|
دروب -الجولاني- الوعرة
خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 8199 - 2024 / 12 / 22 - 18:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بلغ الخلاف بين "عبدالكريم قاسم" و"كامل الچادرچي"، زعيم الحزب الوطني، حد النفور الشخصي بينهما. وقد بدأ خلافهما منذ الأيام الأولى بعد 14 تموز"يوليو" 1958، حينما طالب "الچادرچي" بعودة العسكر الى الثكنات، والبدء بإجراءات التحول الديمقراطي للسلطة. رفض قاسم ذلك محتجا أن هكذا إجراءات سابقة لأوانها، وهناك أولويات أخرى أهم. لكنه كان يقول لمقربيه:
لو كان الانقلاب قد فشل، من الذي كان سَيُعدَم؟
وتبدو هذه الحجة منطقية ومقنعة، فالرجل جازف فعليًا بحياته، فكيف يسّلم ثمرة تضحيته الى مَن كان يجلس في بيتهم آمنًا مطمئنًا.
ستسُلب السلطة من قاسم بعد خمس سنوات بنفس الطريقة التي استولى عليها بها،" انقلاب عسكري"، ويُعدَم دون محاكمة. ومات الچادرچي في توقيت ممتا، في عام (1968)، وهي السنة الأخيرة التي ستنتهي بعدها، بوصول البعثيين الى السلطة في تموزمن نفس السنة، أية آمال في تحول ديمقراطي أو مدني للسلطة. وعلى مدى 35 سنة قادمة ستُلغى مفردة ديمقراطية بكل معانيها ومرادفاتها من الحياة ومن قاموس اللغة.
يشعر العسكريون أو المسلحون عادة بالتفوق، الذي يمازجه شيء من الاستعلاء أحيانا، على المدنيين، وكان لرجال السلاح عبر التاريخ أهمية ومكانة خاصة في مجتمعاتهم حد جعل منهم طبقة مستقلة داخل منظومة المجتمع والدولة.
مثلا، أنا أعرف حزبًا عراقيًا، يصّر مَن كانوا في جناحه المسلح على احتكار مراكز القيادة والتأثير في الحزب، دون أن يتيحوا لمن التحق بهم لاحقا، بعد سقوط النظام في 2003، أية فرصة للمشاركة إلا في حدود ضيقة وغير مؤثرة، والأكثر أنهم كانوا ينعتونهم بـ" الطافين"، وهو نعت، والحق يقال، دقيق ومنصف.
هذه المقدمة تعيننا، في أيامنا المحتدمة التي نعيشها، على تصور مدى الصعوبات والاستحالات التي تنتظر الجولاني "الشرع" في سورية. فالرجل قد ألزم نفسه، ولدوافع مختلفة، أهمها طموحات الزعامة المطلقة التي يطمح إليها، كما توحي به طبيعة شخصيته وسيرته بحسب أحد الدارسين، في أن يضع البلد على سكة القانون ومركزية السلطة، التي تقتضي، من بين ما تقتضيه، حصر السلاح بيد الدولة. وهي المهمة التي لا تحتمل التأجيل أو التسويف لأنها مفتاح السيطرة التي تؤسس لنظام يديره وتنظيمه أو يتحكم به بشكل كامل. وهو يواجه الآن معضلة وجود بضع عشرات من الفصائل المسلحة متباينة القوة والامتدادات، عليه أن يقنعها أو يكرهها على تسليم سلاحها والانصياع لقرارات الدولة المركزية. وما سوف يصّعب العملية عليه ليس فقط شعور المسلحين الدائم بالتفوق والأهمية، وميلهم التلقائي لعدم الانصياع، وبالتالي تسليم مفاتيح قوتهم لأي كان، بل لان لبعض المسلحين امتدادات وارتباطات بجهات يصعب تجاوزها، مثل تركيا وأمريكا، تواليها وتأتمر بأوامرها.
