أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من الحتمية إلى الاحتمالية: الفلسفة العلمية في فكر نيلز بور















المزيد.....


من الحتمية إلى الاحتمالية: الفلسفة العلمية في فكر نيلز بور


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8200 - 2024 / 12 / 23 - 08:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

لطالما كانت الفيزياء والفلسفة توأمين معرفيين يسعيان إلى فك ألغاز الوجود والكشف عن قوانين الكون الخفية. عبر التاريخ، لم يكن الفيزيائي مجرد مهندس للقوانين، بل كان أيضًا فيلسوفًا يتأمل جوهر الواقع ومعناه. ومع ظهور فيزياء الكم في بدايات القرن العشرين، أصبحت العلاقة بين الفيزياء والفلسفة أكثر تعقيدًا وإثارة. وفي قلب هذه الثورة الفكرية والعلمية، وقف العالم الدنماركي نيلز بور، الذي لا يعد فقط أحد أعظم الفيزيائيين في التاريخ، بل أيضًا مفكرًا فلسفيًا عمّق رؤيتنا للوجود وغيّر الطريقة التي نفهم بها حدود المعرفة الإنسانية.

عندما أطلق نيلز بور مفاهيمه الرائدة، مثل مبدأ "التكاملية"، لم يكن يسعى فقط إلى تقديم تفسير علمي لظواهر الطبيعة، بل كان يعيد صياغة أسئلة فلسفية أساسية حول الواقع والحقيقة والعلاقة بين الإنسان والعالم. رأى بور أن العالم الكمي، بما يحمله من غرابة وإبهام، لا يمكن فهمه عبر النظريات الكلاسيكية التي تستند إلى اليقين المطلق أو الحتمية الصارمة، بل يحتاج إلى منظور فلسفي جديد يعترف بأن الواقع أكثر تعقيدًا مما يمكن لعقلنا أو أدواتنا إدراكه.

في هذا السياق، كانت مساهمة بور لا تقتصر على تطوير فيزياء الكم، بل تجاوزت ذلك إلى تأسيس رؤية فلسفية عميقة تعكس التفاعل بين الإنسان والكون. اعتبر أن الفيزياء ليست مجرد دراسة للعالم المادي، بل هي رحلة فلسفية في قلب الأسئلة الجوهرية للوجود. ومن هنا، فإن طرحه لمبدأ "التكاملية" يعكس أفقًا معرفيًا يتجاوز حدود التخصص العلمي ليصبح أداة للتأمل في طبيعة الواقع، حيث تُكمل الأضداد بعضها البعض، وتظهر الحقيقة من خلال تناغم المنظورات المتعددة.

لكن رؤية بور لم تكن مجرد تأملات نظرية، بل كانت دعوة لإعادة التفكير في المفاهيم الفلسفية الأساسية مثل السببية والواقعية والعلاقة بين الذات والموضوع. كان يرى أن الطبيعة لا تُظهر حقيقتها إلا من خلال التفاعل بين الملاحظ والظاهرة، مما يضع حدودًا واضحة لقدرتنا على الوصول إلى "الحقيقة المطلقة". وفي هذا الإطار، بدا وكأن بور يلتقي مع الفلاسفة العظام، مثل كانط، الذين أكدوا أن المعرفة البشرية محكومة بمحدودية أدواتها ومفاهيمها.

إن دراسة العلاقة بين الفيزياء والفلسفة من منظور نيلز بور ليست مجرد استكشاف للعلم، بل هي رحلة فكرية عميقة في قلب الأسئلة الوجودية الكبرى. إنها إعادة تعريف لحدود المعرفة الإنسانية، وإشارة إلى أن البحث العلمي لا ينفصل عن التأمل الفلسفي. في هذا السياق، يمثل نيلز بور نموذجًا للمفكر الشامل، الذي نجح في الجمع بين عبقرية العالم ودقة الفيلسوف، ليثري الفكر الإنساني برؤية متكاملة للكون والحياة.

