|
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (4)
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8199 - 2024 / 12 / 22 - 18:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
3- أخيراً، يجب أن يستوعب هذا التاريخ بيئة جميع الكتب الدينية الموجودة؛ الذي يشمل حياة وعادات ودراسات من وضع كل كتاب، من كان، ماذا كانت المناسبة، والحقبة التي كتب خلالها، من الذين كتب لهم، وبأي لغة. أكثر من ذلك، يجب أن يستقصي هذا التاريخ في مصير كل كتاب: كيف كان استقباله الأول، وفي أيادي من وقع، وكم عدد النسخ المختلفة منه، وبنصيحة من اعتُمد في صحيح الدين، ثم كيف جُمعت كل الكتب المعتمدة بإجماع الآراء الدينية السائدة حينها ضمن الكتاب المقدس وصحيح الدين في التراث المحفوظ.
كل هذه المعلومات، كما بَينت، يجب أن تُضمن في "تاريخ" الكتاب المقدس. لأننا كي نعرف ما هي الآيات المراد لها أن تكون قوانين، وتلك المراد لها أن تكون مجرد مواعظ أخلاقية، فمن الأهمية بمكان أن نتعرف على حياة وعادات وتطلعات من كتبوها: كما أنه سيسهل علينا فهم وتفسير كتابات المرجع الديني بالتناسب مع مقدار ما نملكه من معرفة تفصيلية حول القدرات الذهنية والوجدانية لهذا الشخص.
كذلك، حتى لا نخلط بين المواعظ الأزلية وتلك التي خدمت فقط حاجة آنية، أو كانت تخاطب فئة بعينها فقط، علينا أن نعرف ما هي المناسبة والتوقيت والعصر الذي وضع فيه كل كتاب، والجمهور المخاطب به.
أخيراً، يجب أن تتوفر لدينا المعرفة حول النقاط الأخرى التي ذكرتها، لكي نتأكد، بالإضافة إلى أصالة العمل، من أن أيادي خبيثة لم تعبث به، أو أخطاء قد تسربت إليه، وإذا شابه شيء من ذلك، إذا ما كان قد تم تصحيحه بمعرفة أشخاص من ذوي الكفاءة والجدارة بالثقة. يجب أن نعلم بكل هذه الأشياء، حتى لا تقودنا نوازعنا العمياء إلى القبول بكل ما يُقدم إلينا، بدلاً من أن نقبل فقط بما هو مؤكد وغير مشكوك فيه.
الآن، عندما نتوفر على هذا التاريخ الخاص بالكتاب المقدس، ونقرر أخيراً ألا نقبل كعقيدة صحيحة ما لا يتفق صراحة مع هذا التاريخ، أو لا يمكن قياسه بوضوح على هذا التاريخ، حينئذٍ يصبح الوقت مناسباً لكي نتصدى لمهمة الاستقصاء فيما بجعبة المفسرين والكتاب المقدس. بيد أننا في هذه الأثناء سنحتاج إلى طريقة وثيقة الصلة بتلك المستعملة في تفسير الطبيعة من تاريخها. نحن عندما نستقصي الظواهر الطبيعية نحاول أن نستقصي أولاً الأشياء الأكثر عموماً وشيوعاً عبر الطبيعة كلها- مثل الحركة والسكون، والقوانين والقواعد التي تراعيها الطبيعة دائماً، ومن خلالها تعمل باستمرار- ثم نتجه إلى ما هو أقل عمومية؛ كذلك أيضاً، في تاريخ الكتاب المقدس، نستقصي أولاً الأشياء الأكثر عمومية، التي تخدم كأساس ومرجع لكل الكتاب المقدس، وهو المبدأ، في الحقيقة، المُوصي به من كل المفسرين كأحد الثوابت المنطقية وأعظمها نفعاً للبشر. على سبيل المثال، أن الله واحد، وأنه قادر على كل شيء، وأنه وحده الأحق بالعبادة، وأنه رب الناس أجمعين، وأنه يرضى عمن يخشونه ويحبون جارهم كحبهم لأنفسهم، الخ. هذه التفاسير وأمثالها، أكرر، يعظ بها الكتاب المقدس صراحة وبوضوح في كل موضع، لدرجة أن أحداً لا يشك أبداً في المعنى الذي يقصده منها.
