|
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (5)
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8201 - 2024 / 12 / 24 - 20:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سأعرض الآن كيف نستدل على نوايا الأنبياء والمفسرين في هذه الحالات. وهنا، أيضاً، يجب أن نبدأ من الفرضية الأكثر عمومية، التي تستقصي أولاً من الآيات الكتابية الأكثر وضوحاً ما هي طبيعة النبوة أو الوحي، المؤلفة منهما الفرضية؛ ثم نمضي إلى المعجزات، وصولاً إلى الأكثر عمومية حتى نصل إلى آراء نبي أو مفسر معين، وأخيراً إلى المعنى المراد من وحي أو نبوءة أو سيرة أو معجزة معينة. لقد نبهنا بالفعل إلى وجوب توخي الحذر لعدم الخلط بين عقل نبي أو مفسر وبين العقل الإلهي وصدق المسألة؛ ولا أراني بحاجة لمزيد من الاسهاب في هذا الموضوع. لذا سأنظر هنا في معنى الوحي، ما تبلغنا به الطريقة الحالية حول ما رآه الأنبياء والمفسرين أو سمعوا عنه حقاً، وليس ما أرادوا تبليغه أو تمثيله باستخدام الرموز اللفظية. وهنا يمكن التخمين حول ما أرادوا تبليغه، لكن لا يمكن استنتاجه على وجه اليقين من مقدمات كتابية.
هكذا قد بَيَّنا الخطة الصحيحة لتفسير الكتاب المقدس وأظهرنا، في الوقت نفسه، أنها تُعد الطريق الأوحد والأكيد لاستقصاء معناه الحقيقي. وأود أن أضيف أن هناك بعض الأشخاص (إذا كان لهم وجود) ممن قد تُنسب إليهم العِصْمة، سواء من أصحاب السُنن الجديرة بالثقة أو ممن تلقوا شهادة من الأنبياء أنفسهم، على النحو الذي تدعيه طائفة الفريسيين؛ أو ممن يتبعون إماماً يؤمن أتباعه بمعصوميته في تفسير الكتاب المقدس، مثلما يتفاخر الكاثوليك الرومان. لكن حيث أننا لا نستطيع التأكد أبداً، سواء من صحة هكذا سنن أو من السلطة المرجعية لهكذا إمام، فلن نستطيع التوصل لأي استنتاج قاطع في أي من الحالتين: الأولى قد أنكرت صحتها أقدم الطوائف المسيحية، والثانية أقدم الطوائف اليهودية. في الواقع، عندما ننظر في تسلسل الأعوام (ناهيك عن ذكر نقاط أخرى) التي تلقاها وصدقها الفريسيون عن أحبارهم، وهي الفترة التي يزعمون تدوين السنن خلالها نقلاً عن النبي موسى، سنكتشف عدم صحة مزاعمهم، كما أُبين في موضع آخر. بالتالي يجب توخي الحذر حين النظر في أي من هذه السنن؛ ورغم التزامنا، وفقاً للنهج الحالي، باعتبار السنن اليهودية، لاسيما معاني الكلمات العبرية كما وصلتنا، قد سلمت من التحريف، إلا أننا قد نقبل بالكلمات لكن مع الإبقاء على شكوكنا حول المعاني.
ما من كاتب استطاع أبداً أن يغير في معنى لفظة واحدة شائعة التداول، حتى رغم استطاعة الكثيرين تغيير معنى جملة كاملة. هذه حرفة بالغة الصعوبة؛ لأن كل من يحاول تغيير معنى كلمة سيضطر، في الوقت نفسه، إلى أن يشرح طبائع ومقاصد كافة من استعملوها قبله من المؤلفين، وإلا، عدا ذلك، سيلجأ إلى دهائه وحذقته لتزييف هذه الطبائع والمقاصد الأولية.
كذلك، سنلاحظ أن العوام والعلماء على حد سواء يحفظون اللغة، لكن العلماء وحدهم هم من يمكنهم حفظ معاني الجمل والكتب: هكذا، نستطيع بسهولة تخيل أن يتوفر العالم الفلاني على كتاب نادر جداً بين يديه، حيث يستطيع أن يُغير أو يُحرف معنى جملة منه، لكنه لن يستطيع تغيير حروف الكلمات؛ أكثر من ذلك، إذا أراد أي كاتب أن يغير في معنى لفظة شائعة لن يمكنه المحافظة على هذا التغيير وسط الأجيال القادمة، أو فيما هو شائع من لغة الخطاب أو الكتابة.
