). ولا ينبغي أن نطمس هذا الفارق المُهم بين النشاط البشري الهادف، والسلوك الحيواني القائم على الغرائز، حتى عندما تكون الظاهرتين مُتشابهتين ظاهرياً. ويُمكننا أن نُوجه نفس النقد الى تأكيد فورني القائل بأن سلوك الانسان في النظام البيئي، يُعادل سلوك الحيوانات. صحيح أن الانسان لا يختلف كثيراً عن الحيوانات عندما يقضي حاجته، ولكن انتاجه واستخدامه للأدوات لتغيير البيئة هي أمرٌ مُختلفٌ تماماً. حينما كتبت بأن "زراعة النباتات..." كانت "موجودةً في مرحلة الاقتصاد الاستحواذي"، لم أكن أقصد "المرحلة التي سَبَقَت الزراعة مُباشرةً" كما يؤكد فورني. والأكثر أهميةً، هو أنني حين تحدثت عن مُساهمة الشعوب البدائية في ثراء الطبيعة، لم أكن أقصد زراعة النباتات وحدها. هُناك مُساهمات كثيرة للشعوب البدائية في رصيدنا المعرفي حول الطبيعة، مثل أنواع النباتات السامة. ومن ثم، كُنت أقصد أن الزراعة، كانت موجودةً بأشكال بدائية، حتى قبل العصر الحجري الوسيط، وبالتالي المسألة تراكمية. وهذا يؤكد تماماً، أنه ليس علينا أن نتجاهل "الفكرة القديمة القائلة بأن التطور الكمّي يؤدي في النهاية الى تطور نوعي"، كما يُريدنا فروني أن نفعل. إن التراكم التدريجي المؤدي الى الاقتصاد المُنتِج والتحول الاجتماعي المُصاحب له، تؤكد على قانون تحول الكمية الى نوعية. ولنفس السبب، فإن مفهوم ثورة العصر الحجري الحديث لم يتقادم، كما يزعُم فروني. فهذه المفاهيم العلمية الرصينة،، هي مثل النبيذ المُمتاز، تدوم لزمنٍ طويل، دون أن تفقد قيمتها. وعلى عكس فروني، يرى روزِن، أن ثورة العصر الحجري الحديث، قد "أحَدَثَت تغيرات كبيرة في كافة جوانب الثقافة والمُجتمع الانساني". ولكن هذا المفهوم لم يُصبح "تقليداً قديماً" كما يقول، بل أنه مفهوم لم يُحقق بعد جميع امكاناته. إن الشروط المُسبقة للاقتصاد المُنتِج في مرحلة الصيد واللقاط، ليست أكثر من كونها شروطاً مُسبقة، وهي لا تُضفي على الاقتصاد طابعاً "إنتاجياً" بالمعنى الذي نقصده بهذه الكلمة. وبالتالي، لا يوجد أي شيء "ذاتي" في القول بأن مُجتمع الصيد واللقاط هو ذو اقتصاد استحواذي. إن تأكيد الأنثروبولوجية كاثلين غالفين Kathleen Galvin على أن "انتاج الغذاء في زمنٍ باكر، نشأ على أساس شكل اقتصاد صيد ولقاط مُعمم للغاية"، هو تأكيدٌ لا يتعارض مع احدى النقاط الرئيسية التي أطرحها، بل هو تأكيدٌ يدعمها، وهي أن الانتقال الى انتاج الغذاء، كان نتيجةً، على حد تعبيرها "لتراكمٍ تدريجيٍّ للمعارف والمهارات". وعلى الرُغم من اعتراضات غالفين وهيسكيل وروزِن، الا أنني أعتقد أن استنتاجي حول شكلي تطور الاقتصاد الاستحواذي، هو استنتاج صحيح وينسجم مع الحقائق التاريخية، ولا يُوجد فيه أي شيء "غائي" أو "حتمي". لاأعرف أي حضارةٍ طبقيةٍ ناجحة، تستند الى اقتصادٍ استحواذي. ولكن اذا كان هُناك أي حضارةٍ من هذا النوع، فهي استثنائية. هذه