|
صورتين للصين
لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل
(Labib Sultan)
الحوار المتمدن-العدد: 8199 - 2024 / 12 / 22 - 12:09
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
1. معالم التجربة الصينية من صورتين تتناول هذه المقالة صورتين للصين من خلال زيارتين لشانغهاي، وهي المركز الاقتصادي والمالي والثقافي والعلمي الرئيسي لها ، ومنه يمكن تتبع حركة التطورالحاصلة في الصين ، وفي مرحلتين حساستين. الاولى كانت عام 1994 حيث بدأت للتو معالم الانفتاح للصين على العالم وبدايات النهوض من الحالة الراكدة الفقيرة للصين، فحالها كان كحال احدى دول العالم الثالث، والاقرب اليها من بلداننا العربية هي مصر، والزيارة الثانية تمت مؤخرا في بداية ديسمبر الجاري،أي بعد 30 عاما ، حيث ترى صينا اخرى مختلفة تماما بكل نواحيها ومناحيها، متطورة حديثة ومزدهرة في كل منحى، وشنغهاي اليوم اضحت تضاهي نيويورك ، بعدما كانت عام 1994 تشبه القاهرة وقتها بل حتى اليوم، كلاهما يتشابهان ببنايات اوربية مكتظة متآكلة وموروثة من الحقبة البريطانية للحكم في النصف الاول من القرن العشرين. لقد حصدت الصين نتائج باهرة لهذا الانفتاح على العالم متوجا بالتطور الاقتصادي الهائل الذي يفوق كل خيال لمن رآها انذاك وكيف اصبح حالها اليوم. والفائدة من هذه المقالة هو تكوين تصورا ملموسا وعمليا لفهم كيف تحولت الصين من بلد بيروقراطي راكد اقتصاديا وشبه عسكري في الادارة والحياة ،الى بلد متفتح مزدهر العيش والاقتصاد ويضاهي الدول الغربية. الهام في الموضوع استخلاص بعض الدروس من هذه التجربة النهضوية الرائدة ومعرفة بعض تفاصيل المنهج واليات ووسائل والاسباب التي قادت لهذه النهضة العارمة والازدهار المفاجئ، فهي درسا هاما لاصلاح اقتصاد دولنا العربية ، خاصة تلك الكبيرة منها وذات النمط الاقتصادي السوفياتي المشابه لما كان في الصين وقتها والذي يدعي بالاشتراكي (واقتصاد مصر وسوريا والعراق والجزائر وهي اكبر الدول العربية سكانا ومواردا ، مشابها لحد ما لما كانت عليه الصين من ادارة حكومية لمرافقها الاقتصادية)، انه النموذج الاقتصادي للقطاع العام (الاشتراكي ) الذي يدير مرافقه موظفي الدولة ، ويندرج تحت مسميات عديدة، الاقتصاد المخطط ، الاشتراكي ، العام، المركزي الادارة ( ولكن الاصح هو تسميته الاقتصاد البيروقراطي الراكد ، الفاسد كونه راكدا ،وكون الفساد الحكومي متفشيا فيه على 24 حبة ، ومنه افقار المجتمع وقمعه من السلطات الحاكمة بان واحد). لقد كانت الصين كحال البلدان العربية نائمة وجثة كبيرة جاثمة ، تدار بشعارات ناقمة تضع تخلفها على الغرب والامبريالية وتقول مثلما شائع في العالم العربي ، ان سبب تخلفها لمؤامراتهم عليها، بينما الصين وقتها كانت شيوعية ولازالت اليوم شيوعية ، ولكنها اليوم لم تعد تتهم الغرب بالتآمر عليها، بل تحمده سرا على انقاذها ، فالجميع يعلم، وهي تعرف جيدا ، انها مدينة للغرب في نهضتها وتطورها الاقتصادي اللاحق بتحولها وتبنيها لنموذج ولمنهج اقتصاد السوق، وهو المنهج الرأسمالي الاليات والادوات، كما نسخته وتعلمته من البلدان الغربية المتطورة واليه ،وليس لغيره ، تعود هذه القفزة الاسطورية للصين بعد تحولها وتنبنيها لهذا النموذط اساسا لادارة وتطوير اقتصادها. ورب سائل يسأل كيف جمعت الصين نظاما اقتصاديا رأسمالي الاليات والقوانين والمنهج ، وبنفس الوقت تم ذلك تحت قيادة واشراف نفس الحزب الشيوعي الحاكم منذ تأسيس الصين الشعبية؟ وجوابي المختصر عليه ، ان الحزب الشيوعي الصيني وخلال عقد باكمله في الثمانينات من البحث والنقاشات اتخذ قرارا بفصل ادارة الاقتصاد عما ملته وجاء في نصوص الايديولوجيا على الحزب ، رغم انه كان ولازال لليوم يطلق على اقتصاده انه "الاشتراكية على الطريقة الصينية "، او "وفق ظروف الصين "، ولكن في الواقع ان الحزب اكتفى بالجزء السياسي من الايديولوجيا، تاركا للاقتصاد الحرية للعمل بقوانين السوق الرأسمالية ، وقد توج ذلك رسميا كخط للدولة منذ انضمام الصين لمنظمة التجارة الدولية عام 1999 ،حيث تشترط لعضويتها اتباع نمط السوق الحر كي للانضمام اليها. هل هناك تناقضا لما قرره وطبقه الحزب الشيوعي الصيني مع ايديولوجيته الماركسية ؟ الجواب نعم ، فهو يناقض واحدة من اهم طروحات ماركس التي اعتبرت ان البناء الفوقي ( نظم الحكم مثلا) هو نتاج للبناء التحتي ( نمط الاقتصاد ) ، والحال ان الصين اثبتت وفي التطبيق العملي انها سارت على العكس من هذه الاطروحة ونجحت فيها نجاحا باهرا. ويمكن القول لولا هذا الفصل بين الاقتصاد والايديوجيا السياسية لما رأيت حال الصين المعاصرة بر لرأيت حال الاقتصاد الصيني كحال اقتصاد مصر مثلا ( مع الاخذ بفارق حجم البلد وطاقاته) او كحال كوريا الشمالية ، ترزخ تحت الفقر وتحت الديكتاتورية السياسي ( والاخيرة يبدو مقبولة في الصين مادام الاقتصاد مزدهرا). وهناك سؤال اخر يطرح نفسه ، الا يعرف او يحسب الحزب الصيني بهذا التناقض مع الطروحات والفرضيات الايديولوجية وخاصة في الاقتصاد وفق الطروحات على الاقل في النسخة السوفياتية من الماركسية التي اتبعتها الصين الشعبية خلال اربعة عقود ألاولى منذ تأسيسها عام 1949 على يد نفس الحزب الشيوعي الصيني ؟ والاجابة عليه وبكل موضوعية يبدو ان الحزب الشيوعي اعتبر نفسه ( وهو كذلك) انه حزبا وطنيا ويعمل لمصلحة الصين وتقويتها وتطورها ، ويعمل بما هو مفيد للصين حتى لو تطلب الامر التخلي عن الطروحات الايديولوجية اذا وجد انها لاتلبي ولا تؤدي لتحقيق اهداف تطوير وتقوية الصين والمصلحة الوطنية العليا تجاه صين مزدهرة وقوية . هذا هو برأيي الموقف للحزب، وهكذا يفهمه الصينيون كما فهمت ، وهو دون شك موقفا ومنهجا جريئا ويدل على صحة وغلبة وضع الوطنية فوق طروحات ونصوص الايديولوجيا ( اي وضع منهج العلم والواقع على النصوص المقدسة للايديولوجيا) . اعود لزياراتي لشنغهاي ، فهي لم تكن للسياحة، بل كانتا زيارة عمل ومتعلقة تحديدا بنقل التكنولوجيا. الاولى كانت عام 1994 ضمن فريق من شركة متورولا الاميركية لبناء شراكة انتاجية ( Joint Venture) مع شركة شانغهاي لاشباه الموصلات المتخصصة بانتاج الرقائق الالكترونية ( Shanghai Semiconductors Company,´-or-SSC) ، ورغم اني لا اعمل في متورولا ، الا ان حضوري كان ضروريا كون شركتنا الصغيرة (من عشرة مهندسين لاغير في تورونتو ، كندا) كانت قد اجازت عام 1993 لموتورولا انتاج تصاميم متقدمة طورتها وفق اجازة من صنف( Licensing for Royalty ) وهي تصاميم لرقائق الكترونية للسيطرة الذكية، ويطلب عقد الاجازة موافقتنا اذا تمت اجازته لطرف ثالث وهي الصين وفي هذه الحالة