أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعدي السعدي - بابل مدينة الأسر - الجزء السادس - اسم بابل والإله الذي يحمي مدينة بابل وانهار بابل















المزيد.....


بابل مدينة الأسر - الجزء السادس - اسم بابل والإله الذي يحمي مدينة بابل وانهار بابل


سعدي السعدي
(سْïي عوçï الَْïي)


الحوار المتمدن-العدد: 8200 - 2024 / 12 / 23 - 01:26
المحور: قضايا ثقافية
    


ملاحطة: المقالة بالاصل كتاب بنفس الأسم للكاتب السويدي غوستاف بلومبري نشر في نيسان 1941 قمت بترجمته واعداد الى العربية
الجزء السابع: اسم بابل والإله الذي يحمي مدينة بابل وانهار بابل
الفصل السابع: أسم بابل
(فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دُعيَ أسمها بابل. لأن الرب هناك بلبل1 لسان كل الأرض.) (التكوين 11: 8 - 9)2
ان الباب الملفتة للنظر هذه التي تكلمنا عنها قبل قليل يدخل الإله مردوخ خلالها مرة كل عام في موكبه الاحتفالي.
لقد أطلق البابليون أسم "بابل" ”Babel": "باب الإله" على المدينة كلها. أماّ الملاحظة الأقدم عن بابل هي أن المدينة أسست من قبل السومريين الذين عاشوا في أسفل سهول وادي الرافدين القريبة من الخليج، واحدة من المدن السومرية المعروفة بشكل جيد من قبلنا جميعاًً ألا وهي (أور)، وقد سماها السومريون (بابل) (Babel) الـ (KA-DINGIR-RA) الكلمة التي تعني " باب الإله ".
في زمن متقدم ساد الأكديون في أعلى السهول وسادوا على كل البلاد. وباللغة الأكدية كانت المدينة تسمى "بابيلو" "Babilu": "باب الإله"، هذه الكلمة ترجمت الى اللغات السامية وأصبحت " Bab-el " "باب الإله".
في كتاب التكوين يذكر أسم مشابه هو بين كلمة "Babel" والكلمة العبرية "بلال" "Balal" التي تعني ( يُبَلْبَلُ)، يقول: (لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض.). وباللغة الآشورية تسمى " بالبيل" "Balbel"، وبهذه اللغة يصبح التشابه بالإسم بين "بابل" و"بلبل" العبرية كبير.
إن الترجمة الآشورية القديمة للكتاب المقدس في القرن الثاني أو الثالث بعد ميلاد المسيح سمتها هكذا: (والمدينة سميت "بابل" " Babel "، لأن الرب هناك "بلبل" " Balbel " لسان كل الأرض.).
لقد وجه علماء اللغة اهتمامهم لظروف تسمية المدينة، حيث أن الكلمة العبرية " بلال " " Balal " في هذه المواضع فقط من العهد القديم تعني "بلبل"، أماّ في المواضع الأخرى فينبغي أن تترجم بـ (رطّب، ليّن بصب بعض السوائل)، وعلى سبيل المثال نستطيع أن نورد بعض المقاطع من الكتاب المقدس، فتأتي الكلمة "Balal" في (الخروج 2:29) نقرأ: (وخبزَ فطيرٍ وأقراص فطيرٍ ملتوتةً بزيتٍ.)، وفي (الخروج 40:29) نقرأ : (وعشرٌ من دقيقٍ ملتوتٍ بربع الهين من زيتِ الرّضِ.)، وفي (اللاويين 5:2) نجد هكذا: (تكون من دقيقٍ ملتوتةً بزيتٍ فطيرٍ.)، وفي (المزامير 11:92) جاء هكذا: (تدهنت بزيت طريٍ.)، وهكذا ندرك بسهولة أنه ليس صحيحاً السماح بترجمة " Balal " في هذه المواضع بـ " بلبل ".

الفصل الثامن: الإله الذي يحمي مدينة بابل
"خزي بيل، انسحق مردوخ، خزيت أوثانها، انسحقت أصنامها." (ارميا 2:50)"
لقد سمينا لمرات عديدة فيما تقدم أسم الإله حامي بابل - مردوخ. فدعونا نتقرب ونتساءل عن ذلك الإله الكبير.
