الخلود.. هو الجوهر الذي يتطلّع إليه الشرفاء، هذا الحضور "البقاء" رغم فناء الجسد يزيدهم ألقاً كلما غاص بهم الزمن، يعطون الأمثولة، ويكرسون نبل الهدف والتطلع، ويضعون أبجدية النضال..
يتجاوزون هلالّي "الأنا" وينطلقون إلى العام.. لأنه "هذا العام" هو المعيار وهو النقاء وهو البقاء..
بخطىً واجفة دخلت ذلك المكان..
زقزق عصفور أبله يستعرض قدراته الضئيلة أمام أنثى تتّصيد فحولته، يحلّق مستثاراً إلى أعلى شجرة صنوبر، ثم ينقّض كالقضاء، يقترب من الأرض ثم يرتفع ثانية.
وهي تراقبه بسخرية، تّحثه على مزيد من العبث..
سقطت ثمرة صنوبر أمامي على صفحة الرمال الصفراء، وتناثرت كؤوسها اليابسة قطعاً صغيرة..
أدرَكَتْ لحظة لم ترَ الحبيبات الصنوبرية.. أنها أمّ عقيم.. إن ولدت، تلد مسخاً لا يلبث أن يتفّتت ويموت..
السماء صافية، وأشعة الشمس الأرجوانية تطبع على الرمال الصفراء لوناً أحمر، وصريراً يأكل حواف الرخام الأبيض، ويقضم أحرف الكلمات المتعّلقة على قناطر الشواهد..
قبور مسّطحة، تخوض عليها قوافل النمل والسحالي والحرادين.. تتعربشها مشاريع نباتات ضعيفة غضّه، ما أن ترفع رؤوسها الخجولة حتى يقطفها الموت، فتندثر هي الأخرى..
يندثر الكلام، ويطبق الصمت..
هو تموز يا أخي قادني إليك.. مثلما يفعل كلما زحف فوق سبل الحياة على درب طوله أحد عشر فرسخاً.. يغلق دورة، ويفتح أخرى..
دورة تمضي، وأخرى تبدأ ليست على قدر من البعد والطول ، لكنّها على قدر من الامتلاء..
وأنت أمامي.. تستنطقني.. يحتل طيفك مرّبع السور الذي يحتضن الرمال والرخام والعظام..
في اللحظة نفسها، رأيتك.. في غرفة ضيّقة، نوافذها مغطاة بأوراق الصحف الصفراء، الأنوار خافتة، ووجوه ممتقعة لمجموعة من الشبّان في عمر الزهور، ترسم بإعياء نظرات زائغة، شاءت أقدارهم أن يكونوا من العاملين في الصحافة..
منهم من افترش الأرض، ومنهم من تقاسم مع رفيق له الجلوس على كرسي، أو الاستلقاء على طاولة، يتجلّدون بالصبر، ويمثّلون القدرة على الاحتمال.. جمعتهم تلك الغرفة الصغيرة، منذ صباح الاثنين 25/4/1955 وحتى مساء الأحد 1 5 1955 في بهو مكاتب جريدة "الأيام" في شارع الفردوس بدمشق.. ينفّذون اعتصاماً وإضراباً عن الطعام في سبيل تحقيق مطلب حقّ يتلخّص في جملة قصيرة تقول "حرية إبداء الرأي، والحوار مع الرأي الآخر.."
بعد أربعة أيام من بدء الاعتصام، كادت تتلاشى صلابتهم الجسدية..
كنت أزورهم.. أقضي بينهم ساعة أو أكثر، تملؤني مشاعر الدهشة وأنا أستمع إلى أحاديثهم، يشحنون في نفوس بعضهم الثبات على الموقف ورفع وتيرة الإصرار..
أخفيت في جيبي قطعة خبز، حشوتها بحبّات من الزيتون.. انتحيت بغسّان جانباً وقدمتها له.
أدرك أنني أشفقت على هزاله، فنظر إلي وابتسم ابتسامة لم أر مثلها على شفتيه من قبل..
قال بصوت ضعيف..