لشركة SSC . كانت هذه الشركة وقتها، ووفق مشاهداتي العينية، تشبه ولحد بعيد احدى شركات التصنيع العسكري في العراق اومصر مثلا، شركة مترهلة ، تعج بالموظفين دون جدوى او مردود، تنتج رقائق بدائية جدا ومحدودة الاستخدام ، واليوم اصبحت احدى اهم شركات الصين في صناعة الرقائق تجهز قطاعات باكملها كصناعة السيارات والكاميرات والكثير غيرها من الصناعات باحدث واعقد الرقائق الذكية لادارة تشغيلها. جاءت زيارتي الثانية لانتهاء 30 عاما، وهي مدة الاجازة ، ولابد من الحضور للتوقيع على الانهاء او التفاوض للتجديد على اجازة جديدة ، وقد رأيت انهم اصبحوا يطورون رقائق اعقد واكثر تطورا مما تمت اجازته ، وبعد يومين وقعنا على التنازل بدل الانهاء او التجديد ، فلا حاجة لاجازة ويمكنهم انتاجها دون دفع ( هي عشرة سنتات فقط للشريحة الواحدة) معلنا لهم انها هدية مني للشعب الصيني الدؤوب. ( وهو واقعا ليس تبرعا ذو بال بل عنيته فعلا اضافة لرمزيته). لابد ان اذكرللقارئ صورة عن الفرق الهائل بين نوعية الكوادر والاجتماعات لزيارات عام 1994 و 2024. في الزيارة الاولى بقينا اسبوعين والعمل الفعلي كان بمعدل 3 ساعات يوميا لاغير ، يحضر الموظفون المترهلون التاسعة والنصف صباحا وينهضون الحادية عشرة لمأدبة كبيرة للغداء على شرفنا تستمر حتى الواحدة ظهرا ، بعدها ينصرفون ويتبخرون مسرعين لبيوتهم الثالثة ونصف، ولم ننجز خلال الاسبوع الاول الا نزرا قليلا (اقل من 10%) ، رغم تثبيت خمسة ايام مبرمجة مسبقا واستغرق الامر اسبوعين لانهاء بقية العمل ، ولوترك الامر لهم دون احتجاجنا والحاحنا الشديد لدام شهرين بدل اسبوعين ( وهذا شأن ادارة الشركات الحكومية وجهازها البيروقراطي المترهل تماما كما تجده في الشركات الحكومية في بلداننا العربية) . مقابله، وفي الزيارة الثانية ، كان العمل سبعة ساعات ، وتم الاتفاق خلال يومين فقط، متعجبا هذه المرة من رؤية قدراتهم الادارية العالية وحسن التنظيم ودقة الطرح وكل مايشير ان خريجي هارفارد وستانفورد وغيرها من الجامعات الاميركية قد خرجت اعدادا كبيرة من الاداريين الصينين للاعمال ( وعددهم بالالوف ان لم يكن بعشراتها) وهم يديرون اليوم بنجاح واحدا من اعقد واكثر اقتصاديات العالم حداثة وتطورا ديناميكيا وشركات ذات باع وتأثير دولي كبير، ومنها شركة SSC. 2. المنهج الصيني للخروج من الركود والانتقال في تطوير الاقتصاد ساتوقف قليلا على شكل الاتفاق والنقلة الهامة كمنهج اتبعته الصين للخروج من عنق الزجاجة الخانقة لتطوير الاقتصاد، وساهمت كنتيجة لها في تحويل شركة SSC ، كمثال، من شركة مترهلة تحت ادارة الدولة وتقوم بتمويلها (أي تمويل خسارتها ) الى شركة عملاقة اليوم بعد تحويلها لادارة مستقلة كشركة خاصة تعمل وفق اقتصاد السوق لتحقيق اكبر الارباح ، وليس وفق خطة سنوية او خماسية ورقية كما كانت ، واصبحت اليوو تستطيع المنافسة في السوق الصينية والدولية مع كبريات الشركات العالمية ( اصبحت هذه الشركة تنتج لاحقا لتجهيز شركة ابل الاميركية وهاواوي الصينية للاتصالات متنافسة مع اعتى واكبرالشركات الاميركية واليابانية في العالم). لنلقي الضوء على المنهج سياسة الاغراءات التي قدمتها الصين لجذب موتورولا اليها لتحويل شركة SSC الى شركة مشتركة خاصة ، وهي مثالا جيدا عن السياسة والمنهج الذي سارت