|
اسباب عجز الفكر العربي المعاصر عن التطور الفلسفي وسبل النهوض الحداثي التقدمي الديمقراطي
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 8202 - 2024 / 12 / 25 - 20:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد عجز الفكر العربي المعاصر عن الفلسفة بسبب عوامل عديدة ، فالعرب علي امتداد تاريخهم الحديث قد غلبوا الافكار السياسية والمعتقدات الايديولوجية المتنوعة على تفكيرهم المعرفي بما لا يتناقض مع مصالحهم الطبقية وتكريس مظاهر التبعية والتخلف في بلدانهم، فحادوا عن طرائق العقل، وكانوا وما زالوا يتغّلب الايديولوجي الرأسمالي المعولم عندهم على المعرفي. بالمقابل ، آمل من اجيال المعاصرين عندنا، وخاصة الاجيال الشابة منهم أن تتفتح عيونهم واسماعهم ومشاعرهم وكل جوارحهم علي ما يسّمي بـ " النهضة " و " التقدم " والحداثة ، والخروج من حيرتهم وتوهانهم ، فبعد ان اخذها هذا شمالا وسحبها الاخر يمينا وجدت الاجيال الجديدة نفسها وقد افترستها مشروعات متخلفة رجعية مؤدلجة ومواعظ ملالي وممنوعات ومحرمات شيوخ وخطب سياسية ازدحمت بالشعارات والمقدسات والتعليمات، فصمّت الاذان وتعطلت لغة العقل وقفل على الالسنة واضطهدت المشاعر وكممت الافواه واختنقت الانفاس.. والسؤال أو الأسئلة المشروعة هنا ؟ هل كانت الكتابة في موضوعات كالداروينية او المثالية او الماركسية او الوجودية او البرجماتية او البنيوية.. الخ فلسفة؟ هل نجحت ثقافتنا في اثراء المعرفة الانسانية نظريا وميدانيا لانتاج اعمال مميزة يلتفت اليها العالم أم أن حياتنا الفكرية – في معظمها-مجرد ندوات ومؤتمرات وشعارات وخطابات ؟؟ . ولماذا لم تشهد حياتنا العربية حتى اليوم اي ثورة نقدية وفكرية حقيقية او اكاديمية منهاجية لدراسة تراثنا ونقده وكشف مستوراته وفضح عوارضه وتعرية مفاسده وتقويم اعوجاجاته الي جانب احترام رجالاته وثمار ابداعاته بعيدا عن النرجسية وعن التقديسية وعن التكفيرية . ومتي يتم التخّلص من الوعظية وتوزيع الاحكام المجانية والقاء الاتهامات القاصمة علي الاحرار والمفكرين والنقاد الحقيقيين؟ متي تفرز الحياة العربية النقاوة التنويرية النهضوية من المفاسد والبياض من العتمة والنظافة من الاوساخ والعقل من الجهالة والحداثة بعيدا عن اقانيم التخلف..؟؟ وتعالوا نسأل: اين " الفلاسفة " العرب اليوم من بحثهم عن حقائق الاشياء وتوليد المعاني وتخصيب التفكير العلمي وابداعات الروح والعقل؟ لو كان لديهم فقط حركة نقدية وفكرية وفقهية اجتهادية جريئة وحرة لنفضوا عنهم وعن انفسهم وعقولهم غبار الاختناقات وترسبات الماضويات وعفونة الواقع. نعم، لو بدأت مشروعات تجديدية وتحديثية في التفكير العربي ، لو كان لدينا فلاسفة حقا لأنتجوا حكماء يتدبرون امر أوضاع مجتمعاتنا الصعبة ولتغير وجه حياتنا العربية واسرعت خطاها نحو ركب التحولات النهضوية الحداثية . أخطر ما في الأمر، هو تفاخر بعض الناس عندنا بعدائهم للفلسفة وحجّتهم أنّ الغزالي أعلن، في نهاية القرن الحادي عشر، من موقع دينيّ، «تهافت الفلاسفة» وبطلان الفلسفة... ويضيف آخرون أنّ كارل ماركس عاب على الفلاسفة «تأويل» العالم فيما المقصود «تحويله» من أجل رفع الظلم وإقامة العدل، وأنّ مارتن هايدغر أعلن، في النصف الثاني من القرن الماضي، من موقع فكريّ، وصول الفلسفة إلى نهاياتها، لأن الفلسفة من وجهة نظره ، حققت كل الانجازات العلمية التي كانت تحتويها ، فأصبحت عملية اندماج الانسان في محيطه الطبيعي مهمة التكنولوجيا لا الفلسفة . وكذلك فقد أكد ميشال فوكو بأن الفلسفة المتمثلة بالميتافيزيقا قد انتهت مع حلول الحداثة المتميزة بسيطرة الاقتصاد والبيتولوجيا والألسنية والتي تنطلق من تحليلية التناهي ؛ أي تنظر إلى الإنسان ككائن متناه يستعمل لغة لا يتحكم بكل دلالاتها ،ويخضع لقواعد العمل دون أن تكون له السيطرة على الإنتاج ، ولا يوجد إلا بأعضاء بدنه وداخل تشعب أعصابه. إن الميتافيزيقا انتهت لأن الحداثة حين تطرح الإنسان ككائن يعمل تندد بها كفكر مستلب وأيديولوجيا ، وحين تطرح الإنسان ككائن يستعمل لغة معينة فإنها تظهر الميتافيزيقا كحقبة ثقافية Episode culturel قد مرت ومضت إلى غير رجعة . هنا ، لابد من الاقرار بأن المجتمعات المتخلفة، ومن بينها مجتمعاتنا في مشرق ومغرب الوطن العربي، لا زالت أسيرة للمفاهيم اليقينية المطلقة المتوارثة، دون أي تفاعل مع فكرة الاختلاف، وعلى سبيل المثال ما زالت مقولة الجماعة أو مقولة الشعب أو الأمة أو الجماهير قائمة في مجتمعاتنا كهوية نابذة للاختلاف، للتعددية، وبالتالي يتم التركيز على فرد يجسد ويقزم في آن واحد مفهوم الجماعة، سواء من منطلق وطني (عبد الناصر كمثال) أو من منطلق رجعي تابع ومتخلف ومستبد (كما الأغلبية الساحقة من الحكام العرب، لا فرق بين رئيس جمهوري او ملك او امير او شيخ او حاكم) . في هذا السياق ، لابد من الاقرار بأن المجتمعات المتخلفة، ومن بينها مجتمعاتنا في مشرق ومغرب الوطن العربي، لا زالت أسيرة للمفاهيم اليقينية المطلقة المتوارثة، دون أي تفاعل مع فكرة الاختلاف، وعلى سبيل المثال ما زالت مقولة الجماعة أو مقولة الشعب أو الأمة أو الجماهير قائمة في مجتمعاتنا كهوية نابذة للاختلاف، للتعددية، وبالتالي يتم التركيز على فرد يجسد ويقزم في آن واحد مفهوم الجماعة، سواء من منطلق وطني (عبد الناصر كمثال) أو من منطلق رجعي تابع ومتخلف ومستبد (كما الأغلبية الساحقة من الحكام العرب، لا فرق بين رئيس جمهوري او ملك او امير او شيخ او حاكم) . وليس عجيباً إذاً "أنّ ثروات «الأنظمة» الوحدانية العربية على تعدّدها وضخامتها، لم تنتج، في التحليل الأخير، منذ اكتشافها واستخدامها، إلا الفقر والجهل والبطالة والتفكك الاجتماعيّ، وتضخّم العقلية البدويّة بحيث عجز العالم العربي كله عن إقامة أي مجتمع مدنيّ، على مدى أربعة عشر قرناً، وعجز تبعاً لذلك، عن إقامة دولة تحترم الإنسان وحقوقه، والعلم وحقوقه، والمعرفة وحقوقها، والتقدم وحقوقه. بناء على ذلك، فإن ما يجري في بلادنا عموماً، هو شكل من أشكال تجميد قواعد الاختلاف الذي أدى إلى انتصار أدوات ومظاهر ومؤسسات التخلف وإعادة انتاجه وتجدده