|
عندما قال فريد الأطرش: مش قادر!
عادل صوما
الحوار المتمدن-العدد: 8201 - 2024 / 12 / 24 - 12:37
المحور:
الادب والفن
تمر في كانون الاول/ديسمبر هذه السنة الذكرى الخمسين لوفاة الفنان الكبير فريد الاطرش (21-4-1910 إلى 26-12-1974) المولود في السويداء بسورية، لكنه عاش أجمل وأهم أيام حياته في القاهرة، حين كانت حاضنة الفن وملجأ المتنورين ومركز جذب الرؤيويين وأمل أصحاب أحلام النهضة الثقافية، وإحدى أهم عواصم الاناقة في العالم ومطبعة الشرق الاوسط، وكانت وصيته ان يُدفن فيها بجوار أخته اسمهان، رغم انه اتخذ بيروت مقراً له في آخر سنوات عمره. المقال ليس تأريخا لأكثر من خمسمئة أغنية وطقطوقة ودويتو وأوبريت غناها فريد الاطرش، أو الواحد وثلاثين فيلماً التي لعب بطولتها، بقدر ما هو وقفة تأمل لحياته وعشقه بالغ الاخلاص لفنه، والقاهرة نفسها التي تغيرت ولم تعد سوى مركز تصدير لإبنائها اصحاب الطموح للهجرة، وبؤرة سكانية عجيبة لا تمت لتاريخ حضاراتها متعددة الثقافات والازياء والاديان كافة وفنها بأية صلة. زعامة خالدة هاجرت علياء المُنْذِر أم فريد الأطرش مع أولادها إلى مصر هرباً من الاحتلال الفرنسي بسورية، الذي سعى لإعتقالهم بسبب عائلة زوجها التي أسست للثورة ضد الاحتلال في جبل العرب في سورية بعد الحرب العالمية الأول، وكان زوجها فهد الأطرش دائم التنقل والتخفي، ويُقال أن قائد المنطقة وبسبب خوفه من انتقام الاحتلال من عائلة الأطرش قام بإرسالهم إلى مصر طلباً للجوء، وكانت المحطة الأولى لبنان مسقط رأس أم فريد الأطرش، وبعد وصول الأسرة إلى مصر غيرت علياء المُنْذِر اسم العائلة إلى كوسا للتمويه بعد حصولها مع أولادها على الجنسية المصرية، ومارست الغناء في الملاهي الليلية، والعمل في مدارس حي روض الفرج لتعيل صغارها. وورث أولادها عنها الصوت الجميل وموهبة عزف العود، التي تفوّق فيها فريد واستحق بسببها أن يُطلق عليه "ملك العود"، لأن الجمهور الذي توّجه مَلِكاً، شعر أنه يعزف على أوتاره بقلبه قبل أنامله، وبمحبة تُجمّل إجادة العزف وتُسحر السامعين. لم يفكر فريد الأطرش في شبابه بالعودة إلى سورية ليرث زعامة سياسية يستحقها بالوراثة، كذلك لم يفاخر بأصله بين الناس بالقاهرة حين انطلق باسم عائلته الأصلية في دنيا الفن، لأنه قرر العيش في قلوب الناس في قاهرة الثلاثينات التي بدأت تتحرر من وطأة تخلف قرون الاحتلال العثمنلي باسم الاسلام، ودخلت عصر النهضة وخلعت نساؤها الحجاب. كانت مصر متميزة تماماً بثقافاتها المختلفة التي زادتها غنى وإنفتاحاً على الآخر، حتى منتصف ستينات القرن العشرين، حين بدأت هذه الثقافات تختفي تدريجياً حتى زالت تماماً، لتعود سينمائياً في إسقاطات فيلم "عمارة يعقوبيان"، بعدما أثرّت في بناء العمارات وهندسة الشوارع وديكور الأفلام وشكل دور السينما والمسرح والأزياء ولغة السينما وأغنت الإعلام والثقافة المصرية. حدث