ليست مُجرَّد نظرية تأملية، بل هي مسألة نظرية تستند الى وقائع وحقائق. يعتبر روزِن، أن "الاستخدام الواسع للمواد الاثنوغرافية، هي منهجية مشكوكٌ فيها في أفضل الأحوال". هذه مسألة مُعقدة للغاية، بحيث لا يُمكن مُناقشتها هُنا. فقد نُوقِشَت على نطاقٍ واسعٍ على مدى العشرين عاماً الماضية، وقد عرضت موقفي منها في المجموعة المُعنونة (الاثنوغرافيا كمصدر لإعادة بناء تاريخ المُجتمع البدائي) في مجلة الاثنوغرافيا السوفييتية. وغنيٌّ عن القول أن أي باحثٍ جاد يبحث في أصل الاقتصاد المُنتِج، لن يُنمذج هذه العملية على أساس بيانات من المُجتمعات البدائية المُعاصرة التي استعارت عناصر الاقتصاد المُنتِج من المُجتمعات المُتقدمة. من الظُلم أن يتهمني أحد، كما فَعَلَ الانثروبولوجي البريطاني اندرو سميث Andrew Smith، بـ"الخطية التطورية"، فمن الواضح في مقالتي، أنني أعترف بأنماط اقتصاد انتاجي مُختلفة، وأشكال مُختلفة من الانتقال اليه. وأنا أقبل عن طيب خاطر، الحقائق التي طَرَحَها الأركيولوجي البريطاني تريفور واتكينز، وأنا مُستعدٌّ تماماً لأن أُدخلها في نموذجي. إن الحقائق التي يُوردها لا تتعارض مع تصوري. وأنا أبذل جُهداً لأضع التطور الفردي للمُجتمعات الفردية في الاعتبار. إن ملاحظات ريتشارد لي، التي أوردتها في مقالي، كافية حتى لو أنها تُشير الى فترة قصيرة من العام، لأنها فترة انتقالية من ظروف مُلائمة الى ظروف أقل مُلائمة. حينما أشرت الى تماثيل فينوس النسائية التي تعود الى العصر الحجري القديم والمُزارعين الأوائل في اوروبا الشرقية، فإنني لا أربط بينها وبين دور المرأة في الزراعة أو جمع الثمار، كما خلص غافلين، بل أربط بينها وبين عبادة الخصوبة وتجديد الطبيعة. لا شك أن المُقاربة التي يسير عليها الاثنوغرافي السوفييتي فيكتور الكساندروفيتش شنيريلمان Viktor Alexandrovich Shnirelman في مُعالجة مُجتمعات الصيد واللقاط، بعيدة جداً عن المُقاربة التي أسير عليها. ذلك أن الشعوب التي ذكرها شنيريلمان كانت من شعوب الحصاد. ولكن هذا النوع من الاقتصاد الاستحواذي لا يُمكن أن يتحقق الا في ظروف بيئية مواتية جداً. وعلى الرغم مما يقوله رفيقنا، الا أن الانتقال الى الاقتصاد المُنتِج، يحتل مكاناً خاصاً في مراحل التاريخ البدائي بسبب طابعه العالمي. والأساس الذي يقوم هذا الانتقال، هو تغيُّر مُجتمعات Communities الصيد واللقاط البدائية، وليس ظهور التنظيم الاجتماعي العشائري المُتأخر، لأن المُجتمع Community، على النقيض من التنظيم العشائري، يُشكل مؤسسةً اجتماعيةً عالمية، وأساساً اقتصادياً لمُجتمعات الصيد واللقاط. في الاثنوغرافيا، كما في أي علمٍ آخر، لا تتطلب النظرية التفكير المُجرَّد وحسب، بل وتتطلب الحقائق الملموسة، وهذا ما اعتقدأن كُل باحثٍ سيتفق معي عليه. آمل أن تكون هذه المُناقشة مُثمرةً للقُرّاء والمُشاركين، كما كانت بالنسبة لي.