في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر، الى جانب تجميد قواعد الاختلاف الذي أدى الى انتصار الفرد القائد على الناس ، انتصار الدولة على المجتمع، القيادة الفردية على كل المؤسسات الوطنية والتشريعية والبرلمانات كما هو حال أوضاع مجتمعاتنا في مشرق الوطن العربي ومغربه المحكومة بالتخلف والاستبداد ، على الرغم من اننا في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، الحامل والزاخر بمظاهر التقدم الهائل للعلوم في هذا العصر، واستمرار حضور الفلسفة وضرورتها الموضوعية الملحة في البلدان المتقدمة والمتخلفة رغم انفصالها عن العلم، وهو انفصال شكلي في كل الأحوال، لكن هذه الضرورة تتجلى أكثر بما لا يقاس في البلدان المتخلفة، خاصة في بلداننا العربية التي مازالت غارقة إلى حد كبير في أحكام سابقة، تقوم على أساس التقاليد والتراث السلفي اللاعقلاني الرجعي الذي يشكل أحد العوامل الرئيسية التي تَحوْل دون انتشار الرؤى العقلانية المستنيرة، وتعزز عرقلة نهوض وتطور شعوبنا ومجتمعاتنا العربية. وبالتالي فإن توجهنا صوب امتلاك الوعي الفلسفي العقلاني ، لن يكون له أي قيمة أو معنى أو مغزى ما لم ننطلق من وعينا أن الفلسفة التي نتطلع إليها من أجل تطوير ونهوض مجتمعاتنا في مشرق ومغرب الوطن ، ليست أبداً ولن تكون فلسفة من أجل الوعي في ذاته بل يجب أن تحمل في طياتها كافة حوافز التغيير والثورة ضد كل أشكال التبعية والاستغلال الرأسمالي وفق المنظور الطبقي ، وذلك لإحياء الفلسفة بدلاً من الاحتفاء الشكلي بها ، بمعنى تعميق وعينا بكل جوانب الفلسفة العقلانية الديمقراطية الحديثة على طريق مجابهة وانهاء أنظمة الكومبرادور وكل مظاهر التبعية والخضوع والتخلف والاستغلال والاستبداد في بلداننا، بما يضمن امتلاكنا لعوامل القوة المادية بكل أبعادها الفكرية التقدمية والتكنولوجية والاقتصادية والعسكرية الكفيلة بمجابهة وإزالة الوجود الصهيوني الامبريالي من بلادنا . وفي هذا الجانب، لابد لي من التذكير بدروس وعبر تاريخ الفلسفة منذ نشأتها، فمنذ ما قبل الميلاد، طرح الفيلسوف الاغريقي بروتاغوراس شعاره المعرفي "الانسان مقياس الأشياء جميعاً"، وكان يقصد بذلك أن الصح والخطأ، الخير والشر، كلها يجب أن تْحدد حسب حاجات الكائن البشري . منذ ذلك التاريخ، إلى يومنا هذا، ارتبط تطور الفلسفة -ومازال مرتبطاً- بتطور العلاقات المادية بالمعنى الاجتماعي بين البشر، وما أفرزته تلك العلاقات من مصالح طبقية متنوعة، في إطار الأنماط أو التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، منذ المجتمعات العبودية، والإقطاعية، وصولاً إلى المجتمعات الرأسمالية الحديثة والمعاصرة، وبالتالي فإن مسيرة الفلسفة وتطوراتها، والمتغيرات التي أصابتها طوال تاريخ البشرية، منذ الإغريق إلى يومنا هذا، ارتبطت بطبيعة النمط الاقتصادي الاجتماعي السائد في هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات البشرية، ما يعني أنها مسيرة تعرضت، لمحطات، ومراحل متنوعة ومختلفة، من الرؤى الفلسفية التي عبرت عن هذا النمط، الاقتصادي الاجتماعي أو ذاك، حيث نلاحظ اختلاف تلك الرؤى والطروحات الفلسفية في مرحلة سيادة النمط العبودي الذي امتد حتى القرن السادس الميلادي، عن تلك الرؤى والطروحات التي سادت في ظل النمط الإقطاعي الذي استمر حتى القرن السابع عشر الميلادي، وظهور النمط أو التشكيلة الرأسمالية التي تجسدت بتأثير العلاقات الاجتماعية الرأسمالية من جهة وبتأثير الرؤى والأفكار الفلسفية ألنقيضه للفكر والفلسفة التي سادت في المجتمعات الإقطاعية من جهة ثانية. لكن، وعلى الرغم من ذلك الاختلاف الجوهري العميق في الطروحات الفلسفية، إلا أن السمة المشتركة بين كافة الفلاسفة القدماء والمحدثين والمعاصرين تتجلى في أن كل فيلسوف من هؤلاء، أسس وقَدَّمَ رؤية كونية مجتمعية جديدة وشامله محمولة بالمؤشرات الخاصة التي تدل على فلسفته دون عزلة أي من هؤلاء الفلاسفة – رغم خصوصية فلسفتهم- عن واقعهم الاجتماعي الاقتصادي الذي عاشوه، وهنا يتداخل الخاص الفلسفي لأفلاطون مثلاً مع العام الإغريقي، كما يتداخل الخاص الفلسفي لابن رشد أو الغزالي مع العام في المجتمع العربي والإسلامي، كما يتداخل الخاص الفلسفي لدى ديكارت أو كانط او هيجل مع العام في الفلسفة الغربية القديمة والحديثة. فمع تطور المجتمعات البشرية، تتطور الفلسفة والمعارف في إطار من الحراك والتغير الاجتماعي، وهذه هي السمة الأبرز لتطور الفلسفة في المجتمعات الغربية وتواصلها، وتجددها التاريخي عموماً، ومنذ القرن السادس عشر الميلادي إلى يومنا هذا خصوصاً، على النقيض من مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي عاشت في أواخر القرن الثاني الهجري واوائل القرن الثالث الهجري( التاسع الميلادي) أوضاعاً متطورة، سياسية واجتماعية ومعرفيه بالمعنيين الفلسفي والعلمي، لم يسبقها اليها أحد من دول وشعوب العالم في تلك الحقبة، وذلك من خلال الإنتاج الفلسفي والعلمي لفلاسفة المسلمين، بدءاً من دار الحكمة التي أسسها هارون الرشيد (170-193هـ) وازدهرت في عصر ولده المأمون(170 ه-218ه) لتتعهد بالرعاية والترجمة إلى العربية مجموعات من الكتب اليونانية في العلم والفلسفة ، الى جانب انتشار وازدهار عقلانية المعتزلة (القرن التاسع الميلادي) وإخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي) ثم الفلاسفة بدءاً من الخوارزمي والكندي في القرن التاسع الميلادي، وابن الرواندي والرازي والفارابي في القرن العاشر الميلادي وصولاً إلى ابن سينا والغزالي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي، وكان لفلسفتهم دوراً كبيراً في نهوض الفلسفة الغربية. لكن الانقطاع المعرفي في الفلسفة العربية الذي جرى منذ وفاة ابن رشد 1298م، أدى إلى تعرض الفلسفة العربية، منذ ذلك التاريخ إلى حالة من التراجع والضعف، جاءت انعكاساً لضعف وتراجع عملية التطور السياسي الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي الذي توقف عن الصعود، بل على العكس بدأت عوامل التطور الاجتماعي والمعرفي السالب في الظهور، ومن ثم خلق وانتشار المناخ الملائم لتكريس التخلف وإعادة إنتاجه وتجديده