ومن هنا، فإن الغوص في أفكار نيلز بور يشبه الانطلاق في رحلة استكشافية لفهم ليس فقط كيف يعمل الكون، بل أيضًا كيف يمكننا نحن البشر إدراكه وتفسيره. إنها رحلة تجمع بين العلم والفلسفة، بين المنطق والحدس، وبين اليقين والاحتمال، لتفتح لنا آفاقًا جديدة لفهم أعماق الوجود وجوهر الحقيقة.

علاقة الفيزياء بالفلسفة من وجهة نظر نيلز بور

نيلز بور (1885-1962)، أحد أعظم الفيزيائيين في القرن العشرين، لم يكن مهتمًا فقط بالجوانب العلمية البحتة للفيزياء، بل أولى اهتمامًا بالغًا بالأسئلة الفلسفية التي تثيرها، وخاصة في سياق فيزياء الكم. ولفهم العلاقة بين الفيزياء والفلسفة من وجهة نظر نيلز بور، يمكن تناول الموضوع من عدة محاور رئيسية:

1. مبدأ التكاملية كمفهوم فلسفي

تعريف التكاملية:

نيلز بور أدخل مفهوم التكاملية في سياق فيزياء الكم، والذي يشير إلى أن الظواهر الكمومية لا يمكن تفسيرها أو وصفها بشكل كامل من خلال وصف واحد أو منظور واحد فقط. بل يجب فهمها من خلال أوصاف متعددة، قد تبدو متناقضة لكنها تكمل بعضها البعض.

البعد الفلسفي:

التكاملية ليست مجرد مبدأ فيزيائي، بل هي رؤية فلسفية تعكس فهمًا عميقًا للطبيعة.
بور رأى أن الواقع ليس قابلاً للانقسام بين موضوع وملاحظ (كما هو الحال في الفيزياء الكلاسيكية)، بل هو شبكة معقدة من العلاقات التي تظهر بطرق مختلفة اعتمادًا على كيفية الملاحظة.

الإسقاط الفلسفي:

التكاملية تتحدى الميتافيزيقا التقليدية القائمة على الثنائيات (مثل المادة مقابل العقل).
بور كان متأثرًا بمدارس الفكر الفلسفي التي تعيد التفكير في المعرفة كعملية تعتمد على التفاعل بين الذات والموضوع.

2. العلاقة بين الفيزياء والفلسفة العلمية

انتقال من الحتمية إلى الاحتمالية:

في سياق فيزياء الكم، تتخلى النظرية عن الحتمية التقليدية (التي استندت إليها الفيزياء الكلاسيكية) لصالح الاحتمالية.
بور رأى أن هذا التحول لا يعني فقط تغييرًا في قوانين الفيزياء، بل يتطلب مراجعة فلسفية لطبيعة المعرفة والواقع.

اللغة والرمزية:
شدد بور على أهمية اللغة في وصف الظواهر الطبيعية، وأشار إلى أن لغة الفيزياء ليست وصفًا مباشرًا للواقع، بل وسيلة لتوصيف العلاقات بين الظواهر.
اعتبر أن اللغة الإنسانية بطبيعتها قاصرة عن الإحاطة بطبيعة الواقع الكمومي.

أهمية الملاحظة:
الفلسفة الكمومية التي أسس لها بور تعيد صياغة دور الملاحظ، حيث تصبح عملية القياس ذات تأثير جوهري على ما يتم قياسه.

3. موقف نيلز بور من الفلسفة التقليدية

نقد الحتمية الديكارتية:

بور عارض بشدة الفكرة الديكارتية عن "الواقعية الصلبة"، التي ترى العالم ككيان يمكن وصفه بشكل كامل ومستقل عن الملاحظ.
اعتبر أن هذا النهج غير كافٍ لفهم الظواهر الكمومية.

