أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بهجت العبيدي البيبة - الحروف الفينيقيّة: الثورة الصامتة التي غيّرت مجرى التاريخ














المزيد.....


الحروف الفينيقيّة: الثورة الصامتة التي غيّرت مجرى التاريخ


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8202 - 2024 / 12 / 25 - 13:00
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


لطالما كانت الكتابة هي السحر الذي مكّن الإنسان من أن يُطوّع الزمن لصالحه، أن يحفظ خبراته، ويصوغ ماضيه ليصبح أساسًا لمستقبله. منذ أن خطّ الإنسان الأول أولى إشاراته على جدران الكهوف، بدأ رحلته الطويلة نحو التدوين. رحلة قادته في نهايتها إلى اكتشاف أعظم ابتكار غيّر وجه البشرية: الحروف الفينيقيّة.

إن هذه الحروف لم تكن مجرد وسيلة جديدة للكتابة، بل كانت ثورة بكل المقاييس، مثلها مثل الثورة الزراعية أو الصناعية. ففي عالم ما قبل الحروف، كانت الكتابة تعتمد على الرموز أو الصور، وهي أدوات صعبة ومعقدة، تجعل الكتابة عملية مرهقة ومحدودة الاستخدام. فيمكننا تخيّل كاتب مصري قديم يُنقّب في ذاكرته عن الصور المناسبة، يجاهد في اختيار رمز يمثل فعلًا أو معنى تجريديًا مثل “الحرية” أو “الجمال”. هذه الرموز، التي احتاجت إلى ذاكرة استثنائية وإبداع لا محدود، كانت تشكّل عائقًا أمام انتشار الكتابة، مما جعلها حكرًا على النخبة، ورفعت من شأن الكتّاب ليصبحوا أعمدة الحضارات القديمة.

لقد كان المصريون القدماء من أوائل الأمم التي طوّرت نظمًا كتابية متقدمة، ولكن كتاباتهم، على روعتها، ظلت مرتبطة بالتعقيد الرمزي. أما قبلهم، فقد أهدى السومريون للبشرية أول نظام كتابة معروف، حيث ابتكروا الكتابة المسمارية، تلك العلامات التي حفروها على ألواح الطين. إن هذه الخطوة الرائدة كانت بداية التدوين، وهي اللحظة التي التقت فيها البشرية بفكرة الحفاظ على تجاربها من النسيان. فبفضل السومريين، خرج الإنسان من ظلامية الذاكرة الشفهية التي كانت تشوه القصص، وتزيف الأحداث، وتحول الوقائع إلى خرافات بفعل تضخم الخيال البشري على ألسنة الرواة.

لكن، على الرغم من عبقرية السومريين، كان لنظامهم الكتابي عيوبه. إن التعقيد الذي اتسمت به الكتابة المسمارية، مثل الكتابات المصرية، جعلها بعيدة عن أيدي العامة، وحكرًا على نخبة صغيرة من الكتّاب. وهذه النخبة كانت تمتلك المعرفة وتحتكرها، وتضع الكتابة في إطار ضيق يحدّ من دورها المجتمعي.

وهنا جاء الفينيقيون، ليقدموا للعالم واحدة من أعظم الأفكار التي خرجت من العقل البشري على الإطلاق: الحروف الأبجدية. فلقد كان ابتكارهم في غاية البساطة، ولكنه في ذات الوقت في غاية العبقرية. لقد أدركوا أن اللغة البشرية يمكن تحليلها إلى أصوات، وأن كل صوت يمكن أن يمثَّل برمز واحد. ومن خلال هذا التحليل، ابتكروا حروفًا قليلة العدد، لكنها كافية لتمثيل أي كلمة أو معنى. وهكذا انتقل الإنسان من الرسم إلى التدوين، من الإبداع العشوائي إلى النظام.

لقد كان لهذه الأبجدية أثر عميق في كل الحضارات التي اتصلت بالفينيقيين، والتي سرعان ما تبنت هذه الفكرة البسيطة والمدهشة. فاليونانيون أخذوا عن الفينيقيين الأبجدية وطوروها، لتصبح الأساس الذي بنيت عليه الأبجديات الغربية. والعرب كذلك أخذوا من هذا النظام ليطوّروا لغتهم العظيمة، التي أصبحت أداة لواحدة من أعظم الحضارات التي عرفها التاريخ.

لكن الفينيقيين لم يمنحوا العالم فقط وسيلة بسيطة للكتابة، بل منحوه فرصة الانتشار. فلم تعد الكتابة مقصورة على الكتّاب المحترفين الذين أمضوا سنوات في حفظ الرموز والتمرس عليها. وأصبحت أداة في يد الجميع، ووسيلة لحفظ المعرفة ونقلها من جيل إلى آخر. بفضل هذه الحروف، أصبح بالإمكان كتابة التاريخ، وتوثيق العلوم، ونقل الخبرات دون خوف من التحريف أو النسيان.