علين الحكومة الصينية لجذب الشركات الدولية للصين، فالدولة عرضت تغطية بنسبة 100% من الاجور لكافة العاملين في الشركة للعام الاول، و50% للعام الثاني ، والانفصال التام عن الدولة في العام الثالث لتصبح شركة خاصة قائمة بذاتها بادارة حديثة مؤهلة ، وتحويل الموظفين من حكوميين الى موظفين في الشركة الخاصة وبرواتب تنافسية عالية في السوق الحر اضعاف ما كانوا يتلقونه، ووفرت الدولة الارض وكلف البناء لمجمع ضخم جديد للتوسع في الانتاج وأستثمرت مناصفة مع متورولا لتجهيز ادوات الانتاج وفي التكنولوجيا الاميركية الحديثة ، وتدريب الاداريين والفنيين على حسابها، عدا عن امتيازات اخرى مثل الاعفاء الضريبي على الارباح لمدة خمس سنوات بعد الانفكاك عن الدولة في السنة الثالثة، وضمانات قانونية كثيرة حول حقوق الملكية الفكرية وحماية الاستثمار وغيرها الكثير مما اصبح فيما بعد سياسة رسمية للصين مصادقا عليها دوليا بعد انضمامها ، و بعد خمسة سنوات لمنظمة التجارة الدولية، ومنه احتاج وقتها ،أي عام 1994 ، الجهد الكبير للتفاوض عليها، ولو كانت الصين عضوا وقتها لاكتفت بالاشارة لبنود الاتفاقية الدولية التي وقعتها الصين. يجدر بالقارئ ان يعلم انه تم خلال التسعينات ابرام مثل هذا الاتفاق مع قرابة 900 شركة ومؤسسة حكومية صينية كبيرة بالشراكة الانتاجية مع شركات اميركية ويابانية واوربية. واقعا كانت جميع هذه الشركات تعاني كحال SSC من الترهل وشبه مفلسة ونائمة مكتفية بمنتجات بدائية،غالبا رديئة النوعية ، تعمل تحت اشراف حزبي وادارة وتمويل حكومي وفق خطة مركزية سنوية او خماسية، ان منتوجاتها لا تلبي حتى المتطلبات الداخلية لنهضة تكنولوجية صناعية في الصين دعك عن المنافسة الدولية. وتشكل هذه الشركات اليوم ، وهي اليوم تشكل اهم اعمدة الاقتصاد الصيني وذات امتداد على طول خمس قارات تنافس المنتجات الغربية فيها وتسوق منتجاتها لكل دول العالم .لقد درت هذه الشركات على الدولة الصينية بلايين الدولارات تعادل الاف الاضعاف لاستثماراتها البدائية في الشركات المشتركة بعد فصلها عن ادارة الدولة. لقد جعلت من الصين اغنى دول العالم ذات فائض مالي ضخم تستخدمه لتطوير بناها التحتية وتحديث اقتصادها وتطوير علومها وازدهار مدنها فضلا عن تقوية مركزها وثقلها الدولي . ويكفي معرفة ارتفاع انتاجية الصين ومداخيل السكان ثلاثين ضعفا بين 1994 و 2024 ( من قرابة 850 دولار للفرد سنويا الى قرابة 25 الف دولار حاليا، انظر لمقالة لي عن حركة وتطور الاقتصاد الصيني المنشورة قبل عام تقريبا على الحوار المتمدن وعلى الرابط ادناه https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=799655 كما وتجدر الاشارة ان الصين قد اغلقت وصفت قرابة 750 مؤسسة كانت عالة على الدولة ، انها كانت فاشلة ولم تجذب شركات دولية للاستثمار فيها والعمل وفق نموذج الشراكة الانتاجية ، وكانت تستنزف موارد الدولة كونها تعمل بتمويل منها ويكلفها الكثير كونها فاشلة، وتم تحول الايدي العاملة اوتوماتيكيا للعمل في المؤسسات المشتركة والخاصة الناجحة موفرة التمويل من الدولة ، كما جاءت تصفيتها لتلبية شروط الانضمام لاتفاقية التجارة الدولية عام 1999 التي تمنع تمويل اعمال الشركات من الدولة ضمانا للمنافسة النزيهة في السوق وفق المتطلبات لانضمام الصين اليها.
