أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - تكيف الرواية: مقتضيات عصر ما بعد الحداثة















المزيد.....

تكيف الرواية: مقتضيات عصر ما بعد الحداثة


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1787 - 2007 / 1 / 6 - 11:08
المحور: الادب والفن
    


استندت الحداثة على مركزية الذات الإنسانية، الإنسان بعدِّه معطى وجودياً له كيانه المستقل والحر. وجرى التفكير بالإنسان فرداً وقد تحرر من سلطة الكنيسة والإقطاع واستقل، ومع فكرة الذاتية التي هي وليدة عصر التنوير الأوروبي وصعود البرجوازية المدينية تغيرت القيم والمفاهيم والبنى، وتبدلت خريطة العلاقات داخل المجتمع، واتخذت الدولة شكلاً مختلفاً، وحدثت زحزحة هائلة في الحقل الثقافي.. كان ذلك عصر المغامرة ( وقد حدد وايتهيد المغامرة شرطاً لأية حضارة صاعدة ) عصر ارتياد المجهول، والتحرش بالخطر، والبحث عن آفاق أُخر، والخروج إلى ما وراء الحدود المرسومة، والتمرد على المألوف. ولم يكن للمغامرة أن تأخذ مداها من غير تحرير الإنسان/ الفرد من كل قيد، وإطلاقه في الفضاء الحر للوجود.. كان شعار ( دعه يعمل، دعه يمر ) يدفع الإنسان إلى منعطف جديد، عتبة جديدة، وأفق جديد.
في المرحلة ما قبل الرأسمالية، ما قبل الصناعة وتوسع الإنتاج البضاعي، لم تكن الحرية الفردية، قيمةً سياسية واعتبارية، مألوفة مثلما صار عليه الأمر فيما بعد.. كان الحراك الاجتماعي في غاية البطء، ولم يكن من السهل أن ينتقل الفرد من طبقته إلى طبقة أعلى، حيث التراتبية الاجتماعية تخضع لنظام صارم، يكاد يتخذ صفة التقديس، فيما راجت العبودية بأشكال شتى، وحتى الإيمان الديني كان خاضعاً لإرادة السلطة السياسية، ومقولة ( الناس على دين ملوكهم ) كانت وكأنها من نواميس الطبيعة. أما الفرد المتمرد، والخارج على أعراف الجماعة فكان، في الغالب، يُنبذ ويُحتقر في نظر الجماعة حتى وإن كان على حق.
ولدت الرواية في البدء مع تميز الإنسان الفرد ( الإنسان الاعتيادي الذي غدا بطلاً حل محل البطل التراجيدي في الملاحم ) ورواية الشطار في القرن السادس عشر التي هي السلف للرواية الكلاسيكية حكت عن المتشرد المحتال المنفلت من مواضعات المجتمع يوم كان العالم على وشك تدشين عصر التنوير حتى إذا بدأت تباشير الحداثة توطدت أركان الفن الروائي. والحداثة كما يقول فيتو "هي أولوية الذات، انتصار الذات، ورؤية ذاتية للعالم" وهذا على وجه التحديد ما مثلته الرواية.
ربما تكون رواية الشطار التي عرفتها أوربا، كما قلنا، في القرن السادس عشر وما بعدها سليلة فن المقامة العربية، والمقامة هي نوع سردي يعتمد السجع شكلاً بلاغياً، ويروي عن شخصية مهمشة ذكية تكسب قوتها بالشطارة والاحتيال والضحك على الذقون.. شخصية تسخر من المجتمع الذي همشها، وتنتقم منه على طريقتها، وتكاد تكون رواية الشطار في متنها الحكائي هو هذا أيضاً. غير أن أول رواية فنية كبيرة عكست مزاج مرحلة تاريخية برمتها هي رواية ( دون كيخوتة ) لسرفانتس التي قدّمت عصر الفروسية الآيلة إلى الاضمحلال برؤية ساخرة، وأطاحت، مرة واحدة، برواية الفروسية واضعة المقدمة لرواية بطلها فرد يخرج من بيته ومكانه متمرداً وحالماً بالتغيير. ولذا نجد أن أفضل الروايات التي كتبت منذ القرن الثامن عشر، وحتى يومنا هذا كانت تصور شخصيات مغتربة، أو مقتلعة منفية، أو مطاردة، أو متمردة، أو غير مقتنعة، أو خارجة لتغيير قدرها، فالرواية ولدت من ذلك الصدع الحاصل بين الإنسان ومجتمعه، بينه وبين العالم. وفي أفضل الروايات عموماً تجد الاغتراب ثيمة رئيسة، أو واحدة من الثيمات الرئيسة. لذا لم تكن للرواية، نوعاً أدبياً، أن ترى النور إلا مع تحرر الفرد من ربقة الاستبداد أياً كان طرفه، ومن كل سلطة.