إن للبابليين آلهة يعبدونها، بعضها آلهة طبيعية وبعضها أملاها عليهم واقعهم الحضاري الثقافي. وكان البابليون يرون خلف كل الظروف الطبيعية الرهيبة قوى إلهية مختلفة. فهم كانوا يعتقدون أنه عند تقديمهم القرابين وتعبيرهم عن التبجيل والاحترام للآلهة يستطيعون تجنب غيظها ويحمون أنفسهم من عقابها ويأملون أن تقدم لهم المساعدة الضرورية في صراعهم مع الحياة وكذلك في معاركهم. أفراد كل عائلة أو مدينة محددة يدخلون في اتصال حميمي مع أحد الآلهة، فيصبح هذا الإله إلهاً للعائلة أو المدينة ذاتها. ففي مدينة إبراهيم، أور الكلدانية، كان الإله سين، إله القمر، يلعب هذا الدور.
وفي بابل - مدينة العبودية - سمي الإله مردوخ "إله الشمس"، بنفس الدرجة من القوة والجبروت والمجد الذي نمت فيه بابل، نما فيه كذلك أسم الإله مردوخ. وأن طاقم الكهنة لم يكن يدخر جهداً في إبراز أن مردوخ نال حق القدسية من الشعب، فوصلت سمعة مردوخ إلى مكانات أرقى فأرقى بين عالم الآلهة البابلية، وفي النهاية كان هو الإله الأعلى في اللاهوت البابلي، إليه توجه الصلوات الحارة والمخلصة. نورد على سبيل المثال واحدة من هذه الدعوات التي عبرت كالآتي: " حامي البلاد، حامي الشعب، سيد الملكوت الإلهي، يا من على كل الأفواه اسمك جالباً للحظ! - مردوخ، أيها السيد العظيم، الإله الرحيم، بأمرك العظيم أكون سليماً معافياً لأبجل قدسيتك! - أمنيتي أن أحظى بعطفك، ضع الحقيقة في فمي، دع الأفكار الجيدة تسكن في قلبي! أيها الحامي والمبشر بالخير! إلهي قف إلى جانبي الأيمن، آلهتي قفي إلى جانبي الأيسر! إله واحد يحميني، يقف دائماً إلى جانبي! - مردوخ، أيها السيد العظيم، امنحني الحياة! مُر بأن حياتي تدوم! بمقدار سلوكي المرضي أمامك أشبعني! أنليل يفرحك، أيا يبهجك، كل الآلهة تسجد لك؛ لتسعد قلبك كل الآلهة الكبار!".
وفي النهاية، وبهذه الطريقة، أصبح مردوخ سيد المدينة والمُلك، لم يسّم فقط مردوخ وإنما سمّي بيل كذلك، وهي الكلمة التي تعني "السيد". "خزي بيل، أنسحق مردوخ" هكذا يقول إرميا في كلمته التي اقتبست أعلاه من الإصحاح 2:51. وهنا لا يتعلق الأمر بإلهين مختلفين بل باسمين مختلفين لإله واحد هو نفس الإله. مردوخ كان بيل، السيد، هذه الكلمة (بـيـل) هي نفس الكلمة التي في موضع آخر في العهد القديم بشكل (بعل) (Baal) وكذلك لأسم آلهة كنعانية مختلفة*. (بعل-بريت) و(بعل-بيور) و(بعل-سيبول)، قارن (بيل سيبول Beel Sebul) و(بعزبول - أنجيل متي 24:12).
كان مردوخ هو السيد على كل بابل، وهذا ما كان على الملك معرفته. من يد مردوخ يتسلم المُلك سنة بعد أخرى، فيتسلم القوة ليبقى قائداً للبلاد. والملك الذي لا يرتاح لذلك لا يحتاج الشعب لأطاعته.