وهذه هي المهمة الأولى والتأسيسية لمشروع دولته، بها يبدأ وبغيرها لن يحقق مشروعه. غير أن هذه الصعوبة وغيرها مما له صلة بالوضع السوري المعقد، وأي بلد يخرج من أزمة كبرى، كالحرب الأهلية التي اشتعلت هناك، يكون بلدا مأزومًا بالضرورة ويعاني من معضلات كثيرة. قد بدأت تثقل، كما يبدو، على "الجولاني" وهو ما وجد انعكاساته في لقاء الـ "بي بي سي" قبل يومين، حيث بدا في بعض إجاباته مرتبكا ومترددا، على غيرعادته في اللقاءات الأولى مع وسائل الإعلام الأخرى التي كان يبدو فيها واثقا من نفسه، لبقًا، يسمي الأشياء ببعض أسمائها، بينما كانت إجاباته في هذا اللقاء مختصرة وأحيانا مختزلة ومراوغة. ربما يعود ذلك، ضمنيًا، الى ما يسببه التواصل عبر الترجمة من إرباك في التعبير، وربما أيضا، لطبيعة الأسئلة التي وجهت إليه، وإلى هوية الجهة التي يُفترض انه يوجه خطابه إليها. فقد أجاب قائلا على أسئلة واضحة مثل:
هل تريد لسورية أن تكون ديمقراطية؟ إن من حق السوريين أن يختاروا النظام السياسي الذي يمثلهم . وهذه كما تبدو إجابة رجراجة، بدا فيها قلقا، كمن يسير على رمال متحركة، لا يستطيع أن يجزم أي إجابة عليه أن يقدمها وترضي من يدورون في مخيلته، فهو من ناحية يريد أن يُطمئِن الغرب في أنه يسير على الخط الذي يرتضونه له، وذلك لتأمين مستقبله ومستقبل حركته، ومن بعدهما سورية وفق الشكل الذي يتمناه ويخطط له، ومن ناحية يريد، أو قل يطمح، في أن يُطمئِن القوى المسلحة المتعاونة والمتحالفة معه، وهي في جلها قوى سلفية متشددة، وهذه القوى ترفض، من منطلقات عقائدية فكرة الديمقراطية والتعددية من أساسها. هذا عدا طبعا حساسيته هو الشخصية كإسلامي – سلفي، من مفردات ومفاهيم الديمقراطية والحريات الشخصية التي كانت هي مادة السؤال المحرج الآخرعن (حقوق المرأة) الذي طرح عليه، وكانت أجابته عنه بذات الطريقة المائعة المتهربة، حيث شرح أنهم قد أتاحوا في "إدلب" للمرأة أن تحصل على فرص كبيرة في التعليم. وكلنا نعرف الفرق بين الحريات الشخصية؛ مثل اختيار الملبس وتنظيم العلاقات الاجتماعية وغيرها، والتي كانت تكمن في خلفية السؤال، وبين الحضور في الوسط التعليمي الذي اختزله الجواب. وكذلك كان الأمر في الإجابة عن سؤال حرية تناول الخمور الذي تركه عائما وأحاله، مثل الكثير من الأسئلة المهمة الأخرى، الى ما أسماه انتظار اللجان التي سوف تسن القوانين التي ستعالج كل هذه المسائل.
من ناحية أخرى بدا أن الـ "بي بي سي" لم تكن تريد الضغط أكثر للحصول على إجابات أكثر وضوحا، واكتفت بما يقوله دون أن تدقق وتلح كعادة الإعلاميين الغربيين في طرح الأسئلة الحساسة على من يسألونهم، فقد اكتفى الصحفي بطرح السؤال مرة واحدة مع أنه لم يحصل على إجابات كافية، بينما في حالات أخرى اعتاد الإعلاميون الغربيون على إعادة صياغة السؤال بطرق مختلفة.
مثلا، أعاد ذات مرة أحد الصحفيين سؤالا يتعلق بالحصار عل العراق على مسؤول أممي 14 مرة بصيغ مختلفة، ومع ذلك لم يحصل على إجابة شافية.
هناك مهام وصعوبات وتحديات كثيرة وكبيرة أمام "الجولاني" عليه معالجتها كي يستطيع ترتيب أوراقه. ونجاحه سيتوقف على قدرته على تحمل الضغوط وتجاوز الصعاب. فالضغوط الغربية التي يمازجها الغزل مستمرة، وعقوبات قيصر ستستمر حتى عام 2029، وهذا يعني تشديد الضغوط لانتزاع التنازلات من الجولاني وحكومته، مع التلميح لاحتمال رفع العقوبات على منظمته وعلى سورية، وفي نفس الوقت هو يجد نفسه ملزما، وإن بدرجة أقل، في إقناع وإرضاء حلفاء واتباع كلهم سلفيون يتحفزون للتمرد إن لم تلبى رغباتهم ومطامحهم التي من بينها الاستحواذ على حصص في السلطة، فهم في النهاية، وإن كانوا عقائديين، قد حملوا السلاح ليس من أجل الحرية، فهذا ادعاء مشكوك في صحته، ولا حتى من أجل إقامة نموذج الحكم الذي يريدون، بقدر ما الحصول على موقع ودور في إدارة السلطة، أو بتعبير آخر" حصص في القوة والنفوذ". ثم عليه أن يرضي أطرافا دولية (تركيا - أمريكا وغيرهما)، تتنازع على توزيع مراكز القوة والهيمنة في البلد، وفي هذه النقطة أتصور أن "الجولاني" لو ُخير، أو ضُيق عليه للخيار بين الأمريكان والأتراك، في حال تضاربت مصالح الطرفين في سورية، فأنه سيختا "تركيا"، وأسباب ذلك مفهومة. غير ذلك فهناك أيضا التحديات الداخلية الأخرى، مثل هموم المطالبين بدولة مدنية وعلمانية، ومع أن هؤلاء هم آخر هم لـ "الجولاني"، لكن قد تتبنى قوى خارجية مطالبهم للضغط عليه لتحقيق مطالب ورغبات أخرى لا صلة لها بمطالبهم أصلا.