التغيير العميق بعد ظهور الانقلابات العربية السياسية، بدءاً من خمسينات القرن العشرين في العالم العربي، التي أطاحت شيئا فشيء بالشخصيات القومية الشرق أوسطية، لدرجة أن قاهرة نجيب محفوظ التي صورها في ثلاثيته وأفلامها، واسكندرية يوسف شاهين التي صورها في ثنائية "إسكندريته"، بدأتا تضيقان تدريجيا بالثقافات المختلفة التي تعيش فيهما والاديان والمذاهب المختلفة والمتمصرين، وتتجهان إلى الطيف الواحد المنغلق المستوحِد فاقد المناعة. ظهر هذا الامر بوضوح في نزوح الجاليات المتمصرة حُباً وإنتماءً وتفاعلا إلى بلاد أخرى، وانزواء ليلى مراد من خريطة الغناء بسبب إشاعة مغرضة عنها، ومغادرة شخصيات مؤثرة في الفن مثل صباح* وفريد الاطرش وعبد السلام النابلسي إلى لبنان، وغيرهم إلى مسقط رأسهم أو الهجرة، واختفاء أسماء كثيرة جداً من تيترات الافلام المصرية، كانت تعمل خلف الكاميرا، أو انتجت افلاماً تاريخية إسلامية لم ينتجها حتى ابناء مصر المسلمين. أساليب التضييق كان معروفاً أن حفل الاحتفال بيوم "شم النسيم" السنوي لفريد الأطرش، ولم يفكر أيٌ من عمالقة الغناء المصري في منافسته في ذلك اليوم، وكان جمهوره في الشرق الأوسط على قناعة عاطفية بأن الربيع لا يأتي سوى بعد غناء فريد الأطرش أغنية "الربيع"، وتصادف في 26 أبريل/نيسان 1970 أن تزامنت حفلته مع حفلة أخرى لعبد الحليم حافظ، شاءها الاخير في اليوم نفسه لغرض في نفس يعقوب، ما أوقع الإذاعة المصرية في مأزق؛ أيٌ من الحفلتين تُذاع على الهواء مباشرة، ثم جاء القرار السياسي بنقل حفل فريد الأطرش على الهواء عبر موجة إذاعة صوت العرب لأنه "من بلد عربي شقيق"، وإذاعة حفلة عبد الحليم حافظ على البرنامج العام "لأنه من مصر"! لا مثيل له تميّز فريد الأطرش في قلوب محبيه بأنه فنانهم الأوحد ولا يطربون لسماع غيره من المغنيين، وكان استحسانهم وعشقهم لفنه يقابله كرم فني كبير من فنانهم المحبوب، خصوصاً في عزف تقاسيم عوده التي كانوا ينتظرونها منه كما يشتهي الشاربون كأس الخمر المعتقة، وكان عزفه يبلغ وقتاً قياسياً لم يسجله مطرب/عازف في حفل له، خصوصاً في حفلة بالكويت حين عزف فريد لمدة خمس وعشرين دقيقة، بسبب استحسان الجمهور غير المنقطع، اضطر فريد بعدها إلى أن يقلب عوده ويستخدمه كطبلة وهو يضحك، في إشارة لعشاقه الحاضرين إنه لم يعد يستطيع العزف فقد بدأت اصابعه تؤلمه! غنى فريد الأطرش اشكال الغناء بالعربية كافة ما عدا الأندلسيات، وهو من رواد الأوبريت الغنائي المصري أيضاً، وتميّز بغنائه القصائد كما هي ولم يُدخل أي تعديل على أية قصيدة غناها مثلما فعل كثيرون، منهم عبد الوهاب وأم كلثوم، سواء بسبب صعوبة أداء كلمة معينة أو لسبب ديني. غنى فريد الاطرش على سبيل المثال قصيدة "عِش أنت" لبشارة الخوري كما هي بكلمات يصعُب حتى لفظها بسهولة مثل: ما كان ضرك، وشاقني، وأغضاضة، وشَمَمتُ، وبلغت سعة أفق فريد