إنه عيد كبير غير عادي في بابل لتمجيد مردوخ ومن يد الأخير يبارك الملك ويمّجد. كل آلهة المدينة، وكل آلهة البلاد تأتي لتقديم التحية، صورهم تنقل في موكب احتفالي طويل في شوارع المدينة وبالأخص شارع الموكب وشارع مردوخ. وبهذه المناسبة تفتح مدينة بابل بابها المقدسة: (باب الإله)، (بابل)، فيتوافد منها الآلهة وفي مقدمتهم مردوخ باتجاه مكان الهيكل مروراً بالبرج، وعبر واحدة من الأبواب الأربعة في السور الجنوبي من مكان الهيكل يتوجهون إلى هيكل مردوخ الرئيسي الذي يقع مباشرة إلى الجنوب من مكان الهيكل الذي تكلمنا عنه الآن (قارن الصورة رقم 41).
لنتابع الآن الملك نبوخذ نصر، فهو (أي الملك) خلال الأيام الاحتفالية هذه يخرج من قصره ويتوجه جنوباً في شارع الموكب إلى هيكل مردوخ الرئيسي، هناك يلتقي بأكبر الكهنة، فيقوم الأخير بصفع الملك الذي يستقبل الصفعة بدموع مذرافة. بعد ذلك ينزع كبير الكهنة من الملك جميع حاجياته الملكية، التاج والخاتم ورمز الملوكية والقوس، يحملها جميعاً إلى مردوخ ويدعها في حمايته، ثم يقود الملك إلى الداخل حيث عليه أن يؤكد براءته وطهارته من كل الذنوب. وبالنصح والمواعظ أن لا يرتكب ذنباً في المستقبل بل أن يسلك الطريق القويم. يحصل الملك على الصفح والمغفرة على خطاياه، وهي إشارة على أنه تسلم مجدداً حوائجه الملكية فيستطيع الملك نبوخذ نصر الظهور مجدداً أمام شعبه فيسجدون له ويقدسونه. من مردوخ - بيل مُنح القوة والسلطة ليبقى سنة أخرى سيداً على البلاد والشعب.
أماّ الآلهة الذين حلوا ضيوفاً على المدينة فباستطاعتهم الآن العودة كل إلى مدينته. ويعود الناس لمزاولة أعمالهم، كل شئ كان هادئاً وجيداً ذلك أن مردوخ - بيل كان سيد الجميع - سيداً على بابل وكل البلاد.
الهيكل الذي يعود إلى مردوخ فوق البرج، لم يكن هيكله الرئيسي، فالهيكل الرئيسي كما قلنا يقع إلى الجنوب من مكان الهيكل. وقد نجح الدكتور كولدوي في العثور على بقايا ذلك الهيكل بعمق 21 متراً تحت سطح الأرض. لقد بني على نفس الأسس التي بني عليها القصر الملكي، فكان بحديقة ملكية كبيرة في الوسط وحولها مجموعة من الغرف. وكان على شكل مربع كل ضلع فيه بقياس حوالي 85 متراً. أماّ الحديقة الملكية فكانت بعرض 31,30 متراً وطول 37,60 متراً. أماّ المكان الأكثر قدسية فيقع في الجانب الغربي من البناء، هناك كان يقف يوماً ما تمثال مردوخ، للأسف لم يبق منه شئ الآن. كيف كان يبدو؟ هذا ما لم نستطع الحديث عنه بثقة! على أية حال فإن مثل هذه التماثيل أعتيد أن تكون منحوتة على أحجار مختلفة ومن أنواع ثمينة، كما أنها ممكن أن تكون مصنوعة من الفضة الخالصة أو الذهب ومزينة بأنواع غالية من الأحجار الكريمة. حتى اللوازم الدينية التي وجدت إلى جانب تجهيزات ولوازم الإله كانت غالية إلى حد كبير. سريره أعتيد، في هياكل بابل، أن يكون من الذهب الخالص وكذلك العربة والمركب الذي يستعمله في المواكب الاحتفالية المقدسة. إن هيكل مردوخ في بابل كان ينبغي أن يكون غاية في الجمال والروعة وغنياً بالتطريز والتزيين من كل نوع. أماّ نبوخذ نصر الذي كان سيد بناء حقيقياً، تبعاً لما لاحظناه لحد الآن، فقد قام بعمل ضخم جبار لكي يكون هيكل مردوخ زاهياً متلألئ.