3. ثلاثة مراحل في تطور سياسة الدولة الصين الاقتصادية قطعت الصين ثلاثة مراحل في نموها الذي بدء منذ الثمانينات . تكرس الاول في الدراسة والبحث والفهم لمنهج وعمل واليات ادارة اقتصاد السوق (الرأسمالي ) وادت لوضع سياسات عليا للحزب الدولة لتطوير الاقتصاد الصيني بما فيها التحول لاقتصاد السوق والحوافز لجذب الشركات والاستثمارات الانتاجية والتكنولوجية خاصة، وجرى في التسعينات الانتقال لتطبيق هذه السياسات واهمها نموذج الشراكة الانتاجية ( Joint Ventures) الذي ناقشناه اعلاه ، ونموذج التصنيع للغيير( لرخص الايدي العاملة ومهارتها في الصين وهي ايضا قامت بنقل التكنولوجيا والخبرة الفنية والادارية من الغرب) وعموما يمكن ايجاز المرحلتين انها الانفتاح على العالم ، وطرح سياسات وبرامج لجذب الشركات والاستثمارات واستنساخ للتكنولوجيا وخطوط الانتاج ولطرق الادارة كما ونقل التكنولوجيا ،والخبرة ، واعداد جيل اداري جديد للمرحلة القادمة الحالية، والتي دخلتها الصين بداية القرن الحالي ، وتتميزاليوم في التطوير والانتاج بالاعتماد على القدرات الذاتية ، بعدما تمكنت من انجاح تطبيق سياساتها في اصلاح وادارة الاقتصاد لما تعلمته من الغرب لتصبح اكبر منافس لنفس الغرب حتى في بعض القطاعات التكنولوجية الهامة. ومن الناحية النظرية ،والعملية ايضا ، يمكن ارجاع جذور هذا التطور الذي حصل في الصين الى مصطلحين ، كلاهما غير محبوبين في العالم العربي خاصة ، الاول هو مصطلح العولمة الاقتصادية التي قادتها نظريات النيوليبرالية في التسعينات ( فتح الاسواق ورفع القيود على حرية وحركة البضائع والاستثمارات ) ، حتى ويعتبر ان اكبر المستفيدين من العولمة والنيوليبرالية في العالم هي الصين وكوريا والهند والبرازيل والمكسيك، اضافة الغرب طبعا ( رغم شكاوى اليمين القومي في اميركا والغرب ان العولمة نقلت الصناعة من بلدانهم الى الصين ) ولكن هذا الرحيل للتصنيع دفع بلدان الغرب للتركيز على التكنولوجيا الاكثر ربحا ومردودا. ويمكن القول والادعاء المدعوم بالقرائن من الواقع والارقام ان نهضة الصين الحالية هي نتيجة مباشرة للعولمة والنيوليبرالية ، ولولاها لبقيت الصين نائمة تعيش نفس حالة بلدان مثل مصر والاقرب لمثل كوريا الشمالية. والمصطلح الثاني الهام الثاني والمستخلص من التجربة الصينية ،وهو نتيجة ربما للاول، هو فصل ادارة المرافق الاقتصادية عن جهاز الدولة البيروقراطي وجعلها مستقلة في عملها وادارتها ( وهو مصطلح الخصخصة ، ونموذج الشراكة الانتاجية الذي ناقشناه اعلاه هو احدى اشكالها الاكثر نجاحا في الصين). وهناك نماذج اخر تتخذ اشكالا عديدة ولكنها بنفس الجوهرتقريبا، وتتمركز حول ابعاد جهاز الدولة البيروقراطي عن المؤسسات الانتاجية، وفصلها عن الدولة لتصبح مستقلة ، وفصل الاقتصاد عموما عن التدخلات والطروحات السياسية والايديولوجية . وللاختصار فان سبب تطور الصين وحدوث المعجزة فيها هو تحول السياسة الاقتصادية للدولة وانفتاحها على العالم بما يدعى العولمة وتبني اساليب ومنهج تطوير