واستمراره في بلادنا منذ القرن الثالث عشر حتى المرحلة الراهنة، من خلال تكريس مظاهر التخلف والخضوع للأجنبي منذ انهيار العصر العباسي الأول (861م) وتفكك الدولة العباسية إلى دويلات وطوائف متعددة ومتنافره، الطولونيين في مصر لغاية 905م، ثم الأدارسة في المغرب لغاية 926م، ثم الحمدانيين في سوريا والجزيرة العربية حتى عام 1004م، ثم الفاطميين في مصر حتى عام 1171، والمرابطين في المغرب شمال أفريقيا حتى عام 1147م، ثم الايوبيين حتى عام 1260م، ثم عهد المماليك منذ عام 1250 – 1516 وصولاً إلى العهد العثماني منذ 1516 حتى 1918 نهاية الحرب العالمية الأولى، وقبل ذلك التاريخ احتلال الاستعمار الفرنسي والإيطالي لبلدان المغرب العربي (الجزائر 1830 /موريتانيا 1858/ المغرب 1912 / تونس 1881/ ليبيا 1911) ، وكذلك احتلال الاستعمار الإنجليزي لمصر عام 1882 ثم احتلال فلسطين والعراق والأردن بعد الحرب العالمية الأولى ، ثم احتلال الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان 1921 تنفيذاً لاتفاق سايكس بيكو 1916، ووعد بلفور 1917 ومن ثم تشجيع الحركة الصهيونية واغتصاب فلسطين وقيام الدولة الصهيونية عام 1948، وصولاً إلى تغلغل النظام الامبريالي الامريكي في بلادنا وحلوله محل الاستعمار الإنجليزي منذ عام 1957 وتكريس سيطرته المباشرة وغير المباشرة على معظم بلدان الوطن العربي عموما والبلدان النفطية في الخليج والسعودية خصوصا ، ومن ثم تزايد سيطرته واستغلاله لثروات شعوبنا عبر تكريس التبعية وتعميق مظاهر التخلف والاستبداد ارتباطاً بالمصالح الطبقية للأنظمة الرجعية من ناحية وبسياسات النظام الامبريالي الأمريكي المعولم الراهن من ناحية ثانية، وكان هذا الوضع سبباً رئيساً ليس في غياب الدور المعرفي التنويري التحرري للفلسفة فحسب، بل أيضاً غياب الدور السياسي المرتبط بوضوحها العقلاني النقدي الديمقراطي ، في مقابل حضور وانتشار الأفكار والتيارات المذهبية الرجعية من خلال الحركات الاسلاموية المنبثقة عن الفكر الوهابي المُعبِّر عن مصالح النظام الرجعي السعودي من ناحية والخادم للاستعمار الإنجليزي ثم للامبريالية الامريكية من ناحية ثانية . في ضوء ما تقدم ، يحق القول، إن الحالة الراهنة للفكر الفلسفي في الوطن العربي، تتميز ليس بالتراجع المعرفي الحداثي الإنساني فحسب، بل أيضاً بسيطرة الأفكار الغيبية المتخلفة بصورة غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، حيث تبدو الأبواب موصدة في وجه الفلسفة عموماً، وفي وجه مفاهيم الحرية والتنوير والعقلانية والليبرالية والديمقراطية والمواطنة، وكافة المفاهيم الحداثية، لحساب مفاهيم الاستبداد والتخلف المعرفي والاجتماعي، التي يعاد انتاجها وتجديدها في هذه المرحلة التي تتعرض فيها بلدان الوطن العربي ومجتمعاتها لمزيد من الانقسامات والتجزئة والتفكك والتشرذم وضياع الهوية، انعكاساً لتفاقم وتزايد مساحة التبعية والخضوع والارتهان للمركز الامبريالي من ناحية وتزايد مظاهر الفقر والجهل والاستغلال والاستبداد من ناحية ثانية ، الى جانب انتشار حركات وتيارات الإسلام السياسي الأصولية المتطرفة التي تعلن رفضها الصريح لقيم الحداثة، المتمثلة في الديموقراطية والاستنارة، وتضع في مواجهتها: الشورى، وإحياء فكرة الخلافة، أو ولاية الفقيه. لقد بات من الواضح تماماً أن هذه الأصولية المتشددة ترفض كل أشكال الحداثة الثقافية، مقابل الاعتراف بثقافة واحدة فقط: الدينية السلفية، النقيضة لمفاهيم الحداثة الرئيسية: العقلانية والإنسانية والفردية، بمثل رفضها لمفاهيم الوطنية والقومية والتقدم العلماني، في مقابل تكريس الأفكار والمفاهيم والمذاهب الرجعية، في خدمة المصالح الطبقية للفئات والشرائح العليا الحاكمة في بلادنا، الأمر الذي أدخل مجتمعاتنا في حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي، علاوة على تواصل حالة الانقطاع المعرفي – التي أشرنا اليها- منذ وفاة ابن رشد إلى اللحظة الراهنة، ارتباطاً بانتشار وتغلغل المفاهيم الرجعية، بعد تمكُّن الغزالي، وتلاميذه، من تصفية الفلسفة في المجال السُنِّي، بينما تحوَّلت الفلسفة إلى اللاهوت، في المجال الشيعي، إلى جانب تكريس ما يسميه المفكر الراحل جورج طرابيشي، "نفي الفلسفة" في مجتمعاتنا مع دخول "الحضارة العربية الإسلامية مرحلة أفولها وانحطاطها منذ القرن الثالث عشر الميلادي، بتأثير الهجوم الشرس، الذي شنته عليها مدارس الفقه العديدة منذ منتصف القرن الثالث للهجرة مع (أحمد ابن حنبل)، وحتى بلغت ذروتها مع (ابن تيمية) في القرن الثامن للهجرة"، فأفلحت دولة الاستبداد بتسخير هذا، في حصار وإعاقة العقل النظري التنويري الديمقراطي العربي، حتى غدت الفلسفة العقلانية الديمقراطية والتقدمية غريبة في بلادنا، بل مرفوضة، في مقابل تكريس فلسفة التخلف التي تقوم على التلقين، والإملاء، وبالتالي الإذعان، دون نقاش، أو حتى بدون اقتناع، ما أشاع مظاهر الركود والتخلف الاجتماعي في أوساط الجماهير الشعبية العربية العفوية منذ القرن الثالث عشر الميلادي إلى يومنا هذا ، عبر أنظمةٍ شديدة التخلف ، كرّست الحاكم الفرد وعائلته باسم الخلافة او السلطنة او المشيخة او المملكة او الامارة ، بقوة الاستبداد المحمول بالشعارات الدينية الشكلانية الديماغوجية التي قاموا بنشرها في أوساط الجماهير العفوية البسيطة . في هذا السياق، لابد من طرح السؤال التالي : كيف وصل العرب في المرحلة الراهنة إلى هذه الحال الشديدة الانحطاط التي أدت إلى اعادة انتاج وتجديد التخلف بكل مضامينه الاجتماعية والثقافية، وأين يكمن الخلل؟ وجوابي انه يكمن في طبيعة التطور الاجتماعي الاقتصادي التاريخي المشوه والمتخلف، وخصوصاً في مرحلة الانفتاح والبترودولار، التي وفرت المناخ الملائم لإعادة تجديد وانتاج الأفكار والحركات السلفية الغيبية المتزمتة، تمهيدا لهيمنتها على صعيد الفكر والمجتمع في بلدان المشرق والمغرب، انسجاما مع تزايد تبعية وتخلف وارتهان تلك البلدان للنظام الإمبريالي، بما أدى إلى ازاحة المعرفة العقلانية والسلوك الديمقراطي لحساب التخلف والأفكار الرجعية السلفية، التي كانت - وما زالت - تشكل عقبةً في وجه تفتح الرؤية العقلانية التنويرية ، وأبقت الأوضاع في بلادنا أسيرة لمناخ التخلف ومظاهره، التي تتبدى في أن " العقل السياسي العربي محكوم في ماضيه وحاضره – كما يقول المفكر الراحل محمد الجابري – " بمحددات ثلاثة هي : القبيلة والغنيمة والعقيدة، أي بعلاقات سياسية معينة تتمثل في القبيلة، وفي نمط إنتاجي معين هو النمط الربوي، الذي يرمز إليه بالغنيمة (الدخل غير الإنتاجي)، وسيادة العقيدة الدينية، ويرى أنه لا سبيل إلى تحقيق متطلبات النهضة والتقدم بغير نفي هذه المحددات الثلاثة نفياً تاريخياً وإحلال بدائل أخرى معاصرة لها. في هذا الجانب، أشير إلى العلاقة التبادلية، والترابط الجدلي بين حالة التخلف المعرفي، وبين أوضاع التخلف الاجتماعي الاقتصادي في مجتمعاتنا العربية، التي تعيش حالة من الانحطاط والانقطاع المعرفي منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم . في مقابل أوروبا التي قدمت فلسفات عظيمة قدمها بيكون وديكارت وكانط وسبينوزا وهيجل وجون لوك واوجست كونت ومونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو وسنتيانا ووليم جيمس وماركس ودوركايم وماكس فيبر وشوبنهاور ونيتشه وداروين ولوكاتش ودريدا وفوكو وماركيوزه وهابرماس وغيرهم، علاوة على صياغتهم للرؤى المستقبلية التي حددت طريق النهوض الأوروبي الحديث والمعاصر الممتد حتى اللحظة. بالمقابل ، فشل مشروع التنوير العربي وانقلب على أعقابه، لأنه أخفق في بناء خطاب عقلاني يواصل البدء، ولأنه انكفأ على الذات الماضويّة مرّة، وارتمى في أحضان الآخر مرة أخرى، إنّه مُني بالإخفاق لأن قيم التنوير لم تنتصر في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، وبقيت اليقينيّات المطلقة هي السائدة مما فاقـم الأزمة وكل هذه اليقينيات تُعَبرِّ عن المصالح الطبقية الرأسمالية سواء كانت في إطار الأنظمة الحاكمة أو في حركات الإسلام السياسي، باعتبارها أحد أهم الأسباب الرئيسه في إجهاض مشروع النهضة والتنوير العربي. ولهذا يقول المفكر الراحل محمود العالم " إن قضية تجديد العقل السياسي العربي اليوم مطالبة بأن، تحول "القبيلة" في مجتمعنا إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي، وتحول " الغنيمة "أو الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي، يمهد لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العربية، كفيلة بإرساء الأساس الضروري لتنمية عربية مستقلة، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي، أي التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوجمائي، دينياً كان أو علمانياً، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي"، ما يستدعي من المثقف العربي في مجابهة هذا التمدد الرجعي السلفي غير المسبوق، التأمل والتفكير والنضال الديمقراطي ضد الاستبداد والاستغلال ومتابعة المستجدات النوعية التي ستدفع إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة، صاعداً وثوريا وديمقراطيا بلا حدود أو ضوابط، بعد أن أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع . وهنا بالضبط تتجلى أهمية الفلسفة ونشرها عبر الجامعات والمدارس في بلادنا لمجابهة تحديات الانحطاط الاجتماعي الثقافي الراهن، عبر إعادة الاعتبار للفكر الفلسفي الديمقراطي والتقدمي، من خلال إعادة بلورة وصياغة أسس ومفاهيم الحداثة والعقل والعقلانية والحرية بما يسهم في استنهاض الفكر العربي المعاصر ونقله بصورة نوعية قادرة على إحداث التغيير النهضوي الديمقراطي المطلوب، ذلك هو هدف الفلسفة العقلانية الحداثية الديمقراطية التقدمية القادرة على مجابهة وهزيمة القوى اليمينية بمختلف منطلقاتها وأطيافها والوانها ومسمياتها. وهذا يقودنا إلى الوقوف أمام رفض معظم الأنظمة العربية راهناً لتدريس الفلسفة عموماً والفلسفة الحديثة خصوصاً، وهو رفض يستجيب للمصالح الطبقية في تلك الأنظمة، علاوة على أنه رفض لا يتقاطع ويتفق مع رفض الغزالي لفلسفة ابن رشد فحسب، بل أيضاً رفض يلتقي ويتطابق مع التيارات السلفية الرجعية بدءاً من الحركة الوهابية إلى الإخوان المسلمين وصولاً إلى مختلف الحركات السلفية المنغلقة والمعادية لمجمل الفلسفات العقلانية والعلمية الحديثة والمعاصرة. إن انحيازي المعرفي لإبن رشد أو لغيره من فلاسفتنا القدماء أمثال الكندي والخوارزمي والفارابي والرازي وابن سينا الذين تميزوا باستنارتهم العقلانية والدينية، وهم بلا شك أحد العلامات المضيئة في تراثنا التاريخي، هو انحياز للتفكير العقلاني الحر القائم على احترام الرأي والرأي الآخر. لكن، لابد من الاقرار بأن الجوانب الايجابيه لفلسفتهم ارتبطت بالمرحلة التي عاشوها، ما يعني التنبيه إلى ضرورة استشعار القطيعة التي تفصل بيننا وبين فلاسفتنا القدماء، فظروفهم –كما يقول بحق هاشم صالح- غير ظروفنا، ومرجعياتهم غير مرجعياتنا، وهمومهم غير همومنا، ومصطلحاتهم غير مصطلحاتنا، "والواقع أننا إذا لم نعِ مفهوم القطيعة الإبستمولوجية (المعرفيه) في التاريخ، فلا يمكننا أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة، ولا ان نحل مشاكل الحاضر، وسوف نظل أسرى الماضي ومسجونين فيه أو منغلقين داخله، ما يعني استمرار أوضاع الاستبداد والاستغلال والتبعية وأنظمة الحكم الفردية شبه المطلقة في بلداننا. الصورة الحالية إذن، هي كما يلي: استمرار تراكمات عوامل التخلف والركود والتبعية والاستبداد، إلى جانب استشراء ظاهرة الحاكم المتفرد المطلق في بلادنا – لا فرق بين نظام جمهوري أو ملكي أو مشيخي- مقابل "السكون" الاجتماعي ؟؟" طبعاً لا أنكر الحركة الموضوعية المتراكمة داخل ذلك السكون.. لكنها حركة بطيئة غير صاعدة من جهة، مسلوبة الإرادة، ولا تعرف بالضبط إلى أين تتوجه طالما أن الطليعة المنظمة الواعية لا تتصل بجسور قوية، وبنشاط لا يعرف الكلل، داخل السكون الاجتماعي بهدف تحويله من شكله العفوي الساكن إلى حركة تغييرية واسعة وعميقة، وهذا أمر ممكن لان كافة الظروف الموضوعية متوفرة، لكن العامل الذاتي (الحزب الثوري) يعاني من أزمته الداخلية العميقة. من هنا، فإن من واجبنا ترسيخ الوعي بمقولات الحرية والمواطنة والاختلاف، باعتبار إنها