بينما طبيعة الله، طريقته في العناية بالخلق وتدبير أحوالهم، والعقائد المماثلة، لا تجد الكتاب المقدس ينص عليها قطعياً في أي موضع، كعقيدة أزلية صالحة لكل زمان ومكان؛ بل على العكس، قد بينا أن المفسرين أنفسهم لم يتفقوا على هكذا موضوع؛ لذلك، يجب ألا نقبل بعصمة أي عقيدة حول مواضيع من هذه الشاكلة، حتى لو كانت تبدو واضحة بالكامل على أُسس منطقية.
بعد المعرفة المُحققة بهذا المبدأ العام التي يُبنى عليه الكتاب المقدس، يجب أن نتوجه إلى عقائد أخرى أقل عمومية، لكنها، رغم ذلك، تتصل بمجرى الحياة عموماً، وتنبع من المبدأ العام كما تنبع روافد النهر من البحيرة نفسها: هي كل التجليات الظاهرية الصغيرة للفضيلة الحقة، التي تحتاج إلى مناسبة معينة من أجل ممارستها؛ كل ما هو مبهم أو ملتبس حول هذه النقاط في الكتاب المقدس يجب إيضاحه وتعريفة من خلال المبدأ العام؛ وفيما يتصل بالحالات المناقضة، يجب أن نراعي المناسبة والزمان الذي كتبت فيه. على سبيل المثال، حين يقول المسيح، "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون،" نحن لا نعرف، من نص هذه الفقرة، أي فئة من الحزانى هؤلاء المقصودين؛ غير أننا، من جهة أخرى، عندما نجد المسيح يعظنا في موضع لاحق ألا نحزن لفقدان شيء، عدا فقط ملكوت الله وبره، الموصي بهما كأعظم النعم (انظر Matt. Vi. 33)، ساعتئذٍ نعرف أن الله قصد من الحزانى فقط هؤلاء الذين يحزنون لملكوت الله وبره الغافل عنهما الخلق: لأن ذلك سيكون سبب الحزن الوحيد لهؤلاء الذين لا يحبون شيء أكثر من حبهم لملكوت الله وعدله، والذين يترفعون حتماً عن المكاسب الدنيوية. ويصدق هذا، أيضاً، حين يقول المسيح: "بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلْأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الأيسر أَيْضًا،" حتى نهاية الآية.
لكن لو كان الله، بوصفه المُشرع الأعظم، قد ألزم القضاة بهكذا حكم، فهو بذلك ينقض شريعة موسى، بينما الله يقول صراحة أنه لم يفعل (Matt. V. 17). وبناءً عليه يجب أن نحدد من هو المتكلم، وما هي المناسبة، ومن هم المخاطبين بهذه الآية. الآن يقول المسيح أنه لم يأتي ليحكم بين الناس كمُشرع، بل لتبلغيهم رسالة ربهم كهدى ورحمة: إنه لا يستهدف تقويم سلوكياتهم الظاهرة بقدر ما يستهدف تقويم ما وقر في قلوبهم من شر وبغي. كذلك، تخاطب تلك الآيات قوماً مضطهدين، يعيشون في أمة فاسدة على وشك الضياع، حيث يغيب عنها العدل ويسود الظلم. نفس هذه العقيدة التي يعظ بها المسيح هنا قبل دمار المدينة مباشرة دعا إليها أيضاً النبي إرميا قبل أول تدمير لمدينة أورشليم/القدس، أي في ظروف مماثلة، كما نرى من مراثي إرميا، الإصحاح الثالث، 25-30).
الآن عندما نلاحظ أن الأنبياء والمفسرين لم يعظوا بمثل هذه المعتقد إلا في أوقات التعرض للاضطهاد، وحتى حينئذٍ لم يعظوا به كقانون دائم؛ ونلاحظ أيضاً، من الناحية الأخرى، أن موسى (الذي لم يُدَوِّن الوحي في حقبة الاضطهاد لكنه- تذكروا ذلك جيداً- صرف كل جهده لتأسيس أمة متحدة)، أثناء إدانته للحقد والكراهية تجاه جار المرء، قد أجاز رغم ذلك مبدأ العين بالعين، ومن ثم نستنتج بوضوح قاطع من هذه الحيثيات الكتابية الخالصة أن هذه السُنة كما وردتنا عن المسيح وإرميا بخصوص الإذعان للظلم والاضطهاد كانت صالحة فقط في الأماكن التي عَمَّ فيها الظلم، وفي زمن ساد فيه الاضطهاد، لكنها لا تصلح لأمة موحدة وجيدة التنظيم.