الأطرش وإنفتاح الجمهور الذي يتحدث العربية وقتئذ، أن يغني في هذه القصيدة البيت الشعري الذي يقول: وحياة عَينِك وهي عندي مثلما الايمان عِندك الاخلاص القاتل كان حفل فريد الأطرش إحتفالية فنية لمحبيه وليس مجرد حفل غنائي يحضروه، وكان الرجل مخلصاً لجمهوره وفنه لدرجة انه خالف نصائح الأطباء بعد إصابته بمشاكل خطيرة في قلبه، والخضوع لجراحة تعتبر مجازفة كبيرة في ذلك الوقت، وغنى أغاني طويلة في حفلات، وطالما غنى في أواخر حياته وطبيبه الخاص وراء الكواليس لإسعافه لو تأزمت أموره الصحية للأسوأ، كما خالف فريد الأطرش حتى نصيحة طبيبه بعدم العزف على العود، لأن إنفعاله وهو يعزف يؤثر على قلبه بشكل أخطر من الغناء، وقد غادر طبيبه الكواليس في إحدى الحفلات، عندما بدأ فريد يعزف العود قائلا: "يستحيل أن يموت أمام هكذا جمهور يصفق ويهتف باسمه!". فريد الأطرش لم يكن صاحب شخصية كاريزمية في السينما، إلاّ انه كان صاحب طلة بالغة التميّز والحضور على المسرح رغم جلوسه لأنه كان يعزف دائما، ومن حفلات فريد الأطرش التي لا تُنسى يوم أن غنى مجاناً لصالح نادي الزمالك، بعدما حطم جمهور الأهلي الغاضب أجزاءً كبيرة في استاد الزمالك في مباراة بين الناديين، وكان ملفتاً للنظر غناء فريد الأطرش في هذه الأمسية الحماسية "عِش أنت" وهي قصيدة تحتاج إلى أستاذ لغة عربية لشرحها، لكن جمهور مصر الستينات المثقف إستمع لها بتصفيق مدوٍ بين البيت الشعري والآخر. أما حفلة فريد الاطرش الأخيرة الخالدة التي غنى فيها باخلاص مميت لفنه وجمهوره، فكانت في بلدة عاليه في لبنان صيف سنة 1973 وغنى فيها "زمان يا حب". كان واضحاً على ملامح فريد الأطرش في تلك الليلة أنه في مرحلة مَرَضية حرجة فعلا، وقد إستقبله جمهوره إستقبالاً لا يوصف بمجرد ظهوره على خشبة المسرح، وتشجيع هائل لم يهدأ ولا لحظة واحدة بين كل جملة غنائية وأخرى، وبلغت قمة المحبة دعوة مشاهد بصوت مسموع جداً بلكنة دُرزية عندما كان يحيي المتفرجين قبل بدء الأغنية (موجودة على يوتيوب) "الله يطوّل لنا بعمرك"، وسلطنة إمرأة* في الصفوف الأولى كانت تردد طوال الأغنية "الله" أو "الله يافيتو" وهو إسم الدلع لفريد الاطرش فقط، وتصفيق الجمهور وقوفاً على الايقاع مع بعض الجُمل الموسيقية، والمؤكد أن فريد تجاهل عزف العود في بداية حفلته بسبب إعتلال صحته، ووزع جُمل المقدمة الموسيقية على الأورغ الكهربائي بشكل يوحي أنه عود، لكنه بعد خمس عشرة دقيقة، خالف كل عواقب القلب العليل وتحذيرات طبيبه، وكأن تصفيق جمهوره بث فيه تخديراً أعانه على عزف العود بمقام الكورد، تلاه بتقاسيم على مقام البياتي الذي يعطي له مجالاً أوسع للإرتجال في مقامات متنوعة، لكنه تلك المرة لم يستطع إرتجال تقاسيم لأغنية "زمان يا حب"، كما فعل مع كل أغانيه التي غناها على المسرح، فعاد إلى اللازمة الاولى ليختم عزفه بتقاسيم كورد هادئة، وواصل الغناء بعدها