تمثل الجزء الأولي والبسيط في التصور الديمقراطي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا باعتبار هذه المقولات هي الميدان الواسع الحقيقي الذي سيحدد وجهتنا في الحاضر والمستقبل، لكي نسهم في تراجع حالة السكون. لذلك لابد من الديمقراطية التي تنطلق من فلسفة الحداثة التقدمية، التي تقوم على وعي جدلية الواقع والاحترام للمجتمع، للناس، لفهم الناس وعقلهم، هذا الاحترام شرط المعرفة، والمعرفة شرط النقد والتغيير باتجاه النفي الايجابي. (البداية قد تكون في الأسرة.. في المدرسة.. والشارع.. أو في تداخلهم معاً، المهم أن نتوجه إلى الخاص أولاً ثم العام) . من جانب آخر ، وفي مقابل حالة التخلف، والانقطاع المعرفي وانتشار الأفكار والفلسفات الغيبية الرجعية في بلادنا، نلاحظ استمرار وصعود التطور المعرفي عموماً، والفلسفي الحداثي العقلاني خصوصاً في أوروبا بعد أن تخلصت من سيطرة الكنيسة على عقول الناس، وتحرر الإنسان الأوروبي –بصورة تدرجية- من مظاهر وأدوات التخلف الديني والاجتماعي في سياق التطور الاقتصادي، للبورجوازية الصاعدة، ونجاح ثوراتها السياسية التي انجزت وراكمت العديد من المهمات والمتغيرات التنويرية العقلانية، الديمقراطية التي مهدت لقيام الثورات السياسية البورجوازية في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان نجاح تلك الثورات –خاصة الثورة الفرنسية عام 1789- بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير، وتدشين عصر النهضة والحداثة، ومن ثم انتقال الفلسفة في أوروبا من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم، وبين العقل والواقع، إن الميزة الأساسية التي ميزت فلاسفة عصر النهضة، هي انهم أفلحوا في زعزعة الأسس والقيم التي كانت تقوم عليها فكرة الإنسان في العصر الوسيط، وذلك من خلال أفكار ومفاهيم الحداثة، وأبرزها: العقلانية، والإنسانية، والفردية، وهي مفاهيم لم تعرفها وتطبقها مجتمعاتنا العربية منذ القرن الثالث عشر إلى يومنا هذا. هنا أشير إلى حقبة الصحوة الوطنية والقومية في بلادنا، التي أخذت في الظهور عبر الأفكار النهضوية العقلانية، المستنيرة، على مدى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، في مواجهة الفلسفات السلفية الرجعية السائدة، المساندة للأنظمة المستبدَّة، التي نجحت في إسدال الستار على تلك الصحوة، بدعم استعماري مباشر. لذلك كله، فإن فهم عالمنا المعاصر، بما في ذلك وضعنا المريع في الوطن العربي "يستلزم ولوج عالم الفلسفة الغربية المسيطرة من أجل الكشف عن سرها السياسي في المقام الأول، إذ، إن للفلسفة الغربية دوراً سياسيا أساسيا، بالإضافة إلى دورها المعرفي المرتبط بتطور العلم، آخذين بعين الاعتبار، أن الفلسفة هي أساسا سياسية، فهي "الجسر الواصل بين العلم والوعي الاجتماعي، إنها الأساس النظري الدفين للممارسة الطبقية، أي للسياسة، ومن ذلك تنبع أهمية الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي ومجابهته جديا. إن مثل هذا الاشتباك ليس ترفاً فكريا، وليس شأنا أكاديميا محضاً، وإنما هو شأن عملي ملح نحتاج إلى إجرائه من أجل معرفة كيف نتصدى للخصم الغربي وإفشال مشروعاته العدوانية الإبادية. فإذا لم تتعلم شعوب الأطراف وعمال المراكز كيف يطورون وعيهم وينظمون أنفسهم على أساس معرفة عميقة لطبيعة البرجوازية الغربية المسيطرة، وطبيعة أزمتها الحضارية الخانقة، فإن هذه البرجوازية ستستمر في غيِّها، وتتمادى في ممارساتها العدوانية الإبادية والاستهتار بمصائر الشعوب، وتواصل تصدير أزماتها للمجتمعات غير الغربية عموماً، ومجتمعاتنا العربية خصوصاً. يقودنا هذا التحليل مرة أخرى إلى ضرورة الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر، حتى يتسنى لنا أن نفهم العقلية الغربية المتأزمة، عقلية البرجوازية الغربية، التي تحكم عالم اليوم وتؤجج نيرانه. فالفلسفة، كما أسلفنا، سياسية في جوهرها. إنها روح السياسة، ومن ذلك ينبع ذلك الاهتمام الغربي المحموم بها، وينبع إصرار القوى الرجعية في الأطراف على منعها أو إضعافها أو تصفيتها. أما إذا تحدثنا عن ما يسمى بـ "العالم الثالث" بما في ذلك بلداننا العربية فإننا سنلاحظ بوضوح شديد، أن هناك تناقضاً ، أو هوة كبيرة بين فكر العالم الثالث وواقعه ، فهذا العالم لم يشارك حتى في حركة التنوير العالمية، بل كان تابعاً صغيراً جداً لها، ومع ذلك نجده من جهة يتكلم كثيراً عن الحداثة وما بعد الحداثة كما لو كان عنصراً فاعلاً، في حين تراه من الناحية العملية تابعاً ملحقاً ليس له أي مشاركة في التكنولوجيا العصرية، بل إنه لم يشارك حتى في الثورة الصناعية. إن العالم الثالث تنقصه حتى مقومات المرحلة الصناعية، ومع ذلك يتعاطى أفكاراً متقدمة مذهلة، مما يؤدي به إلى الشعور بمركب نقص يزيد من تعقيده ويورثه أمراضاً تزيد من هزاله. إن هذا العالم لم يستطع أن يقيم المؤسسات الفكرية والبحثية المؤهلة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لجعل المجتمع في أي بلد من بلدانه يتقدم بسوية متقاربة. إن القرون برمتها تعيش في هذا العالم، ففي الشارع الواحد تجد آثاراً من التاريخ السابق على الميلاد، كما نجد آثاراً لأحدث المخترعات. لقد شكلت الحداثة قوام الفكر التنويري العربي في أطيافه المختلفة، منذ بدايته الأولى في منتصف القرن الماضي إلى نهاياته المأساوية بعد حرب حزيران عام 1967. في شروط ما قبل الحداثة، وهي شروطنا العربية، لا ينشغل الوعي الحديث بصفات الحداثة وتعريفاتها ، بل بالأسباب التي لم تسمح بظهورها ، وهو ما يقوده إلى توزيع سؤال الحداثة إلى أسئلة متعددة أخرى تتضمن طبيعة السلطة السياسية ومناهج التعليم ونتائج السيطرة الاستعمارية .. وأمام هذه الأسئلة ، تستظهر "الحداثة العربية المتأخرة" ممارسة إنشائية تستحضر الحداثة الشفهية لتُرحل قضايا الحداثة الحقيقية إلى فضاء مجهول. ولقد هجس فرانتز فانون بحداثة أخرى، أي بمشروع ثقافي تحرري مختلف، لأنه وعي تباين الأزمنة التاريخية، وأدرك أن " نعمة المركز" لا تحمل إلى سهول "الأطراف" إلا مطراً مسموماً، ذلك أن المركزية الأوروبية، الممجدة للعقل والإنسان، تلحق إنسان "الأطراف" المتخلف