في الدولة ذات التنظيم الجيد حيث يسود العدل يُنتظر من كل شخص، حتى لا يُخِل بالنظام، أن يلتمس الإنصاف أمام قاضيه الطبيعي (انظر Lev. V. 1)، ليس بغرض التشفي والثأر (Lev . xix, 17, 18)، بل لنُصرة العدل وإنفاذ قوانين بلاده، ولكي لا يُساعد المجرم في الإفلات بجُرمه. كل هذا واضح ويتسق مع العقل. وأستطيع ذكر أمثلة أخرى كثيرة على نفس المنوال، لكني أظن ما سبق يكفي لإيضاح مضمون هذه الطريقة والفائدة المرجوة منها، ولا أبتغي أكثر من ذلك في الوقت الحاضر. لم أعرض حتى الآن سوى كيف نستقصي في تلك الفقرات من الكتاب المقدس التي تتطرق للسلوك العملي ومن السهولة بمكان إخضاعها للفحص، لاسيما وأن مثل هذه المواضيع لم تُثر خلافاً قط فيما بين كتبة الوحي وحفظته.
على عكس الفقرات العملية، نحن لا نستطيع تتبع الفقرات النظرية الخالصة عودة إلى معانيها الحقيقة: هنا الطريق يضيق ويصبح أكثر وعورة، بسبب كثرة خلافات المفسرين فيما بينهم بصدد المسائل ذات الطبيعة النظرية، ولأن المرويات تأتي عموماً مُنساقة لأهواء لعصرها، بالتالي لا ينبغي إطلاقاً أن نستنتج نية أحد المفسرين من فقرات أكثر وضوحاً وردت في كتابات مفسر آخر؛ ولا ينبغي أن نستنبط على هذا النحو المعنى الذي قصده، ما لم يكن جلياً لنا بالكامل أن آراء كلا المفسرين كانت متطابقة في المسألة قيد البحث.
_________________ قراءة: عبد المجيد الشهاوي النص الأصلي: https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.274322/page/n3/mode/2up
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (3)
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا (2)
-
في مآلات المشروع العربي الناصري
-
عن الله- قراءة في فلسفة سبينوزا
-
حاسبوا أنفسكم مع بشار
-
هل تُبالي حكومة حماس بحياة الفلسطينيين؟
-
السيد صاحب مفتاح مطبخ الفرح
-
ما ضير الديمقراطية لو انتخب المعاتيه معتوهاً منهم؟
-
عن حاجة الإنسان إلى رَبْ
-
في القانون بين الرذيلة والفضيلة
-
في معرفة الواحد
-
العُقْدَة اليهودية في العقل العربي
-
تمرير ديمقراطية عربية تحت غطاء ديني!
-
رأسمالية روسيا ما بعد الشيوعية
-
باسم العدالة والمساواة حكومات تحتكر الاقتصاد
-
الأنانية في المجتمع والدولة
-
الأمة العربية والإسلامية لكن بزاوية نَظَر حادة
-
الدين سلطان القلوب
-
من الشورى إلى ديمقراطية جهنم
-
بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
المزيد.....
-
ترامب يجدد اهتمامه بشراء وسيطرة أمريكا على إقليم غرينلاند ال
...
-
بأثقال وعتلة.. شاهد كيف سرق لصان متجرًا في كاليفورنيا
-
ترامب يعين سفيرا جديدا لدى الدنمارك ويؤكد أهمية السيطرة على
...
-
صحيفة: تركيا تعتزم صياغة خطط مشتركة مع واشنطن للشرق الأوسط
-
المغرب: تكريم 99 مدرسة لتميزها البيئي ضمن برنامج -المدارس ال
...
-
-للصبر حدود-.. -حزب الله- يحذر من الخروقات الإسرائيلية
-
-ويكيبيديا- تستبدل العلم السوري
-
بعد سماع أصوات قوية وتداول شائعات عن حدوث زلازل.. الجيش الأر
...
-
عميلان إسرائيليان يكشفان تفاصيل مثيرة عن عملية سرية ضد -حزب
...
-
كشف تفاصيل محاولة فاشلة لاستعادة أسير إسرائيلي بغزة
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|