الخلاصة، إن الطريق أمام الرجل والتنظيمات التابعة له شائكة وفيها مطبات كثيرة، وستذهب قريبا سكرة النصر السريع والمفاجئ الذي نُسب، في حملة الإعلام التسويقية لشخصه، الفضل فيه إليه وحده، من غير مراعاة لفهم الظروف العامة التي عاشتها المنطقة منذ أكثر من عام، والتي لولاها لما تحقق هذا "النصر". وسوف تأتي قريبا هموم الفكرة، التي بدت ملامحها تظهر، وإن مغبشة قليلا، وسيدخل في دوامة استحقاقات الواقع وتعقيداته، والتي بدت بعض مقدماتها في طريقته بالإجابة في لقائه التلفزيوني التي كانت مرتبكة في الأسلوب ومبعثرة في الكلمات.
في النهاية قد يعجز الرجل عن مواصلة ما ادعى البدء به، وسيضطر للعودة إلى خياراته الأولى، سلفي دموي متشدد، يريد إقامة دولة خلافة دينية سكانها رعايا وليسوا مواطنين، وعندها ستسير الأمور باتجاهات يصعب تحديد ملامحها. وقد يركب مركب التغيير الذي أدعى حمل رايته أملا في تحقيق طموحاته الكبيرة في الزعامة المطلقة المتخطية لمنظومة السلطة والتي ستجعله، إن تحققت، فوق الجميع، وربما لن يستطيع تحقيق ذلك إلا بسحق الجميع. *** ملاحظات هامشية:
1- لفتني في الرجل أن لغته العربية لتحمل أثرا من اللهجة السورية، ونحن نعرف أن كل العرب تتسرب لهجاتهم إلى لغتهم العربية مهما تفاصحوا، ولا أعرف تفسيرا لذلك.
2- أن الرجل هادئ وله كاريزما، والكاريزما التي أعنيها هنا كاريزما شخصية وليس كاريزما السلطة والقيادة التي تحدث عنها "فيبر"، ولكي لانعقد الأمور أقول انه يتمتع بمظهر كاريزمي شخصي – اجتماعي؛ حضور، قدرة على التواصل والإقناع.. الخ، وهو نوع يفتقده بالمطلق كل حكام "أمة الأباعر"، العرب، ماعدا، للأمانة، "محمد بن سلمان".
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مشرحة بغداد، مشرحة الأحياء!
-
تعلموا من الأمريكان!
-
اللعب على حبل التوازن
-
اليد الخفية
-
رصيد الغضب
-
مخازن للأدعية
-
آن الأوان
-
هينز الفريد كيسنجر
-
ما يريدونه و ما يستطيعونه
-
خطوط حمر لا أخلاقية
-
بين الواقع والمؤامرة
-
بداية ونهاية
-
مفترق 14 تموز
-
هل سيعيد التاريخ نفسه؟
-
ممكنات التغيير في الأنظمة الشمولية
-
ما وراء عبّادان قرية
-
المتحولون
-
عن متلازمة ستوكهولم
-
المساواة الحقة!!
-
في أصل الدمج وفصله
المزيد.....
-
ترامب يجدد اهتمامه بشراء وسيطرة أمريكا على إقليم غرينلاند ال
...
-
بأثقال وعتلة.. شاهد كيف سرق لصان متجرًا في كاليفورنيا
-
ترامب يعين سفيرا جديدا لدى الدنمارك ويؤكد أهمية السيطرة على
...
-
صحيفة: تركيا تعتزم صياغة خطط مشتركة مع واشنطن للشرق الأوسط
-
المغرب: تكريم 99 مدرسة لتميزها البيئي ضمن برنامج -المدارس ال
...
-
-للصبر حدود-.. -حزب الله- يحذر من الخروقات الإسرائيلية
-
-ويكيبيديا- تستبدل العلم السوري
-
بعد سماع أصوات قوية وتداول شائعات عن حدوث زلازل.. الجيش الأر
...
-
عميلان إسرائيليان يكشفان تفاصيل مثيرة عن عملية سرية ضد -حزب
...
-
كشف تفاصيل محاولة فاشلة لاستعادة أسير إسرائيلي بغزة
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|