بالطبيعة الصماء، التي تقوضها وتنهبها الآلة الحداثية الأوروبية. لقد سعت قوى الحداثة العربية، قبل هزيمة حزيران، إلى الاقتراب من مواقع الدولة، غير أن الهزيمة قادت إلى سلطات سياسية متماثلة، تتساوى فيها، بنيوياً ، ممارسات الحزب الحاكم وممارسات الأسرة الحاكمة . ومثلما أن إقصاء المجتمع خارج الدولة ، يضع الأخيرة خارج الزمن الحديث، فإن اشتقاق شرعية السلطة من ذاتها يضع المجتمع خارج السياسة. تقدم السلطة في العالم العربي، في صيغها المختلفة ، صورة تنتمي إلى زمن ما قبل الحداثة، لأنها تدمر في ممارساتها حيز المجتمع وحيز الدولة في آن؛ تدمر الحيز الأول في علاقات القهر والإفقار ، وتحطم الحيز الثاني في تحويله إلى ملكية خاصة خارج القوانين. تفضي علاقة الطرد المتبادل بين المجتمع والسلطة، في العالم العربي، إلى إشكالية التبعية والدولة التابعة. في أغلب الأحيان، فإن التسلط المعبر عن ضعفها والمكثف له ينتج ويعيد إنتاج التبعية، شرطاً لحماية السلطة وبديلاً عن شرعيتها الداخلية المفقودة. إن "الحداثة العربية المتأخرة" تخلط بين التملك المعرفي و "الموضة الفكرية" وبين المعرفة الكونية والتسليع الثقافي. ولعل الفرق بين التملك الموضوعي للمعرفة الكونية واصطياد الأمواج الثقافية، هو الذي أمد الثقافة العربية بمساهمات جليلة، أخذت سمة المشروع العلمي، كما هو حال كتابات عبد الله العروي وسمير أمين ومهدي كامل وفؤاد زكريا وياسين الحافظ وآخرين. وإضافة إلى الحضور العملي المتواتر لمرجعية السوق، فإن الحداثة الرثة تأخذ بمنهج "الأيديولوجيا الثقافية العالمية" ، أو بأوهام "الثقافة العالمية" ، كما لو كان تاريخ الثقافة منعزلاً عن تاريخ المجتمعات البشرية. في هذا السياق ، اعتقد أننا نتفق على أن نزوع المضطهدين للتغيير والثورة في بلداننا ومجتمعاتنا العربية لم ولن يتجاوزها التاريخ، وستظل على جدول أعمال الفكر والفلسفة حتى لحظة انتقالها للحركة والتحقق في إطار صيرورة الصراع أو الاختلاف والتعددية شرط امتلاكنا لمفاهيم الحداثة ومنهجيتها وتعريفاتها أو فروعها المتنوعة بين المواطنة وحرية الرأي والمعتقد والعلمانية بفصل الدين عن الدولة والتعميم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ....الخ في هذا الجانب ، اقدم فيما يلي بعضاً من الجوانب المعرفية للحداثة من حيث نشأتها وأبرز سماتها وأنواعها؟ الحداثة هي ذلك الانقلاب الفكري الذي حصل في أوروبا منذ القرن السادس عشر، وانتشر وترسخ في القرن الثامن عشر معلناً ميلاد عصر النهضة والتنوير العقلاني، الذي جاء نتيجة للتراكمات والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية، التي كان لها تأثيرها المباشر في إطلاق شعار النهضة الأوروبية الرئيسي بمضمونه الذي أكد على فصل الدين عن الدولة والسياسة، وإزاحة الكنيسة من عقول الناس في أوروبا. نشأة الحداثة: تاريخياً، يمكن القول أن الحداثة قد بدأت مع بزوغ عصر النهضة، بعد أن فقدت الكنيسة تأثيرها على عقول الناس في أوروبا، وبعد ادراك مادية الطبيعة ومحورية الإنسان عبر التفكير العقلاني المستنير، إلى جانب اكتشاف قيمة الفرد بوصفه ذاتاً خلاقة، مما اضاف عنصراً أساسياً من عناصر الحداثة، فالفرد وفق الحداثة تنبع قيمته من ذاته لا من ملّته ولا من قبيلته، وتلك هي القيمة الجوهرية للتطورات والمتغيرات التي أصابت أوروبا وأدت إلى اشتعال الثورات البرجوازية التي انهت سيطرة الكنيسة على عقول الناس، ومن ثم قضت على النظام الاقطاعي القديم الذي ساد عبر أفكاره الرجعية في أرجاء أوروبا طوال أكثر من 1200 عام منذ القرن الخامس الميلادي حتى القرن السابع عشر. من هنا، "كان نجاح الثورات السياسية البرجوازية في هولندا في مطلع القرن السابع عشر ، وفي بريطانيا من 1641 -1688 ، ثم الثورة الفرنسية الكبرى في القرن الثامن عشر (1789)، بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير أو عصر الحداثة، ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي أحدثت زلزالاً في الفكر الأوروبي الحديث كان من نتائجه الرئيسية" انتقال موضوع الفلسفة من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم وبين العقل والمادة. بهذه الثورات حققت أوروبا الغربية انتقالها التحديثي من مجتمع الطبيعة إلى المجتمع المدني. وبالطبع، فقد أدت هذه الثورات جميعاً دوراً في بناء فكر الحداثة، ومن ثم رفض قدسية الأفكار ووضعها جميعا ضمن دائرة الشك المنهجي والتحليل والاختبار. سمات الحداثة: إن أبرز سمات الحداثة أو هذه العقيدة الجديدة هي: -المادية، أي اعتبار الطبيعة كيانا مادياً مستقلا وقائماً في ذاته، تحكمه مبادئ وقوانين ونظم قابلة لأن تُعْرَف، واعتبار الإنسان جزءاً من الطبيعة؛ -الروح النقدي المتواصل، أي رفض سلطة المألوف وسلطة السلف وسلطة الغيب، ونزع هالة القدسية عن الأشياء والعلاقات، والالتزام بالعقل العلمي سلطة رئيسية للأحكام. -الثورية، أي إدراك تاريخية الطبيعة والمجتمع البشري، وإدراك الذات المدركة بصفتها قوة اجتماعية في مناخ من الحرية والديمقراطية. -اللاغيبية التي تصل أوجها في العلمانية. -اعتبار المعرفة العلمية قيمة قائمة في ذاتها ومطلقة الاستقلالية. فهي لا تقبل أي سلطة أو قيد يفرض عليها من خارجها. -الإنسانوية، أي الإيمان بالإنسان وقدرته الخلاقة واستقلاليته وحريته الذاتية واعتباره مصدراً وأساساً لكل قيمة. إن ما يميز العصر الأوروبي الحديث –كما يقول د. صادق العظم- "هو هذا الاتحاد العضوي الفريد الذي تم – على مراحل طبعاً، ولكن للمرة الأولى في تاريخ الانسانية – بين المصالح الحيوية للطبقات التجارية الصاعدة وبين الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية والميكانيكية الجديدة، وأريد ان أشير هنا إلى صيرورة تاريخية معينة في تطور أوروبا الحديثة أدت إلى ربط المعرفة العلمية – قديمها وجديدها – نهائياً بطرائق البورجوازية الأوروبية الصاعدة في إنتاج الثروة ومراكمتها. لقد بزغت إمكانية تحويل التقدم العلمي والتقني بصورة منتظمة ومدروسة إلى رأسمال من ناحية، كما بزغت إمكانية قيام الرأسمال في البحث المنتظم والمدروس عن المزيد من التقدم العلمي