|
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء التاسع والستون)
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 8200 - 2024 / 12 / 23 - 16:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الآن بسيط: هو واحد ونفسه مهما كانت محتوياته، مهما كانت كينونته (ليل، نهار، الخ..)؛ فهو سلبي تجاه هذه الكينونة (ليس ليلاً ولا نهاراً، إلخ..) وغير مبالٍ بذاته. هذه الخصائص تجعل الآن كونيا: إنه ذلك الذي يظل مطابقا لذاته من خلال تحديداته دون أن يكون أيا منها (“لا-هذا”). ولذلك فإن اليقين الحسي يؤكد أو على الأقل يتضمن كونيا، أي بوضوح شيئا مختلفا تمامًا عما اعتقد أنه أكده. غير أن هذا الطريق المؤدي إلى الكلي ليس تيها، بل هو تحقيق لحقيقته: «الكوني إذن، بالفعل، هو ما يوجد من حقيقة في اليقين الحسي» (١٧٧/ ٦٥). ومن المفارقة أن ما هو حقيقي في اليقين الحسي ليس هو ما أثبت أنه كذلك. ما يُظهر موضوعيا إلغاء لهذا، كما يدركه الوعي، هو تحويل مقصود هذا المفرد إلى كوني، من خلال الكلام، واستحالة تحديد هذا المقصود: "نعلن أيضا المحسوس كما لو كان كونيا؛ ما نقول هو: هذا، ما يعني العذاب الكوني، أو: هذا هو، ما يعني الوجود على العموم" (نفس المرجع). هكذا يبدأ هيجل التأمل الأول في الفصل المتعلق باللغة. بقولي "هذا"، وبالتالي بالتعبير باللغة عن مقصودي من المتعارض الحسي المفرد، فإنني أتلفظ بكلمة كونية، لأن "هذا" ضمير إشارة يمكن أن يدل على كل شيء؛ فهو لا يعين أي شيء تحديدا، وحتى أقل تفردا. إن التعبير عن المتعارض-مع بكلمة "هذا" هو بمثابة تعبير عن الوجود الكوني؛ مقصودي متناقض مع تعبيري. غير أن مقصودي ليس متناقضا فحسب، بل مفند كذلك، لأن اللغة «أكثر صدقا» (١٧٨/٦٥). ومن هنا جاء النقد الخفي الموجه إلى فيلهلم تراوجوت كروج، بعد عدد من الصفحات (180/66)، الذي تحدى كل المثالية ليستنتج قبليا القلم الذي كتب به. ولكن حتى يتسنى لنا أن نطلق مثل هذا التحدي، فلا يزال يتعين علينا أن نكون قادرين على تحديد ما المقصود باستخدام "هذا القلم"؛ ولكن هذا مستحيل. ولكن لماذا يجب أن تكون للغة الأسبقية على المقصود، على ما "أريد قوله"؟ لأن الكوني بالنسبة لهيجل هو ما يوجد من حقيقة في اليقين الحسي – “حقيقي” وفقا للمعيار المرجعي الذي وصعه – هو”وحده ما تعبر عنه اللغة كحقيقي” (178/65). بعبارة أخرى، فإن "هذا" المفرد، الذي تبين أنه فعلا كوني، لا يمكن التعبير عنه حتى بواسطة اللغة. فضلا عن ذلك، اليقين الحسي لا يحتاج إلى ان يتمثل المعنى الكوني لـ"هذا" من أجل تجريبه. إن النطق كافٍ لإثبات أننا "لا نتكلم مطلقا كما نقصد [ wie wir es (...) meinen ] في هذا اليقين الحسي" (المرجع نفسه). يظهر إذن التناقض، وهو الخلاف بين ما يقصده اليقين الحسي وبين ما يقوله. حالة الهنا مشابهة للحالة الآن. الجانب المكاني لهذا يخضع لنفس الجدل؛ هكذا تختفي الشجرة التي أراها عندما أستدير ويصبح الهنا منزلاً. إن المحتوى هنا يتغير باستمرار، لكن حقيقته، وشكله الكوني الذي يتم التعبير عنه باللغة، يظل كما