في إحدى النقوش تحدث نبوخذ نصر عن عمله هذا وأعطى معلومات عن جهوده: "فضة وذهب وأحجار كريمة نفيسة وبرونز وأشجار الأرز وكل ما يمكن تخيله من النفائس، من الجبال والبحار، جلبتها إكراماً لأقدام مردوخ، أدخلتها إلى معبده إيساكيلاّ، قصره البهي. وجعلت معبده مشرقاً كالشمس وكسوت جدرانه بكتل من الذهب وزينت غرف الهيكل بالفضة والمرمر. وجعلت باب أزيدا في ايساكيلاّ تتلامع كالشمس والغرفة دوازاغ (Duazag) التي زيّنها الملوك الأوائل بالفضة كانت جدرانها مبطنة بالذهب. طليت الأدوات المنزلية في الهيكل بالذهب. جلبت أحسن أشجار الأرز التي وجدتها في لبنان، في تلك الغابات البهية لتسقيف المعبد."
تحدث هيرودوت عن تمثال مردوخ فقال انه كان بارتفاع ستة أمتار. هل تريد الحصول على صورة مردوخ؟ إذن، تمعن بالصخرة التي وجدت عند التنقيب هناك والتي حفر عليها ملامح الإله.

الفصل التاسع: أنهار بابل
(على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً ... على الصفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا.) (المزامير 137: 12)
انها أصوات مسموعة في آذاننا تلك الأشعار المليئة بالحزن. احساس غير عادي ذلك الذي غرسوه فينا، لكننا لا نعلق أنفسنا بالأحاسيس وإنما نفتش عن ايضاح للسؤال الجيولوجي: ما هي حقيقة أنهار بابل.
لقد اعطينا فكرة في الفصل الأول من هذا الكتاب عن أن خرائب بابل واقعة على ضفاف نهر الفرات، إذن دعونا اولاً نلقي نظرة على هذا النهر!
الفرات هو النهر الذي يشترك مع نهر دجلة في تشكيل السهول الطويلة، هناك حيث استطاع الناس منذ اقدم العصور من زراعة الحقول والحصول على مقومات الحياة. وبمساعدة الكميات الهائلة من المياه المتدفقة من النهرين نهضت الحقول الشاسعة الخصبة التي سميناها – ميزوبوتاميا، أي بلاد ما بين النهرين.
لنهري دجلة والفرات بالنسبة لبلاد ما بين النهرين نفس أهمية نهر النيل بالنسبة لمصر. في التكوين تم الحديث عن واحد من الأنهر الأربعة التي تجري خلال الفردوس، هو نهر الفرات: النهر الرابع الفرات، سميّ ذلك في الإصحاح (2) المقطع (14).
لنهر الفرات نهران، منبعان، كلاهما ينبع من اراضي أرمينيا العليا. النهر الأعلى منها (قراشوKara Su ) الذي يبدأ من الانحدارات الشمالية للجبل (ديري داغ Dyruy Dag) الذي يبلغ ارتفاعه 2629 متراً ويجري في اتجاه الجنوب الغربي مسافة 400 كم حيث يتحد بالنهر الثاني (موراد شـو Murad Su ) عند هذه النقطة يكون النهر على ارتفاع 700 متر فوق سطح البحر. بعد ذلك مباشرة يترك المنطقة الجبلية لينحدر الى السهول الجرداء الفقيرة بالسكان، حيث يصبح النهر هنا قريباً من البحر الأبيض المتوسط تفصله مسافة تقدر بحوالي 150 كم فقط عنه. لكن الفرات يدير ظهره للبحر لينحرف باتجاه الجنوب الشرقي في طريقه الى الخليج. عند القرنة وعلى بعد 170 كم من الخليج يتحد نهر الفرات مع نهر دجلة ليسمى مجراهما المشترك، كما هو معروف، شط العرب.