والتقني من ناحية ثانية، أي َأن للرأسمال مصلحة حيوية في العلم، كما أصبح للتقدم العلمي مصلحة لا تقل حيوية في الرأسمال، وهذه دينامية حضارية جديدة تماماً لم يعرفها الإنسان من قبل، على الرغم من أن حضاراته السابقة عرفت كُلاً من التجارة والصناعة والرأسمال والعلم والتقنية، وقد برهن هذا المزيج الجديد أنه طاقة متفجرة هائلة إلى أبعد الحدود، مَدَمِّرة وخلاقة في وقت واحد، وهذه الطاقة هي التي صنعت ما يسمى بالحداثة وشكلت العالم الحديث وقضت على القديم". إذن الحداثة بالمعنى النبيل والقوي للكلمة هي وليدة هذه الحركة التحريرية العقلانية والتجريبية النهضوية الهائلة التي كشفت عن تاريخية كل ما كان يقدم نفسه وكأنه مقدس، معصوم، يقف فوق التاريخ. هنا يكمن جوهر الحداثة ولبُهُّا.. فلا حداثة بدون تعرية، بدون تفكيك لموروث الماضي. على أي حال ، أعتقد ان الحداثة هي مشروع تحرري على الأصعدة والمستويات كافة، ففي ضوء الحداثة والتنوير دخلت أوروبا إلى عصر الليبرالية وحرية الرأي والمعتقد وحقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية، حيث أشرقت روح الحداثة بكل بهائها معلنة شعار التنوير بجلاء: العقل والحرية؛ عقل حر وحرية عاقلة؛ العقل يحرر حامله من قيود الطبيعة، بما في ذلك طبيعته". إن المرجعية الأساسية للإنسان –وفق جواهر الحداثة- هي "العقل، لا النص ولا الغيب؛ العقل بصفته إرادة الحرية، بصفته أداة الكشف عن مكنونات الطبيعة وإعادة خلقها إنسانيا بما يحقق ويضمن حرية الإنسان من قيودها، هذا ما أعلنه بجلاء مؤسسو الحداثة منذ البداية: برونو وغاليليو وميكافيلي وبيكون وهوبز وديكارت". وفي هذا السياق، أشير إلى أن الليبرالية هي وليدة الحداثة، إذ ان " الليبرالية ترتكز في الفكر الغربي كتنظير على فلسفة الإنجليزي جون لوك (1632-1704) فهو الأب الحقيقي والشرعي للفكرة، وإذا كان لوك يمثّل وجهها السياسي، من خلال نصوصه، فإنّ آدم سميث (1723-1790) يُمثّل وجهها الاقتصادي من خلال كتابه ثروة الأمم، وتقترن الليبراليّة بوجه عام بفكرة الحريّة والفرديّة وامتلاك الإنسان لزمام أموره، وبنبذ أيّ سلطة بإمكانها التحكّم في رقاب الناس مهما كانت طبيعتها". إذن، الأساس الذي تقوم عليه فكرة الحداثة هو العقل والعقلانية، فالعقل المتحرر من كل سلطان هو معيار أهل الحداثة، بل هو السلطان الحاكم على الأشياء، والحداثة بهذا المعنى إما ان تكون شاملة، كلية، وإما لا تكون، فلا يمكن الفصل بين الحداثة الدينية، والحداثة العلمية، والحداثة الفلسفية، والحداثة الصناعية أو التكنولوجية، والحداثة السياسية، بل وحتى الحداثة الشعرية أو الأدبية والفنية، إنها كل ذلك دفعة واحدة على الرغم من اختلاف هذه المجالات أو تمايزها عن بعضها البعض إلى حد ما، ولكنها كلها ناتجة عن انطلاقة واحدة من اجل حرية الإنسان وتحقيق ذاته الإنسانية على هذه الأرض بعيداً عن كل أشكال الإرهاب الفكري والأمني وعن كل أشكال الاستبداد والاستدعاءات والرقابة. وهنا لا بد لنا من "تأكيد الدور الأساسي للعقل في منظومة المعرفة (الابستومولوجيا) الحداثية، وذلك لأنه مصدر الحدس والبديهة التي هي - كما يقول ديكارت- أساس الأفكار الواضحة والمتميزة والصحيحة، الأمر الذي أدى إلى الاعتقاد بالعقلانية الموضوعية للحقيقة والثقة بقدرة الإنسان على اكتساب معرفة بالنظام التأسيسي للكون". ذلك إن التنوير والحداثة، هما إعلان مرحلة جديدة من التطور البشري، استطاع الإنسان من خلالها أنَ يَخرج من قصوره الذاتي، ويجرؤ على استعمال عقله بعيدا عن كل خضوع ووصاية للأنماط والأفكار الدينية الرجعية والغيبية. في ضوء ما تقدم، تكمن أهمية الفلسفة العقلانية عموماً من أجل التنوير واعمال الفكر في كل الظواهر المحيطة بنا، وهو امر هام ، لكن أهميتها تكمن في كونها تجمع بين إعمال الفكر والعقل من أجل التنوير والتغيير النهضوي بالمعنى الوطني والتطوري العلمي التكنولوجي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، وهو هدف لا بد ان يحمله ويناضل من اجله كل مثقف أو حزب تقدمي ديمقراطي ، إذ اننا أمام تحديات هائلة .. تحديات الصراع مع العدو الصهيوني وتحديات العولمة الإمبريالية. تحديات التبعية والتخلف الاجتماعي والاصولي .. تحديات الواقع الفلسطيني والعربي المفكك والمهزوم ... تحديات الاقتصاد والتنمية المستقلة والأمن الغذائي والمياه .. تحديات البطالة والفقر ... تحديات المستقبل الذي تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة العربيـة ... وكل ذلك مرهون بمراكمة وانضاج ومن ثم خوض المعركة الثقافية –بمنطلقاتها ومحدداتها السياسية - انطلاقاً من البنية، كنقطة انطلاق أو ارتكاز من ناحية، وكشرط موضوعي ليس لخوض المعركة الثقافية داخل فصائل وأحزاب الحركات السياسية الوطنية في بلداننا العربية، بل أيضاً لضمان التفاعل بين الحزب والجمهور عبر لجان تنظيمية متخصصة – في إطار مراكمة وتشكل الوعي النقيض لكل من الثقافة الغربية الامبريالية ومن ثم إدراك الأسس والآليات المطلوبة في مواجهة التحالف الإمبريالي الصهيوني باعتبار أن تناقضنا معه هو تناقض تناحري ووجودي في آن ، وإدراك ومواجهة واقع التخلف والتبعية والإرتهان من أجل تجاوزه في إطار الصراع السياسي الديمقراطي الداخلي ضد التحالف الطبقي البيروقراطي الكمبرادوري المهيمن راهناً ، بما في ذلك الصراع الديمقراطي مع كافة مكونات التيار الديني السلفي أو ما يسمى بالإسلام السياسي من ناحية ثانية بما يضمن تحقيق الوعي ووضوح الرؤية الفكرية ارتباطاً بثبات الهدف ومرونة الوسائل وحركة الواقع، وهنا يكون الوعي بمثابة الشرط النوعي لبلورة وتطور ما أسماه جرامشي بـ "الكتلة التاريخية" تمهيداً لحرب المواقع. وفي هذا السياق فإن طرح "جرامشي " جاء في فترة ركود الصراع الطبقي عموماً في إيطاليا، وفي جنوبها بشكلٍ خاص ، حيث كانت تتجلى حينذاك ظاهرة التخلف وغياب التبلور الطبقي قياساً بالشمال المتطور ، لذلك تحدث "جرامشي" عن دور المثقف العضوي والحزب الجمعي ، كحامل اجتماعي "بديل " للطبقة غير المتبلورة –كما هو الحال في بلادنا-، وفي هذا المناخ الاجتماعي بلور "جرامشي" فكرته حول تأسيس "الكتلة التاريخية" بهدف خلق تيار شعبي تقدمي يستطيع أن يحقق "الهيمنة الثقافية" ضد أفكار السلطة والطبقة الحاكمة او السائدة آنذاك، وصولاً إلى " حرب المواقع" التي دعا الحزب إلى القيام بدوره الطليعي في تفعيلها ونشر مبادئها وآلياتها عبر النقابات والمدارس والنوادي والجمعيات...