التأثيرات الفلسفية:

تأثر بور بالفلسفة الشرقية، وخاصة الأفكار المتعلقة بالوحدة والتكامل في الكون.
كما استفاد من التقاليد الغربية، مثل نقد كانط للمعرفة البشرية، حيث رأى أن المعرفة محدودة بحدود أدواتنا ومفاهيمنا.

4. تطبيقات فلسفة نيلز بور على مجالات أخرى

الفلسفة الوجودية:

أفكار بور عن عدم إمكانية وصف الواقع بشكل مطلق تتماشى مع الوجودية التي ترى أن الحقيقة نسبية وتعتمد على السياق.

الأخلاقيات والفلسفة السياسية:

التكاملية يمكن أن تنعكس على فهم أكثر شمولية وتعاطفًا مع الاختلافات بين الثقافات أو الرؤى السياسية.

العلوم الإنسانية:

مبدأ التكاملية يدعو إلى استخدام مناهج متعددة لفهم الإنسان والمجتمع، مما يثري الحقول العلمية المختلفة.

5. التحديات النقدية لأفكار بور الفلسفية

الاتهام بالغموض:

البعض رأى أن مفاهيمه الفلسفية، مثل التكاملية، غامضة وغير قابلة للتطبيق خارج الفيزياء.

مقارنته بآينشتاين:

بينما آمن بور بالاحتمالية وعدم اليقين، تمسك آينشتاين بفكرة وجود واقع مستقل وقوانين حتمية.

النقاش حول "الواقعية":

بور تحدى الواقعية الميتافيزيقية، مما أثار جدلًا حول مكانة الفيزياء كعلم وصفي للطبيعة.

وهكذا، يمكن القول إن نيلز بور قدم مساهمة جوهرية في فلسفة العلم، حيث وحد بين الفيزياء والفلسفة عبر رؤى مثل التكاملية والاحتمالية. فلسفته لم تقتصر على استكشاف الطبيعة الكمومية، بل امتدت إلى كيفية فهمنا للواقع والمعرفة البشرية، مما يجعله شخصية فريدة تجمع بين عبقرية الفيزيائي وعمق الفيلسوف.

في الختام، يظهر نيلز بور كأحد أعظم العقول التي وحدت بين الفيزياء والفلسفة، حيث شكلت أفكاره حول فيزياء الكم حجر الزاوية لفهم جديد للواقع والحقيقة. لم تقتصر إرثه العلمي على اختراق حدود المعرفة الكونية عبر اكتشافاته الفيزيائية، بل كان أيضًا، من خلال فلسفته العميقة، فيلسوفًا حقيقيًا يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكون. كانت أفكاره حول التكاملية، والاحتمالية، ودور الملاحظة في تشكيل الواقع، دعوة للتفكير في حدود الإدراك البشري ومرونة الحقيقة.

إن فلسفة بور تدعو إلى تخليص المعرفة من قيود الثنائيات القديمة، وتفتح الباب أمام فهم متعدد الأبعاد للوجود، حيث لا تكون الظواهر قابلة للتفسير الشامل من خلال منظور واحد أو أداة معرفية ثابتة. بل هي ظواهر متشابكة ومتداخلة، تستعصي على الوصف التام، وتكشف عن جوانب متعددة تعتمد على السياق والتفاعل بين الملاحظ والعالم. وفي ذلك، يكمن جمال الفكر البوري؛ أنه لا يقبل الحلول السهلة، بل يدفعنا إلى البحث المستمر، والمراجعة الدائمة لما نعتقد أننا نعرفه.

لقد أعطى بور بُعدًا فلسفيًا لتفسير العالم الطبيعي، حيث لم يعد العلم مجرد محاولة لاكتشاف القوانين الميكانيكية للمادة، بل أصبح وسيلة للتأمل في أسئلة أعمق حول الوجود والواقع. وقد جسدت أفكاره تحولًا في التفكير الفلسفي والعلمي، حيث أصبح من الواضح أن حدود المعرفة ليست مجرد تحديات علمية، بل هي معركة فلسفية ضد المطلقات والتصورات الثابتة التي قد تعيق تقدمنا في فهم أعمق للكون.