أو حسبما يذهب إليه ميلان كونديرا وهو يتساءل ويجيب؛ "ماذا نعني بالفرد؟ أين تكمن هويته؟ إن الروايات كافة تبحث للإجابة عن هذه التساؤلات".
* * *
لا يمكن فصل التيارات الحديثة في الكتابة الروائية عن مجمل التقلبات التي حدثت في الحقل الفلسفي، ولا سيما منذ تنشيط الفعالية النقدية التي باتت تهدد الأسس التي شيدت عليها، لقرون خلت، رؤية الإنسان الاجتماعية والأخلاقية إلى الذات والحياة والعالم. وربما يكون نيتشة أول من ضعضع الجدار النخر للقناعات الإنسانية، أي تلك التصورات التي وضعها الإنسان عن ذاته، ومنذ ذلك اليوم فقدت النزعة الإنسانية، كما عرفها مفكرو عصر التنوير الأوروبي، صفة الرسوخ، وقد عملت المناهج النقدية على بيان أن تلك النزعة "ليست أكثر من خطاب فلسفي ميتافيزيقي لإخفاء أوهام الإنسان عن نفسه، وقناعاً يستر وراءه عجزه وجهله، وينشد فيه نوعاً من الأمل والعزاء والطمأنينة" بحسب عبد الرزاق الدواي في كتابه ( موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر )، وفي النهاية كان العلم وهو يتطور بكيفية مذهلة يُظهر عجز النزعة الإنسانية، ويكشف هشاشة سندها الإيديولوجي، ويفرض بحكم منطق التحولات العميقة لجوانب الحياة المختلفة نظرة مغايرة للإنسان تُسقط عنه أوهامه، وتنتزع منه، لا هويته الصافية الزائفة وحسب، وإنما بعضاً من أهم ضماناته التي اعتقد أنها تسوّغ وجوده مركزاً في هذا العالم.
إن رواية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر هي ابنة النزعة الإنسانية بامتياز، تلك الرواية التي كان يكتبها روائي يعتقد أنه يفهم الإنسان وإشكالياته، ويفهم العالم، بيد أن رواية القرن العشرين ( جويس، فرجينيا وولف، فوكنر، بيكيت، غرييه، كلود سيمون، أونداتشي، ساراماغو، توني موريسون، وغيرهم ) هي ابنة النزعة النقدية التي رأت أنه لا شيء بعد اليوم، محصن أمام إعادة القراءة، وإعادة التقويم، واحتمال الهدم وإعادة البناء.
تعرض فكر التنوير الأوربي، في القرن العشرين إلى نقد شامل طال أسس هذا الفكر وبنائه.. كان ثمة جهد تنظيري واضح وجدّي يحاول إعادة الاعتبار للمفاهيم التي شيدت عليها الثقافة والحضارة الغربيتين في القرون الأربعة الأخيرة، وإعادة اللحمة التي انفرطت، على حد تعبير ألن تورين بينها ( العقلانية، الحرية، الذاتية ) ولعل أقطاب مدرسة فرانكفورت وآخر عمالقتهم هابرماس يقفون في هذا الجانب. وبالمقابل، في الجانب الآخر برز نقد سالب وهدّام سعى إلى تقويض تلك الأسس/ محمِّلاً مسؤولية ما آل إليه الوضع البشري/ الغربي، تحديداً، من مآس وفظائع وحروب وفوضى، عادّاً الفاشية والنازية والستالينية، وحتى الرأسمالية بوجهها المادي الأداتي الوحشي نتائج موضوعية لمجمل الفكر العقلاني التنويري، وهكذا أطيحت بفكرة الوحدة والشمولية لصالح فكرة التشظي والشذرات، وبفكرة التاريخ لصالح السرد والتخييل، ولم تسلم من هذا النقد مفاهيم الحرية والذاتية، أي ما يحقق جوهر الإنسان مثلما عرفه فكر التنوير، فكان هناك حديث عن موت الإنسان، وعن تسفيه فكرة التقدم، وهدم التراتبية التي أقامتها الميتافيزيقيا داخل الفكر ( المعقول/ المحسوس، الروح/ المادة، الباطن/ الخارج، الجوهر/ المظهر، المركز/ الهامش... ) كما فعلت التفكيكية. وعموماً يعود مسعى التخلي عن المطلقات وتفتيت العالم والإطاحة بفكرة الكل إلى نيتشة، ونيتشة هو أيضاً صاحب مفهوم إرادة القوة إذ يجري التأكيد على سلطة الجسد بالضد من تمجيد الروح.. وهكذا "تجيء فلسفة عصر ما بعد الحداثة نابذة للنسق، آخذة بالشذرة، رافضة للحجاج ميالة إلى الشعر، طارحة فكرة النظام سالكة مسلك اللعبة" على حد تعبير محمد الشيخ وياسين الطائري مترجما ومقدما كتاب ( مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة؛ حوارات منقاة من الفكر الألماني المعاصر ).