هو. باختصار، يجد اليقين الحسي نفسه أمام شيء ليس هو الذي كان يقصده، أي وجود خالص ومجرد. هذا الوجود هو أقل مما قصده أن يكون “الوجود بهذا التحديد على أنه التجريد أو الكوني المحض في حد ذاته” (178/65)، أي وجود يتمثل تحديده في عدم كونه أي مفرد؛ وجود مجرد ووسيط تماما. بالنتيجة، الطابع الفردي لليقين الحسي تم اختزاله من الآن في المقصود أو الرأي الحميم “ومقصودنا الذي لا يكون عنده الحقيقي في اليقين الحسي هو الكوني، هو وحده الذي يظل قائما في مواجهة هذا الآن أو هذا الهنا الفارغ أو اللامبالي" (178/65). في هذا المقطع يظهر التناقض بوضوح، أي التعارض الداخلي في اليقين الحسي، بين ما يعرفه الوعي عن متعارضه (الوجود الكوني) وبين ما يقصده، ما "في ذهنه" بطريقة فريدة، أي الهذا المفرد. من الممكن أن نلاحظ بشكل عام أن "التناقضات" العديدة التي سيواجهها الوعي لا تشبه التناقضات بالمعنى المنطقي الدقيق للكلمة. إنها تشبه ما يحدث هنا بالذات: واقعة تجريب التناقض بين ما يعرفه الوعي أو يعتقد أنه يعرفه عن متعارضه، وهذا المتعارض نفسه الذي يُنظر إليه على أنه الجوهر، الحقيقة. مع ذلك، في هذه المرحلة، لا يتخلى الوعي تماما عن متعارضه. سيؤدي هذا الخلاف إلى عكس العلاقة بين المعرفة والمتعارض-مع. لقد تم تحديد الأخير على أنه المباشر والجوهري، في حين تم طرح الأنا على أنها الوسيط غير الجوهري. بما أن المتعارض-مع انكشف على أنه كوني ووسيط، سيحدد الوعي معرفة هذا المتعارض-مع على أنها الجوهري، وهذه المعرفة ليست سوى “المقصود كما هو لي” (179/66). هناك انقلاب بحيث أن الجوهرية والمباشرية المنسوبتين إلى هذا تعودان من الآن إلى المعرفة (التي ستشبه حدسا حسيا)، لكن المتعارض-مع الحقيقي يظل هو الوجود المباشر، فقط "باعتباره متعارضي" (المرجع نفسه). في الأساس، "المتعارض-مع موجود لأن لدي، أنا، معرفة به" (المرجع نفسه). "هذا" يتم تجنب انهيار اليقين الحسي إلى حد أنه، في العلاقة المباشرة، أصبحت الأنا حاليا هي التي تخلق وتثبت التحديدات الزمكانية: “الآن نهار لأنني أراه؛ الهنا شجرة لذات السبب" (179/66). والمقصود يضمن وجود هذا المفرد. غير أن إعادة تشكيل العلاقة بين الأنا والهذا تخضع لنفس الجدل السابق، حالما تحدس "أنا أخرى" (179/66) شيئا آخر غير الأولى وتضمن بنفس القوة ونفس الحق شيئا آنا آخر وهنا آخر، هذا آخر إذن. ليس من الضروري أن نفترض أن هذه الأنا هي نفس أنا فرد آخر: هذا الخلاف يمكن أن ينشأ داخل نفس الوعي، لأنه يكفي أن تمر لحظة وأدير رأسي نحو أنا أخرى، حتى يحدس أنا آخر، أي أنا بالذات في لحظة لاحقة، شيئا آخر. وعلى نحو مشابه لحالة الآن والهنا، يختفي المحتوى الملموس الذي حدسته الأنا، أو بشكل أكثر دقة، تلغي الحقائق التي تؤكدها الأنوات المختلفة بشكل متبادل. مرة أخرى، لا يمكن للتفرد المباشر أن يحتفظ بنفسه. في المقابل، لا تختفي الأنا: توجد وتستمر، غير مبالية بالمحددات الحسية التي تأتي لتعمل داخلها، لهذا السبب فهي كونية؛ فهي يمتلك في نفسها "رؤية بسيطة" (180/66)، أي حدسًا يظل كما هو