أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ضيا اسكندر - عندما تمنحك الأجهزة الأمنية صفة المواطنة














المزيد.....


عندما تمنحك الأجهزة الأمنية صفة المواطنة


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 8202 - 2024 / 12 / 25 - 10:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بعدما أتمَّ ابني عامه الخامس عشر، اصطحبته صباحاً إلى مديرية الأحوال المدنية في اللاذقية لاستخراج بطاقته الشخصية، كما يقتضي القانون. كان اليوم مشمساً، لكنه مشحون بشيء خفي لا يمكن تسميته. حملت معي كل الأوراق الثبوتية المطلوبة: إخراج قيد، صور شخصية، دفتر العائلة. وتقدّمت نحو الموظف المختص، وأعطيته ما لدي من وثائق وسرعان ما انكبّ على شاشة الكمبيوتر.. وكأنه يتثبّت من صحة البيانات المبرزة أمامه.
وفجأة، تجمّد المشهد. رفع الموظف رأسه ببطء، عايننا بنظرات فاحصة كأنه يزن أرواحنا، ثم هرش رأسه بعصبية. شعرتُ أن ثمة خطباً ما، لكنه اختار الصمت لبرهة قبل أن يسحب ورقةً بيضاء، دوّن عليها كلمات لا تُقرأ من بعيد، ووضعها في مغلف ممهور بعدة أختام باللون الأحمر. وقال بصوت غليظ:
- عليكم مراجعة شعبة الأمن السياسي للحصول على موافقة لاستخراج البطاقة.
كانت الكلمات كالرصاص، اخترقتني دون إنذار. حاولت استيعاب الموقف وقلت بدهشة:
- لماذا؟!
أجاب بلا اكتراث، وكأن السؤال لا يستحق إجابة:
- هكذا التعليمات. تأخرتم شهراً عن الموعد القانوني.
ابتلعتُ دهشتي وحاولت تبرير التأخير:
- كان ابني منشغلاً بامتحانات الشهادة الإعدادية، وفور انتهائها جئنا. إذا كانت هناك غرامة، فأنا مستعد لدفعها، لكن ما علاقة الأمن السياسي بهوية شخصية؟
أجاب الموظف، وقد انتابه الضجر من هذه المحادثة:
- أرجوك يا أخي، لا وقت لديّ للجدل والنقاش، الموضوع ليس بيدي، ما أنا إلا عبد مأمور. من فضلك خذ هذا المغلف واذهب إلى الشعبة، عسى يوافقوا على منحكم صفة المواطنة.

خرجت من المديرية والمغلف في يدي، كأنه صندوق أسرار ثقيل. كان ابني يسير بجواري، يلاحقني بأسئلة خائفة. لم أكن بحاجة لتفسير خوفه؛ فهو يعرف تاريخي السياسي، ويعلم أنني مررت بجحيم الاعتقال. بذلتُ جهداً كبيراً لطمأنته بأن الأمر مجرد إجراء روتيني لا يدعو للقلق.
عند وصولنا إلى الشعبة، وجّهنا موظف الاستعلامات للطابق الثاني، حيث مكتب الضابط المسؤول. ولجنا المكتب، وألقيت التحية، وقدّمت المغلف للضابط. فتحه بعجلة، قرأ محتواه، ثم ألقى نظرة سريعة عليّ وعلى ابني، وقال بنبرة ساخرة:
- أهلاً بالمناضل الكبير! ما هي آخر مقالاتك النارية؟
ابتسمت ببرود:
- أعتقد أنكم تتابعونها.
أغلق المغلف فجأة وقال بجدية مصطنعة:
- لماذا تأخرتم شهراً عن استخراج الهوية؟
كررت له المبرر نفسه، لكنه تجاهلني، واستدار نحو ابني بسؤال صادم:
- ألا تقرأ ما يكتبه والدك في جريدة "قاسيون"؟
ارتبك ابني وأجاب سريعاً:
- لا، عمو، أنا لا أهتم بالسياسة أبداً.
- وبماذا تهتم إذن؟
- بدراستي والموسيقا. أتعلم العزف على الكمان.
- هل تريدني أن أصدق أن والدك لم يحاول زرع أفكاره في رأسك؟
ردّ ابني وهو يرتجف:
- والله لا علاقة لي بالسياسة! ولم أستمع لنشرة أخبار في حياتي.
ضحك الضابط بتهكم، وقال:
- حسناً، إذا كنت تريد هوية، عليك أن تثبت أنك تستحقها.
نظرت إليه بدهشة:
- كيف يعني؟!
ابتسم بسخرية قاتلة، وقال:
- بأن يكتب ابنك تعهداً بأنه سيخبرنا عن أي شيء يمسّ أمن الوطن.
تقدّمت خطوة للأمام، وكتمت غضبي بجهد خارق:
- مع احترامي، ابني قاصر، لا يُعتد بتوقيعه قانوناً.
ردّ بحدة:
- وهل ستعلّمنا القانون؟ يبدو أنك لا تريد أن يحصل ابنك على هوية.
ثم التفت إلى ابني، وأعطاه ورقة بيضاء وقلماً، وقال:
- اكتب، ولا تنصت لأبيك كي لا ينتهي بك المطاف مثله.