- اجلس هنا.. أمامنا تماماً، وتناول ما أحضرت بالكامل ونحن ننظر إليك..
قال وهو يراقب كل لقمة تدخل جوفي..
- الألم الكبير الذي يعصرك وأنت تناضل كي لا تلمس وسيلة الإنقاذ وهي في متناول يدك،
تقتلع من صميم إرادتك صلابة الرفض تكريساً لقيمة ناضلت من أجلها، هي المعيار الحقيقي لأهلية أن تكون.. وقدرنا يا أخي أن نكون..
افترشتُ الرمل الأصفر.. جلس إلى جانبي.. ابتسم تلك الابتسامة المحفورة في ذاكرتي.. تقفز
أمامي كلما أخذني موقف عصيب.. تقول كما يقول الآن.. لا تحزن..
الوطن الذي طاش على صفحته حجر أرعن، مزّق رسمه المحفور في قلوب أمهات ودعن أبناءهن بالزغاريد، وآباء يعصرون الحزن والفجيعة ويتّقبلون التهاني والمباركات بفقدان أحبائهم، عبر مسيرة خمسين سنة ونيف، تنحبس إلى حين في هذه اللحظات أمام صفحة وطن أرادوا له أن يتقزّم ويتقزّم وصار على الورق، نقاطاً، وفتاتاً..
اخترقته والتفّت حوله شوارع لها بوابات وأقفال.. وبطاقات ممغنطة، وفيش وأضابير. واتسعّت فيه المعتقلات، وحملت جباه المناضلين الأبطال تسميات غريبة عن معجم الكلمات.. واستوردت إليه أرقى ما توصلت إليه أدمغة المتحضّرين من وسائل تعذيب وقهر وانتزاع اعترافات.. ثم غزوه بالمواخير وأندية القمار..
قالوا: هو الثمن.!
جاءتهم حجارة فقراء الوطن وأطفاله تقول: ما أرخص الثمن..
قال: ـ ما أرخص أن يبيع الإنسان كرامته مقابل جاهٍ مزيّف ودراهمَ معدودة لا تستطيع في أحسن الأحوال أن تبعد عن وسادته شبح العار الذي يعيش هناك، في قاع نفسه الرخيصة..
كان يبتسم وهو يسترسل في حديث الروح..
قلت: ـ لم تترك لي شيئاً أتحّدث عنه..
قال: ـ نحن نعلم أكثر مّما تعلمون.. صحيح إننا تحت التراب لكننا على مقربة من المخاض.!
- المخاض..؟
سألت بدهشة..
ـ إنه المخاض.. نعيش الآن ساعات المخاض.. هل رأيت انتصار الجنوب.؟ إنها الأمثولة التي تشحن إرادة الناس.. تنحّي مقولات اليأس وعدم القدرة وفقدان التوازن. وتعلن موسم القصاص والحساب.. الجنوب سيبقى يتدفق دائماً إلى الجنوب.. أليس هذا هو المخاض.؟
هل رأيت الانتفاضة.؟ أليست هي المخاض.!
هل تتابع ما يجري في العراق..؟
كان صوته الصافي يخوض فوق صفائح القبور، وكان الهتاف يتصاعد من الشقوق..
في ذلك اليوم البعيد، وقف أمامنا ذلك الرجل الضخم..
همس غسّان..
- أرسلوه ليضربني.!
كنت صغيراً في الخامسة عشرة من عمري.. أدركت أننا أمام مشكلة حقيقية.. هذا الرجل الضخم ينظر في وجوهنا بغضب واستخفاف، مهمته أن يلّقن غسّان درساً لا ينسى لأنه يكتب في الدوريات مقالات ناريّة تشير دون لبس إلى كبار يمثّلون البؤر المتعّفنة، حتى يسكت..
كانت لحظات عصيبة.. غسّان ذلك الشاب النحيل، الهادئ، المبتسم.. أمام امتحان صعب..
تلفتّنا حولنا.. كنا أمام أحد المقاهي المكتّظة بالناس المشغولين باللعب والتسلية..