مستقلاً عن المحتوى، ويتوسطه ويبقى غير مبالٍ به. يمكن دائما أن نقصد أنا ادمفردة، ولكن ليس من الممكن، انطلاقا من هذا المقصود، أن نقول ما هي هذه الأنا المفردة، في حين أن الانا الكونية يمكن التعبير عنها وقابلة للتطبيق على جميع الانوات المفردة. هذه الملاحظة الثانية المتعلقة باللغة تؤكد هذه النقطة: أنه من المستحيل ذكر المفرد المقصود. أن تقول "أنا" هو أن تقول جميع الأنوات، بخيث أن اللغة لا تعبر إلا عن الكوني. باختصار، يحدث الشيء نفسه تماما مع الأنا كما يحدث مع الهذا: المباشرية التي يفترضها الوعي كحقيقة يتبين أنها وسيطة؛ الأنا المقصودة هي كذلك بسبب نفيها للأنا الأخرى (من خلال وساطة) وتفردها لا يوصف. (يتبع) نفس المرجع
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبد الإله بنكيران: على عزيز غالي أن يتراجع ويعتدر عن تصريحه
...
-
ألمانيا: مقتل شخصين على الأقل وإصابة العشرات بعد اقتحام سيار
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
جدل ساخن حول تضارب المصالح: رد أخنوش على انتقادات المعارضة و
...
-
عبد الرحيم الجامعي ينتقد الموقف الإيجابي لحزب العدالة والتنم
...
-
أحمد عصيد: من حق عزيز غالي أن يعبر عن رأيه وفاء لليسار الراد
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
المسكوت عنه بخصوص ظاهرة العزوف عن القراءة
-
جمعية بيت الحكمة تطالب بحل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان
-
نبيل وازع يطالب باعتقال عزيز غالي
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
تقرير هيومن رايتس ووتش حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
...
-
مقتل عالم صاروخي كبير في الجيش الروسي وفق جريدة أوكرانية
-
رسالة الى عبد الإله بنكيران الذي قال لا حاجة لنا بالأدب والف
...
-
إشاعات حول اغتيالات مزعومة لعلماء سوريين
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
...
-
إسرائيل تقصف مواقع سورية في المنطقة العازلة بالجولان تحسبا ل
...
-
ائتلاف حقوقي يسجل تراجعات في مجال الحقوق والحريات بالمغرب وي
...
-
ابو محمد الجولاني: هل يكفي ارتداؤه البزة العسكرية ليقنع الشع
...
المزيد.....
-
محكمة روسية تصدر حكما بالسجن 15 عاما على مواطن أمريكي بتهمة
...
-
بعد قتل مراهق طعنًا.. هذه الدولة تقرر حظر -تيك توك- لعام كام
...
-
مصر.. السيسي يصدر عفوا رئاسيا عن 54 من المحكوم عليهم من أبنا
...
-
مولدوفا.. تفكيك شبكة جديدة لتهريب الفارين من الخدمة العسكرية
...
-
تسريبات.. هواتف -آيفون- التي ستخسر دعم آبل مع إطلاق iOS 19
-
تايلاند تخطط لتقليص عدد قواتها المسلحة
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1480 عسكريا أوكرانيا خلال 24
...
-
أحمد الشرع: الرغبة في بناء سوريا والتخلص من وصمة الماضي – ال
...
-
وول مارت تبيع قمصانا عليها صورة السنوار وإسرائيل تستشيط غضبا
...
-
12 قتيلًا على الأقل بإنفجار في مصنع للمتفجرات شمال غرب تركيا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|