الاقتصاد بقوانين واليات السوق ،كما في الغرب. بدء هذا النهج منذ اربعين عاما واليوم تحصد الصين النجاحات الهائلة ،ولو قامت بمثله بلدانا مثل مصر والعراق لرأيتها اليوم كالصين مزدهرة. اننا لليوم لانقرأ في العالم العربي ولا نسمع بغير طقطقات التنظيرحول مساوئ العولمة والخصخصة ، نمسي ونصبح علىها ، من تنظيرات ماركسيينا والقومجية الناصرية، بينما كانت الصين تستفيد منها ونجحت في بناء واحدا من اهم اقتصاديات العالم. لا تسمع في الصين من ينتقد النيوليبرالية ولا العولمة ولا الخصخصة، وهي تحت قيادة واحد من اعرق الاحزاب الشيوعية في العالم، فقد فهم الصينيون ومنذ اربعين عاما ان للاقتصاد قوانينه والياته، وهي اليات السوق ، ولابد من الاندماج مع حركة العالم وخلق الظروف لجذب الخبرة والتكنولوجيا والاستثمارات لاصلاح وبناء الاقتصاد وتطويره ، غير تلك التي تتقول بها الايديولوجيا والمؤدلجون ، فالمنطقة العربية بحاجة لنقلة نوعية في الفكر والانفتام كما فعلت الصين ، والعجز عن فهم هذه التجربة وادواتها امرا واقعا وتطبيقا عمليا ناجحا ودونها سنبقى فاشلين، رغم التنظير العربي المؤدلج المستنسخ من النصوص استاذية يردد ماكان يردده يوما الروس والصينيون.
4. الصورة الاجتماعية والسياسية لابد من مشاركة القارئ شيئا عن شانغهاي الحديثة. ففي شارع رئيسي فيها، مزدهر وجميل طوله ربما كيلومترين ويؤدي مباشرة للساحة الرئيسية للاحتفالات ، هي ساحة الشعب، لا ترى فيها اليوم كما كان سابقا صورا لقادة قدماء عظام او اثرا للحاليين ، بل لاترى مرفقا حكوميا باسم احدى اللجان والهيئات كما رأيته عام 94 ، بل مجمعات ذات معمار مدهش تفوق في بذخها ربما على نفس نيويورك وباريس ، وتتفوق عليها بالانارة والابهة والبهاء والجمال عدا اعدادا بعشرات بل ومئات المرات لارقى ماركات السيارات مثل مرسيدس واوودي ولمبرديني وبي ام في وتسلا ( ضحكت مع نفسي ، فالصين تصدر سيارات خردة للعالم الثالث بينما هي تقتني احسن واغلى الموديلات) ، وعدا الماركات الغربية الفاخرة من الملابس والبضائع الثمينة الغالية في محلات تمتلئ بالزبائن ( وليس شبه خالية كما المتاجر الغالية في لوس انجلس او باريس) بل هي تعج بالكثرة من الزبائن رغم غلو الاثمان ، واستطعت مثلا ان اعد تسعة محلات زاهية في هذا الشارع تبيع رولكس مرصعة باغلى الجواهر ( 50 الف دولار فما فوق ورغم هذا تلحظ زبائن داخل هذه المحلات). وجهت مازحا لمرافقي الصيني، كين شان، ان الاستهلاك والرأسمالية في الصين وصلت لمرحلة متقدمة جدا ربما هذه هي الشيوعية، ضحك واجابني" بصراحة اقول لك ان الرأسمالية تجري في دم وعروق كل صيني جينيا " فالجميع يريد ان يتفاخر بنجاحه والمبالغة في الاستهلاك الغالي لاجل المظاهر التي حرموا منها لاجيال" . وعلى طرحي حول كيف تمكنت الصين الجمع بين حزب شيوعي وهو يقود بناء تطور الرأسمالية بان واحد بعد اعتذاري عن اي احراج ، اجاب لا احراج بالموضوع لسببين اولهما مادام الاقتصاد يدر ارباحا والناس راضية اقتصاديا فلا احد تهمه السياسة في الصين، والثاني ان الحزب الشيوعي يمثل وحدة الصين ومنع الفوضى ( أي انه حتى لو كان نظاما ديكتاتوريا فهو وطني والناس لاتطالب بالحريات كونها مشغولة بالاثراء). 