وإذا كانت ثورة الاتصالات والمعلوماتية قد وحّدت العالم فإنها مزقته في الوقت نفسه، فبعدما يسّرت الاتصال بين البشر القاطنين في أربعة أركان الأرض خلقت، بالمقابل، صدمة ثقافية وحضارية هائلة جعلت كثراً من الناس الذين باتوا عارفين أكثر بما يحيط بهم مرتابين وخائفين على ما عندهم من أنظمة وقيم ومعتقدات وثقافة، ( لا في بلدان ما يُعرف بالجنوب والتي خضعت للاستعمار الكولونيالي فحسب وإنما في بلدان شكلت لعهود طويلة مراكز متروبولية وتنتمي اليوم لما كان يسمى بالعالم الأول، أي الغرب ).. جعلتهم ينكفئون أكثر حول ذواتهم ويرجع بعضهم إلى ثقافاتهم القومية والدينية بحماسة أشد، وأحياناً إلى ثقافاتهم الفرعية ( العرقية والمذهبية والعشائرية ) الضيقة.
بات العالم أكثر تشظياً في جوانب عديدة، وهذا ما يعطي لتخريجات ما بعد الحداثة تسويغاتها.. هذه التخريجات التي خلخلت مفاهيم ومقولات الأصل والكل، وشككت بالحقيقة التاريخية وآمنت بالسرد. فإذا عدّت الرواية ابنة الحداثة وعصر التنوير فإنها بفضل مرونة شكلها العالية قادرة على الاستجابة والتعايش في ظل مفاهيم ومقولات وأفكار ما بعد الحداثة.
ثمة توازيات، إذن، وتقاطعات بين أطروحات ما بعد الحداثة كما صاغها دعاتها الكبار، وبين الاتجاهات التي سارت فيها رواية القرن العشرين بنماذجها المميزة، وربما كانت بعض هذه الروايات ترهص لمثل تلك الأطروحات، لكنها كانت، قطعاً تدعمها، وحتى بعض التخريجات المغالية التي قد تصل أحياناً عند بعضهم حد الهراء تبقى مشتركة بين التنظير ما بعد الحداثي، وما تقوله وتشكله نصوص روائية معينة، ذلك أن كلاهما ينتمي إلى مزاج العصر عينه، وإلى فضاء ثقافي/ حضاري واحد في كيفية الرؤية وطريقة الانفعال إزاء معطيات الحاضر، ومن ثم التنكيل بالتاريخ. وها هو كونديرا يتساءل بتهكم ظاهر "التاريخ، أما زلنا نستطيع أن ننجذب إلى تلك السلطة العتيقة" معلناً أنه متورط في تاريخ الرواية، في الوقت الذي تتنفس فيه رواياته كلها كراهية للتاريخ، على حد تعبيره.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف بين الممنوع والممتنع
- صنّاع السعادة.. صنّاع التعاسة
- في بلاد حرة: نيبول ورواية ما بعد الكولونيالية
- الجمال في حياتنا
- لعنة حلقة الفقر
- الرواية وعصر المعلوماتية
- قصة قصيرة؛ أولاد المدينة
- السياسة موضوعةً في الرواية
- إنشاء المفاهيم
- من يقرأ الآن؟
- مروية عنوانها: إدوارد سعيد
- ثقافتنا: رهانات مغامرتها الخاصة
- مروية عنوانها: نجيب محفوظ
- إعادة ترتيب: شخصيات مأزومة وعالم قاس
- وعود وحكي جرائد
- رواية-هالة النور- لمحمد العشري: سؤال التجنيس الأدبي
- الطريق إلى نينوى؛ حكاية مغامرات وأعاجيب وسرقات
- هذا العالم السريع
- الكتابة بلغة الصحراء: إبراهيم الكوني وآخرون
- تحرش بالسياسة


المزيد.....




- صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
- إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م ...
- مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
- خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع ...
- كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
- Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي ...
- واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با ...
- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - تكيف الرواية: مقتضيات عصر ما بعد الحداثة