وإذا تأملنا مسيرة الحروف منذ اختراعها وصولًا إلى العصر الحديث، سنجد أنها لم تكن مجرد وسيلة للكتابة والتدوين، بل كانت النواة التي انطلق منها العقل البشري ليصل إلى أعظم إنجازاته التقنية. لقد كانت الأبجدية الفينيقية البسيطة هي الخطوة الأولى في سلسلة طويلة من التطورات التي قادتنا إلى عالم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. فالحروف التي وُلدت في أذهان الفينيقيين تطورت لتصبح أساس نظم الترميز التي بُني عليها علم البرمجة.

عندما اخترع الإنسان الكمبيوتر، لم تكن الآلة قادرة على الفهم أو العمل دون لغة تُخبرها بما تفعل. وهكذا ظهرت لغات البرمجة، التي استلهمت الأبجدية والحروف لخلق رموز وأكواد تُترجم الأفكار إلى أوامر. ومن هنا، كانت الحروف هي التي مكّنتنا من الحديث مع هذه الآلات التي تحوّلت تدريجيًا من أدوات للحساب إلى منصات للتفكير والمحاكاة.

واليوم، ومع ظهور الذكاء الاصطناعي، نجد أنفسنا أمام تتويج لهذه المسيرة الطويلة. إن الحروف التي اخترعها الفينيقيون، واستُخدمت في لغات البرمجة، أصبحت هي الوسيلة التي يُصاغ بها الذكاء الاصطناعي نفسه. كل خوارزمية، وكل نموذج ذكاء اصطناعي متقدم، يعتمد على تلك الرموز والأكواد التي تعود جذورها إلى اختراع الحروف. بل إن الذكاء الاصطناعي، في جوهره، ليس سوى امتداد لهذه القدرة البشرية الفريدة على التدوين والترميز، التي بدأت بتسجيل المعاني والتجارب، وانتهت بخلق أنظمة قادرة على محاكاة العقل البشري.

لقد كانت الحروف الفينيقيّة بمثابة المحرّر العظيم للإنسان من قيود النسيان. وبفضلها، أصبح بإمكان كل فرد أن يكتب، وأن يسجل أفكاره وأحلامه، وأن ينقلها عبر الأجيال دون أن يفقدها معناها. إنها بحق أعظم ابتكار في تاريخ البشرية، ابتكار لا يقل أهمية عن النار أو العجلة، لأنها أداة جعلتنا ما نحن عليه اليوم: كائنات تحفظ ماضيها، وتخطط لمستقبلها، وترسم بيدها تاريخها الذي لا يمحى.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرشدية اللاتينية: بذور النهضة الأوروبية وخسارة العالم الإسل ...
- التنوير العربي: رحلة متواصلة نحو العقلانية والعلم
- العقل السحري بين الشرق والغرب: تأملات في عقول الجماهير والمد ...
- ألمانيا في محنة: بين جراح الإرهاب وصوت الضمير
- إعمال العقل في النصوص الدينية: بين نور الفكر وظلام الجمود
- مصر والجائزة الكبرى في مخطط الشرق الأوسط الجديد
- اللغة العربية: بين عظمة الإرث وتحديات العصر
- قراءة في خريطة الصراعات العالمية والإقليمية: مستقبل العرب وم ...
- العقل النقدي بين “حرية العقل” وتحقيق “دويتشه فيله”: معركة ال ...
- الذكاء الاصطناعي: شريك الإنسانية في غزو المستقبل واستكشاف عو ...
- الفوضى الخلاقة: معارك عربية بين الانهيار والصمود
- في الوفاء نكتب: قيمة إنسانية لا تموت
- التاريخ بين الحقيقة والتحريف: دعوة لدراسته بمنهج علمي موضوعي
- الحب.. بوابة العروج إلى السماء
- حرية العقل وبوصلة الفكر: التعليم في مواجهة الفوضى الكبرى
- قراءة في قرارات القيادة العامة السورية: رؤية شاملة لمستقبل ج ...
- سوريا بعد سقوط الأسد: تحديات ومطامع
- سوريا بعد سقوط النظام: تحديات المرحلة المقبلة بين مطامع الخا ...
- وهم هاتف تسلا الرخيص ومعاناة الفقراء
- اهتمامات الشعوب بين العالم العربي والغرب: قراءة في أولويات ث ...


المزيد.....




- ليس الإنسان فقط، حيوانات تقدم الهدايا لبعضها البعض لكن لماذا ...
- إسرائيل وحماس تتبادلان الاتهامات بشأن عرقلة اتفاق وقف إطلاق ...
- إقبال كثيف على شراء تذاكر اليانصيب الأمريكي مع وصول الجائزة ...
- سوريا ـ حظر تجول بعد فيديو -مزعوم- وتبادل تحذيرات مع إيران
- وزير خارجية لبنان: نقف مع الحكومة الجديدة في سوريا
- في أول تواصل رسمي بين الطرفين.. ليبيا تؤكد دعمها للقيادة الس ...
- أرتال إدارة الأمن وقوات الشرطة السورية تنتشر في المدن السوري ...
- وزير الخارجية البحريني يبارك للشعب السوري -انتصاره العظيم- ...
- غزة.. أطفال تموت بردا
- كنائس الأردن تتضامن مع فلسطين


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - بهجت العبيدي البيبة - الحروف الفينيقيّة: الثورة الصامتة التي غيّرت مجرى التاريخ