الخ بهدف الوصول إلى مراكمة العناصر والمقومات المطلوبة لتحقيق الهيمنة الثقافية من قبل الحزب على المجتمع، ما يعني أن الهيمنة الثقافية – من وجهة نظر غرامشي- تسعى إلى مركسة الحزب ووعي الواقع الاجتماعي الاقتصادي في إيطاليا في آنٍ واحد، ومن ثم بناء ذهنية تفكير على أساس المنهج المادي الجدلي. إذن المسألة المركزية في طرح غرامشي هي: كيف تصبح أفكار حزبه الماركسي متغلغلة بين جماهيره وتحظى بتأييدهم ودعمهم والتحاقهم به ، لكن الإشكالية عندنا- في البلدان العربية – تكمن في بعدين : الأول: موضوعي يرتبط بطبيعة التطور الاجتماعي المشوه والعلاقات الطبقية غير المتبلورة، خاصة في صفوف ما يسمى بالشرائح "البرجوازية" التي لن تتحول إلى برجوازية صناعية مستنيرة وعقلانية وواعية لمصالحها في الحفاظ على سوقها الوطنية، كما أن كافة الشرائح الرأسمالية أو الطبقية العليا من "البرجوازية" في الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو المصارف والعقارات والمقاولات...الخ، ستظل تحمل طابعاً كمبرادورياً مرتبطاً بالبيروقراطية الحاكمة، ولذلك لا يمكن أن نطلق عليها سوى البرجوازية التابعة أو الرثة، وستظل كذلك طالما بقي التطور الاقتصادي في بلادنا محتجزاً وتابعاً سواء بالمعنى التاريخي أو في ظل مقتضيات العولمة الرأسمالية التي تتجسد عبر دور ووظيفة دولة العدو الصهيوني التي تحولت اليوم إلى ما اسميه بـ"الدولة الإمبريالية الصغرى"، تسهم بدورها في احتجاز التطور العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً بصورة واضحة ومباشرة، إلى جانب دور التراث السلفي السالب وتأثيره المتكيف مع شروط العولمة راهناً ومستقبلاً. أما البعد الثاني: فهو ينحصر تحديداً في العامل الذاتي أو الحزب الوطني التقدمي، حيث نلاحظ في قراءتنا لأوضاع الأحزاب التقدمية العربية عموماً، سيادة حالة من المتاهة أو الفوضى الفكرية التي تتداخل في بعض جوانبها بالمصالح "الذاتية" أو "الطبقية" الطارئة أو المستحدثة، كما هو الحال في علاقة عدد من أحزاب اليسار ببعض الأنظمة العربية القائمة بما في ذلك السلطة الفلسطينية، وهي علاقة لا يمكن إدراجها إلا ضمن الموقف الانتهازي على الصعيدين الطبقي والسياسي. وبالتالي فإن حالة التوهان أو الفوضى الفكرية، أو الإنتهازية السياسية والتراجع عن الهوية الفكرية، لم تكن وليدة الصدفة –فالصدفة لا يستخدمها إلا من كان جاهلاً بأسباب الحدث أو الظاهرة- إذ أن تراجع الجانب النضالي بالمعنى الكفاحي والسياسي الشعبي أو الجماهيري، إلى جانب ضحالة النضال الطبقي الاجتماعي، وغياب الوعي بتفاصيله في واقعنا، أدى كل ذلك إلى غياب الترابط الضروري بين مفهوم التحرر ومفهوم النضال الديمقراطي أو المطلبي، وهذا الأخير شرط –في هذه المرحلة- لتقدم هذا الحزب او ذاك في نضاله التحرري أو الوطني، سواء في فلسطين أو في أي بلد عربي آخر. أخيراً .. لقد استهدفت عبر كل ما تقدم من نصوص مكونة لهذه الورقة، ليس فقط للفهم والتأمل العقلاني الفلسفي أو المعرفي فحسب، بقدر ما هو أيضاً دعوة لمزيد من الحركة السياسية والمجتمعية الديمقراطية منهجا وسلوكا- خاصة في صفوف شاباتنا وشبابنا - على جميع المستويات، بعيداً عن كل أشكال ومظاهر الثبات أو الجمود أو العقائدية من ناحية، والوعي العميق بكل مكونات واقع بلداننا العربية بالاستناد إلى رؤية نظرية حداثية عقلانية وديمقراطية تعزز المشروع التحرري النهضوي العربي بما يمكننا من الإسهام بصورة واضحة في تطبيق شعاراتنا وسياساتنا على طريق النضال من أجل تغيير هذا المشهد السوداوي الذي نعيشه اليوم .
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خاطرة عن أحزاب وفصائل اليسار في بلداننا
-
الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى، وحديث عن الفيلسوف الإيطا
...
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
-
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ
...
-
أزمة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي وتعددها وسبل الخروج
...
-
عن أهمية الوعي العميق بالنظرية وبكل جوانب الواقع المعاش كشرط
...
-
حديث صريح عن البورجوازية الرثة في مجتمعات الوطن العربي
-
أحمد بهاء الدين شعبان :هكذا تحدّث الرفيق -غازي الصوراني-تشري
...
-
آثار ومخاطر سياسة ترامب في ولايته الثانية على الوضع العربي و
...
-
المجلد التاسع عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2022
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2020
-
107سنوات على وعد بلفور بين نوفمبر 1917و نوفمبر 2024.........
-
المجلد السادس عشر - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2015 و 2
...
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
-
نمو وتطور ولادة الفكرة الصهيونية
-
رسالة الى رفاقي اصدقائي الاعزاء .....التمسك بالماركسية كبوصل
...
-
وفاة إبن رشد وآثارها على توليد ظاهرة الانقطاع المعرفي في الف
...
-
هل تشكل الديمقراطية مفتاحاً لحل مشكلات الواقع العربي؟ حديث ح
...
المزيد.....
-
خرج -مكبرا- بعد سقوط الطائرة بمعجزة انقدته و28 آخرين من أصل
...
-
غزة.. مستشفى يكشف هوية 5 صحفيين كانوا ينامون بسيارة قبل مقتل
...
-
بوروشينكو يحذر من فقدان أوكرانيا
-
الخارجية تعلن عدد الأوكرانيين الراغبين في الحصول على الجنسية
...
-
العثور على جثة في تجويف عجلة طائرة بعد هبوطها في هاواي
-
الشرطة الألمانية تعثر على جثتي طفلين ووالدتهما مصابة في منزل
...
-
كوريا الجنوبية تعيد أجنبيا قسرا إلى البلاد للتحقيق معه بتهمة
...
-
استشهاد 5 صحفيين وغارات إسرائيلية على مناطق مختلفة بغزة
-
الجغرافيا السياسية كانت قاسية على سوريا وهي أشد قسوة على الث
...
-
الخطوط الجوية اليابانية تتعرض لهجوم إلكتروني
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|