لهذه الأسباب وأمثالها قد نخلص بسهولة إلى استنتاج أن أحداً قد لا تراوده إطلاقاً فكرة الاعتداء بالتحريف على لغة ما، رغم أنه يستطيع تزييف مقاصد الكاتب عبر تغيير مواضع عباراته أو تفسيرها تفسيراً خاطئاً. وحيث أننا قد افترضنا أن طريقتنا (القائمة على مبدأ أن العلم بالكتاب المقدس يجب أن يُطلب منه ذاته وحده) هي الطريقة الوحيدة الصحيحة، لذا يجب أن نرفض صراحة أي علم لا يمكنها توفيره من أجل الفهم الكامل للكتاب المقدس....
إذا وقع بين أيدينا كتاب يحوي مرويات مستحيلة أو غير قابلة للتصديق، أو مكتوب بأسلوب بالغ الغموض، أو كنا لا نعرف شيئاً عن مؤلفه، ولا عن توقيت أو مناسبة كتابته، ساعتئذٍ سنضيع جهدنا عبثاً للخروج بأي معرفة مؤكدة حول معناه الحقيقي. لجهلنا بهذه النقاط ربما لن نستطيع معرفة الغاية التي قصدها أو حاول أن يقصدها المؤلف؛ بينما لو كنا على دراية كافية بها، كنا سنرتب أفكارنا حتى لا تجرفنا أهوائنا لكي ننسب للمؤلف أو لمن كتب لهم المؤلف أكثر أو أقل من المعنى الذي قصده، وكنا سنركز انتباهنا على ما نعتقد أنه جال بعقل المؤلف، أو أملته حيثيات التوقيت والمناسبة. أظن هذا واضح بما فيه الكفاية للجميع.
إننا عادةً ما نقرأ في كتب مختلفة حكايات تبدو شديدة التشابه فيما بينها، لكن أحكامنا عليها تكون بائنة الاختلاف، تبعاً لآرائنا المسبقة حول مؤلفيها. أتذكر أنني قرأت ذات مرة كتاباً يحكي عن شخص يدعى أورلاندو فوريوسو كان معتاداً على ركوب وحش مُجنح يطير، يُحلق به فوق أي بلد يشاء، ويقتل أعداداً هائلة من الإنس والجان، وأساطير من هذا النوع، التي من وجهة نظر العقل لا تعدو كونها أكثر من هراء سخيف. وقرأت قصة مشابهة جداً وردت في كتاب "أوفيد من بيرسيوس" (Ovid of Perseus)، وكذلك في كتب "قضاة وملوك شمشون" (Judges and Kings of Samson)، الذي استطاع بمفرده ودون سلاح أن يقتل آلاف الرجال، وقرأت عن إيليا (Elijah)، الذي طار في الهواء، ثم عرج إلى السماوات العلى في عربة من نار، تجرها جياد من نار. كل هذه القصص تبدو متشابهة فيما بينها بشكل واضح، لكننا نحكم عليها بطريقة مختلفة جداً. القصة الأولى كانت غايتها التسلية فقط، الثانية كانت ذات مغزى سياسي، الثالثة مغزى ديني. نحن نعرف ذلك ببساطة من آرائنا المسبقة التكوين حول مؤلفيها. لذلك من الضرورة بمكان أن نعرف شيئاً حول مؤلفي الكتابات الغامضة أو العسيرة على الفهم، إذا كنا نريد تفسير المعنى الذي قصدوه؛ ولنفس السبب، لكي نختار القراءة الصحيحة من بين تنوع كبير من القراءات المختلفة، يجب أن تتوفر لدينا معلومات حول النُسخ التي ظهرت فيها الاختلافات، وحول إمكانية اكتشاف قراءات أخرى توصل إليها أشخاص من ذوي سلطة اختصاصية أكبر....
... أجد أن الصعوبات الكامنة في هذه الطريقة لتفسير الكتاب المقدس من تاريخه هو ذاته جَمَّة إلى حد عدم التردد في القول إن المعنى الحقيقي للكتاب المقدس في مواضع كثيرة عسير على الفهم، أو في أفضل الأحوال متروك للظن؛ رغم ذلك، يجب أن أشير إلى أن هذه الصعوبات تنشأ فقط حين نحاول اقتفاء المعنى الذي قصده أحد الأنبياء أو المفسرين حول مسائل غير قابلة للإدراك، بل متاحة للخيال فقط، لا محل لها في الأشياء، حيث يستطيع الفهم إعطاء فكرة واضحة ومحددة عنها، والتي نستطيع إدراكها من خلال هذه الأشياء نفسها: هذه المسائل سهلة الإدراك بطبيعتها ولا يمكن التعبير عنها بأسلوب غامض يجعلها عسيرة على الفهم؛ فكما يقول المثل، "الحكيم تكفيه كلمة واحدة." إن إقليدس، الذي كتب فقط عن مسائل بسيطة وسهلة الفهم، يمكن لأي شخص في أي لغة أن يفهمه بسهولة؛ نستطيع تتبع مقصده بالكامل، والتحقق من معناه الحقيقي، دون الحاجة إلى معرفة وافية باللغة التي كتب بها؛ في الحقيقة، أبسط أساسيات المعرفة به تكفي. لا نحتاج إلى إجراء أبحاث حول حياة هذا المؤلف أو مشاربه أو عاداته؛ ولا نحتاج إلى أن نتحرى في أي لغة كتب، ولا متى كتب، ولا في حظوظ كتابه، ولا في قراءاته المختلفة، ولا كيف تلقاه الجمهور، ولا بنصيحة من تم اعتماده.