أمسك ابني القلم وهو يرتجف، بينما بدأ الضابط يملي عليه بصوت آمر:
- أنا الموقع أدناه، فلان الفلاني، أتعهّد وأنا بالحالة المعتبرة شرعاً بأن...

في تلك اللحظة، لم أعد أحتمل. أمسكت بيد ابني، وسحبت القلم من بين أصابعه المرتجفة، ونظرت في عيني الضابط بجرأة لم أتوقعها من نفسي. وقلت بصوت ثابت:
- قلت لك أن ابني قاصر، أكلّمك بصفتي حقوقياً.
ضحك الضابط ضحكة مستفزة، وأشار بيده نحو الباب:
- على راحتكم. الباب مفتوح، لكن تذكروا أنكم اخترتم الطريق الصعب.

تنهدت بعمق وعدتُ للجلوس مرة أخرى وأومأت لابني بأن يستجيب. أمسك ابني القلم وهو يرتجف، بينما بدأ الضابط يملي عليه بصوت آمر، وهو ينظر نحوي بشماتة وتشفٍّ:
"أنا الموقع أدناه، فلان الفلاني، أتعهد وأنا بالحالة المعتبرة شرعاً بأن ألتزم بإبلاغ الجهات المختصة عن أي نشاط أو تصرف يهدد أمن الوطن.."
نظرت إلى ابني وهو يكتب كلمات لم يفهمها. لم أستطع حمايته في تلك اللحظة. وقّع على التعهد، وسلّم الورقة للضابط، الذي ابتسم بانتصار وهو يقول:
- الآن أصبحت مواطناً صالحاً.
خرجنا من المكتب، وصوت الباب المعدني خلفنا كان أشبه برصاصة تُطلق على كرامتنا. بينما أضع يدي على كتف ابني، نظرت إليه وقلت بحزم:
- المواطنة الحقيقية يا بني، ليست بطاقة تضعها في جيبك، بل كرامة تحميها في قلبك.
في طريق العودة، كان ابني غارقاً بالصمت، لكنني رأيت في عينيه وميضاً جديداً، كأنه أدرك لأول مرة معنى أن تكون حراً في وطنٍ يسعى لتحويلك إلى رقم. وظل الصمت يسيطر علينا. لم أنظر في عيني ابني، ولم أجرؤ على الحديث. كنت أعرف أن تلك اللحظة ستظل عالقة في ذهنه، كنقطة سوداء في طريقٍ طويل من التساؤلات عن معنى المواطنة، ومعنى أن تكون إنساناً في وطن يُثقل كاهلك بقيود لا تُرى، لكن تُشعر.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التفاؤل الحذر في مواجهة التحديات السورية
- مقابلة حصرية خصّني بها الرئيس السابق بشار الأسد
- جيهان.. وعدُ العدسة وخلودُ القضية
- نحو دستور يُحيي قيم العدالة والمساواة في سوريا
- عبء القُربى في زمن القمع
- المال المسروق.. من قنوات الفساد إلى قنوات التعويض
- سوريا بين الكنز المفقود والرصاص الصامت
- الغرفة التي لم تكن سرية
- بين المزايدات والفرص المهدورة: قراءة في حال -محور المقاومة-
- «التكويع» تحت المجهر: لماذا يغيّر الإنسان مواقفه؟
- المصالحة والاعتدال.. نحو استراتيجية واعدة
- أخيراً.. صفحة الاستبداد والقهر تُطوى ليبزغ فجر الحرية
- حين أدار الأسد ظهره للأمل.. سوريا والقرار 2254
- منهجية إدارة الأزمة السورية.. بين دروس الماضي وضرورات المستق ...
- سوريا المنهكة.. هل يشكل الحوار طوق النجاة؟
- سوريا، بل المنطقة عموماً إلى أين؟
- وجهة نظر في وقف إطلاق النار بين حزب الله و-إسرائيل-
- هل ما شهدناه أمس، بداية الغيث؟
- ما له وما عليه؟
- بالنقاط أم بالضربة القاضية؟


المزيد.....




- مصر: جدل بسبب تصريحات قديمة لوزير الأوقاف عن فتاوى الشيخ الس ...
- ماذا بقى من القواعد العسكرية الفرنسية في أفريقيا بعد انسحابه ...
- محكمة روسية تدين مواطناً هولندياً بتهمة الاعتداء على ضابط شر ...
- كله إلا سارة.. نتنياهو ينتقد وسائل الإعلام دفاعًا عن زوجته: ...
- يورونيوز نقلا عن مصادر حكومية أذرية: صاروخ أرض جو روسي وراء ...
- إطلاق نار في مطار فينيكس خلال عيد الميلاد يسفر عن إصابة ثلاث ...
- إعادة فتح القنصلية التركية في حلب بعد 12 عاماً من الإغلاق
- بوتين: روسيا تسعى إلى إنهاء النزاع في أوكرانيا
- ماذا تنتظر عمّان من الشرع و ترامب؟
- -يديعوت أحرونوت-: إسرائيل تهاجم اليمن بـ 25 طائرة مقاتلة


المزيد.....

- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ضيا اسكندر - عندما تمنحك الأجهزة الأمنية صفة المواطنة