* فلاديمير رافائيلوفيتش كابو 1925-2009 اثنوغرافي وعالم ثقافة ومؤرخ أديان ماركسي سوفييتي. التحَقَ عام 1941 بكلية التاريخ في معهد موسكو الحكومي التربوي الذي كان يحمل اسم لينين حتى عام 1943، التحَقَ كابو بالجبهة وشارَكَ عام 1945 في معركة برلين، وحَصَلَ على وسام النجمة الحمراء. قامَ بين عامي 1945-1949 بالتدريس في كلية التاريخ في جامعة موسكو في قسم تاريخ الاتحاد السوفييتي. انتَقَلَ كابو عام 1954 الى قسم الاثنوغرافيا التابع الى جامعة موسكو. وصارَ منذ عام 1957 باحثاً في معهد الاثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم السوفييتي في لينينغراد، ودافَعَ عام 1962 عن اطروحته للدكتوراة في التاريخ في معهد الاركيولوجيا في أكاديمية العلوم، بعنوان: (أدوات العمل الحجرية عند الاستراليين الأصليين). وفي عام 1970 دافَعَ عن اطروحته للدكتوراة في معهد الاثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم بعنوان: (أصل وتاريخ السكان الأصليين في استراليا). عادَ عام 1977 الى موسكو وعَمِلَ في معهد الاثنوغرافيا هناك. من كُتبه: (أصول الاستراليين الاصليين وتاريخهم البدائي) 1969، (المُجتمع البدائي ما قبل الزراعي) 1986، ومن مقالاته: (بعض المسائل حول ثقافة الاستراليين الأصليين) 1959، (الفن القديم في اوقيانوسيا) 1961، (الأدوات الحجرية عن الاستراليين القدامى) 1962، (تشكّل المُجتمع الطبقي عند شعوب اوقيانوسيا) 1966، (أصول سكان استراليا الأصليين في ضوء المُكتشفات الجديدة) 1968، (الفن البدائي والدور الاجتماعي) 1969، (تاريخ المُجتمع البدائي والاثنوغرافيا) 1972، (ما قبل تاريخ الاقتصاد المُنتِج) 1974، (أصول سكان استراليا الأصليين في ضوء المُكتشفات الجديدة) 1974، (الاركيولوجيا والاثنوغرافيا: حول مسألة اعادة بناء ما قبل التاريخ) 1976، (حول مسائل اقتصاد مُجتمعات الصيد واللقاط) 1978، (بعض سمات الوعي الاجتماعي البدائي) 1980، (أصول الاقتصاد الانتاجي) 1980، (الاركيولوجيا والايكولوجيا: حول اصول ادارة الطبيعة في العصر الحجري الحديث) 1983، (الأشكال البدائية للدين) 1987، وعشرات غيرها من المقالات.
أ- لقد قرأت جميع الردود التي أوردها الباحثون الأجانب على فلاديمير كابو. ولكن فكرة فروني هذه أضحكتني كثيراً. ولكن، طبعاً، ليس من المُستغرَب أن يحمل العُلماء غير الماركسيين أفكاراً بدائيةً وساذجة كهذه.
ترجمة لمقال: The Origins of the Food-producing Economy [and Comments and Reply], Vladimir Kabo- Current Anthropology, Vol. 26, No. 5 (Dec., 1985), pp. 601-616
#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)
Malik_Abu_Alia#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاثنوغرافيا وتاريخ المُجتمع البدائي
-
حول نشأة الاقطاع على الصعيد العالمي في الشرق والغرب، ومفهوم
...
-
مسائل اقتصاد مُجتمعات الصيد واللقاط
-
الانسان في فجر الحضارة
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
-
المعايير العالمية لمُجتمعات الصيد واللقاط
-
الطبيعة والمُجتمع البدائي
-
التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية العبودية
-
تعليق ايغور دياكونوف على مقال هنري كلايسِن (الديناميكيات الد
...
-
المشاعات الزراعية في الشرق الأدنى القديم
-
الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والمسائل الجديدة
-
الدفن الانساني الطقوسي الواعي: العصر الحجري القديم الأوسط، ب
...
-
حول مسألة دراسة تاريخ المُجتمعات البدائية انطلاقاً من الاثنو
...
-
مسألة المُلكية الخاصة البدائية في الاثنوغرافيا الأمريكية الم
...
-
المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر
-
تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان
-
الشروط الايكولوجية لنشوء الزراعة في جنوب تركمانستان
-
سوسيولوجيا الدين الانجلو أمريكية المُعاصرة: مُشكلاتها واتجاه
...
-
الرد الثاني لسيرجي توكاريف على ستيفن دَن
-
بعض الأفكار في طُرُق دراسة الدين البدائي- رد على سيرجي توكار
...
المزيد.....
-
يقدمون القرابين لـ-باتشاماما-.. شاهد كيف يعيش بوليفيون بمناز
...
-
انفجار هائل ثم حريق خارج عن السيطرة.. شاهد ما حدث لمنزل صباح
...
-
قتلى وجرحى فلسطينيين في خان يونس
-
ترامب ويطالب بضم كندا والسيطرة على قناة بنما
-
لافروف لـ RT: أحمد الشرع يتعرض لضغوط كبيرة من الغرب الساعي ل
...
-
فنلندا تحقق في دور سفينة أجنبية بعد انقطاع كابل كهرباء تحت ا
...
-
جثثهم تفحّمت.. غارة إسرائيلية تقتل 5 صحفيين في النصيرات بقطا
...
-
تركيا توجه تحذيرا لوحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا
-
صورة لـ-شجرة عيد الميلاد الفضائية-
-
-اتفاقية مينسك لم تكن محاولة-.. لافروف يقدم نصيحة لمبعوث ترا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|