يقدر طول الفرات بحوالي 2800 كم. وكما لنهر النيل للفرات أيضاً وقت محدد سنوياً لارتفاع منسوب المياه فيه، هذا الوقت له أهمية كبرى في الزراعة في تلك البلاد. عندما تذوب الثلوج في منحدرات الجبال هنالك حيث منابع النهر، ترتفع مناسيب المياه وفي شهر نيسان/ابريل وآيار/مايو، في هذا الوقت يحصل في النهر عند وادي الرافدين مثل ما يحصل في منطقة المنابع. في هذا الوقت من السنة تنتقل كمية المياه التي تقدر بـ 2500 كم مكعب في الثانية، عندها يمكن أن يرتفع منسوب المياه في النهر الى 4 أمتار، فأي اهمية استثنائية يكون ذلك بالنسبة للبلاد؟
خلال هذا الوقت يوجه المرء المياه الى ألف قناة وقناة (1001) كانت قد حفرت وبمساعدتها يصل الماء الى الأراضي اليابسة. لقد زودت هذه القنوات بسدود عند ارتباطاتها بالنهر، وعندما يبدأ النهر في الانخفاض تبقى المياه مع ذلك في القنوات.
وعلى كل حال، لم يبق من كل هذا النظام الكبير للآرواء الذي كان البابليون القدماء ينظموه إلاّ الشئ القليل. للأسف فمنسوب المياه يرتفع وينخفض من دون ان يستفاد من تدفق المياه في أكثر امتداداته، ورمال الصحراء تنتشر على مناطق مترامية الأطراف. في الأزمنة القديمة، كان هناك وفرة من المحاصيل حيث يوجد اغنى خزين حبوب في العالم اما الآن فهي اراضي سبخة جرداء وصحراء.
أي نهر رائع هو الفرات؟! - إنه ذلك السيل العذب الذي يجري ويتدفق عبر بابل وبجريانه يولد الفردوس، اما الآن فهو يجري عبر حقول خاوية.
في رؤيا يوحنا اللاهوتي نقرأ عن الملاك الذي " سكب جامه على النهر الكبير الفرات فنشف ماؤه لكي يعد طريق الملوك الذين من مشرق الشمس" (الاصحاح 12:16).
عند التنقيب في بابل عثر على خارطة قديمة توضح بشكل جلي ان المدينة تقع عند نهر الفرات. رسمت الخارطة على لوحة طينية وهي طرية ورسم بنفس الوقت نص مسماري طويل يحتوي على الإيضاحات الضرورية ثم شويت اللوحة بالطريقة العادية في فرن، وهكذا حفظت عبر العصور الى يومنا هذا.
لننظر الى الخارطة قليلاّ! - في أعلى اللوحة الطينية وجدنا نصاً مسمارياً، لكن نظراتنا لم تثبت على ذلك النص طويلاً بل ذهبت لكي تتفحص الخطوط التي تعرضها الخارطة، فتعلقنا حالاً وبدون تردد عند الشكل الدائري الذي يذكرنا بصحن حددت حافته بواسطة خطين متوازيين. وحسب ما موجود في النص فإن حافة الصحن نفسها تحدد "محيط العالم”، داخل الحافة يوجد شكلاً دائرياً، إنه الأرض، إنها دائرية ومسطحة وتطفوا على محيط العالم الذي يحيطها من كل الجوانب.
في وسط مساحة الأرض هناك خطين متوازيين يمتدان من الأعلى وإلى الأسفل، إنه طبعاً نهر الفرات الذي يبدأ عند محيط العالم من الشمال ويجري على طول الأرض باتجاه الجنوب، هناك يتحد مرة أخرى بالمحيط.
بالقرب من هذا المصب استطعنا تمييز ذراع تنعطف نحو الجنوب الشرقي والى البحر. ثم راحت نظراتنا تتركز على مستطيل غريب الشكل خلاله يجري نهر الفرات، إنه مدينة "بابل". يقسم نهر الفرات المدينة إلى قسمين ولنسميهما: الضاحية الغربية، والضاحية الشرقية.
الضاحية الشرقية هي الجزء الرئيسي من المدينة، وهي الأقدم، وهناك يقع القصر والبرج والهيكل. نرى في الجزء الشرقي للضاحية الشرقية وباتجاه محيط الأرض حلقات صغيرة محفورة، يقول لنا النص أنها تشير إلى دول مثل الدولة الآشورية والدولة الأرمينية ودول أخرى أُشرت بدوائر مشابهة إلى الغرب من بابل نفسها.