ما نقوله هنا عن إقليدس يمكن قوله بالمثل عن أي كتاب يتطرق لأشياء هي بطبيعتها متاحة للإدراك: هكذا نخلص إلى أننا نستطيع بسهولة تتبع مقاصد الكتاب المقدس في المسائل الأخلاقية، من تاريخ الكتاب المقدس تحت أيدينا، ونستطيع التحقق من معناه الحقيقي.
سنلاحظ أن الآيات المتعلقة بالعبادة الحقة تأتي في لغة سهلة ومباشرة للغاية، ومساوية في بساطتها وسهولة فهمها. كذلك، لما كان اختيار سبيل الهداية والنعيم الحق يتوقف على اختيار واعي من القلب- ونحن لا نختار فعلاً إلا ما نفهمه بوضوح- يصبح جلياً أننا نستطيع اقتفاء مقاصد الكتاب المقدس بيقين في المسائل المتعلقة بالهداية والضرورية للفوز بالنعيم؛ وبناءً عليه، لا نحتاج إلى تحميل أنفسنا عناء القلق حول ما يتبقى: مثل هذه المسائل، إلى حد ما لا نستوعبها بعقلنا وفهمنا بوجه عام، تعتبر مُطمئنة أكثر منها مُجدية.
أعتقد أنني قد فرغت الآن من شرح الطريقة الصحيحة لتفسير الكتاب المقدس، وأدليت بما فيه الكفاية برأيي حول هذه المسألة. بجانب ذلك، لا يساورني شك في أنكم ستشاركونني الرأي في أن هذه الطريقة لا تتطلب سوى مساعدة من العقل الطبيعي. إن طبيعة العقل الطبيعي وكفايته تتألف من استنتاج وإثبات غير المعلوم من المعلوم، أو في حمل المقدمات إلى نهاياتها المشروعة؛ وهذه هي نفس العمليات التي تنشدها طريقتنا. فعلى الرغم من وجوب الإقرار بعجزنا عن تفسير كل ما ورد به نص في الكتاب المقدس، إلا أن هذا القصور لا يعزى إلى طبيعة الكتاب المقدس ذاته، بل إلى حقيقة أن الطريق الذي يعظنا باتباعه، باعتباره الطريق الصحيح الوحيد، لم تقصده أو تطأه قط قدم أي بشر، والذي أصبح، بمرور الزمن، بالغ الصعوبة، ومن شبه المستحيل اقتفاؤه، كما بينت بالفعل ضمن الصعوبات التي لفت الانتباه إليها.
هكذا لا يتبقى لنا سوى أن ننظر في آراء هؤلاء الذين يختلفون معي. _________________ قراءة: عبد المجيد الشهاوي النص الأصلي: https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.274322/page/n3/mode/2up
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (4)
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (3)
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (2)
-
في مآلات المشروع العربي الناصري
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا
-
حاسبوا أنفسكم مع بشار
-
هل تُبالي حكومة حماس بحياة الفلسطينيين؟
-
السيد صاحب مفتاح مطبخ الفرح
-
ما ضير الديمقراطية لو انتخب المعاتيه معتوهاً منهم؟
-
عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
-
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
المزيد.....
-
شاهد انفجار ألعاب نارية يلتهم منزلين بالكامل في ماساتشوستس
-
مصر.. تفاصيل محاولة سرقة في عمق البحر لمئات القطع الأثرية وا
...
-
-xAI- تختبر تطبيقا لأجهزة iOS يعمل بالذكاء الاصطناعي
-
اختراق طبي يمهد الطريق لعلاج الملايين من مرضى ألزهايمر
-
وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال السورية يحذر طهران من -
...
-
إسرائيل تعترض صاروخا أطلق من اليمن قبل أن يخترق مجالها الجوي
...
-
أسباب وعواقب السمنة عند الأطفال
-
روسيا تبتكر جهازا لتقييم الحالة النفسية للأشخاص
-
المقاتلون السوريون يغسلون سمعتهم
-
التحذير الأخير لرئيسة جورجيا زورابيشفيلي
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|