مّد الرجل الضخم إصبعه الغليظ ودفع غسّان إلى الوراء، أحسست أن تلك الدفعة لم تكن على قدر من الشّدة بحيث تلقيه أرضاً متظاهراً بأنه تلقى ضربة شديدة، مما دفع بعض المشاهدين من المقهى للخروج واستجلاء الأمر..
بدأ ذلك الضخم في كيل السباب والشتائم. يصف غسّان بأقذر الكلمات وأبشع الصفات..
جبان، حقير، ابن .....الخ.. قاصداً إثارته ليعطيه المبرر ليضربه..
كان غسّان يبتسم.. يبدو كأنه اطمأن إلى تواجد عدد من الناس حولنا، وراح يستمع وهو يصطنع الاهتمام إلى سيل الشتائم التي يطلقها الرجل بلا حساب، حتى أعياه التعب.. وسكت..
قال غسّان بهدوء شديد..
- تشرفنا بكل الصفات التي عرّفتنا بها عن نفسك .. أما أنا فاسمي غساّن كنفاني..
وقبل أن يتفاقم الموقف أطلقنا سيقاننا للريح بينما أطبق الناس على الرجل الضخم..
أشعلت لفافة وقدّمتها إليه..
قال: - في عالمنا لا نعرف شيئاً عن التدخين.. نعيش بلا أجساد.. هذا الجسد الذي تملؤه الأحشاء والدماء وعاء ثقيل، ما أجمل التحرر منه.. نحن لا نأكل ولا نشرب، وليست لدينا رغبات دنيوية.. رغم أننا بينكم، نعيش حتى اللحظات التي لا تعيشونها..
في يوم بعيد أيضاً دفعني للكتابة.. قال اكتب ما تشاء..
فكتبت..
قال: - أكتب عن شخصية ما، تناولها بكل الأبعاد التي تراها هامّة ومفصلية..
أذكر أنني كتبت يومها عن "أبي العلاء المعرّي" وأذكر أنني أطنبت كثيراً في ذكر عبقريته وفضائله، وأعترف أنني أضفت "متّصوراً أن الإضافة تزيد موضوعي تشويقاً" أحداثاً لا تمت إلى المعّري بصلة.. أو أنها تعطيه ميزة ما.. كنت أحب ذلك الشاعر العبقري الأعمى، وكنت أراه نموذجاً فريداً لإنسان لا يملك شيئاً لكنّه يعطي من حوله كل شيء..
فوجئت عندما مزّق غسّان ما كتبت، يومها أحسست برغبة في البكاء، كنت أمضيت وقتاً وجهداً
لا يستهان بهما، أحسست بمشاعر خيبة وفشل..
قال: - أحب المعري ربما أكثر منك، لكن إياك أن تسمح لنفسك بالعبث في التاريخ.. إياك.!
سكت قليلاً ثم أردف: - التاريخ هو الركيزة التي تحمل البنيان، هو الجذر الذي يمد الفروع بأسباب الحياة.. من يشوه التاريخ.. ينتصر إلى حين.. لكن البقاء الأزلي لمن ينتصر أخيراً..
منذ ذلك اليوم وأنا أتساءل، كيف يستطيع من كان أن يشوّه التاريخ، وأحداث التاريخ، وتفاصيل التاريخ.؟ تلك القدسية الشفيفة التي تحتضن الحدث والكلمة، تلّف المكان والشخوص إمّا بشالات حريرية، أو بأكفان عفنة نتنة..
لم يسألني مثلما تعّود أن يفعل كل تموز.. واحد وثلاثون سنة جعلته جذراً، وتداً، رمزاً..
لكنني قبل أن أغادر المقبرة، هبّت ريح غربية حملت إلّي روائح الجمّيز والخروب والجوافا..
قلت: - تركني ومضى.. عاد إلى يافا.. وقبل أن أخطو خارج البواّبة، قفزت على لساني كلمات، واقتحمت صدري أمنيات..
قلت: - كل تمّوز وأنت بخير.. كل تمّوز وأنت بيننا يا غسّان.. وعسى أن يكون تمّوز القادم.. أفضل..!