5. استخلاص المفيد من التجربة والصورتين لعل اهم قضية تستخلص من التجربة الصينية الجديرة بالدراسة والنقل لبلداننا العربية هي كيفية انقاذ واصلاح وتحويل الاقتصاد في الدول العربية التي سبق وسلكت الطريق السوفياتي في ادارة مرافق الاقتصاد من قبل الدولة بجيشها الوظيفي المترهل ومنه تم تدمير الاقتصاد وشاع الترهل الاقتصادي والركود والفساد الوظيفي والعبث بالمال العام. ان نموذج التحول للشركات الانتاجية المشتركة الخاصة ،المستقلة عن ادارة الدولة كليا، والتي تقام بالشراكة مع الشركات الدولية ربما يمكن ان ينجح كما نجح في الصين لتشابه الظروف والمعطيات، ولكن ذلك يتطلب اصلاحات وطنية ، والتخلص من الفساد الحكومي الطارد لاي اصلاح ، والانفتاح على العالم ،ووضع على الرف الطروحات المؤدلجة ضد الغرب جانبا ، تماما كما فعلت الصين ، واحرزت نجاحات باهرة. د. لبيب سلطان 18/12/2024
#لبيب_سلطان (هاشتاغ)
Labib_Sultan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مداولة في وقائع اسقاط نظام الاسد
-
ظاهرة هوكشتاين
-
مخطط ترامب للانقلاب
-
الولائية مشروع لاجهاض حل الدولة العلمانية ( تشريح محور المقا
...
-
بحث في دهس الولائية على الوطنية (تشريح محور المقاومة ـ2)
-
تشريح محور الممانعة والمقاومة
-
حول كتابين في معرض بغداد الدولي
-
تحليل بوتين
-
بحث حول تراجع العلمانية في العالم العربي-2
-
بحث حول تراجع العلمانية في العالم العربي
-
في دحض الشعبويات المتاجرة بالقضية الفلسطينية
-
تحليل للظاهرة الترامبوية
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
-
نافالني رمزا لادانة الاستبداد والدولة البوليسية
-
الاسس الخمسة لبناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة
-
مطالعة اضافية في سبل اصلاح اليسارالعربي
-
أليسار الاجتماعي واليسار الماركسي عالميا وعربيا
-
مناقشة لمقترح السيسي في حل الدولتين
-
نقد الخطاب السياسي العربي
-
حول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا
المزيد.....
-
بعد ثلاثة أيام.. العثور على ركاب الطائرة المفقودة في كامتشات
...
-
الشرع وفيدان.. اللقاء في دمشق
-
وسائل إعلام: وفد سعودي يلتقي بقائد الإدارة العامة السورية أح
...
-
ترامب وعد بأن يتم الاعتراف بجنسين فقط في الولايات المتحدة
-
أوربان: أوروبا خسرت الصراع في أوكرانيا بالرغم من محاولات إنك
...
-
ماسك يعرب عن استيائه من الإنفاق الأمريكي لتعزيز قدرات الناتو
...
-
ستالين والعراق.. ومن بداية النشاط الاستخباراتي إلى إقامة الع
...
-
الرئيس الإماراتي يلتقي نظيره البيلاروسي في أبوظبي
-
-لن نتصرف بمفردنا-.. نتنياهو: إسرائيل ستتحرك مع أمريكا ودول
...
-
-أيديكم ملطخة بالدماء-.. بلغراد تشهد أكبر مظاهرة مناهضة لفوت
...
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|