وباتجاه أقصى الشمال يبدأ نهر الفرات جريانه، لم نر هناك خطأ كالذي وجدناه عند المصب على شكل قوس صغير، لكننا وجدنا شكلاً بيضوياً. الشكل البيضوي يؤشر إلى الجبل الذي يقع في أقصى الشمال. ترى هل هو جبل طوروس!
وحسب الخارطة نستطيع ايجاز ما يلي: تقع بابل على جانبي نهر الفرات، تقريباً في مركز الأرض نفسها، ولكن مع ذلك لم نقل كل شئ عن المدينة. تخبرنا الخارطة أنه في الأعلى والى اليسار في الجانب الآخر من محيط العالم يوجد مثلث غريب الشكل، قاعدته تستند إلى المحيط. يوجد نص مسماري داخل المثلث وخارجه وعلى طول ضلعه السفلي، هناك نحصل على توضيح للمثلث. إنه السماء الرابعة. أسفل السماء الرابعة نرى علامة السماء الثالثة، والى الأسفل نرى بداية واضحة لعلامة مثلث آخر. ونستمر لنمر على المثلث الأول، والى الأعلى نأتي إلى المثلث السابع الذي كان تالفاً، لكن المثلث السادس يرى بشكل واضح جداً.
إذن، وجدت سبع سموات في الجانب الآخر من محيط العالم. تكلم " آبو ستيلن باولس"، كما هو معروف، بمكان ما عن السماء الثالثة. ونسمع في وقتنا الحالي ان الناس يتكلمون عن السماء السابعة. أين تقع حسب تعبير البابليين العاصمة بابل؟ - إنها تقع عند نهر الفرات في مركز الأرض، إنه حقاً موقعاً ممتازاً جداً.
بعد هذه النظرة الجيولوجية الفلكية لنهر الفرات وبابل، حان الوقت للتوقف عند ذلك الجزء من النهر الذي يتعلق ببابل نفسها. في البداية وفي المنطقة الواقعة حصراً في الجانب الشرقي من النهر كان قد نما فيها البناء وتوسعت فيها المنطقة السكنية، لذلك لم يبق للناس خيارٌ سوى أستيطان المنطقة الغربية من النهر. بمساعدة الطوف " العبارة " أستطاع الناس عبور النهر، وهكذا رُبطا نصفا المدينة مع بعضهما البعض، ولكن مع توسع المدينة كثيراً تطلبت الحاجة إلى توسيع حركة التنقل حيث لم يبق الناس مقتنعين بالطوف في ربط نصفي المدينة، فكانت الحاجة إلى إنشاء جسر فوق النهر لكي تتحد الضاحية الشرقية بالضاحية الغربية.
هذا الجسر له 8 دعائم، وقد نقب عنها الدكتور كولدوي في رمال الصحراء. لقد غير نهر الفرات مجراه عبر الأزمنة وتحول باتجاه الغرب، فكان مجراه القديم جافاً وقد غطته الرمال. هناك أمكن الحفر ونجح في العثور على بقايا ذلك الجسر القديم. نحن نعرف أن هذا الجسر بني قبل أيام نبوخذ نصر، ولكن متى شيد على وجه التحديد والدقة لا أحد يستطيع الجزم.
ستة من الدعائم انشأت في النهر والاثنتان الباقيتان ثبتتا في اليابسة. المسافة الفاصلة بين الدعائم كانت 9 أمتار كقاعدة، وكل دعامة كانت قد بنيت من حجر الآجر المكسو بحجر الكلس ولها شكل سفينة تتجه مقدمتها نحو الشمال. وكل دعامة كانت بقياس 21 متراً طولاً و9 أمتار عرضاً، أما طول الجسر فيقدر بحوالي 123 متراً.
تحدث المؤرخ اليوناني هيرودوتس في احدى مخطوطاته التى تعود إلى العام 460 قبل الميلاد، أنه كل يوم قبل حلول الظلام تحمل بعضاً من ألواح الخشب إلى خارج الجسر بحيث لا يستطيع أياً كان عبور الجسر لغرض السرقة.3
عبر ديودور، من القرن الأول الميلادي يقول: "جسر من الحجر مُدّ فوق النهر، يعتبر واحد من العجائب الشرقية."