في النهاية، يمثل نيلز بور أكثر من مجرد شخصية علمية بارزة؛ فهو رمز للفكر الذي يتجاوز الحدود المعرفية، ويؤمن بضرورة تساؤلنا المستمر حول الطبيعة والحقيقة. عبر مفاهيمه العميقة والغامضة، دعانا بور إلى تفكيك التقليدي، إلى رؤية العالم من زوايا متعددة، وتقبُل الاحتمالية والشك كجزء من مسارنا المعرفي. إن إرثه الفلسفي لا يزال حيويًا، فهو يظل يثير الأسئلة حول كيفية معرفتنا لما نعرفه، ويحثنا على التواضع أمام تعقيدات الكون، فلا شيء في النهاية يبدو ثابتًا أو محصورًا في قالب واحد.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منهج التجديد في فكر الشيخ محمد الغزالي: قراءة في مشروعه الإص ...
- دفاع موريس بوكاي عن الإسلام: التقاء العلم بالإيمان
- غاري ويلز: تأملات فلسفية في الحرية والعدالة في زمن الهيمنة
- فرانز فانون ونقد مركزية أوروبا: قراءة في جذور الاستعمار وأثر ...
- فلسفة القانون في العصور الحديثة: تجليات الفكر الأوروبي في بن ...
- الفكر في مواجهة التضليل: قراءة في مغالطة رجل القش
- العدمية الحداثية: أزمة الوجود في عالم بلا يقين
- فريدمان والعولمة: بين التفاؤل الغربي والتحديات العالمية
- فلسفة الدين: من الأسئلة الوجودية إلى التحديات المعرفية في ال ...
- جذور الأزمة في الحضارة الغربية: قراءة في فكر عبد الوهاب المس ...
- جدلية العقل والنقل: قراءة في فكر المعتزلة والأشاعرة
- الفكر الفلسفي كقوة تاريخية: قراءة معمقة لدور الفلاسفة في الث ...
- فيلسوف قرطبة وصانع النهضة: قراءة في تأثير ابن رشد على أوروبا ...
- السياسة عبر الزمن: دراسة معمقة في تطور النظم والنظريات السيا ...
- العلمانية في الواقع العربي: قراءة في الجذور والتداعيات
- أنظمة الاستبداد: قراءة معمقة في تاريخ الديكتاتوريات وآثارها
- جون بولتون والأمن القومي الأمريكي: قراءة في فلسفة القوة وتحد ...
- الاستشراق اليهودي: قراءة نقدية في العلاقات بين الشرق والغرب
- الأبعاد السياسية للاستشراق: قراءة نقدية في تاريخ الهيمنة الا ...
- الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة والهوية في ...


المزيد.....




- ما الجديد حول التحقيقات بشأن الهجوم في سوق عيد الميلاد في أل ...
- رغم الخوف من كارثة جديدة...سكان مايوت يضطرون لإعادة بناء منا ...
- -لم أستطع التعرف على أي شيء عندما عدت إلى القرية-.. تايلاندي ...
- -لن نقبل علويا رئيسا لسوريا-.. جمال سليمان يتحدث عن اعتراض ا ...
- هل بدأ انتقام إسرائيل من أردوغان وهل أصبحت تركيا الهدف المقب ...
- بيربوك تحذر من نشوب حرب بين تركيا والمقاتلين الأكراد بسوريا ...
- دمشق.. الصفدي يلتقي الشرع
- ميقاتي يطالب إسرائيل بتنفيذ بنود الاتفاق
- فريق RT يلتقي عائلة الراحل محمد بعلوشة
- مدير صحة طرطوس ينفي أنباء عن تسريح موظفين في القطاع الصحي


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من الحتمية إلى الاحتمالية: الفلسفة العلمية في فكر نيلز بور