وسط تصفيق وتهليل هستيري ليبدأ إرتجال "ياليل"، وختم ارتجاله وهو في قمة الإرهاق فعلاً، لدرجة إنه في الدقيقة السادسة والثلاثين قال بصوت مسموع: "مش قادر" لأفراد فرقته التي رددت الجملة الموسيقية نفسها عدة مرات إنتظارا لعودته للغناء، ورغم ذلك إستمر "فيتو" بالغناء، بمؤازرة معنوية شديدة من جمهوره الخائف عليه من عواقب أخطر، حتى الدقيقة الثانية والأربعين حين ختم الأغنية بأدائه الاوبرالي المعروف عنه، ثم غادر فريد الأطرش خشبة المسرح والدموع في عينيه تأثراً بالوداع الجماهيري الحماسي الذي استمر لدقائق، لكنه وضع الدموع في عيون عشاق فنه بعد شهور معدودة، حين غادر إلى سماء الغناء الخالد في مستشفى "قلب يسوع". كان فريد الاطرش أحد جزيئيات موزاييك غناء البحر المتوسط الثمينة، وشارك في بناء القوة الناعمة المصرية الغنائية في القرن العشرين.
*تناولت هذا الأمر في مقال سابق عن صباح بعنوان "صباح في ذاكرة ثقافة البحر المتوسط"، أما المرأة المُشار إليها فهي أمي، وتفاصيل الحفل حفظتها عنها لأنني لم أحضره فقد كنت في الثانية عشرة في ذلك الوقت، والمرجح أن نسخة الأغنية على "يوتيوب" نادرة لأنها لم تتعرض لمونتاج وحذف "مش قادر" مثل باقي نسخ الأغنية، وحين استمع إلى هذه الأغنية وصوت أمي الواضح فيها، ما زلت أتأثر بعمق، رغم مرور تسع وثلاثون سنة على وفاتها في الخمسين من عمرها.
#عادل_صوما (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرعية الفاسدة تستحق الكاهن الضرير*
-
معايير المحاكم الإلهية
-
أسرى الأساطير وضحايا الواقع
-
أمراض الأمة إياها
-
أميركا تستعيد وعيها وهيبتها
-
صباح في ذاكرة ثقافة البحر المتوسط
-
التكاذب منهجهم والغيبيات واقعهم
-
الدنيا لا تقع ولن تنتهي
-
أسئلة للمؤمنين والذميين الجدد
-
سياسة أو دين أو شعوذة
-
فشل الدين كمنظومة سياسية
-
عواقب تعامي الحكومات الغربية
-
اليوبيل الماسي لفيلم -غَزَل البنات-
-
استهداف إلهام شاهين
-
مات لبنان لتحيا ولاية الفقيه
-
أقوى سياسي على الكوكب
-
مبادئ مخفية في إنقلاب يوليو 1952
-
الفرار من عدالة المؤمنين
-
خدعة إرهابية وخدع بصرية
-
فواجع الافراط في التسامح
المزيد.....
-
أكتبُ إليكِ -قصيدة نثر-
-
تجنيد قهري
-
المنتدى الثقافي العربي ضيف الفنانة بان الحلي
-
من أساطير اليونان القديمة.. كريستوفر نولان يحضّر لفيلم ملحمي
...
-
“تسمم أفراد قبيلة الكاي“ تـــابـــع المؤسس عثمان الحلقة 176
...
-
وفاة الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري
-
تردد قناة روتانا سينما 2025 على النايل سات “اضبطها الآن“
-
بطلة -العميل- تعود إلى سوريا بعد غياب دام أكثر من 12 عاما (ف
...
-
رحيل المخرج الأسطوري شيام بينيغال تاركاً إرثًا خالدًا في تار
...
-
4 أفلام رسوم متحركة لا تفوتها مع أطفالك بإجازة نهاية العام
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|