فأي حركة مرور حية كانت فوق هذا الجسر يوماً ما! إن المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية هي فقط التي تمتلك مثل هذه الحركة عند عبور الجسر (أنظر الصورة رقم 40)، تحت أقواس الجسر يحمل النهر على ظهره العريض تدفقاً مستمراً للمراكب التجارية في الأعياد الدينية الكبرى، وفي مقدمتها عيد رأس السنة في شهر آذار حيث يسير عدد من آلهة المدينة، على شكل أصنام بمراكب فخمة في موكب احتفالي. وفي مقدمة تلك المراكب قاطبة كانت مركب مردوخ المكسوّة بالذهب ومطرزة بالأحجار الكريمة " لمعتِ كنجمة في السماء " كما ورد في احدى الوثائق " وأثارت العجب عند كل الشعب ".
هل تقع المدينة عند أنهر أخرى غير نهر الفرات؟
لا، ولكن سقت شبكة غنية من القنوات تدفقت خلالها مياه الفرات العذبة، ذلك السيل الواهب للحياة، مانحة الغنى والخصب في السهول. كذلك خلال مدينة بابل نفسها شقت قنوات مشابهة، وفي كل مكان احتاج الناس فيه الى الماء.
كيف كان ممكناً الحصول على المياه لو لم يكن سيل الفرات موجوداً؟ إن مياه الأمطار لا تساعد طويلاً، فالمنطقة هنا شبه استوائية، وهي ليست غنية بالأمطار، حيث أن معدل هطول الأمطار في السنة يقدر بـ 7 سم فقط. عند شواطئ القنوات الكثيرة العدد نمت أشجار الصفصاف "وعلى الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا". بين تلك القنوات الكثيرة كان البابليون يذكرون بشكل خاص قناتين، تحدثوا عنهما في وثائقهم، الأولى كانت قناة " ليبيلشه كاله " أي " القناة الكبيرة " أو " قناة القصر"، وقد سميت هكذا لأنها تجري في الجانب الجنوبي من القصر الملكي، ثم تستمر بعد ذلك عند القوس بأتجاه الشرق خلال بابل. القناة الثانية تسمى "قناة المدينة الجديدة " وذلك لأنها كانت تجري عبر الجزء الجديد من المدينة "الضاحية الغربية ".
لقد كان النهر غنياً بالأسماك، فالأسماك كانت المادة الحياتية المحببة لديهم وبشكل خاص "الشبوط"، الذي يحب العيش في المياه الهادئة ويصل الى احجام كبيرة. في الأعشاب العالية التي تحد الشواطئ وجدت طيور الماء ذات الألوان المختلفة مأوى مثالياً لها. وفي السهول التي تتقاطع فيها القنوات يعمل الفلاحون على البذار والحصاد وتجهيز المدن الكبيرة بالحبوب. عند أرميا نقرأ: " أقطعوا الزّارع من بابل وماسك المنجل في وقت الحصاد" - الإصحاح 50 المقطع 16.
على امتداد أرصفة النهر في المدينة القديمة وكذلك في المدينة الجديدة كانت تجثـوا الطواف محملة بأغلى البضائع ومن كل الأنواع. ومن شاطئ البحر المتوسط يأتي قطار طويل من الجمال التي تحمل على ظهرها حمولات من بلاد الغرب. إنها تنقل بواسطة "سفينة الصحراء" حوالي 150 كم على اليابسة حتى شواطئ الفرات، هناك تحمل البضائع على الطواف حيث ينقلها الفرات بحرية على ظهره العريض جنوباً الى تجار بابل. ولكن حتى من المدينة كانت ترسل البضائع الى اسفل النهر والى الخليج ومن هناك الى الدول الواقعة في الجانب الآخر من البحر.
ولبابل اسبابها في تقديم الشكر للفرات، ماذا كان يمكن أن تكون بابل بدون الفرات؟ كان الفرات بالنسبة لبابل مصدر الحياة، الشريان الذي يرسل القوة والخير والغنى. وأنهر بابل "القنوات الألف" كانت الشبكة الجميلة التي بواسطتها يصل عصير الحياة الى أصغر الحقول.
أي موت يحل بالمدينة لو أن الفرات قد نشف؟
"حر على مياهها فتنشف، ولا تسكن بعد الى الأبد ولا تعمر الى دورٍ فدور" (إرميا 50: 38-39). " أيتها الساكنة على مياه كثيرة الوافرة الخزائن قد أتت آخرتك كيل اغتصابك. قد حلف رب الجنود بنفسه أني لأملأنك ناساً كالغوغاء فيرفعون عليك جلبة" (إرميا 51: 13-14). "إنّ المعابر قد أُمسكت والقصب أحرقوه بالنار ورجال الحرب أضطربت" (إرميا 51: 32) " وأنشف بحرها وأجفف ينبوعها. وتكون كوماً ومأوى بنات آوى ودهشاً وصفيراً بلا ساكن" (إرميا 51: 36-37).
والنبي أشعيا يوصف: "خذي الرحى وأطحني دقيقاً. أكشفي نقابك شمري الذيل. أكشفي الساق. أعبري الأنهار" (47:2). " هكذا صار لك الذين تعبت فيهم. تجارك منذ صباك قد شردوا كلٌ على وجهه وليس من يخلصك " (47:15).
هوامش:
1. بلبلَ: بلبلةً وبلبالاً الألسنة: خلطها // و - الآراء: أفسدها // و - الأمتعة: فرّقها - تبلبل: مطاوع بلبل ومنه: " تبلبلت الألسن في بابل " أي اختلطت. هذا ما جاء في " المنجد في اللغة والإعلام " - دار المشرق - بيروت.
2. التكوين: كتاب موسى الأول والخروج: كتاب موسى الثاني واللاويين: كتاب موسى الثالث.
3. ولهذه العملية مهمة أخرى هي تمكين السفن ذي الصواري العالية من العبور.



#سعدي_السعدي (هاشتاغ)       سْïي_عوçï_الَْïي#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بابل مدينة الأسر - الجزء الخامس - شارع الموكب وبرج بابل
- بابل مدينة الأسر - الجزء الثاني - أسوار مدينة بابل
- بابل - مدينة الأسر - الجزء الثالث - أبواب مدينة بابل
- بابل - مدينة الأسر - الجزء الرابع - قصور بابل
- بابل - مدينة الأسر
- الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة - الجزء الثاني
- الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة - الجزء الثالث
- الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة الجزء الأول
- الماركسيون والانتخابات - الجزء الثالث
- الماركسيون والانتخابات - الجزء الثاني
- الماركسيون والانتخابات - الجزء الاول
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الخامس: النشاط ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء السادس: الماركس ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية – ثالثاً: المنظمة
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الرابع: الاستيل ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الثاني: الطبقة ...
- النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الأول - اختلافا ...
- افكار في موضوعة الضمان الاجتماعي
- عمار الحكيم وجمهورية العراق الاسلامية الفدرالية
- دعوة للمشاركة في الحوار حول العمل المشترك بين القوى اليسارية ...


المزيد.....




- موسكو في انتظار العام الجديد
- مروحية -Mi-35M- تدمر معقلا للجنود الأوكرانيين
- منظومة -غراد- تستهدف مشاة ومعدات عسكرية أوكرانية
- شركة -روستيخ- تسلم دفعة جديدة من مقاتلات وقاذفات إلى القوات ...
- وفد حكومي روسي يصل إلى طهران
- مقاطعة كورسك.. القضاء على 300 عسكري أوكراني في 24 ساعة
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع ...
- سلاح البحرية الروسي يتسلم سفينة حاملة للصواريخ المجنحة
- صحيفة: روته طالب زيلينسكي بوقف انتقاداته لشولتس
- نتائج مفاجئة!.. علماء يكشفون الحد الأقصى لسرعة الدماغ البشري ...


المزيد.....

- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعدي السعدي - بابل مدينة الأسر - الجزء السادس - اسم بابل والإله الذي يحمي مدينة بابل وانهار بابل